الباحث القرآني

* (فائدة) إن قيل لم كان عاشوراء يكفر سنة ويوم عرفة يكفر سنتين؟ قيل فيه وجهان: أحدهما: أن يوم عرفة في شهر حرام وقبله شهر حرام وبعده شهر حرام، بخلاف عاشوراء. الثاني: أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا، بخلاف عاشوراء، فضوعف ببركات المصطفى ﷺ. والله أعلم. * (فائدة) وذكر أيضا عن ابن عباس قال: "ما من يوم إلا ليلته قبله إلا يوم عرفة فإن ليلته بعده". قلت: هذا مما اختلف فيه وحكى عن طائفة أن ليلة اليوم بعده والمعروف عند الناس أن ليلة اليوم قبله ومنهم من فصل بين الليلة المضافة إلى اليوم كليلة الجمعة والسبت والأحد وسائر الأيام، والليلة المضافة إلى مكان أو حال أو فعل كليلة عرفة وليلة النفر ونحو ذلك فالمضافة إلى اليوم قبله والمضافة إلى غيره بعده واحتجوا له بهذا الأثر المروي عن ابن عباس ونقض عليهم بليلة العيد والذي فهمه الناس قديما وحديثا من قول النبي ﷺ: "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي" أنها الليلة التي تسفر صبيحتها عن يوم الجمعة فإن الناس يسارعون إلى تعظيمها وكثرة التعبد فيها عن سائر الليالي فنهاهم تخصيصها بالقيام كما نهاهم عن تخصيص يومها بالصيام والله أعلم. * (موعظة) يا حاضرين معنا بنية النزهة لستم معنا عودوا إلى أوكار الكسل فالحرب طعن وضرب. ويا مودعين ارجعوا فقد عبرنا العذيب وعن قريب تأتيكم أخبارنا بعد قليل. ويا أيها الحادث عرس بالخيف من منى تعلمك الدموع كيف ترمى حصى الجمار. ضيف المحبة ما له قرى إلا المهج. [مَزِيَّةُ وقْفَةِ الجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ] قِيلَ: قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ العُلَماءِ إلى تَفْضِيلِ يَوْمِ الجُمُعَةِ عَلى يَوْمِ عَرَفَةَ مُحْتَجًّا بِهَذا الحَدِيثِ، وحَكى القاضِي أبو يعلى رِوايَةً عَنْ أحمد أنَّ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ أفْضَلُ مِن لَيْلَةِ القَدْرِ، والصَّوابُ أنَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ أفْضَلُ أيّامِ الأُسْبُوعِ، ويَوْمُ عَرَفَةَ ويَوْمُ النَّحْرِ أفْضَلُ أيّامِ العامِ، وكَذَلِكَ لَيْلَةُ القَدْرِ، ولَيْلَةُ الجُمُعَةِ، ولِهَذا كانَ لِوَقْفَةِ الجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ مَزِيَّةٌ عَلى سائِرِ الأيّامِ مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ. أحَدُها: اجْتِماعُ اليَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ هُما أفْضَلُ الأيّامِ. الثّانِي: أنَّهُ اليَوْمُ الَّذِي فِيهِ ساعَةٌ مُحَقَّقَةُ الإجابَةِ، وأكْثَرُ الأقْوالِ أنَّها آخِرُ ساعَةٍ بَعْدَ العَصْرِ، وأهْلُ المَوْقِفِ كُلُّهم إذْ ذاكَ واقِفُونَ لِلدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ. الثّالِثُ: مُوافَقَتُهُ لِيَوْمِ وقْفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. الرّابِعُ: أنَّ فِيهِ اجْتِماعَ الخَلائِقِ مِن أقْطارِ الأرْضِ لِلْخُطْبَةِ وصَلاةِ الجُمُعَةِ، ويُوافِقُ ذَلِكَ اجْتِماعَ أهْلِ عَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، فَيَحْصُلُ مِنَ اجْتِماعِ المُسْلِمِينَ في مَساجِدِهِمْ ومَوْقِفِهِمْ مِنَ الدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ ما لا يَحْصُلُ في يَوْمٍ سِواهُ. الخامِسُ: أنَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، ويَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمُ عِيدٍ لِأهْلِ عَرَفَةَ؛ ولِذَلِكَ كُرِهَ لِمَن بِعَرَفَةَ صَوْمُهُ، وفي النَّسائِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ»، وفي إسْنادِهِ نَظَرٌ، فَإنَّ مهدي بن حرب العبدي لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، ومَدارُهُ عَلَيْهِ، ولَكِنْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ أم الفضل " «أنَّ ناسًا تَمارَوْا عِنْدَها يَوْمَ عَرَفَةَ في صِيامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: هو صائِمٌ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصائِمٍ، فَأرْسَلَتْ إلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وهو واقِفٌ عَلى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَهُ». وَقَدِ اخْتُلِفَ في حِكْمَةِ اسْتِحْبابِ فِطْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، فَقالَتْ طائِفَةٌ: لِيَتَقَوّى عَلى الدُّعاءِ، وهَذا هو قَوْلُ الخرقي وغَيْرِهِ، وقالَ غَيْرُهم - مِنهم شَيْخُ الإسْلامِ ابن تيمية -: الحِكْمَةُ فِيهِ أنَّهُ عِيدٌ لِأهْلِ عَرَفَةَ، فَلا يُسْتَحَبُّ صَوْمُهُ لَهُمْ، قالَ: والدَّلِيلُ عَلَيْهِ الحَدِيثُ الَّذِي في " السُّنَنِ " عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «يَوْمُ عَرَفَةَ، ويَوْمُ النَّحْرِ، وأيّامُ مِنًى، عِيدُنا أهْلَ الإسْلامِ». قالَ شَيْخُنا: وإنَّما يَكُونُ يَوْمُ عَرَفَةَ عِيدًا في حَقِّ أهْلِ عَرَفَةَ لِاجْتِماعِهِمْ فِيهِ، بِخِلافِ أهْلِ الأمْصارِ فَإنَّهم إنَّما يَجْتَمِعُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَكانَ هو العِيدَ في حَقِّهِمْ، والمَقْصُودُ أنَّهُ إذا اتَّفَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ ويَوْمُ جُمُعَةٍ، فَقَدِ اتَّفَقَ عِيدانِ مَعًا. السّادِسُ: أنَّهُ مُوافِقٌ لِيَوْمِ إكْمالِ اللَّهِ تَعالى دِينَهُ لِعِبادِهِ المُؤْمِنِينَ، وإتْمامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، كَما ثَبَتَ في " صَحِيحِ البُخارِيِّ " عَنْ طارِقِ بْنِ شِهابٍ قالَ: «جاءَ يَهُودِيٌّ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ آيَةٌ تَقْرَءُونَها في كِتابِكم لَوْ عَلَيْنا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ ونَعْلَمُ ذَلِكَ اليَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ لاتَّخَذْناهُ عِيدًا، قالَ: أيُّ آيَةٍ؟ قالَ: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكم وأتْمَمْتُ عَلَيْكم نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣] فَقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: إنِّي لَأعْلَمُ اليَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، والمَكانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، ونَحْنُ واقِفُونَ مَعَهُ بِعَرَفَةَ». السّابِعُ: أنَّهُ مُوافِقٌ لِيَوْمِ الجَمْعِ الأكْبَرِ، والمَوْقِفِ الأعْظَمِ يَوْمَ القِيامَةِ، فَإنَّ القِيامَةَ تَقُومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وفِيهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وفِيهِ أُخْرِجَ مِنها، وفِيهِ تَقُومُ السّاعَةُ، وفِيهِ ساعَةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْألُ اللَّهَ خَيْرًا إلّا أعْطاهُ إيّاهُ» ولِهَذا شَرَعَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لِعِبادِهِ يَوْمًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، فَيَذْكُرُونَ المَبْدَأ والمَعادَ، والجَنَّةَ والنّارَ، وادَّخَرَ اللَّهُ تَعالى لِهَذِهِ الأُمَّةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إذْ فِيهِ كانَ المَبْدَأُ وفِيهِ المَعادُ، ولِهَذا كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ في فَجْرِهِ سُورَتَيِ (السَّجْدَةِ) و(هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ) لِاشْتِمالِهِما عَلى ما كانَ وما يَكُونُ في هَذا اليَوْمِ، مِن خَلْقِ آدَمَ، وذِكْرِ المَبْدَأِ والمَعادِ، ودُخُولِ الجَنَّةِ والنّارِ، فَكانَ يُذَكِّرُ الأُمَّةَ في هَذا اليَوْمِ بِما كانَ فِيهِ وما يَكُونُ، فَهَكَذا يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ بِأعْظَمِ مَواقِفِ الدُّنْيا - وهو يَوْمُ عَرَفَةَ - المَوْقِفَ الأعْظَمَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ سُبْحانَهُ في هَذا اليَوْمِ بِعَيْنِهِ، ولا يَتَنَصَّفُ حَتّى يَسْتَقِرَّ أهْلُ الجَنَّةِ في مَنازِلِهِمْ، وأهْلُ النّارِ في مَنازِلِهِمْ. الثّامِنُ: أنَّ الطّاعَةَ الواقِعَةَ مِنَ المُسْلِمِينَ يَوْمَ الجُمُعَةِ ولَيْلَةَ الجُمُعَةِ، أكْثَرُ مِنها في سائِرِ الأيّامِ حَتّى إنَّ أكْثَرَ أهْلِ الفُجُورِ يَحْتَرِمُونَ يَوْمَ الجُمُعَةِ ولَيْلَتَهُ، ويَرَوْنَ أنَّ مَن تَجَرَّأ فِيهِ عَلى مَعاصِي اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَجَّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ ولَمْ يُمْهِلْهُ، وهَذا أمْرٌ قَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهم وعَلِمُوهُ بِالتَّجارِبِ، وذَلِكَ لِعِظَمِ اليَوْمِ وشَرَفِهِ عِنْدَ اللَّهِ، واخْتِيارِ اللَّهِ سُبْحانَهُ لَهُ مِن بَيْنِ سائِرِ الأيّامِ، ولا رَيْبَ أنَّ لِلْوَقْفَةِ فِيهِ مَزِيَّةً عَلى غَيْرِهِ. التّاسِعُ: أنَّهُ مُوافِقٌ لِيَوْمِ المَزِيدِ في الجَنَّةِ، وهو اليَوْمُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ أهْلُ الجَنَّةِ في وادٍ أفْيَحَ، ويُنْصَبُ لَهم مَنابِرُ مِن لُؤْلُؤٍ، ومَنابِرُ مِن ذَهَبٍ، ومَنابِرُ مِن زَبَرْجَدٍ وياقُوتٍ عَلى كُثْبانِ المِسْكِ، فَيَنْظُرُونَ إلى رَبِّهِمْ تَبارَكَ وتَعالى، ويَتَجَلّى لَهم فَيَرَوْنَهُ عِيانًا، ويَكُونُ أسْرَعُهم مُوافاةً أعْجَلَهم رَواحًا إلى المَسْجِدِ، وأقْرَبُهم مِنهُ أقْرَبَهم مِنَ الإمامِ، فَأهْلُ الجَنَّةِ مُشْتاقُونَ إلى يَوْمِ المَزِيدِ فِيها لِما يَنالُونَ فِيهِ مِنَ الكَرامَةِ، وهو يَوْمُ جُمُعَةٍ، فَإذا وافَقَ يَوْمَ عَرَفَةَ كانَ لَهُ زِيادَةُ مَزِيَّةٍ واخْتِصاصٍ وفَضْلٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ. العاشِرُ: أنَّهُ يَدْنُو الرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ مِن أهْلِ المَوْقِفِ، ثُمَّ يُباهِي بِهِمُ المَلائِكَةَ فَيَقُولُ: «ما أرادَ هَؤُلاءِ، أُشْهِدُكم أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ» وتَحْصُلُ مَعَ دُنُوِّهِ مِنهم تَبارَكَ وتَعالى ساعَةُ الإجابَةِ الَّتِي لا يَرُدُّ فِيها سائِلًا يَسْألُ خَيْرًا فَيَقْرُبُونَ مِنهُ بِدُعائِهِ والتَّضَرُّعِ إلَيْهِ في تِلْكَ السّاعَةِ، ويَقْرُبُ مِنهم تَعالى نَوْعَيْنِ مِنَ القُرْبِ، أحَدُهُما: قُرْبُ الإجابَةِ المُحَقَّقَةِ في تِلْكَ السّاعَةِ. والثّانِي: قُرْبُهُ الخاصُّ مِن أهْلِ عَرَفَةَ، ومُباهاتُهُ بِهِمْ مَلائِكَتَهُ، فَتَسْتَشْعِرُ قُلُوبُ أهْلِ الإيمانِ هَذِهِ الأُمُورَ فَتَزْدادُ قُوَّةً إلى قُوَّتِها، وفَرَحًا وسُرُورًا وابْتِهاجًا، ورَجاءً لِفَضْلِ رَبِّها وكَرَمِهِ، فَبِهَذِهِ الوُجُوهِ وغَيْرِها فُضِّلَتْ وقْفَةُ يَوْمِ الجُمُعَةِ عَلى غَيْرِها. وَأمّا ما اسْتَفاضَ عَلى ألْسِنَةِ العَوامِّ بِأنَّها تَعْدِلُ ثِنْتَيْنِ وسَبْعِينَ حَجَّةً، فَباطِلٌ لا أصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولا عَنْ أحَدٍ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب