الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ . الأظْهَرُ في قَوْلِهِ: بِدْعًا أنَّهُ فِعْلٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ، فَهو بِمَعْنى مُبْتَدِعٍ، والمُبْتَدِعُ هو الَّذِي أبْدَعَ عَلى غَيْرِ مِثالٍ سابِقٍ. وَمَعْنى الآيَةِ: قُلْ لَهم يا نَبِيَّ اللَّهِ: ما كُنْتُ أوَّلَ رَسُولٍ أُرْسِلَ إلى البَشَرِ، بَلْ قَدْ أرْسَلَ اللَّهُ قَبْلِي جَمِيعَ الرُّسُلِ إلى البَشَرِ، فَلا وجْهَ لِاسْتِبْعادِكم رِسالَتِي، واسْتِنْكارِكم إيّاها؛ لِأنَّ اللَّهَ أرْسَلَ قَبْلِي رُسُلًا كَثِيرَةً. وَهَذا المَعْنى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ - جاءَ مُوَضَّحًا في آياتٍ كَثِيرَةٍ، • كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلًا مِن قَبْلِكَ وجَعَلْنا لَهم أزْواجًا وذُرِّيَّةً﴾ [الرعد: ٣٨] . • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إلى قَوْمِهِمْ فَجاءُوهم بِالبَيِّناتِ﴾ الآيَةَ [الروم: ٤٧] . • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا أوْحَيْنا إلَيْكَ كَما أوْحَيْنا إلى نُوحٍ والنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ﴾ الآيَةَ [النساء: ١٦٣] . • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حم﴾ ﴿عسق﴾ ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [الشورى: ١ - ٣] . • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما يُقالُ لَكَ إلّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ﴾ الآيَةَ [فصلت: ٤٣] . • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ الآيَةَ [آل عمران: ١٤٤] . • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وأُوذُوا حَتّى أتاهم نَصْرُنا﴾ الآيَةَ [الأنعام: ٣٤] . والآياتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ﴾ . (p-٢١٧)التَّحْقِيقُ - إنْ شاءَ اللَّهُ - أنَّ مَعْنى الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكم في دارِ الدُّنْيا، فَما أدْرِي أأُخْرَجُ مِن مَسْقَطِ رَأْسِي، أوْ أُقْتَلُ كَما فُعِلَ بِبَعْضِ الأنْبِياءِ. وَما أدْرِي ما ينالُنِي مِنَ الحَوادِثِ والأُمُورِ في تَحَمُّلِ أعْباءِ الرِّسالَةِ. وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِكم: أيُخْسَفُ بِكم، أوْ تَنْزِلُ عَلَيْكم حِجارَةٌ مِنَ السَّماءِ، ونَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذا هو اخْتِيارُ ابْنِ جَرِيرٍ وغَيْرِ واحِدٍ مِنَ المُحَقِّقِينَ. وَهَذا المَعْنى في هَذِهِ الآيَةِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آياتٌ مِن كِتابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وما مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ الآيَةَ [الأعراف: ١٨٨] . وقَوْلِهِ تَعالى آمِرًا لَهُ ﷺ: ﴿قُلْ لا أقُولُ لَكم عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ ولا أعْلَمُ الغَيْبَ﴾ الآيَةَ [الأنعام: ٥٠] . وَبِهَذا تَعْلَمُ أنَّ ما يُرْوى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأنَسٍ وغَيْرِهِما مِن أنَّ المُرادَ: ﴿وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ﴾ أيْ في الآخِرَةِ - فَهو خِلافُ التَّحْقِيقِ، كَما سَتَرى إيضاحَهُ - إنْ شاءَ اللَّهُ - . فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأنَسٍ وقَتادَةَ والضَّحّاكِ وعِكْرِمَةَ والحَسَنِ - في أحَدِ قَوْلَيْهِ - أنَّهُ «لَمّا نَزَلْ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ﴾ - فَرِحَ المُشْرِكُونَ واليَهُودُ والمُنافِقُونَ، وقالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُ نَبِيًّا لا يَدْرِي ما يُفْعَلُ بِهِ ولا بِنا، وأنَّهُ لا فَضْلَ لَهُ عَلَيْنا، ولَوْلا أنَّهُ ابْتَدَعَ الَّذِي يَقُولُهُ مِن عِنْدِ نَفْسِهِ، لَأخْبَرَهُ الَّذِي بَعَثَهُ بِما يُفْعَلُ بِهِ. فَنَزَلَتْ ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ [الفتح: ٢] فَنَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةَ. وَقالَتِ الصَّحابَةُ: هَنِيئًا لَكَ يا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ بَيَّنَ لَكَ اللَّهُ ما يُفْعَلُ بِكَ، فَلَيْتَ شِعْرَنا ما هو ما فاعِلٌ بِنا» . فَنَزَلَتْ ﴿لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ الآيَةَ [الفتح: ٥] . ونَزَلَتْ: ﴿وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأنَّ لَهم مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٧] . فالظّاهِرُ أنَّ هَذا كُلَّهُ خِلافُ التَّحْقِيقِ، وأنَّ النَّبِيَّ ﷺ لا يَجْهَلُ مَصِيرَهُ يَوْمَ القِيامَةِ لِعِصْمَتِهِ - صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ - وقَدْ قالَ لَهُ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى﴾ ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ [الضحى: ٤ - ٥] وأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ﴾ (p-٢١٨)فِي أُمُورِ الدُّنْيا، كَما قَدَّمْنا. فَإنْ قِيلَ: قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن حَدِيثِ أُمِّ العَلاءِ الأنْصارِيَّةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ما يُفْعَلُ بِي﴾ أيْ في الآخِرَةِ، فَإنَّ حَدِيثَها في قِصَّةِ وفاةِ عُثْمانَ بْنِ مَظْعُونٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَهم، ودُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيهِ، أنَّها قالَتْ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أبا السّائِبِ، شَهادَتِي عَلَيْكَ؛ لَقَدْ أكْرَمَكَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - تَعْنِي عُثْمانَ بْنَ مَظْعُونٍ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”وَما يُدْرِيكِ أنَّ اللَّهَ أكْرَمُهُ ؟“ فَقُلْتُ: لا أدْرِي، بِأبِي أنْتَ وأُمِّي، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”أمّا هو فَقَدْ جاءَهُ اليَقِينُ مِن رَبِّهِ وإنِّي لَأرْجُو لَهُ الخَيْرَ، واللَّهِ ما أدْرِي وأنا رَسُولُ اللَّهِ ما يُفْعَلُ بِي“» الحَدِيثَ. فالجَوابُ هو ما ذَكَرَهُ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ قالَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، بَعْدَ أنْ ساقَ حَدِيثَ أُمِّ العَلاءِ المَذْكُورَ بِالسَّنَدِ الَّذِي رَواهُ بِهِ أحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - انْفَرَدَ بِهِ البُخارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ، وفي لَفْظٍ لَهُ «ما أدْرِي وأنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ما يُفْعَلُ بِهِ»، وهَذا أشْبَهُ أنْ يَكُونَ هو المَحْفُوظُ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِها: فَأحْزَنَنِي ذَلِكَ. ا هـ مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ. وهو الصَّوابُ - إنْ شاءَ اللَّهُ - والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى . ⁕ ⁕ ⁕ * قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب): (p-٣٩٠)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الأحْقافِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ﴾ الآيَةَ. هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ ﷺ لا يَعْلَمُ مَصِيرَ أمْرِهِ، وقَدْ جاءَتْ آيَةٌ أُخْرى تَدُلُّ أنَّهُ عالِمٌ بِأنَّ مَصِيرَهُ إلى الخَيْرِ، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ [ ٤٨ ]، ﴿وَما تَأخَّرَ﴾ تَنْصِيصٌ عَلى حُسْنِ العاقِبَةِ والخاتِمَةِ. والجَوابُ ظاهِرٌ، وهو أنَّ اللَّهَ تَعالى عَلَّمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ أنْ كانَ لا يَعْلَمُهُ ويَسْتَأْنِسُ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ الآيَةَ [النساء: ١١٣]، • وقَوْلِهِ: ﴿ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ ولا الإيمانُ ولَكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا﴾ الآيَةَ [الشورى: ٥٢]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَوَجَدَكَ ضالًّا فَهَدى﴾ [الضحى: ٧] • وقَوْلِهِ: ﴿وَما كُنْتَ تَرْجُو أنْ يُلْقى إلَيْكَ الكِتابُ إلّا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ﴾ الآيَةَ [القصص: ٨٦] . وَهَذا الجَوابُ، هو مَعْنى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ، وهو مُرادُ عِكْرِمَةَ والحَسَنِ وقَتادَةَ بِأنَّها مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ الآيَةَ [ ٤٨ ] . وَيَدُلُّ لَهُ أنَّ ”الأحْقافَ“ مَكِّيَّةٌ، وسُورَةُ ”الفَتْحِ“ نَزَلَتْ عامَ سِتٍّ في رُجُوعِهِ ﷺ مِنَ الحُدَيْبِيَةِ. وَأجابَ بَعْضُ العُلَماءِ: بِأنَّ المُرادَ ما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكم في الدُّنْيا مِنَ الحَوادِثِ والوَقائِعِ، وعَلَيْهِ فَلا إشْكالَ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب