الباحث القرآني

ولَمّا صَرَّحَ بِالتَّوْبَةِ عَلى مَن قارَبَ الزَّيْغَ وخَلَطَ مَعَهم أهْلَ الثَّباتِ إشارَةً إلى أنَّ كُلَّ أحَدٍ فَقِيرٌ إلى الغَنِيِّ الكَبِيرِ [ولِيَكُونَ اقْتِرانُهم بِأهْلِ المَعالِي، وجَعَلَهم في حَيِّزِهِمْ تَشْرِيفًا لَهم وتَأْنِيسًا لِئَلّا يَشْتَدَّ إنْكارُهُمْ]، أتْبَعَهُ التَّوْبَةَ عَلى مَن وقَعَ مِنهُ الزَّيْغُ فَقالَ غَيْرَ مُصَرِّحٍ بِالزَّيْغِ تَعْلِيمًا [لِلْأدَبِ وجَبْرًا لِلْخَواطِرِ المُنْكَسِرَةِ]: ﴿وعَلى﴾ أيْ: ولَقَدْ (p-٣٩)تابَ اللَّهُ عَلى ﴿الثَّلاثَةِ الَّذِينَ﴾ ولَمّا كانَ الخالِعُ لِلْقُلُوبِ مُطْلَقَ التَّخْلِيفِ، بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ قَوْلُهُ: ﴿خُلِّفُوا﴾ أيْ خَلَّفَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالهِجْرانِ ونَهى النّاسَ عَنْ كَلامِهِمْ، وأخَّرَ الحُكْمَ فِيهِمْ لِيَأْتِيَ أمْرُ اللَّهِ في بَيانِ أمْرِهِمْ واسْتَمَرَّ تَخْلِيفُهم ﴿حَتّى إذا ضاقَتْ﴾ أشارَ إلى عَظِيمِ الأمْرِ بِأداةِ الِاسْتِعْلاءِ فَقالَ: ﴿عَلَيْهِمُ الأرْضُ﴾ أيْ كُلُّها ﴿بِما رَحُبَتْ﴾ أيْ مَعَ شِدَّةِ اتِّساعِها، أيْ: ضاقَ عَلَيْهِمْ فَسِيحُها ووَسَعُها. ولَمّا كانَ هَذا قَدْ يُرادُ بِهِ الحَقِيقَةُ، وكانَ ضِيقُ المَحَلِّ [قَدْ] لا يَسْتَلْزِمُ ضِيقَ الصَّدْرِ. أتْبَعُهُ الدَّلالَةَ عَلى أنَّ المُرادَ المَجازُ فَقالَ: ﴿وضاقَتْ عَلَيْهِمْ﴾ بِالهَمِّ المُزْعِجِ والغَمِّ المُقْلِقِ ﴿أنْفُسُهُمْ﴾ أيْ: مِن شِدَّةِ ما لاقَوْا مِنَ الهِجْرانِ حَتّى بِالكَلامِ حَتّى بِرَدِّ السَّلامِ؛ ولَمّا كانَ ذَلِكَ لا يَقْتَضِي التَّوْبَةَ إلّا بِالمُراقَبَةِ، أتْبَعَهُ - ذَلِكَ لِلتَّخَلُّفِ بِها - قَوْلَهُ: ﴿وظَنُّوا﴾ أيْ: أيْقَنُوا، ولَعَلَّهُ عَبَّرَ بِالظَّنِّ إيذانٌ بِأنَّهم لِشِدَّةِ الحَيْرَةِ كانَتْ قُلُوبُهم لا تَسْتَقِرُّ عَلى حالٍ، فَكانَ يَقِينُهم لِشِدَّةِ الخَواطِرِ كَأنَّهُ ظَنٌّ، [أوْ يُقالُ - وهو حَسَنٌ -: إنَّ التَّعْبِيرَ بِهِ عَنْ يَقِينِ المُخْلِصِينَ إشارَةٌ إلى أنَّ أعْلى اليَقِينِ في التَّوْحِيدِ لا يَبْلُغُ الحَقِيقَةَ عَلى ما هي عَلَيْهِ أنْ لا يَقْدِرَ أحَدٌ أنْ يُقَدِّرَ لِلَّهِ حَقَّ قَدْرِهِ - كَما قالَ أصْدَقُ الخَلْقِ ﷺ: ««لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَما أثْنَيْتَ عَلى نَفْسِكَ»». وهَذا مِنَ النَّفائِسِ فاسْتَعْمَلَهُ في أمْثالِهِ] ﴿أنْ لا مَلْجَأ﴾ أيْ مَهْرَبَ ومَفْزَعَ ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ (p-٤٠)أيِ الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ الكامِلَةُ ﴿إلا إلَيْهِ﴾ \ أيْ بِما يُرْضِيهِ، وهو مَثَلٌ لِتَحَيُّرِهِمْ في أمْرِهِمْ، وجَوابُ ﴿إذا﴾ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ صَدْرُ الكَلامِ تَقْدِيرُهُ: تَدارَكَهم بِالتَّوْبَةِ فَرَدَّهم إلى ما كانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ مُواقَعَةِ الذَّنْبِ. ولَمّا كانَ ما عَمِلُوهُ مِنَ التَّخَلُّفِ عَنْ أمْرِ الرَّسُولِ ﷺ عَظِيمًا بِمُجَرَّدِ المُخالَفَةِ ثُمَّ يَتْرُكُ المُواساةَ ثُمَّ بِالرَّغْبَةِ عَنْهُ ﷺ ثُمَّ بِأُمُورٍ عَظِيمَةٍ شَدِيدَةِ القُبْحِ وخِيمَةٍ فَكانَ يَبْعُدُ مَعَهُ الزِّيادَةُ عَنْ رُتْبَةِ التَّوْبَةِ، أعْلَمَ سُبْحانَهُ أنَّهُ رَقّاهم في رُتَبِ الكَمالِ بِأنْ جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَطْهِيرِهِمْ مِن جَمِيعِ الأدْناسِ وتَنْقِيَتِهِمْ مِن سائِرِ الأرْدانِ المُقْتَضِي لِمَزِيدِ القُرْبِ بِالعُرُوجِ في مَصاعِدِ المَعارِفِ - كَما أشارَ إلَيْهِ «قَوْلُهُ ﷺ لِكَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ ولَدَتْكَ أُمُّكَ»»، أتْبَعَ ذَلِكَ سُبْحانَهُ الإعْلامَ بِهِ بِقَوْلِهِ - مُشِيرًا إلى [ما] بَعْدَهُ لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ - بِأداةِ الِاسْتِبْعادِ: ﴿ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ﴾ أيْ رَجَعَ بِهِمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ إلى مَقامٍ مِن مَقاماتِ سَلامَةِ الفِطْرَةِ الَّذِي هو أحْسَنُ تَقْوِيمٍ يَعْلُو لِعُلُوِّهِ بِالنِّسْبَةِ إلى ما دُونَهُ، تَوْبَةً ﴿لِيَتُوبُوا﴾ أيْ: لِيَرْجِعُوا إلى ما تَقْتَضِيهِ الفِطْرَةُ الأُولى مِنَ الثَّباتِ عَلى ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ الإحْسانِ في الدِّينِ والتَّخَلُّقِ بِإخْلاقِ السّابِقِينَ، ولَعَلَّهُ عَبَّرَ بِالظَّنِّ مَوْضِعَ العِلْمِ إشارَةً إلى أنَّهُ يَكْفِي في الخَوْفِ مِن جَلالِهِ لِلِانْقِطاعِ إلَيْهِ مُجَرَّدُ الظَّنِّ بِأنَّهُ لا سَبَبَ إلَيْهِ إلّا مِنهُ لِأنَّهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ - ﴿ثُمَّ﴾ إشارَةً إلى عَظِيمِ ما قاسَوْا مِنَ الأهْوالِ وما تَرَقَّوْا إلَيْهِ مِن مَراتِبِ الخَوْفِ، وامْتِنانٍ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْبَةِ (p-٤١)مِن عَظِيمِ ما ارْتَكَبُوا، وإنَّما خُصُّوا عَنْ رُفَقائِهِمْ بِأنْ أُرْجِئُوا لِأمْرِ اللَّهِ لِعُلُوِّ مَقامِهِمْ بِما لَهم مِنَ السّابِقَةِ ورُسُوخِ القَدَمِ في الإسْلامِ، فالمُخالَفَةُ اليَسِيرَةُ مِنهم أعْظَمُ مِنَ الكَثِيرِ مِن غَيْرِهِمْ لِأنَّهم أئِمَّةُ الهُدى ومَصابِيحُ الظُّلَمِ، ومِن هَذا البارِقِ: «حَسَناتُ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ» ثُمَّ عَلَّلَ التَّوْبَةَ بِأمْرٍ يَعُمُّ غَيْرَهم تَرْغِيبًا فَقالَ مُعَبِّرًا بِما يُشِيرُ مَعَ أعْلى مَقامِهِمْ إلى نُزُولِهِ عَنْ مَقامِ مَن قَبْلَهُمْ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ ﴿هُوَ﴾ أيْ وحْدَهُ ﴿التَّوّابُ﴾ أيِ البَلِيغُ التَّوْبَةِ عَلى مَن تابَ وإنْ عَظُمَ جُرْمُهُ وتَكَرَّرَتْ تَوْبَتُهُ لِتَكَرُّرِ ذُنُوبِهِ ﴿الرَّحِيمُ﴾ أيِ المُكْرِمُ لِمَن أرادَ مِن عِبادِهِ بِأنْ يَحْفَظَهُ عَلى ما يَرْتَضِيهِ فَلا يَزِيغُ، ويُبالِغُ في الإنْعامِ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب