الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ﴾ أَيْ أَوَّلُ مَنْ أُرْسِلَ، قَدْ كَانَ قَبْلِي رُسُلٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَالْبِدْعُ: الْأَوَّلُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ "بِدَعًا" بِفَتْحِ الدَّالِ، عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُ صَاحِبَ بِدَعٍ. وَقِيلَ: بِدْعٌ وَبَدِيعٌ بِمَعْنًى، مِثْلُ نِصْفٍ وَنَصِيفٍ. وَأَبْدَعَ الشَّاعِرُ: جاء بالبديع. وشئ بِدْعٌ (بِالْكَسْرِ) أَيْ مُبْتَدَعٌ. وَفُلَانٌ بِدْعٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَيْ بَدِيعٌ. وَقَوْمٌ أَبْدَاعٌ، عَنِ الْأَخْفَشِ. وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ قَوْلَ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: فَلَا أَنَا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِثَ تَعْتَرِي ... رِجَالًا غدت من بعد بؤسى بأسعد [[هذا رواية البيت كما في نسخ الأصل. والذي في شعراء النصرانية: فلست بمن يخشى حوادث تعتري ... رجالا فبادروا بعد بؤس وأسعد]] "وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُ نَبِيًّا لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ وَلَا بِنَا، وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ لَهُ عَلَيْنَا، وَلَوْلَا أَنَّهُ ابْتَدَعَ الَّذِي يَقُولُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ لَأَخْبَرَهُ الَّذِي بَعَثَهُ بِمَا يَفْعَلُ بِهِ، فَنَزَلَتْ ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ﴾[[آية ٢ سورة الفتح.]] [الفتح: ٢] فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَ الْكُفَّارِ. وَقَالَتِ الصَّحَابَةُ: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكَ مَا يَفْعَلُ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَيْتَ شِعْرَنَا مَا هُوَ فَاعِلٌ بِنَا؟ فَنَزَلَتْ ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾[[آية ٥ سورة الفتح.]] [الفتح: ٥] الْآيَةَ. وَنَزَلَتْ ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً﴾[[آية ٤٧ سورة الأحزاب.]] [الأحزاب: ٤٧]. قَالَهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: اقتسمنا المهاجرين فطار لنا عثمان ابن مَظْعُونِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ أَبْيَاتَنَا فَتُوُفِّيَ، فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ! إِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:] وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ [؟ فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَمَنْ؟ قَالَ:] أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَمَا رَأَيْنَا إِلَّا خَيْرًا فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْجَنَّةَ وَوَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ [. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي بَعْدَهُ أَحَدًا أَبَدًا. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ، وَقَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَ لَمْ يَعْلَمْ بِغُفْرَانِ ذَنْبِهِ، وَإِنَّمَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذَنْبَهُ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ. قُلْتُ: حَدِيثُ أُمِّ الْعَلَاءِ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَرِوَايَتِي فِيهِ: "وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ" لَيْسَ فِيهِ "بِي وَلا بِكُمْ" وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَالْآيَةُ ليست بمنسوخة، لِأَنَّهَا خَبَرٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ مِنْ جِهَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ خَبَرٌ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَاحْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَيْضًا خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْمُشْرِكِينَ "مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَزَلْ ﷺ مِنْ أَوَّلِ مَبْعَثِهِ إِلَى مَمَاتِهِ يُخْبِرُ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَاتَّبَعَهُ وَأَطَاعَهُ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَدْ رَأَى ﷺ مَا يُفْعَلُ بِهِ وَبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَيَقُولُونَ كَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي أَتَصِيرُ إِلَى خَفْضٍ وَدَعَةٍ أَمْ إِلَى عَذَابٍ وَعِقَابٍ. وَالصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ قَوْلُ الْحَسَنِ، كَمَا قَرَأَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَفْصٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ عَنِ الْحَسَنَ "وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ فِي الدُّنْيَا" قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلٍ وَأَحْسَنُهُ، لَا يَدْرِي ﷺ مَا يَلْحَقُهُ وَإِيَّاهُمْ مِنْ مَرَضٍ وَصِحَّةٍ وَرُخْصٍ وَغَلَاءٍ وَغِنًى وَفَقْرٍ. وَمِثْلُهُ "وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ" [[آية ١٨٨ سورة الأعراف.] []] [الأعراف: ١٨٨]. وذكر الواحدي وغيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ وَشَجَرٍ وَمَاءٍ، فَقَصَّهَا عَلَى أَصْحَابِهِ فَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ، وَرَأَوْا فِيهَا فَرَجًا مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَكَثُوا بُرْهَةً لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى نُهَاجِرُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي رَأَيْتَ؟ فَسَكَتَ النَّبِيَّ ﷺ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" أَيْ لَا أَدْرِي أَأَخْرُجُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي مَنَامِي أَمْ لَا. ثُمَّ قَالَ:] إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ رَأَيْتُهُ فِي مَنَامِي مَا أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [أَيْ لَمْ يُوحَ إِلَيَّ مَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَعَلَى هَذَا لَا نَسْخَ فِي الْآيَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا أَدْرِي مَا يُفْرَضُ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا أَدْرِي مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ فِي الدُّنْيَا، أَتُؤْمِنُونَ أَمْ تَكْفُرُونَ، أَمْ تُعَاجَلُونَ بِالْعَذَابِ أَمْ تُؤَخَّرُونَ. قُلْتُ: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ الْحَسَنُ: مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَمَعَاذَ اللَّهِ! قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ حِينَ أَخَذَ مِيثَاقَهُ فِي الرُّسُلِ، وَلَكِنْ قَالَ [[ما بين المربعين ساقط من ن.]] مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي فِي الدُّنْيَا أَأَخْرُجُ كَمَا أُخْرِجَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي، أَوْ أُقْتَلُ كَمَا قُتِلَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي، وَلَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِكُمْ، أَأُمَّتِي الْمُصَدِّقَةُ أَمِ الْمُكَذِّبَةُ، أَمْ أُمَّتِي الْمَرْمِيَّةُ بِالْحِجَارَةِ مِنَ السَّمَاءِ قَذْفًا، أَوْ مَخْسُوفٌ بِهَا خَسْفًا، ثُمَّ نَزَلَتْ ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾[[آية ٣٣ سورة التوبة.]] [التوبة: ٣٣]. يَقُولُ: سَيُظْهِرُ دِينُهُ عَلَى الْأَدْيَانِ. ثُمَّ قَالَ فِي أُمَّتِهِ: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾[[آية ٣٣ سورة الأنفال.]] [الأنفال: ٣٣] فَأَخْبَرَهُ تَعَالَى بِمَا يَصْنَعُ بِهِ وَبِأُمَّتِهِ، وَلَا نَسْخَ عَلَى هَذَا كُلِّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: "مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" أَيْ مَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَتُنْهَوْنَ عَنْهُ. وَقِيلَ: أَمَرَ النَّبِيَّ ﷺ أَنْ يَقُولَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي الْقِيَامَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: ٢] وَبَيَّنَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ الْكَافِرِينَ. قُلْتُ: وَهَذَا مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ أُطْلِقَ فِيهِ النَّسْخُ بِمَعْنَى الْبَيَانِ، وَأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ، والصحيح ما ذكرناه عن الحسن وغيره. و "ما" في "ما يُفْعَلُ" يجوز أن تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَأَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً مَرْفُوعَةً. "إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ" وقرى "يُوحِي" أَيِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. تَقَدَّمَ فِي غير موضع.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب