الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿جُناحٌ﴾ أَيْ إِثْمٌ، وَهُوَ اسْمُ لَيْسَ. "أَنْ تَبْتَغُوا" فِي مَوْضِعِ نَصْبِ خَبَرِ لَيْسَ، أَيْ فِي أَنْ تَبْتَغُوا. وَعَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِتَنْزِيهِ الْحَجِّ عَنِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ رَخَّصَ فِي التِّجَارَةِ، الْمَعْنَى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلَ اللَّهِ. وَابْتِغَاءَ الْفَضْلِ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التِّجَارَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾[[راجع ج ١٨ ص ١٠٨.]] [الجمعة: ١٠]. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (كَانَتْ [[الذي في البخاري: "كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت ... إلخ". وعكاظ: نخل في واد بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليال. وذو المجاز: خلف عرفة. ومجنة: بمر الظهران، قرب جبل يقال له الأصغر، وهو بأسفل مكة على قدر بريد منها. وهذه أسواق للعرب. وكان أهل الجاهلية يصبحون بعكاظ يوم هلال ذى القعدة، ثم يذهبون منه إلى مجنة بعد مضى عشرين يوما من ذى القعدة، فإذا رأوا هلال ذى الحجة ذهبوا من مجنة إلى ذى المجاز، فلبثوا به ثمان ليال، ثم يذهبون إلى عرفة. ولم تزل هذه الأسواق قائمة في الإسلام إلى أن كان أول ما ترك منها سوق عكاظ في زمن الخوارج سنة تسع وعشرين ومائة، لما خرج الحروى بمكة مع أبى حمزة المختار بن عوف خاف الناس أن ينتهبوا فتركت إلى ألان، ثم ترك ذو المجاز ومجنة بعد ذلك، واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى وبعرفة. (عن شرح القسطلاني).]] عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْمَوَاسِمِ فَنَزَلَتْ: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ" فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ) [[فوله: "في مواسم الحج" قراءة ابن عباس، كما نبه عليه المؤلف في مقدمة الكتاب ص ٨٣، وقال أبو حيان في البحر: "وقراء ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير" فضلا من ربكم في مواسم الحج" وجعل هذا تفسيرا، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمعت عليه الامة.]]. الثَّانِيَةُ- إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ لِلْحَاجِّ مَعَ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ شِرْكًا وَلَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُكَلَّفُ عن رسم الإخلاص المفترض عليه، خِلَافًا لِلْفُقَرَاءِ [[لعله يريد بالفقراء الصوفية.]]. أَمَّا إِنَّ الْحَجَّ دُونَ تِجَارَةٍ أَفْضَلُ، لِعُرُوِّهَا [[كذا في نسخ الأصل. ومقتضى الظاهر تذكير الضمير لعوده إلى الحج، ولعله يريد بالتأنيث هنا: الحج بمعنى العبادة.]] عَنْ شَوَائِبِ الدُّنْيَا وَتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِغَيْرِهَا. رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ التَّيْمِيِّ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إِنِّي رَجُلٌ أُكَرِّي فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا حَجَّ لَكَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَهُ مِثْلَ هَذَا الَّذِي سَأَلْتَنِي، فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ لَكَ حَجًّا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ فِيهِ سِتَّ [[يلاحظ أن الأصول اضطربت في العدد هنا.]] عَشْرَةَ مَسْأَلَةً. الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذا أَفَضْتُمْ﴾ أَيِ انْدَفَعْتُمْ. وَيُقَالُ: فَاضَ الْإِنَاءُ إِذَا امْتَلَأَ حَتَّى يَنْصَبَّ عَنْ نَوَاحِيهِ. وَرَجُلٌ فَيَّاضٌ، أَيْ مُنْدَفِقٌ بِالْعَطَاءِ. قَالَ زُهَيْرٌ: وَأَبْيَضُ فَيَّاضٍ يَدَاهُ غَمَامَةٌ ... عَلَى مُعْتَفِيهِ مَا تُغِبُّ فَوَاضِلُهُ [[الفياض: الكثير العطاء. المعنفون: الطالبون ما عنده. يقال: عفاه واعتفاه إذا أتاه يطلب معروفة. ما تغب فواضله: أي عطاياه دائمة لا تنقطع.]] وَحَدِيثٌ مُسْتَفِيضٌ، أَيْ شَائِعٌ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِنْ عَرَفاتٍ﴾ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ "عَرَفاتٍ" بِالتَّنْوِينِ، وَكَذَلِكَ لَوْ سُمِّيَتِ امْرَأَةٌ بِمُسْلِمَاتٍ، لِأَنَّ التَّنْوِينَ هُنَا لَيْسَ فَرْقًا بَيْنَ مَا يَنْصَرِفُ وَمَا لَا يَنْصَرِفُ فَتَحْذِفُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ النُّونِ فِي مُسْلِمِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا الْجَيِّدُ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنِ الْعَرَبِ حَذْفَ التَّنْوِينِ من عرفات، يقول: هَذِهِ عَرَفَاتُ يَا هَذَا، وَرَأَيْتُ عَرَفَاتٍ يَا هَذَا، بِكَسْرِ التَّاءِ وَبِغَيْرِ تَنْوِينٍ، قَالَ: لَمَّا جَعَلُوهَا مَعْرِفَةً حَذَفُوا التَّنْوِينَ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ وَالْكُوفِيُّونَ فَتْحَ التَّاءِ، تَشْبِيهًا بِتَاءِ فَاطِمَةَ وَطَلْحَةَ. وَأَنْشَدُوا: تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرِعَاتٍ وَأَهْلِهَا ... بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرً عَالِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ، وَأَنَّ التَّنْوِينَ فِيهِ عَلَى حَدِّهِ فِي مُسْلِمَاتٍ، الْكَسْرَةُ مُقَابِلَةُ الْيَاءِ فِي مُسْلِمِينَ وَالتَّنْوِينُ مُقَابِلُ النُّونِ. وَعَرَفَاتٍ: اسْمُ عَلَمٍ، سُمِّيَ بِجَمْعٍ كَأَذْرِعَاتٍ. وَقِيلَ: سُمِّيَ بِمَا حَوْلَهُ، كَأَرْضٍ سَبَاسِبَ [[جاء في اللسان مادة سبسب: "وحكى اللحياني بلد سبسب، وبلد سباسب، كأنهم جعلوا كل جزء منه سبسبا، ثم جمعوه على هذا". والسبسب: القفر والمفازة. وقيل: الأرض المستوية البعيدة.]]. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ عَرَفَاتٍ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَعَارَفُونَ بِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّ آدَمَ لَمَّا هَبَطَ وَقَعَ بِالْهِنْدِ، وَحَوَّاءَ بِجَدَّةَ، فَاجْتَمَعَا بَعْدَ طُولِ الطَّلَبِ بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ عَرَفَةَ وَتَعَارَفَا [[كل هذا يحتاج إلى التثبت.]]، فَسُمِّيَ الْيَوْمَ عَرَفَةَ، وَالْمَوْضِعُ عَرَفَاتٍ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا لِمَا تَقَدَّمَ ذكره عند قول تعالى: ﴿وَأَرِنا مَناسِكَنا﴾[[راجع ص ١٢٧ من هذا الجزء.]] [البقرة: ١٢٨]. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَهُ مُرْتَجِلٌ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْبِقَاعِ. وَعَرَفَةُ هِيَ نَعْمَانُ الْأَرَاكِ، وَفِيهَا يَقُولُ الشَّاعِرُ: تَزَوَّدْتُ مِنْ نَعْمَانَ عُودِ أراكة ... لهند ولكن لم يُبَلِّغُهُ هِنْدًا وَقِيلَ: هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَرْفِ وَهُوَ الطِّيبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿عَرَّفَها لَهُمْ﴾[[راجع ج ١٦ ص ٢٣١.]] [محمد: ٦] أَيْ طَيَّبَهَا، فَهِيَ طَيِّبَةٌ بِخِلَافِ مِنًى الَّتِي فِيهَا الْفُرُوثُ [[الفروث: جمع فرث، وهو السرجين (الزبل) ما دام في الكرش.]] وَالدِّمَاءُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ. وَيَوْمُ الْوُقُوفِ، يَوْمَ عَرَفَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُ هَذَيْنَ الِاسْمَيْنِ مِنَ الصَّبْرِ، يُقَالُ: رَجُلٌ عَارِفٌ. إِذَا كَانَ صَابِرًا خَاشِعًا. وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ: النَّفْسُ عروف وما حملتها تتحمل. قال: فصبرت [[البيت لعنترة، وتمامه: ترسو إذا نفس الجبان تطلع]] عارفة لذلك حرة أي نفس صابرة. وقال ذو الرمة: عَرُوفُ لِمَا خَطَّتْ عَلَيْهِ الْمَقَادِرُ [[صدر البيت: إذا خاف شيئا وقرته طبيعة]] أَيْ صَبُورٌ عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ، فَسُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِخُضُوعِ الْحَاجِّ وَتَذَلُّلِهِمْ، وَصَبْرِهِمْ عَلَى الدُّعَاءِ وَأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ وَاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ، لِإِقَامَةِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ. الثَّالِثَةُ- أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَفَاضَ مِنْهَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِوُقُوفِهِ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى تَمَامِ حَجِّ مَنْ وقف بعرفة بَعْدَ الزَّوَالِ وَأَفَاضَ نَهَارًا قَبْلَ اللَّيْلِ، إِلَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا. وَأَمَّا مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بِاللَّيْلِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ فِي تَمَامِ حَجِّهِ. وَالْحُجَّةُ لِلْجُمْهُورِ مُطْلَقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ" وَلَمْ يَخُصَّ لَيْلًا مِنْ نَهَارٍ، وَحَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وهو في الموقف من جميع، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُكَ مِنْ جَبَلَيْ طئ، أَكْلَلْتُ مَطِيَّتِي، وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاللَّهِ إِنْ تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ [[في ز وبعض كتب الحديث ونهاية ابن الأثير بالحاء المهملة المفتوحة وسكون الموحدة. قال الترمذي في سننه: "قوله: من حبل" إذا كان من رمل يقال له حبل، وإذا كان من حجارة يقال له جبل". وقال ابن الأثير في تفسير هذا الحديث: "الحبل: المستطيل من الرمل، وقيل: الضخم منه، وجمعه حبال. وقيل: الحبال في الرمل كالجبال في غير الرمل". وقال الخطابي: الحبال ما دون الجبال في الارتفاع.]] إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنْ صَلَّى مَعَنَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِجَمْعٍ وَقَدْ أَتَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ قَضَى تَفَثَهُ [[قال صاحب التعليق المغني على سنن الدارقطني: "وقوله: وقضى تفثه. قيل: المراد به أنه أتى بما عليه من المناسك، والمشهور أن التفث ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر أو حلقه وحلق العانة ونتف الإبط وغيره من خصال الفطرة، ويدخل في ضمن ذلك نحر البدن، وقضاء جميع المناسك، لأنه لا يقضى النفث إلا بعد ذلك، واصل النفث الوسخ والقذر. قاله الشوكاني".]] وَتَمَّ حَجُّهُ). أَخْرَجَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمْ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الطَّائِيِّ حَدِيثٌ ثَابِتٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّعْبِيِّ الثِّقَاتِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ، مِنْهُمْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَزَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ وَمُطَرِّفٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ بْنِ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَامٍ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ مِنَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ: حَدِيثٌ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ: فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ. وَأَفْعَالُهُ عَلَى الْوُجُوبِ، لَا سِيَّمَا فِي الْحَجِّ وَقَدْ قَالَ: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ). الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِيمَنْ أَفَاضَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَرْجِعْ مَاذَا عَلَيْهِ مَعَ صِحَّةِ الْحَجِّ، فَقَالَ عَطَاءٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وأصحاب الرأي وغيرهم: عَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَلَيْهِ هَدْيٌ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَلَيْهِ بَدَنَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ، وَالْهَدْيُ يَنْحَرُهُ فِي حَجٍّ قَابِلٍ، وَهُوَ كَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ. فَإِنْ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ حَتَّى يَدْفَعَ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ فقال الشافعي: لا شي عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُدَ، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. الْخَامِسَةُ- وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رَاكِبًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَذَلِكَ وَقَفَ إِلَى أَنْ دَفَعَ مِنْهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَهَذَا مَحْفُوظٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. قَالَ جَابِرٍ: ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ [[الصخرات: هي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات.]]، وَجَعَلَ حَبْلَ [[قال ابن الأثير:" وجعل حبل المشاة بين يديه، أي طريقهم الذي يسلكونه في الرمل. وقيل: أراد صفهم ومجتمعهم في مشيهم تشبيها بحبل الرمل.]] الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ خَلْفَهُ، الْحَدِيثَ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوبِ وَقَفَ قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ دَاعِيًا، مَا دَامَ يَقْدِرُ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الْجُلُوسِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوُقُوفِ، وَفِي الْوُقُوفِ رَاكِبًا مُبَاهَاةٌ وَتَعْظِيمٌ لِلْحَجِّ ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[[راجع ج ١٢ ص ٥٦.]] [الحج: ٣٢]. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ فِي مُوَطَّئِهِ قَالَ لِي مَالِكٌ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْإِبِلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقِفَ قَائِمًا، قَالَ: وَمَنْ وَقَفَ قَائِمًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَرِيحَ. السَّادِسَةُ- ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ يَسِيرُ الْعَنَقُ [[العنق (محركة): سير سريع فسيح واسع الإبل والدابة. والفجوة: الموضع المتسع بين شيئين.]] فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: وَالنَّصُّ فوق العنق وَهَكَذَا يَنْبَغِي عَلَى أَئِمَّةِ الْحَاجِّ فَمَنْ دُونَهُمْ، لِأَنَّ فِي اسْتِعْجَالِ السَّيْرِ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ اسْتِعْجَالُ الصَّلَاةِ بِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَغْرِبَ لَا تُصَلَّى تِلْكَ اللَّيْلَةَ إِلَّا مَعَ الْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَتِلْكَ سُنَّتُهَا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّابِعَةُ- ظَاهِرُ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَرَفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ، قَالَ ﷺ: (وَوَقَفْتُ هَا هُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفَعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ (. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ يَتَّصِلُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَكْثَرُ الْآثَارِ لَيْسَ فِيهَا اسْتِثْنَاءٌ بَطْنُ عُرَنَةَ مِنْ عَرَفَةَ، وَبَطْنُ مُحَسِّرٍ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ، وَكَذَلِكَ نَقَلَهَا الْحُفَّاظُ الثِّقَاتُ الْأَثْبَاتُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بِعُرَنَةَ، فَقَالَ مَالِكٌ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: يُهْرِيقُ دَمًا وَحَجُّهُ تَامٌّ. وَهَذِهِ رِوَايَةٌ رَوَاهَا خَالِدُ بْنُ نِزَارٍ عَنْ مَالِكٍ. وَذَكَرَ أَبُو الْمُصْعَبِ أَنَّهُ كَمَنْ لَمْ يَقِفْ وَحَجُّهُ فَائِتٌ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ إِذَا وَقَفَ بِبَطْنٍ عُرَنَةَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ أَفَاضَ مِنْ عُرَنَةَ فَلَا حَجَّ لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ، وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ وَبِهِ أَقُولُ: لَا يُجْزِيهِ أَنْ يَقِفَ بِمَكَانٍ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَلَّا يُوقَفَ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الِاسْتِثْنَاءُ بِبَطْنِ عُرَنَةَ مِنْ عَرَفَةَ لَمْ يَجِئْ مَجِيئًا تَلْزَمُ حُجَّتُهُ، لَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ. وَحُجَّةُ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ أَبِي الْمُصْعَبِ أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فَرْضٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ إِلَّا بِيَقِينٍ، وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاخْتِلَافِ. وَبَطْنُ عُرَنَةَ يُقَالُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَهُوَ بِغَرْبِيِّ مَسْجِدِ عَرَفَةَ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْجِدَارَ الْغَرْبِيَّ مِنْ مَسْجِدِ عَرَفَةَ لَوْ سَقَطَ سَقَطَ فِي بَطْنِ عُرَنَةَ. وَحَكَى الْبَاجِيُّ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ عَرَفَةَ فِي الْحِلِّ، وَعُرَنَةَ فِي الْحَرَمِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَأَمَّا بَطْنُ مُحَسِّرٍ فَذَكَرَ وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَوْضَعَ [[الإيضاع: سير مثل الخبب (ضرب من العدو)، يقال: وضع البعير يضع وصنعا، وأوضعه راكبه إيضاعا إذا حمله على سرعة السير.]] فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ. الثَّامِنَةُ- وَلَا بَأْسَ بِالتَّعْرِيفِ فِي الْمَسَاجِدِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِغَيْرِ عَرَفَةَ، تَشْبِيهًا بِأَهْلِ عَرَفَةَ. رَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ. يَعْنِي اجْتِمَاعَ النَّاسِ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي الْمَسْجِدِ بِالْبَصْرَةِ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ حُرَيْثٍ يَخْطُبُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنِ التَّعْرِيفِ فِي الْأَمْصَارِ، يَجْتَمِعُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَ: أَرْجُو أَلَّا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ: الْحَسَنُ وَبَكْرٌ وَثَابِتٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ، كَانُوا يَشْهَدُونَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ عَرَفَةَ. التَّاسِعَةُ- فِي فَضْلِ يَوْمِ عَرَفَةَ. يَوْمُ عَرَفَةَ فَضْلُهُ عَظِيمٌ وَثَوَابُهُ جَسِيمٌ، يُكَفِّرُ اللَّهُ فِيهِ الذُّنُوبَ الْعِظَامَ، وَيُضَاعِفُ فِيهِ الصَّالِحُ مِنَ الْأَعْمَالِ، قَالَ ﷺ: (صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ). أَخْرَجَهُ الصَّحِيحُ. وَقَالَ ﷺ: (أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ (. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:) مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَدَدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُوُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ (. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: (ما رؤي الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرَ وَلَا أَحْقَرَ وَلَا أَدْحَرَ وَلَا أَغْيَظَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِلَّا مَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ (. قِيلَ: وَمَا رَأَى [يَوْمَ بَدْرٍ [[زيادة عن الموطأ.]] [يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:) أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ) [[قوله "يزع الملائكة": يرتبهم ويستويهم ويصفهم للحرب، فكأنه يكفهم عن التفرق والانتشار.]]. قَالَ أَبُو عُمَرَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو النَّضْرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعِجْلِيُّ عَنْ مَالِكٍ عن إبراهيم ابن أَبِي عَبْلَةَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ يَقُلْ فِي هذا الحديث عن أبيه غيره وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالصَّوَابُ مَا فِي الْمُوَطَّأِ. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ نُعَيْمِ التَّمِيمِيُّ أَبُو رَوْحٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ السَّرِيِّ السُّلَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنٌ لِكِنَانَةَ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ فَأَجَابَهُ: إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ إِلَّا ظَلَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَأَمَّا ذُنُوبُهُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَقَدْ غَفَرْتُهَا. قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّكَ قَادِرٌ أَنْ تُثِيبَ هَذَا الْمَظْلُومَ خَيْرًا مِنْ مَظْلِمَتِهِ وَتَغْفِرَ لِهَذَا الظَّالِمِ) فَلَمْ يُجِبْهُ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدَاةَ غَدَاةَ الْمُزْدَلِفَةِ اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ فَأَجَابَهُ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقِيلَ لَهُ: تَبَسَّمْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي سَاعَةٍ لَمْ تَكُنْ تَتَبَسَّمُ فِيهَا؟ فَقَالَ: تَبَسَّمْتُ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ إِبْلِيسَ إِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَدِ اسْتَجَابَ لِي فِي أُمَّتِي أَهْوَى يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَيَحْثِي التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ وَيَفِرُّ (. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ الْغَنِيِّ الْحَسَنُ) [[في نسخة ب: "الحسين". والذي يروى عن عبد الرزاق بن هشام الحميري- أحد رجال هذا السند- هو الحسن بن على الخلال أبو على، وقيل أبو محمد.]] (بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ غَفَرَ اللَّهُ لِلْحَاجِّ الْخَالِصِ وَإِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْمُزْدَلِفَةِ غَفَرَ اللَّهُ لِلتُّجَّارِ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ مِنًى غَفَرَ اللَّهُ لِلْجَمَّالِينَ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ غَفَرَ اللَّهُ لِلسُّؤَالِ وَلَا يَشْهَدُ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ خَلْقٌ مِمَّنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَّا غَفَرَ لَهُ (. قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَلَيْسَ مَحْفُوظًا عَنْهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَبُو عَبْدِ الْغَنِيِّ لَا أَعْرِفُهُ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ مَا زَالُوا يُسَامِحُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي رِوَايَاتِ الرَّغَائِبِ وَالْفَضَائِلِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَشَدَّدُونَ فِي أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ. الْعَاشِرَةُ- اسْتَحَبَّ أَهْلُ الْعِلْمِ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَّا بِعَرَفَةَ. رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَفْطَرَ بِعَرَفَةَ، وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ بِلَبَنٍ فَشَرِبَ. قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (حججت مع النبي صلى الله) عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصُمْهُ- يَعْنِي يَوْمَ عَرَفَةَ- وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، يَسْتَحِبُّونَ الْإِفْطَارَ بِعَرَفَةَ لِيَتَقَوَّى بِهِ الرَّجُلُ عَلَى الدُّعَاءِ، وَقَدْ صَامَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ". وَأُسْنِدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَمَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَأَنَا لَا أَصُومُهُ وَلَا آمُرُ بِهِ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ، حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ: أَصُومُ فِي الشِّتَاءِ وَلَا أَصُومُ فِي الصَّيْفِ. وَقَالَ يَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ: يَجِبُ الْفِطْرُ يَوْمَ عَرَفَةَ. وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي، الْعَاصِي وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةُ يَصُومُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الْفِطْرُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ أَحَبُّ إِلَيَّ، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالصَّوْمُ بِغَيْرِ عَرَفَةَ أَحَبُّ إِلَيَّ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: (يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ). وَقَدْ رُوِينَا عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمَ عَرَفَةَ لِيَتَقَوَّى عَلَى الدُّعَاءِ فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ الصَّائِمِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ" أَيِ اذْكُرُوهُ بِالدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَيُسَمَّى جَمْعًا لِأَنَّهُ يَجْمَعُ ثَمَّ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: لِاجْتِمَاعِ آدَمُ فِيهِ مَعَ حَوَّاءَ، وَازْدَلَفَ إِلَيْهَا، أَيْ دَنَا مِنْهَا، وَبِهِ سُمِّيَتْ الْمُزْدَلِفَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: سُمِّيَتْ بِفِعْلِ أَهْلِهَا، لِأَنَّهُمْ يَزْدَلِفُونَ إِلَى اللَّهِ، أَيْ يَتَقَرَّبُونَ بِالْوُقُوفِ فِيهَا. وَسُمِّيَ مَشْعَرًا مِنَ الشِّعَارِ وَهُوَ الْعَلَامَةُ، لِأَنَّهُ مَعْلَمٌ لِلْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالْمَبِيتِ بِهِ، وَالدُّعَاءِ عِنْدَهُ مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ. وَوُصِفَ بِالْحَرَامِ لِحُرْمَتِهِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ- لَا اخْتِلَافَ بَيْنِهِمْ- أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَجْمَعَ الْحَاجُّ بِجَمْعٍ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. واختلفوا فيمن صلاها؟ أَنْ يَأْتِيَ جَمْعًا، فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ وَدَفَعَ بِدَفْعِهِ فَلَا يُصَلِّي حَتَّى يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ فَيَجْمَعُ بَيْنَهَا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بقوله ﷺ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: (الصَّلَاةُ أَمَامَكُ ). قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَنْ صَلَّى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ دون عُذْرٍ يُعِيدُ مَتَى مَا عَلِمَ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ صَلَّى قَبْلَ الزَّوَالِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الصَّلَاةُ أَمَامَكَ). وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يُصَلِّيَهُمَا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ فَيُعِيدُ الْعِشَاءَ وَحْدَهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ هَاتَيْنِ صَلَاتَانِ سُنَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ. وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذَا الْقَوْلَ، وَحَكَاهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَيَعْقُوبَ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُصَلِّي حَتَّى يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ نِصْفُ اللَّيْلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ صَلَّاهُمَا. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- وَمَنْ أَسْرَعَ فَأَتَى الْمُزْدَلِفَةَ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَجَّلَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ، [لَا لِإِمَامٍ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ [[ما بين المربعين ساقط من ج.]]]، لقوله عليه السلام: (لصلاة أَمَامَكَ) ثُمَّ صَلَّاهَا بِالْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ. [وَمِنْ جِهَةِ [[ما بين المربعين ساقط من ج.]] الْمَعْنَى أَنَّ وَقْتَ هَذِهِ الصَّلَاةِ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ]، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى بِهَا قَبْلَهُ، وَلَوْ كَانَ لَهَا وَقْتٌ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ لَمَا أُخِّرَتْ عَنْهُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا مَنْ أَتَى عَرَفَةَ بَعْدَ دَفْعِ الْإِمَامِ، أَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ مِمَّنْ وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: مَنْ وَقَفَ بَعْدَ الْإِمَامِ فَلْيُصَلِّ كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِمَامِ: إِنَّهُ يُصَلِّي إِذَا غَابَ الشَّفَقُ الصَّلَاتَيْنِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنْ وَقَفَ بَعْدَ الْإِمَامِ: إِنْ رَجَا أَنْ يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ ثُلُثَ اللَّيْلِ فَلْيُؤَخِّرِ الصَّلَاةَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ، وَإِلَّا صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا. فَجَعَلَ ابْنُ الْمَوَّازِ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ لِمَنْ وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ دُونَ غَيْرِهِ، وَرَاعَى مَالِكٌ الْوَقْتَ دُونَ الْمَكَانِ، وَاعْتَبَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْوَقْتَ الْمُخْتَارَ لِلصَّلَاةِ وَالْمَكَانَ، فَإِذَا خَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ بَطَلَ اعْتِبَارُ الْمَكَانِ، وَكَانَ مُرَاعَاةُ وقتها المختار أولى. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَيْئَةِ الصَّلَاةِ بِالْمُزْدَلِفَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ. وَالْآخَرُ: هَلْ يَكُونُ جَمْعُهُمَا مُتَّصِلًا لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا بِعَمَلٍ، أَوْ يَجُوزُ الْعَمَلُ بَيْنَهُمَا وَحَطُّ الرِّحَالِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فَثَبَتَ أَنَّ رسول الله ﷺ صلى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ. أَخْرَجَهُ الصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُصَلِّيهِمَا بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ بِعَرَفَةَ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ بِإِجْمَاعٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ فِيمَا قَالَهُ مَالِكٌ حَدِيثًا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَكِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَزَادَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ابْنَ مَسْعُودٍ. وَمِنَ الْحُجَّةِ لِمَالِكٍ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أن رسول الله ﷺ فِي الصَّلَاتَيْنِ بِمُزْدَلِفَةِ وَعَرَفَةَ أَنَّ الْوَقْتَ لَهُمَا جَمِيعًا وَقْتٌ وَاحِدٌ، وَإِذَا كَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا وَكَانَتْ كُلُّ صَلَاةٍ تُصَلَّى فِي وَقْتِهَا لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا أَوْلَى بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مِنَ الْأُخْرَى، لِأَنَّ لَيْسَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا تُقْضَى، وَإِنَّمَا هِيَ صَلَاةٌ تُصَلَّى فِي وَقْتِهَا، وَكُلُّ صَلَاةٍ صُلِّيَتْ فِي وَقْتِهَا سُنَّتُهَا أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا وَتُقَامَ فِي الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ آخَرُونَ: أَمَّا الْأُولَى مِنْهُمَا فَتُصَلَّى بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَتُصَلَّى بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ. قَالُوا: وَإِنَّمَا أَمَرَ عُمَرُ بِالتَّأْذِينِ الثَّانِي لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ تَفَرَّقُوا لِعَشَائِهِمْ فَأَذَّنَ لِيَجْمَعَهُمْ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ نَقُولُ إِذَا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنِ الْإِمَامِ لِعَشَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَمَرَ الْمُؤَذِّنِينَ فَأَذَّنُوا لِيَجْمَعَهُمْ، وَإِذَا أَذَّنَ أَقَامَ. قَالُوا: فَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَذَكَرُوا حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَجْعَلُ الْعَشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَفِي طَرِيقٍ أُخْرَى وَصَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَقَالَ آخَرُونَ: تُصَلَّى الصَّلَاتَانِ جَمِيعًا بالمزدلفة بإقامة ولا أذان في شي مِنْهُمَا، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ. وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: تُصَلَّى الصَّلَاتَانِ جَمِيعًا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ. وَذَهَبُوا فِي ذَلِكَ إِلَى مَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ عن يونس ابن عُبَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَحَكَى الْجُوزْجَانِيُّ [[الجوزجاني (بجيم وواو وزاي معجمة ثم جيم أخرى): هذه النسبة إلى المدينة بخراسان مما يلي بلخ، وهو أبو سليمان، صاحب الامام محمد بن الحسن بن فرقد، أخذ الفقه عنه وروى كتبه.]] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا تُصَلَّيَانِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، يُؤَذَّنُ لِلْمَغْرِبِ وَيُقَامُ لِلْعِشَاءِ فَقَطْ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الطَّحَاوِيُّ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ. وَقَالَ آخَرُونَ: تُصَلَّى بِإِقَامَتَيْنِ دُونَ أَذَانٍ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ بِإِقَامَةٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالْآثَارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَثْبَتِ مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَكِنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ، فَهُوَ أَوْلَى، وَلَا مَدْخَلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلنَّظَرِ، وَإِنَّمَا فِيهَا الِاتِّبَاعُ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا الْفَصْلُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَمَلٍ غَيْرِ الصَّلَاةِ فَثَبَتَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّاهَا، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. فِي رِوَايَةٍ: وَلَمْ يَحِلُّوا [[قوله: ولم يحلوا. هو من الحل بمعنى الفك، أو من الحلول بمعنى النزول، أي لم يفكوا ما على الجمال، أو ما نزلوا تمام النزول الذي يريده المسافر البالغ منزلة.]] حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فَصَلَّى ثُمَّ حَلُّوا. وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ، الْعَشَاءَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَفِي هَذَا جَوَازُ الْفَصْلِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِجَمْعٍ. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ: أَيَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ أَوْ يؤخر حتى يحط عن راحلته؟ فقال: أَمَّا الرَّحْلُ الْخَفِيفُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الْمَحَامِلُ وَالزَّوَامِلُ فَلَا أَرَى ذَلِكَ [[عبارة الأصل. "فلا أدرى، وليبدأ ... إلخ" والتصويب عن كتاب "المنتقى" للباجى.]]، وَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاتَيْنِ ثُمَّ يَحُطُّ عَنْ رَاحِلَتِهِ. وَقَالَ أَشْهَبُ فِي كُتُبِهِ: لَهُ حَطُّ رَحْلِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَحَطُّهُ لَهُ بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ أَحَبُّ إِلَيَّ مَا لَمْ يَضْطَرَّ إِلَى ذَلِكَ، لِمَا بِدَابَّتِهِ مِنَ الثِّقَلِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُذْرِ. وَأَمَّا التَّنَفُّلُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يَتَطَوَّعَ بَيْنَهُمَا الْجَامِعُ بين الصلاتين، وفى حديث أُسَامَةَ: وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَلَيْسَ رُكْنًا فِي الْحَجِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَبِتْ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَلَمْ يَقِفْ بِجَمْعٍ، فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ لَمْ يَبِتْ بِهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَمَنْ قَامَ بِهَا أَكْثَرَ لَيْلِهِ فلا شي عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَبِيتَ بِهَا لَيْلَةَ النَّحْرِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، لَا فَرْضٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ فِيمَنْ لَمْ يعد. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ نِصْفِ الليل فلا شي عَلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَلَمْ يَعُدْ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ افْتَدَى، وَالْفِدْيَةُ شَاةٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْوُقُوفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَرْضٌ، وَمَنْ فَاتَهُ جَمْعٌ وَلَمْ يَقِفْ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَيُجْعَلُ إِحْرَامُهُ عُمْرَةً. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَرُوِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ عَنْهُ أَنَّ الوقوف بها سنة مؤكدة. وقال حماد ابن أَبِي سُلَيْمَانَ. مَنْ فَاتَتْهُ الْإِفَاضَةُ مِنْ جَمْعٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَلْيَتَحَلَّلْ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ لِيَحُجَّ قَابِلًا. وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: "فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ" وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ ﷺ: (مَنْ أَدْرَكَ جَمْعًا فَوَقَفَ مَعَ النَّاسِ حَتَّى يُفِيضَ فَقَدْ أَدْرَكَ وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ فَلَا حَجَّ لَهُ). ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ: قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ بِجَمْعٍ فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ: (مَنْ صَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ ثُمَّ وَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نُفِيضَ وَقَدْ أَفَاضَ قَبْلَ ذَلِكَ [مِنْ عَرَفَاتٍ] [[الزيادة عن الدارقطني.]] لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تم حجه وقضى تفثه). قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ لَمْ يَقِفْ بِجَمْعٍ جَعَلَهَا عُمْرَةً. وَأَجَابَ مَنِ احْتَجَّ لِلْجُمْهُورِ بِأَنْ قَالَ: أَمَّا الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى الْوُجُوبِ فِي الْوُقُوفِ وَلَا الْمَبِيتِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِيهَا، وَإِنَّمَا فِيهَا مُجَرَّدُ الذِّكْرِ. وَكُلٌّ قَدْ أَجْمَعَ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ بِمُزْدَلِفَةَ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الذِّكْرُ الْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ صُلْبِ الْحَجِّ فَشُهُودُ الْمَوْطِنِ أَوْلَى بِأَلَّا يَكُونَ كَذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الْوُقُوفِ بِجَمْعٍ، وَأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَدْ أَدْرَكَ، مِمَّنْ يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ، وَمَنْ يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ فَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بَيَانُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِعَرَفَةَ، وَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فَسَأَلُوهُ عَنِ الْحَجِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (الْحَجُّ عَرَفَةُ مَنْ أَدْرَكَهَا قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ قال: أخبرنا إسحاق ابن إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ- يَعْنِي الثَّوْرِيَّ- عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عبد الرحمن ابن يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ ... ، فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (الْحَجُّ عَرَفَاتٌ فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَأَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ (. وَقَوْلَهُ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ:) مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا هَذِهِ (. فَذَكَرَ الصَّلَاةَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَوْ بَاتَ بِهَا وَوَقَفَ وَنَامَ عَنِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى فَاتَتْهُ إِنَّ حَجَّهُ تَامٌّ. فَلَمَّا كَانَ حُضُورُ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الْحَجِّ كَانَ الْوُقُوفُ بِالْمَوْطِنِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الصَّلَاةُ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. قَالُوا: فَلَمْ يَتَحَقَّقْ بِهَذَا الْحَدِيثِ ذَلِكَ الْفَرْضُ إِلَّا بِعَرَفَةَ خَاصَّةً. الثَّامِنَةَ [[يلاحظ أن الأصول اضطربت في عدد هذه المسائل.]] عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ﴾ كَرَّرَ الْأَمْرَ تَأْكِيدًا، كَمَا تَقُولُ: ارْمِ. ارْمِ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ أَمْرٌ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَالثَّانِي أَمْرٌ بِالذِّكْرِ عَلَى حُكْمِ الْإِخْلَاصِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالثَّانِي تَعْدِيدُ النِّعْمَةِ وَأَمْرٌ بِشُكْرِهَا، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قَدْرَ الْإِنْعَامِ فَقَالَ: "وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ" وَالْكَافُ فِي "كَمَا" نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَ "مَا" مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ كَافَّةٌ. وَالْمَعْنَى: اذْكُرُوهُ ذِكْرًا حَسَنًا كَمَا هَدَاكُمْ هِدَايَةً حَسَنَةً، وَاذْكُرُوهُ كَمَا عَلَّمَكُمْ كَيْفَ تَذْكُرُونَهُ لَا تَعْدِلُوا عَنْهُ. وَ "إِنْ" مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، يَدُلُّ على ذلك دخول اللام في الخبر، قال سِيبَوَيْهِ. الْفَرَّاءُ: نَافِيَةٌ بِمَعْنَى مَا، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، كَمَا قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ إِنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِمًا ... حَلَّتْ عَلَيْكَ عُقُوبَةُ الرَّحْمَنِ [[البيت لعاتكة بنت زيد. والرواية فيه: ... عقوبة المعتمد. راجع الكلام عليه في الشاهد ٨٦٨.]] أَوْ بِمَعْنَى قَدْ، أَيْ قَدْ كُنْتُمْ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَالضَّمِيرُ فِي "قَبْلِهِ" عَائِدٌ إِلَى الْهُدَى. وَقِيلَ إِلَى الْقُرْآنِ، أَيْ مَا كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِهِ إِلَّا ضَالِّينَ. وَإِنْ شِئْتَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، والأول أظهر والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب