الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل ... ﴾ لما حكى طعنهم في كون القرآن معجزاً بقولهم: إنه يختلقه من عند نفسه ثم نسبه إلى كلام الله تعالى على سبيل الفِرْيَة حكى عنهم شُبْهَةً أخرى وهي أنهم كانوا يقترحون عليه معجزاتٍ عجيبة، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل﴾ . قوله: «بدعاً» فيه وجهان: أحدهما: أنه على حذف مضاف تقديره: ذَا بِدْعٍ، قاله أبو البقاء: وهذا على أن يكون البدْعُ مَصْدراً. والثاني: أن البِدْعَ نفسه صفة على فِعْلٍ بمعنى بَدِيعٍ كالخِفِّ والخَفِيف؛ والبِدْعُ والبَدِيعُ ما لم ير له مِثْلٌ، وهو من الابْتِدَاع وهو الاختراع. أنشد قطرب: 4451 - فَمَا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِث تَعْتَرِي ... رِجَالاً عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسٍ وَأَسْعد قال البغوي (رَحِمَهُ اللَّهُ) : (البِدْعُ) مثلُ نصْف ونَصِيفٍ، وجمع البِدْعِ أَبْداٌ. وقرأ عكرمة وأبو حَيْوَة وابنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِدعٌ بفتح الدال جمع بِدْعَةٍ، أي ما كنت ذا بِدَعٍ. وجوز الزمخشري أن يكون صفة على فِعَلٍ، كِدين قِيَم، ولَحْمٍ زِيَمٍ. قال أبو حيان: ولم يُثْبِتْ سيبوَيْهِ صفةً على «فِعلٍ» إلاَّ قَومْاً عِدًى. وقد استدرك عليه لحمٌ زِيَمٌ. أي متفرق. وهو صحيحٌ. وأما قول العرب: مَكَانٌ سِوى، وماء رِوًى، ورجل رِضًى، ومَاءٌ صرّى، وسَبْيٌ طِيَبٌ، فمتأولة عند التصريفيين. قال شهاب الدين: تأويلها إما بالمصدرية أو القَصْر، كِقيَم في قِيام. وقرأ أبو حيوةَ أيضاً ومجاهدٌ بَدِع بفتح الباء كسر الدال، وهو وصف كَحَذِرٍ. فصل البدع والبديع من كل شيء المَبْدَأ، والبدعة ما اخترع ما لم يكن موجوداً قبله. قال المفسرون معناه إني لست بأول مُرْسَل، قد بعث قبلي كثيرٌ من الأنبياء فكيف تنكرون نبوّتي؟ ﴿وكيف تنكرون إخباري بأني رسول الله؟﴾ وقيل: إنهم طلبوا منه معجزة عظيمةً وإخباراً عن الغيوب فقال: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل﴾ والمعنى أن الإتيان بهذه المعجزات القاهرة والأخبار عن الغيوب ليس في وُسْعِ البشر، وأما جنس الرسل فأنا واحد منهم، فإذا لم يقْدِروا على ما تُرِيدُنَه فكيف أقدر عليه؟! وقيل: إنهم كانوا يعيبونه بأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وبأنه فقير، وأن أتباعه فقراء فقال: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل﴾ . وهم كلهم على هذه الصفةِ فهذه الأشياء لا تقدح في نُبُوَّتي كما لا تقدح في نُبُوَّتِهِم. قوله: ﴿وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي﴾ العامة على نيابة المفعول. وابن أبي عبلة وزيد بن علي مبنياً للفاعل، أي الله تعالى. والظاهر أن (ما) في قوله: «مَا يَفْعَلُ» استفهامية مرفوعة بالابتداء، وما بعدها الخبر، وهي معلقة «لأَدْرِي» عن العمل، فتكون سَادَّةً مسَدَّ مفعوليها. وجوَّزَ الزمخشري أن تكون موصولة منصوبة، يعني أنها متعدية لواحدٍ، أي لا أعرف الذي يفعلُه اللهُ. فصل في تفسير الآية وجهان: أحدهما: أن يحمل ذلك على أوال الدنيا. والثاني: أن يحمل ذلك على أحوال الآخرة. أما الأول ففيه وجوه: الأول: معناه لا أدْرِي ما يصير إليه أمري وأمركم، ومَن الغالب منَّا ومن المغلوب؟ . الثاني: قال ابن عباس في رواية الكلبي: لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلىأرض ذات نخلٍ وشجرٍ وماءٍ فقصها على الصحابة فاستبشروا بذلك ورأوا أن ذلك فرج ممَّا هم فيه من أذى المشركين. ثم إنَّهم مكثوا بُرهَةً من الدهر لا يروْنَ أثر ذلك فقالوا: يا رسول الله: ما رأيْنا الذي قُلْتَ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيتَها في المنام؟ فكست النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ﴾ وهو شيء رأيته في المنام وأنا لا أتبع إلا ما يوحيه الله إِلَيِّ. الثالث: قال الضحاك: لا أدري ما تُؤمَرُونَ به، ولا ما أومر به من التكاليف، والشرائع، ولا من الابتلاء والامتحان وإنما أنذكركم بما أعلمني الله به من أحوال الآخرة من الثواب والعقاب، ثم أخبر أنه تعالى يظهر دينه على الأديان فقال: ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ [الفتح: 28] وقال في أمته: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 33] فأخبره الله ما يصنع به وبأمته قال السدي. الرابع: كأنه يقول: ما أدري ما يفعل بي في الدنيا، أموت أو أُقْتَلُ، كما تقل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المُكَذِّبون أَتُرْمَوْنَ بالحجارة من السماء أو يُخْسَف بكم أو يفعل بكم ما يفعل بسائر الأمم، وأما من حمل الآية على أحوال الآخرة فروى عن ابن عباس أنه قال: لَما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا: كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ربُّه فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الفتح: 15] فقالت الصحابة: هنيئاً لك يا نبي الله، قد علمنا ما يفعل بك فما يعفل بنا؟ فأَنزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ّ: ﴿لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ [الفتح: 5] الآية وأنزل: ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً﴾ [الأحزاب: 47] فبين الله ما يفعل به وبهم، وهذا قول أنس وقتادة والحَسَنِ وعكرمةَ. وقالوا: إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه وإنما أخبر بغُفْرَان ذنبه عام الحديبية فنسخ ذلك قال ابن الخطيب: وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول لوجهين: الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا بدّ وأن يعلم من نفسه كَوْنَهُ نَبيًّا، ومتى علم كونَه نبياً، علم أنه لا يصدر عنه الكبائرُ وأنه مغفور له، وإذا كان كذلك امتنع كونُه شاكًّا في أنه هل هو مغفور له أم لا؟ . الثاني: أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء وقد قال في حق هؤلاء: ﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأحقاف: 13] فكيف يعقل أن يبقى فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأنبياء وقُدْوةُ الأولياء شاكًّا في أنه هل هو من المغفور لهم؟ فثَبَتَ ضَعْفُ هذا القَوْلِ. قوله: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ﴾ العامة على بناء «يُوحَى» للمفعول، وقرأ ابن عمر بكسر الحاء على البناء للفاعل وهو الله تعالى. والمعنى إنِّي لا أقول قولاً ولا أعمل عملاً إلاَّ بمقتضى الوَحْي. واحتج نُفَاةُ القياس بهذه الآية فقالوا: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قال قولاً ولا عمل عملاً إلاَّ بالنص الذي أوحاه الله (إليه) فوجب أن يكون حالُنَا كذلك. ثم قال الله تعالى: ﴿وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ لأنهم كانوا يطالبونه بالمعجزات العجيبة، وبالإخبار عن الغيوب فقال: قُلْ مَا أنا إلا نذير مبين والقادر على تلك الأعمال الخارجة عن قدرة (البشر والعالم بتلكم الغيوب ليس إلاَّ اللهُ تَعَالَى) . . قوله: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله﴾ مفعولا «أرأيتم» محذوفان تقديره أرأيتم حالكم إنْ كَانَ كَذَا لستم ظالمين؟ وجواب الشرط أيضاً محذوف تقديره: فقد ظَلَمْتُمْ. ولهذا أتى بفعل الشرط ماضياً. وقدره الزمخشري: ألستم ظالمين؟ ورد عليه أبو حيان بأنه لو كان كذلك لوجبت الفاء، لأن الجملة الاستفهامية متى وقعت جواباً للشرط لزمت الفاء. ثم إن كانت أداة الاستفهام همزة فقدمت على الفاء نحو: إنْ تَزُرْنَا أَفَلاَ نُكْرِمُكَ؟ وإن كان غيرها تقدمت الفاء عليها نحنو: إنْ تَزُرْنَا فَهَلْ تَرَى إلاَّ خَيْراً؟ قال شهاب الدين: والزمخشري ذكر أمراً تقديرياً فسر به المعنى الإعراب. وقال ابن عطية و «أرَأَيْتُم» يحتمل أن تكون مُنَبِّهة، فهي لفظ موضوع للسؤال، لا يقتضي مفعولاً. ويحتمل أن تكون الجملة كان وما عملت سادّة مسدّ مفعوليها. قال أبو حيان: وهذا خلاف ما قرّره النحاة، وقد تقدم تحقيق مَا قَرَّره. وقيل: جواب الشرط هو قوله: ﴿فَآمَنَ واستكبرتم﴾ . وقيل: هو محذوف تقديره فمن المُحِقّ منا والمبطل؟ وقيل: «فمن أضل» . قال ابن الخطيب: ججواب الشرط محذوف، والتقدير أن يقال: إن كان هذا الكتاب من عند الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ به وشَهِدَ شاهدٌ مِنْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ على صحته ثم استكبرتم لكنتم من الخاسرين. ثم حذف هذا الجواب. ونظيره قوله: «إنْ أَحْسَنْتَ إلَيْكَ وأَسَأتَ إلَيَّ وأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ وأَعرضْتَ عني فَقَدْ ظَلَمْتَنِي» وكذا ههنا التقدير أخبروني إن ثبت أن القرآن من عند الله بسبب عجز الخلق عن معارضته ثم كفرتم به وجعل أيضاً شاهده أعلم بني إسرائيل بكونه معجزاً من عند الله فلو استكبرتم وكفرتم ألسم أضل الناس وأظلمهم؟ واعلم أن جواب الشرط محذوف في بعض الآيات كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى﴾ [الرعد: 13] وقد يذكر كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ﴾ [فصلت: 52] وقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله﴾ [القصص: 71] . فصل معنى الآية أخبروني ماذا تقولون «إنِْ كَانَ» يعني القرآن ﴿مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ﴾ أيها المشركون ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ﴾ . المثل صلة بعين عَلَيْهِ أي على أنه من عند الله فَآمَنَ يعني الشاهد «وَاسْتَكْبَرتُمْ» عن الإيمان به. واختلفوا في هذا الشاهد فقال قتادة والضحاك وأكثر المفسرين: هو عبد الله بن سلام شهد نبوة المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فآمن به، واستكبر اليهود، فلم يؤمنوا كما روى أنس (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قال: «سمع عبد الله بن سَلاَم بِمَقْدِم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأتاه وهو يخترف في أرض، فنظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس وجه كَذَّاب، وتأمله فتحقق أنه النبي المُنْتَطَر فقال له: إني سائلك عن ثلاثة لا يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ نبي، ما أوَّلُ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ؟ وما أوَّلُ طَعَام أهْلِ الجَنَّةِ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخبرني بهن جبريلُ آنفاً قال: جبريل قال: نعم قال: ذَاكَ عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية: ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [البقرة: 97] . أم أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المَشْرِق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كَبِد حُوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعهُ وإن سبق ماء المرأة نزعته فقال: أشهد أنك رسول الله حقاً. ثم قال يا رسول الله: إن اليهود قوم بُهْتٌ، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بَهَتُونِي عنْدك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أيُّ رجل عبد اللهن فيكم؟ فقالوا: خَيْرُنا وابن خَيْرِنَا وسيدُنا وابنُ سيِّدِنا وِأعلَمُنا وابن أَعْلَمِنَا قال: أفرأيتم (إن أسلم) عبد الله بن سلام؟ فقالوا: أعاذَه الله من ذلك» فخرج إليه عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسولُ الله فقالوا: أشَرُّنَا وابْنُ شَرِّنَا وانتقصوه فقال: هذا ما كنت أخاف منه يا رسول الله فقال سعد بن أبي وقّاص: ما كنا نقول وفي رواية ما سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لأحد يمْشِي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سَلاَم وفيه نزلت هذه الآية: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ﴾ . وقيل: الشاهد: هو موسى بن عِمْرَانَ عليه الصَّلاَة والسَّلام قال الشعبي: قال مسروق في هذه الآية: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام، لأن آل حم نزلت بمكة، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة قبل وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعامين، فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعةٍ حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه سولم بالمدينة؟! وإنما نزلت الآية في محاجّة كانت من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقومه. وأجاب الكلبيُّ بأن السورة مكمية إلا هذه الآية فإنها مدينة وكانت الآية تنزل فيأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يضَعَهَا في سورة كَذَا وكَذَا، وهذه الآية نزلت بالمدينة وأنّ الله تعالى أمر رسوله بأن يضعها في السورة المكية في هذا الموضع المعين. قال ابن الخطيب: ولِقائِلٍ أن يقول: إن الحديث الذي رَوَيْتُمْ عن عبد الله بن سلام مشكِلٌ؛ لأن ظاهر الحديث يشعر بأنه لما سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن المسائل الثلاث، فلما أجاب النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك الجواب آمن عبد الله بن سلام لأجل أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر تلك الجوابات وهذا بعيدٌ من وَجْهَيْنِ: الأول: أن الإخبار عن أول أشراط الساعة وعن أول طعام يألكه أهل الجنة إخْبَار عن وقوع شيءٍ من المُمْكِنَات، وما هذا سبيله فإنه لا يُعْرَفُ كَوْنُ ذلك الخبر صدقاً إلاَّ إذا عرف أولاً كونُ المُخْبر صادقاً، فلو عرفنا صدق المُخْبِر يكون ذلك الخبر صادقاً لزم الدور. وهو محال. الثاني: أنا نعلم بالضرورة أن الجوابات المذكورة عن هذه المسائل لا يبلغ العلم بها إلى حدِّ الإعجاز ألبتة بل نقول: الجوابات الباهرة عن المسائل الصعبة لما يبلغ إلى حد الإعجاز. والجواب يحتمل أنه جاء في بعض كتب الأنبياء المتقدمين أن رَسُولَ آخِرِ الزمان يُسْأَلُ عن هذه المسائل وهو يجيب عنها بهذه الجوابات وكان عبد الله بن سلام عالماً بهذا المعنى ولما سأل النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أجاب بتلك الأجوبة فلا حاجة بنا إلى أن نقول: العِلْمُ بهذه الجوابات مُعْجزةٌ والله أعلم. وقيل: المراد بالشاهد التوراة. ومثل القرآن هو التوراة فشهد موسى على التوراة، ومحمد على الفرقان، وكل واحد يُصَدِّقُ الآخرَ، لأن التوراة مشتملة على البشارة بمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن مصدق التوراة ثم قال: ﴿فَآمَنَ واستكبرتم﴾ فلم تؤمنوا ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ وهذا تهديد. وهو قائم مقام الجواب المحذوف، والتقدير قل أرأيتم إنْ كَانَ من عند الله ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالّين. قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ ... ﴾ في سبب نزول وجوه: الاول: أن كفار مكمة قالوا: إِن عَامَّةَ من يتبع محمداً الفقراءُ والأرذالُ مثلُ عمَّار، وصُهَيْب، وابْن مَسْعُودٍ ولو كان هذا الدين خيراً ما سبقونا إليه هؤلاء. والثاني: قيل: لما أسلمت جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَة، وأسْلَم، وغِفار، قالت بنو عامر وعطفان وأسد وأشجع: لو كان هذا خيراً ما سبقنا إليه رعاة البَهْمِ. الثالث: قيل: إنَّ أَمَةً لعمرَ أسلمت وكان عمر يضربها ويقول: لولا أنّي فترت لزِدْتُكِ ضَرْباً فكان كفار قريش يقولون: لو كان ما يدعونا إليه محمد خيراً ما سبقنا إليه. الرابع: قيلأ: كان اليهود يقولون هذا الكلام حين أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه. قوله: «لِلَّذِينَ آمَنُوا» يجوز أن تكون لام الصلة، أي لأجلهم، يعني أن الكفار قالوا: لأجل إيمان الذين آمنوا، وأن تكون للتبليغ ولو جروا على مقتضى الخطاب لقالوا: ما سبقتمونا ولكنهم التفتوا فقالوا ما سبقونا. والضمير في «كان» و «إليه» عائدان على القرآن، أو ما جاء به الرسول أو الرسول. قوله: ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ﴾ العامل في «إذْ» مقدر أي ظهر عنادُهُمْ، وتسبب عنه (قوله) «فَسَيَقُولُونَ» ولا يعمل في «إذْ» فَسَيَقُولُونَ، لتضاد الزمانين، أعني المُضِيَّ والاسْتِقْبَالَ ولأجل الفاء أيضاً. فصل المعنى وإذ لم يهتدوا بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان فسيقولون هذا إفك قديم كما قالوا: أسَاطِيرُ الأَوَّلين. قوله (تعالى) : ﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى﴾ العامة على كسر ميم «مِنْ» حرف جر، وهي مع مجرورها خبر مقدم. والجملة حالية، أو خبر مستأنف وقرأ الكلبي بنصب الكتاب تقديره: وأنْزَلَ مِنْ قِبْلِهِ كِتَابَ مُوسَى وقرىء: وَمَنْ قَبْلَه بفتح الميم كِتَابَ مُوسَى بالنصب، على أن «من» موصولة، وهي مفعول أول لآتَيْنَا مقدَّراً، و «كتاب موسى» مفعوله الثاني أي وآتينا الذي قبله كِتَابَ مُوسَى. قوله: «إمَاماً ورَحْمَةً» حالان من «كتاب موسى» . وقيل: منصوبان بمقدر أي أَنْزَلْنَاهُ إِمَاماً ولا حاجة إليه. وعلى كونهما حالين هما منصوبان بما نصب به «مِنْ قَبْل» من الاستقرار. وقال أبو عبيدة: فيه إضمار أي جعلناه إماماً ورحمة من الله لمن آمن به. ومعنى الآية: ومن قبل القرآن كتابُ موسى يعني التوراة إماماً يهتدى به، ورحمة من الله وفي الكلام محذوف تقديره: وتقجمه كتاب موسى إماماً ورحمةً ولم يَهْتَدُوا به كما قال في الآية الأخرى ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ﴾ . قوله: ﴿وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ﴾ أي القرآن يصدِّق الكتب التي قبله، في أن محمداً رسول من عند الله. قوله: «لِسَاناً» حال من الضمير في «مُصَدِّق» ويجوز أن يكون حالاً من «كِتَابٍ» والعامل التنبيه، أو معنى الإشادة. و «عربياً» صفة ل «لِسَاناً» وهو المسوغ لوقوع هذه الجامدة حالاً، وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولاً به ناصبه «مصدق» وعلى هذا تكون الإشارة إلى غير القرآن؛ لأن المراد باللسان العربي القرآن. وهو خلاف الظاهر. وقيل: هو على حذف مضاف، أي مُصَدِّق ذَا لسانٍ عَرَبيٍّ وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل: هو على إسقاط حرف الجرف، أي بلسان وهو ضعيف. قوله: «لتنذر متعلق بمُصَدِّق، و» بُشْرَى «عطف على محلّه تقديره: للإنذار وللبُشْرَى. ولما اختلف العلة والمعلول وصل العامل إليه باللام، وهذا فيمن قرأ بتاء الخطاب. فأما من قرأ بياء الغيبة وقد تقدم ذلك في يس فإنَّهُمَا متَّحِدَانِ. وقيل: بشرى عطف على لفظ» لِتُنْذِرَ «أي فيكون مجروراً فقط. وقيل: هي مرفوعة على خبر ابتداء مضمر تقديره: هِيَ بُشْرَى. ونقل أبو حيان وجه النصب عطفاً على محل» لِتُنْذِرَ «عن الزمخشري وأبي البقاء ثم قال:» وهذا لايصح على الصحيح من مذاهب النحويين، لأنهم يشترطون في الحمل على المحل أن يكون بحقّ الأصالة. وأن يكون للموضع مُحْرز. وهنا المحل ليس بحق الأصَالة؛ إذ الأصل في المفعول الجر (له) ، والنصب ناشىء عنه، لكنه لما كثر بالشروط المذكورة وصل إليه الفعل فنصبه» . انتهى. قوله: الأصل في المفعول له الجر بالحرف ممنوع بدليل قول النحويين إنه ينصب بشروط ذكروها ثم يقولون: ويجوز جره بلام فقولهم: ويجوز ظاهر في أنه فرع أصل. قال الزجاج (رَحِمَهُ الله) : الأجوزُ أن يكون» وبشرى «في موضع رفع أي وهُو بُشْرَى. قال و (لا) يجوز أن يكون في موضع نَصْب على معنى لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين. وقوله للمحسنين متعلق ببشرى، أو بمحذوف على أنَّه صفة لها. فصل المراد بالذين ظلموا مشركوا مكمة، والحاصل أن المقصودَ من إنزال هذا الكتاب إنذار المعرضين وبشارة المطيعين.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب