الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وجابِرٌ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ هم كَعْبُ بْنُ مالِكٍ وهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ ومَرارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ " قالَ مُجاهِدٌ: " خُلِّفُوا عَنِ التَّوْبَةِ وقالَ قَتادَةُ: خُلِّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ " وقَدْ كانُوا هَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فِيمَن تَخَلَّفَ وكانُوا صَحِيحِي الإسْلامِ، فَلَمّا رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ مِن تَبُوكَ جاءَ المُنافِقُونَ فاعْتَذَرُوا وحَلَفُوا بِالباطِلِ، وهُمُ الَّذِينَ أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهم ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكم إذا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهم فَأعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾ [التوبة: ٩٥] وقالَ: ﴿يَحْلِفُونَ لَكم لِتَرْضَوْا عَنْهم فَإنْ تَرْضَوْا عَنْهم فَإنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ [التوبة: ٩٦] فَأمَرَ تَعالى بِالإعْراضِ عَنْهم ونَهى عَنِ الرِّضا عَنْهم، إذْ كانُوا كاذِبِينَ في اعْتِذارِهِمْ مُظْهِرِينَ لِغَيْرِ ما يُبْطِنُونَ، وأمّا الثَّلاثَةُ، فَإنَّهم كانُوا مُسْلِمِينَ صَدَقُوا عَنْ أنْفُسِهِمْ وقالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: إنّا تَخَلَّفْنا مِن غَيْرِ عُذْرٍ، وأظْهَرُوا التَّوْبَةَ والنَّدَمَ، فَقالَ لَهم رَسُولُ (p-٣٧٠)اللَّهِ ﷺ: «إنَّكم قَدْ صَدَقْتُمْ عَنْ أنْفُسِكم فامْضُوا حَتّى أنْظُرَ ما يُنْزِلُ اللَّهُ تَعالى فِيكم»، فَأنْزَلَ اللَّهُ في أمْرِهِمُ التَّشْدِيدَ عَلَيْهِمْ وأمَرَ نَبِيَّهُ ﷺ أنْ لا يُكَلِّمَهم وأنْ يَأْمُرَ المُسْلِمِينَ أنْ لا يُكَلِّمُوهم، فَأقامُوا عَلى ذَلِكَ نَحْوَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلى مَعْنى رَدِّ تَوْبَتِهِمْ؛ لِأنَّهم قَدْ كانُوا مَأْمُورِينَ بِالتَّوْبَةِ، وغَيْرُ جائِزٍ في الحِكْمَةِ أنْ لا تُقْبَلَ تَوْبَةُ مَن يَتُوبُ في وقْتِ التَّوْبَةِ إذا فَعَلَها عَلى الوَجْهِ المَأْمُورِ بِهِ ولَكِنَّهُ تَعالى أرادَ تَشْدِيدَ المِحْنَةِ عَلَيْهِمْ في تَأْخِيرِ إنْزالِ تَوْبَتِهِمْ ونَهْيِ النّاسَ عَنْ كَلامِهِمْ، وأرادَ بِهِ اسْتِصْلاحَهم واسْتِصْلاحَ غَيْرِهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ لِئَلّا يَعُودُوا ولا غَيْرُهم مِنَ المُسْلِمِينَ إلى مِثْلِهِ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِمْ بِمَوْضِعِ الِاسْتِصْلاحِ، وأمّا المُنافِقُونَ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَوْضِعُ اسْتِصْلاحٍ بِذَلِكَ فَلِذَلِكَ أمَرَ بِالإعْراضِ عَنْهم، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ أمْرَ النّاسِ بِتَرْكِ كَلامِهِمْ، وتَأْخِيرَ إنْزالِ تَوْبَتِهِمْ لَمْ يَكُنْ عُقُوبَةً، وإنَّما كانَ مِحْنَةً وتَشْدِيدًا في أمْرِ التَّكْلِيفِ والتَّعَبُّدِ، وهو مِثْلُ ما نَقُولُهُ في إيجابِ الحَدِّ الواجِبِ عَلى التّائِبِ مِمّا قارَبَ أنَّهُ لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ، وإنَّما هو مِحْنَةٌ وتَعَبُّدٌ، وإنْ كانَ الحَدُّ الواجِبُ بِالفِعْلِ بَدِيًّا كانْ يَكُونَ عُقُوبَةً لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى إذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ﴾ يَعْنِي مَعَ سَعَتِها ﴿وضاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهُمْ﴾ يَعْنِي ضاقَتْ صُدُورُهم بِالهَمِّ الَّذِي حَصَلَ فِيها مِن تَأْخِيرِ نُزُولِ تَوْبَتِهِمْ ومِن تَرْكِ النَّبِيِّ ﷺ والمُسْلِمِينَ كَلامَهم ومُعامَلَتَهم وأمْرِ أزْواجِهِمْ بِاعْتِزالِهِمْ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وظَنُّوا أنْ لا مَلْجَأ مِنَ اللَّهِ إلا إلَيْهِ﴾ يَعْنِي أنَّهم أيْقَنُوا أنْ لا مَخْلَصَ لَهم ولا مُعْتَصَمَ في طَلَبِ الفَرَجِ مِمّا هم فِيهِ إلّا إلى اللَّهِ، وأنَّهُ لا يَمْلِكُ ذَلِكَ غَيْرُهُ ولا يَجُوزُ لَهم أنْ يَطْلُبُوا ذَلِكَ إلّا مِن قِبَلِهِ العِبادَةِ لَهُ والرَّغْبَةِ إلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى عَلى نَبِيِّهِ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ، وكَذَلِكَ عادَةُ اللَّهِ تَعالى فِيمَنِ انْقَطَعَ إلَيْهِ وعَلِمَ أنَّهُ لا كاشِفَ لِهَمِّهِ غَيْرُهُ أنَّهُ سَيُنَجِّيهِ ويَكْشِفُ عَنْهُ غَمَّهُ، وكَذَلِكَ حَكى جَلَّ وعَلا عَنْ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْلِهِ: ﴿ولَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وضاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وقالَ هَذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ [هود: ٧٧] إلى أنْ قالَ: ﴿لَوْ أنَّ لِي بِكم قُوَّةً أوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود: ٨٠] فَتَبَرَّأ مِنَ الحَوْلِ، والقُوَّةِ مِن قِبَلِ نَفْسِهِ ومِن قِبَلِ المَخْلُوقِينَ وعَلِمَ أنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى كَشْفِ ما هو فِيهِ إلّا اللَّهُ تَعالى، حِينَئِذٍ جاءَهُ الفَرَجُ فَقالُوا: ﴿إنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ﴾ [هود: ٨١] وقالَ تَعالى: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢] ومَن يَنْوِ الِانْقِطاعَ إلَيْهِ وقَطْعَ العَلائِقِ دُونَهُ فَمَتى صارَ العَبْدُ بِهَذِهِ المَنزِلَةِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا لِعِلْمِهِ بِأنَّهُ لا يَنْفَكُّ مِن إحْدى مَنزِلَتَيْنِ: إمّا أنْ يُخَلِّصَهُ مِمّا هو فِيهِ ويُنْجِيَهُ كَما حُكِيَ عَنِ الأنْبِياءِ عِنْدَ بَلْواهم مِثْلُ قَوْلِ أيُّوبَ: (p-٣٧١)﴿أنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ﴾ [ص: ٤١] فالتَجَأ إلى اللَّهِ في الخَلاصِ مِمّا كانَ يُوَسْوِسُ إلَيْهِ الشَّيْطانُ بِأنَّهُ لَوْ كانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَنزِلَةٌ لَما ابْتَلاهُ بِما ابْتَلاهُ بِهِ، ولَمْ يَكُنْ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قابِلًا لِوَساوِسِهِ إلّا أنَّهُ كانَ يَشْغَلُ خاطِرَهُ وفِكْرَهُ عَنِ التَّفَكُّرِ فِيما هو أوْلى بِهِ، فَقالَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وشَرابٌ﴾ [ص: ٤٢] فَكَذَلِكَ كُلُّ مَنِ اتَّقى اللَّهَ بِأنِ التَجَأ إلَيْهِ وعَلِمَ أنَّهُ القادِرُ عَلى كَشْفِ ضُرِّهِ دُونَ المَخْلُوقِينَ كانَ عَلى إحْدى الحُسْنَيَيْنِ مِن فَرَجٍ عاجِلٍ، أوْ سُكُونِ قَلْبٍ إلى وعْدِ اللَّهِ وثَوابِهِ الَّذِي هو خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيا وما فِيها. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ يَعْنِي واللهُ أعْلَمُ تابَ عَلى هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ، وأنْزَلَ تَوْبَتَهم عَلى نَبِيِّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِيَتُوبَ المُؤْمِنُونَ مِن ذُنُوبِهِمْ لِعِلْمِهِمْ بِأنَّ اللهَ تَعالى قابَلَ تَوْبَتَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب