الباحث القرآني

ولَمّا فُهِمَ مِن هَذا الحَثِّ عَلى الإكْثارِ مِنَ الزّادِ تَحَرَّكَتْ نُفُوسُ أُولِي الهِمَمِ الزّاكِيَةِ القابِلَةِ لِلتَّجَرُّدِ عَنِ الأعْراضِ الفانِيَةِ إلى السُّؤالِ عَنِ المَتْجَرِ لِإنْفاقِهِ في وُجُوهِ الخَيْرِ هَلْ يُكْرَهُ في زَمانٍ أوْ مَكانٍ لا سِيَّما عِنْدَ تَذَكُّرِ أنَّ أُناسًا كانُوا في الجاهِلِيَّةِ يَكْرَهُونَ التِّجارَةَ لِلْحاجِّ فَأُجِيبُ بِقَوْلِهِ مُعْلِمًا أنَّ قَطْعَ العَلائِقِ لِمَن صَدَقَ عَزْمُهُ وشَرُفَتْ هِمَّتُهُ أوْلى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ﴾ أيْ إثْمٌ في ﴿أنْ تَبْتَغُوا﴾ أيْ تَطْلُبُوا بِجِدٍّ واجْتِهادٍ ﴿فَضْلا﴾ أيْ إفادَةً بِالمَتْجَرِ في مَواسِمِ الحَجِّ وغَيْرِها ﴿مِن (p-١٤٨)رَبِّكُمْ﴾ المُحْسِنِ إلَيْكم في كُلِّ حالٍ فَلا تَعْتَمِدُوا في الفَضْلِ إلّا عَلَيْهِ، ورَوى البُخارِيُّ في التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: كانَتْ عُكاظُ ومَجِنَّةُ وذُو المَجازِ أسْواقًا في الجاهِلِيَّةِ فَتَأثَّمُوا أنْ يَتَّجِرُوا في المَواسِمِ فَنَزَلَتْ ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِن رَبِّكُمْ﴾ في مَواسِمِ الحَجِّ. ولَمّا كانَ الِاسْتِكْثارُ مِنَ المالِ إنَّما يُكْرَهُ لِلشُّغْلِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ سَبَّبَ عَنْهُ الآمِرَ بِالذِّكْرِ في قَوْلِهِ ﴿فَإذا﴾ أيْ فاطْلُبُوا الفَضْلَ مِن رَبِّكم بِالمَتْجَرِ ﴿أفَضْتُمْ﴾ أيْ أوْقَعْتُمُ الإفاضَةَ، تَرَكَ مَفْعُولَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ أيْ دَفَعْتُمْ رِكابَكم عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَفاضَتْ في تِلْكَ الوِهادَ كَما يَفِيضُ الماءُ المُنْسابُ في مُنْحَدَرِ الشِّعابِ، وأصْلُ الإفاضَةِ الدَّفْعُ بِكَثْرَةٍ (p-١٤٩)﴿مِن عَرَفاتٍ﴾ الجَبَلِ الَّذِي وقَفْتُمْ فِيهِ بِبابِ رَبِّكُمُ المَوْقِفَ الأعْظَمَ الَّذِي لا يُدْرَكُ الحَجُّ إلّا بِهِ مِن مَعْنى التَّعَرُّفِ لَمّا تَقَدَّمَتْهُ نَكِرَةٌ، ولَيْسَتْ تاؤُهُ لِلتَّأْنِيثِ فَتَمْنَعَهُ الصَّرْفَ بَلْ هي عَلامَةُ جَمْعِ المُؤَنَّثِ، قاصِدِي المَبِيتِ بِالمُزْدَلِفَةِ، وهو عَلَمٌ عَلى المَوْقِفِ سُمِّيَ بِجَمْعٍ ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ ذا الجَلالِ لِذاتِهِ بِأنْواعِ الذِّكْرِ ﴿عِنْدَ﴾ أيْ قَرِيبًا مِنَ ﴿المَشْعَرِ﴾ أيِ المَعْلَمِ ولَمّا كانَ بِالحَرَمِ، قالَ: ﴿الحَرامِ﴾ وهو الجَبَلُ المُسَمّى قُزَحُ، وهو مِنَ الشُّعُورِ وهو خَفِيُّ الإدْراكِ الباطِنِ فالمَوْقِفُ الأوَّلُ آيَةٌ عَلى نُغُوضِ الدُّنْيا ومَحْوِها وزَوالِها، والثّانِي دالٌّ بِفَجْرِهِ وشَمْسِهِ (p-١٥٠)عَلى البَعْثِ لِمُجازاةِ الخَلائِقِ بِأعْمالِها؛ والتَّعْبِيرُ بِـ عِنْدَ لِلْإعْلامِ بِأنَّ مُزْدَلِفَةَ كُلَّها مَوْقِفٌ غَيْرَ مُحَسَّرٍ فَإنَّها كُلَّها تُقارِبُهُ، ويُفْهِمُ ذَلِكَ صِحَّةَ الوُقُوفِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الأُولى. قالَ الحَرالِيُّ: وذَلِكَ حَظٌّ مِنَ الوُقُوفِ هُنَيْهَةً وُقِّتَ في البَلَدِ الحَرامِ عِنْدَ إقْبالِ النَّهارِ مُعادَلَةً لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مِنَ الحِلِّ إلى إقْبالِ اللَّيْلِ لِيَتَسَنّى الوُقُوفُ في الحِلِّ والحَرَمِ. فَكانَ فِيهِ مَوْقِفُ نَهارٍ يَنْتَهِي إلى اللَّيْلِ في عَرَفَةَ ومَوْقِفُ لَيْلٍ يَنْتَهِي إلى النَّهارِ في المَشْعَرِ؛ فَوَقَفَ فِيهِ ﷺ بَعْدَ صَلاةِ الفَجْرِ وقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وهو ذِكْرُهُ عِنْدَهُ، لِأنَّ الذِّكْرَ بِحَسَبِ الذّاكِرِ، فَذِكْرُ اللِّسانِ القَوْلُ، وذِكْرُ البَدَنِ العَمَلُ، وذِكْرُ النَّفْسِ الحالُ والِانْفِعالُ، وذِكْرُ القَلْبِ المَعْرِفَةُ والعِلْمُ واليَقِينُ ونَحْوُ ذَلِكَ، ولِكُلِّ شَيْءٍ ذِكْرٌ بِحَسَبِهِ؛ وفي جَمْعِ المَوْقِفَيْنِ في الحِلِّ والحَرَمِ في مَعْلَمِ الحَجِّ الَّذِي هو آيَةُ الحَشْرِ إيذانٌ وبُشْرى بِأنَّ أهْلَ المَوْقِفِ صِنْفانِ: صِنْفٌ يَقِفُونَ في مَوْطِنِ (p-١٥١)رَوْعٍ ومَخافَةٍ وُقُوفًا طَوِيلًا اعْتِبارًا بِوُقُوفِ الواقِفِينَ بِعَرَفَةَ مِن حِينِ زَوالِ الشَّمْسِ إلى غُرُوبِها سِتَّ ساعاتٍ، وصِنْفٌ حَظُّهم مِنَ الوُقُوفِ قَرارٌ في أمَنَةِ ظِلِّ العَرْشِ الَّذِي هو حَرَمُ يَوْمَ القِيامَةِ وكَعْبَتُهُ فَتُشْعِرُ خِفَّةُ الوُقُوفِ بِالمَشْعَرِ الحَرامِ أنَّ أمَدَ طُولِ ذَلِكَ اليَوْمِ يَمُرُّ عَلى المُسْتَظِلِّينَ بِظِلِّ العَرْشِ فِيهِ كَأيْسَرِ مُدَّةٍ كَما قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِمِقْدارِ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ، فَكانَ في ذَلِكَ فَضْلُ ما بَيْنَ مَوْقِفِ الحَرَمِ عَلى مَوْقِفِ الحِلِّ - انْتَهى. ولَمّا - عُلِمَ مِن ذِكْرِ الِاسْمِ الأعْظَمِ أنَّ التَّقْدِيرَ: كَما هو مُسْتَحِقٌّ لِلذِّكْرِ لِذاتِهِ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ﴿واذْكُرُوهُ﴾ أيْ عِنْدَ المَشْعَرِ وغَيْرِهِ ﴿كَما﴾ أيْ عَلى ما ولِأجْلِ ما ﴿هَداكُمْ﴾ أيُّها النّاسُ كافَّةً لِلْإسْلامِ وأيُّها الخَمْسُ خاصَّةً لِتَرْكِ الوُقُوفِ بِهِ والوُقُوفِ مَعَ النّاسِ في مَوْقِفِ (p-١٥٢)أبِيكم إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَإنَّهُ بَيَّنَ لَكم بَيانًا لَمْ يُبَيِّنْهُ لِأحَدٍ كانَ قَبْلَكم ووَفَّقَكم لِلْعَمَلِ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وإنْ﴾ أيْ فَإنَّكم ﴿كُنْتُمْ﴾ ولَمّا كانُوا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ عَلى هُدًى فَكانَ مِنهم بَعْدَ ذَلِكَ المُهْتَدِي كَزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو ووَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فَلَمْ يَسْتَغْرِقْ زَمانَهم بِالضَّلالِ أثْبَتَ الجارَّ فَقالَ: ﴿مِن قَبْلِهِ﴾ أيِ الهُدى الَّذِي جاءَكم بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ ﴿لَمِنَ الضّالِّينَ﴾ عَنْ سُنَنِ الهُدى ومَواقِفِ الأنْبِياءِ عِلْمًا وعَمَلًا حَيْثُ كُنْتُمْ تُفِيضُونَ مِنَ المَشْعَرِ الحَرامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب