الباحث القرآني
(p-١٣٣)ولَمّا كانَ [مِن] أعْظَمِ الضَّلالِ أنْ يُنْسَبَ الإنْسانُ إلى الكَذِبِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ في شَيْءٍ لَمْ يَبْتَدِعْهُ، بَلْ تَقَدَّمَهُ بِمِثْلِهِ ناسٌ قَدْ ثَبَتَ صِدْقُهم في مِثْلِ ذَلِكَ ومَضَتْ عَلَيْهِ الأزْمانُ وتَقَرَّرَ غايَةَ التَّقَرُّرِ في القُلُوبِ والأذْهانِ، قالَ تَعالى: ﴿قُلْ﴾ أيْ: لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ نَسَبُوكَ إلى الِافْتِراءِ: ﴿ما كُنْتُ﴾ أيْ: كَوْنًا ما ﴿بِدْعًا﴾ أيْ: مُنْشِئًا مُبْتَدِعًا مُحْدِثًا مُخْتَرِعًا بِحَيْثُ أكُونُ أجْنَبِيًّا مُنْقَطِعًا ﴿مِنَ الرُّسُلِ﴾ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِي مِنهم مِثالٌ في أصْلِ ما جِئْتُ بِهِ، وهو الحَرْفُ الَّذِي طالَ النِّزاعُ بَيْنِي وبَيْنَكم فِيهِ وعَظُمَ الخَطْبُ وهو التَّوْحِيدُ ومَحاسِنُ الأخْلاقِ بَلْ قَدْ تَقَدَّمَنِي رُسُلٌ كَثِيرُونَ أتَوْا بِمِثْلِ ما أتَيْتُ بِهِ ودَعَوْا إلَيْهِ كَما دَعَوْتُ وصَدَّقَهُمُ اللَّهُ بِمِثْلِ ما صَدَّقَنِي بِهِ، فَثَبَتَتْ بِذَلِكَ رِسالاتُهم وسَعِدَ بِهِمْ مَن صَدَّقَهم مِن قَوْمِهِمْ، وشَقِيَ بِهِمْ مَن كَذَّبَهُمْ، فانْظُرُوا إلى آثارِهِمْ، واسْألُوا عَنْ سِيَرِهِمْ مِن أتْباعِهِمْ وأنْصارِهِمْ [وأشْياعِهِمْ]، قالَ الإمامُ أبُو عَبْدِ اللَّهِ القَزّازُ في دِيوانِهِ: والبِدْعَةُ الِاسْمُ لِما ابْتُدِعَ وضِدُّ البِدْعَةِ السُّنَّةُ، لِأنَّ السُّنَّةَ ما تَقَدَّمَ لَهُ إمامٌ، والبِدْعَةُ ما اخْتُرِعَ عَلى غَيْرِ مِثالٍ، وفي الحَدِيثِ: ««كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ وكُلُّ ضَلالَةٍ في النّارِ»». مَعْناهُ -واللَّهُ أعْلَمُ- أنْ يَبْتَدِعَ ما يُخالِفُ السُّنَّةَ إذْ كانَتِ البِدْعَةُ ضِدَّ السُّنَّةِ، فَإذا أحْدَثَ ما يُخالِفُها (p-١٣٤)كانَ بِإحْداثِهِ لَها ضالًّا مُشْرِكًا، وكانَ مَن أحْدَثَ في النّارِ، ولَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذا ما يَخْتَرِعُ الإنْسانُ مِن أفْعالِ البِرِّ يُسَمّى بِدْعَةً لِعَدَمِ فِعْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَخْرُجُ عَمّا ذَكَرْنا إنْ كانَ لَهُ نَظِيرٌ في الأُصُولِ، وهو الحَضُّ عَلى كُلِّ أفْعالِ البِرِّ ما عُلِمَ مِنها وما لَمْ يُعْلَمْ، فَإنْ أحْدَثَ مُحْدِثٌ مِن ذَلِكَ شَيْئًا فَكَأنَّهُ زِيادَةٌ فِيما تَقَدَّمَ مِنَ البِرِّ ولَيْسَ بِضِدٍّ لِما تَقَدَّمَهُ مِنَ السُّنَّةِ، بَلْ هو بابٌ مِن أبْوابِها، ويَقُولُونَ: ما فُلانٌ بِبِدْعٍ في هَذا الأمْرِ؛ أيْ لَيْسَ [هُوَ] بِأوَّلِ مَن أصابَهُ ذَلِكَ ولَكِنْ سَبْقَهُ غَيْرُهُ أيْضًا، قالَ الشّاعِرُ:
؎ولَسْتُ بِبِدْعٍ مِنَ النّائِباتِ ونَقْضِ الخُطُوبِ وإمْرارِها
ويُقالُ: أُبْدِعَ بِالرَّجُلِ -إذا كَلَّتْ راحِلَتُهُ- وأبْدَعَتِ الرِّكابُ إذا كَلَّتْ وعَطِبَتْ، وقِيلَ: كُلُّ مَن عَطِبَتْ رِكابُهُ [فانْقَطَعَ بِهِ فَقَدْ أُبْدِعَ بِهِ، وقالَ في القامُوسِ: والبِدْعَةُ: الحَدَثُ في الدِّينِ بَعْدَ الإكْمالِ أوْ ما اسْتُحْدِثَ بَعْدَهُ ﷺ مِنَ الأهْواءِ والأعْمالِ، وأُبْدِعَ بِالرَّجُلِ: عَطِبَتْ رِكابُهُ]، وبَقِيَ مُنْقَطِعًا بِهِ، وأبْدَعَ فُلانٌ بِفُلانٍ: قَطَعَ بِهِ وخَذَلَهُ، (p-١٣٥)ولَمْ يَقُمْ بِحاجَتِهِ، وحَجَّتُهُ: بَطَلَتْ، وقالَ الصَّغانِيُّ في مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ: وشَيْءٌ بِدْعٌ - بِالكَسْرِ أيْ مُبْتَدَعٌ، وفُلانٌ بِدْعٌ في هَذا الأمْرِ أيْ بَدِيعٌ، وقَوْمٌ أبْداعٌ، عَنِ الأخْفَشِ: [و] البَدِيعُ المُبْتَدَعُ والبَدِيعُ المُبْتَدِعُ أيْضًا، وأبْدَعَتْ حُجَّةُ فُلانٍ: إذا بَطَلَتْ. وأُبْدِعَتْ: أُبْطِلَتْ، يَتَعَدّى ولا يَتَعَدّى.
ولَمّا أثْبَتَ بِمُوافَقَتِهِ ﷺ لِلرُّسُلِ أصْلَ الكَلامِ وبَقِيَ أنْ يُقالَ: إنَّ التَّكْذِيبَ في أنَّ اللَّهَ أرْسَلَهُ [بِهِ، قامَ الدَّلِيلُ عَلى صِدْقِهِ في دَعْواهُ، وذَلِكَ بِأنَّهُ مُماثِلٌ لَهم في أصْلِ الخِلْقَةِ لَيْسَ لَهُ مِن ذاتِهِ مِنَ العِلْمِ إلّا ما لَهُمْ، ولَيْسَ مِنهم أحَدٌ يَصِحُّ لَهُ حُكْمٌ عَلى المُغَيَّباتِ، فَلَوْلا أنَّ اللَّهَ أرْسَلَهُ] لَما صَحَّ كُلُّ شَيْءٍ حَكَمَ بِهِ عَلى المُسْتَقْبِلاتِ ولَمْ يَتَخَلَّفْ مِن ذَلِكَ شَيْءٌ فَقالَ: ﴿وما أدْرِي﴾ أيْ: في هَذا الحالِ بِنَوْعِ حِيلَةٍ وعَمَلٍ واجْتِهادٍ ﴿ما﴾ [أيِ الَّذِي] ﴿يُفْعَلُ﴾ أيْ: مِن أيِّ فاعِلٍ [كانَ] سَواءٌ كانَ هو اللَّهَ تَعالى بِلا واسِطَةٍ أوْ بِواسِطَةِ [غَيْرِهِ] ﴿بِي﴾ وأكَّدَ النَّفْيَ لِيَكُونَ ظاهِرًا في الِاجْتِماعِ وكَذَلِكَ في الِانْفِرادِ أيْضًا [فَقالَ]: ﴿ولا﴾ [أيْ ولا أدْرِي الَّذِي يُفْعَلُ] ﴿بِكُمْ﴾ هَذا في أصْلِ الخِلْقَةِ وأنْتُمْ تَرَوْنَنِي أحْكَمُ عَلى نَفْسِي بِأشْياءَ لا يَخْتَلُّ شَيْءٌ مِنها مِثْلَ أنْ أقُولَ: إنِّي آتِيكم مِنَ القُرْآنِ (p-١٣٦)بِما يُعْجِزُكُمْ، فَلا تَقْدِرُونَ كُلُّكم عَلى مُعارَضَةِ شَيْءٍ مِنهُ فَيَصِحُّ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّكْرارِ لا يَتَخَلَّفُ أصْلًا، فَلَوْلا أنَّ اللَّهَ أرْسَلَنِي بِهِ لَمْ أقْدِرْ وحْدِي عَلى ما [لا] تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ كُلُّكُمْ، وإنْ قَدَرْتُ عَلى شَيْءٍ كُنْتُمْ أنْتُمْ أقْدَرَ مِنِّي عَلَيْهِ، وفي الآيَةِ بِعُمُومِها دَلِيلٌ عَلى أنَّ لِلَّهِ أنْ يَفْعَلَ ما يَشاءُ، فَلَهُ أنْ يُعَذِّبَ الطّائِعَ ويُنَعِّمَ العاصِيَ، ولَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكانَ عَدْلًا وحَقًّا وإنْ كُنّا نَعْتَقِدُ أنَّهُ لا يَفْعَلُهُ.
ولَمّا سَوّى نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ بِهِمْ في أصْلِ الخِلْقَةِ، وكانَ قَدْ مَيَّزَهُ اللَّهُ عَنْهم بِما خَصَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ، [أبْرَزَ لَهُ ذَلِكَ] سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى وجْهِ النَّتِيجَةِ فَقالَ: ﴿إنْ﴾ أيْ: ما ﴿أتَّبِعُ﴾ [أيْ] بِغايَةِ جُهْدِي وجِدِّي ﴿إلا ما﴾ أيِ: الَّذِي ﴿يُوحى﴾ أيْ: يُجَدَّدُ إلْقاؤُهُ مِمَّنْ لا يُوحِي بِحَقٍّ إلّا هو ﴿إلَيَّ﴾ عَلى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ سِرًّا، لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ حَقَّ اطِّلاعِهِ غَيْرِي، ومِنهُ ما أُخْبِرُ فِيهِ عَنِ المُغَيَّباتِ فَيَكُونُ كَما قُلْتُ، فَلا يَرْتابُ في أنِّي لا أقْدِرُ عَلى ذَلِكَ بِنَفْسِي فَعُلِمَ أنَّهُ مِنَ اللَّهِ.
ولَمّا نَسَبُوهُ إلى الِافْتِراءِ تارَةً والجُنُونِ أُخْرى، وكانَ السَّبَبُ الأعْظَمُ في نِسْبَتِهِمْ لَهُ إلى ذَلِكَ صَدْعَهم بِما يَسُوءُهم عَلى غَيْرِ عادَتِهِ السّالِفَةِ وعادَةِ أمْثالِهِ، قالَ عَلى سَبِيلِ القَصْرِ القَلْبِيِّ: ﴿وما أنا﴾ أيْ: (p-١٣٧)بِإخْبارِي لَكم عَمّا يُوحى إلَيَّ ﴿إلا نَذِيرٌ﴾ أيْ: لَكم ولِكُلِّ مَن بَلَغَهُ القُرْآنُ ﴿مُبِينٌ﴾ أيْ: ظاهِرٌ أنِّي كَذَلِكَ في نَفْسِهِ مُظْهِرٌ لَهُ -أيْ كَوْنِي نَذِيرًا- ولِجَمِيعِ الجُزْئِيّاتِ الَّتِي أُنْذِرَ مِنها بِالأدِلَّةِ القَطْعِيَّةِ.
{"ayah":"قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعࣰا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَاۤ أَدۡرِی مَا یُفۡعَلُ بِی وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا یُوحَىٰۤ إِلَیَّ وَمَاۤ أَنَا۠ إِلَّا نَذِیرࣱ مُّبِینࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











