الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّا جاءَهم هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا هو أعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم وهو الغَفُورُ الرَحِيمُ﴾ ﴿قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُسُلِ وما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكم إنْ أتَّبِعُ إلا ما يُوحى إلَيَّ وما أنا إلا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ الآياتُ المَذْكُورَةُ هي آياتُ القُرْآنِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "تُتْلى"﴾ وقَوْلُ الكُفّارِ: ﴿هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾، وإنَّما قالُوا ذَلِكَ عَنِ القُرْآنِ مِن حَيْثُ قالُوا: هو يُفَرِّقُ بَيْنَ المَرْءِ وبَيْنَ ووَلَدِهِ، وبَيْنَهُ وبَيْنَ زَوْجِهِ، إلى نَحْوِ هَذا مِمّا يُوجَدُ مِثْلُهُ لِلسِّحْرِ بِالوَجْهِ الآخَرِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ﴾: "أمْ" مَقْطُوعَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِـ "بَلْ وهَمْزَةُ (p-٦١٢)الِاسْتِفْهامِ"، و﴿ "افْتَراهُ"﴾ مَعْناهُ: اشْتَقَّهُ واخْتَلَقَهُ، فَأمَرَهُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى أنْ يَقُولَ: إنِ افْتَرَيْتُهُ فاللهُ حَسْبِي في ذَلِكَ، وهو كانَ يُعاقِبُنِي ولا يُمْهِلُنِي، ثُمَّ رَجَعَ القَوْلُ إلى الِاسْتِفْهامِ إلى اللهِ تَعالى والِاسْتِنْصارُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وانْتِظارُ ما يَقْتَضِيهِ عِلْمُهُ بِما يُفِيضُونَ فِيهِ مِنَ الباطِلِ ومُرادَّةُ الحَقِّ، وذَلِكَ يَقْتَضِي مُعاقَبَتَهُمْ، فَفي اللَفْظَةِ تَهْدِيدٌ، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: "فِيهِ" يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى القُرْآنِ، ويُحْتَمَلَ العَوْدَةُ عَلى "ما"، والضَمِيرُ في "بِهِ" عائِدٌ عَلى اللهِ تَعالى، و"بِهِ" في مَوْضِعِ رَفْعٍ، و"أفاضَ الرَجُلُ في الحَدِيثِ ونَحْوِهِ" إذا خاضَ فِيهِ واسْتَمَرَّ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهُوَ الغَفُورُ الرَحِيمُ﴾ تَرْجِيَةٌ واسْتِدْعاءٌ إلى التَوْبَةِ، لِأنَّهُ في خِلالِ تَهْدِيدِهِ إيّاهم بِاللهِ تَعالى جاءَتْ هاتانِ الصِفَتانِ. ثُمَّ أمَرَهُ اللهُ تَعالى أنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُسُلِ، أيْ: قَدْ جاءَ غَيْرِي قَبْلِي، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، والأعْرَجُ، و"البِدَعُ" و"البَدِيعُ" مِنَ الأشْياءِ: ما لَمْ يَرَ مِثْلَهُ، ومِنهُ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: ؎ فَما أنا بِدَعٌ مِن حَوادِثَ تَعْتَرِي ∗∗∗ رِجالًا عَرَّتْ مِن بَعْدِ بُؤْسِي وأسْعُدِ وقَرَأ عِكْرِمَةُ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وأبُو حَيْوَةَ: "بِدَعًا" بِفَتْحِ الدالِّ، قالَ أبُو الفَتْحِ: التَقْدِيرُ: "ذا بِدَعٍ" فَحَذَفَ المُضافَ، كَما قالَ: ؎ وكَيْفَ تُواصِلُ مَن أصْبَحَتْ ∗∗∗ ∗∗∗ خِلالَتُهُ كَأبِي مُرَحِّبٍ؟ (p-٦١٣)واخْتَلَفَ الناسُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ﴾، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وأنَسُ بْنُ مالِكٍ، وقَتادَةُ، وعِكْرِمَةُ والحَسَنُ: مَعْناهُ: في الآخِرَةِ، وكانَ هَذا في صَدْرِ الإسْلامِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَرَّفَهُ اللهُ تَعالى بِأنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأخَّرَ، وبِأنَّ المُؤْمِنِينَ لَهم مِنَ اللهِ فَضْلٌ كَبِيرٌ وهو الجَنَّةُ، وبِأنَّ الكافِرِينَ في نارِ جَهَنَّمَ، والحَدِيثُ الَّذِي وقَعَ في جِنازَةِ عُثْمانَ بْنِ مَظْعُونٍ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، « "فَواللهِ ما أدْرِي وأنا رَسُولُ اللهِ ما يَفْعَلُ بِي"»، وفي بَعْضِ الرِواياتِ "بِهِ"، ولا حُجَّةَ لَنا في الحَدِيثِ عَلى رِوايَةِ "بِهِ"، والمَعْنى عِنْدِي في هَذا القَوْلِ أنَّهُ لَمْ تُكْشَفْ لَهُ الخاتِمَةُ، فَقالَ: لا أدْرِي؟ وأمّا مَن وافى عَلى الإيمانِ، فَقَدْ أُعْلِمَ بِنَجاتِهِ مَن أوَّلِ الرِسالَةِ، وإلّا فَكانَ لِلْكُفّارِ أنْ يَقُولُوا: وكَيْفَ تَدْعُونا إلى ما لا تَدْرِي لَهُ عاقِبَةٌ؟ وقالَ الحَسَنُ أيْضًا وجَماعَةٌ: مَعْنى الآيَةِ: ما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكم في الدُنْيا مِن أنْ أُنْصَرَ عَلَيْكم أو مِن أنْ تُمَكَّنُوا مِنِّي، ونَحْوُ هَذا مِنَ المَعْنى. (p-٦١٤)وَقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنى الآيَةِ: ما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكم مِنَ الأوامِرِ والنَواهِي وما تُلْزِمُنا الشَرِيعَةُ مِن أعْراضِها. وحَكى الطَبَرِيُّ عن بَعْضِهِمْ أنَّهُ قالَ: نَزَلَتِ الآيَةُ في أمْرٍ كانَ النَبِيُّ ﷺ يَنْتَظِرُهُ مِنَ اللهِ تَعالى في غَيْرِ الثَوابِ والعِقابِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ «لَمّا تَأخَّرَ خُرُوجُ النَبِيِّ ﷺ مِن مَكَّةَ حِينَ رَأى في النَوْمِ أنَّهُ مُهاجِرٌ إلى أرْضٍ ذاتِ نَخْلٍ وسَبْخَةٍ، قَلِقَ المُسْلِمُونَ لِتَأخُّرِ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.» وقَوْلُهُ: ﴿إنْ أتَّبِعُ إلا ما يُوحى إلَيَّ﴾ مَعْناهُ: الِاسْتِسْلامُ والتَبَرِّي مِن عِلْمِ المُغَيَّباتِ والوُقُوفِ مَعَ النِذارَةِ مِن عَذابِ اللهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب