الباحث القرآني

﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ﴾ . سَبَبُ نُزُولِها أنَّ العَرَبَ تَحَرَّجَتْ لَمّا جاءَ الإسْلامُ أنْ يَحْضُرُوا أسْواقَ الجاهِلِيَّةِ، كَعُكاظَ، وذِي المَجازِ، ومَجَنَّةَ، فَأباحَ اللَّهُ لَهم ذَلِكَ، قالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وعَطاءٌ، وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا: كانَ بَعْضُ العَرَبِ لا يَنْحَرُونَ مُذْ يُحْرِمُونَ، فَنَزَلَتْ في إباحَةِ ذَلِكَ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّها نَزَلَتْ فِيمَن يُكْرى في الحَجِّ، وأنَّ حَجَّهُ تامٌّ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ الزُّبَيْرِ: ”فَضْلًا مِن رَبِّكم في مَواسِمِ الحَجِّ“، والأوْلى جَعْلُ هَذا تَفْسِيرًا: لِأنَّهُ مُخالِفٌ لِسَوادِ المُصْحَفِ الَّذِي أجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأُمَّةُ. والجُناحُ مَعْناهُ: الدَّرْكُ، وهو أعَمُّ مِنَ الإثْمِ: لِأنَّهُ فِيما يَقْتَضِي العِقابَ، وفِيما يَقْتَضِي الزَّجْرَ والعِقابَ، وعَنى بِالفَضْلِ هُنا الأرْباحَ الَّتِي تَكُونُ سَبَبَ التِّجارَةِ، وكَذَلِكَ ما تَحْصُلُ عَنِ الأجْرِ بِالكِراءِ في الحَجِّ، وقَدِ انْعَقَدَ الإجْماعُ عَلى جَوازِ التِّجارَةِ والِاكْتِسابِ - بِالكُلِّ - والإتِّجارِ إذا أتى بِالحَجِّ عَلى وجْهِهِ، إلّا ما نُقِلَ شاذًّا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وأنَّهُ سَألَهُ أعْرابِيٌّ أنا أُكْرِي إبِلِي، وأنا أُرِيدُ الحَجَّ أفَيَجْزِينِي ؟ قالَ: ”لا، ولا كَرامَةَ“ . وهَذا مُخالِفٌ لِظاهِرِ الكِتابِ والإجْماعِ فَلا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها، أنَّهُ لَمّا نَهى عَنِ الجِدالِ، والتِّجارَةُ قَدْ تُفْضِي إلى المُنازَعَةِ، ناسَبَ أنْ يُتَوَقَّفَ فِيها: لِأنَّ ما أفْضى إلى المَنهِيِّ عَنْهُ مَنهِيٌّ عَنْهُ، أوْ لِأنَّ التِّجارَةَ كانَتْ مُحَرَّمَةً عِنْدَ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ وقْتَ الحَجِّ، إذْ مَن يَشْتَغِلُ بِالعِبادَةِ يُناسِبُهُ أنْ لا يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِالأكْسابِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أوْ لِأنَّ المُسْلِمِينَ لَمّا صارَ كَثِيرٌ مِنَ المُباحاتِ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ في الحَجِّ، كانُوا بِصَدَدِ أنْ تَكُونَ التِّجارَةُ مِن هَذا القَبِيلِ عِنْدَهم، فَأباحَ اللَّهُ ذَلِكَ، وأخْبَرَهم أنَّهُ لا دَرَكَ عَلَيْهِمْ فِيهِ في أيّامِ الحَجِّ. ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِراءَةُ مَن قَرَأ: في مَواسِمِ الحَجِّ. وحَمَلَ أبُو مُسْلِمٍ الآيَةَ عَلى أنَّهُ فِيما بَعْدَ الحَجِّ، ونَظِيرُهُ: ﴿فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانْتَشِرُوا في الأرْضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: ١٠]، فَقاسَ الحَجَّ عَلى الصَّلاةِ، وضَعُفَ قَوْلُهُ بِدُخُولِ الفاءِ في ”﴿فَإذا قَضَيْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٠٠]“، وهَذا فُصِّلَ بَعْدَ ابْتِغاءِ الفَضْلِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ ما قَبْلَ الإفاضَةِ وقَعَ في زَمانِ الحَجِّ. ولِأنَّ مَحَلَّ شُبْهَةِ الِامْتِناعِ هو التِّجارَةُ في زَمانِ الحَجِّ، لا بَعْدَ الفَراغِ (p-٩٥)مِنهُ، لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ يَعْلَمُ حِلَّ التِّجارَةِ إذْ ذاكَ، فَحَمْلُهُ عَلى مَحَلِّ الشُّبْهَةِ أوْلى، ولِأنَّ قِياسَ الحَجِّ عَلى الصَّلاةِ قِياسٌ فاسِدٌ: لِاتِّصالِ أعْمالِ الصَّلاةِ بَعْضِها بِبَعْضٍ، وافْتِراقِ أعْمالِ الحَجِّ بَعْضِها مِن بَعْضٍ، فَفي خِلالِها يَبْقى الحَجُّ عَلى الحُكْمِ الأوَّلِ: حَيْثُ لَمْ يَكُنْ حاجًّا، لا يُقالُ: حُكْمُ الحَجِّ مُنْسَحِبٌ عَلَيْهِ في تِلْكَ الأوْقاتِ، بِدَلِيلِ حُرْمَةِ الطِّيبِ واللُّبْسِ ونَحْوِهِما: لِأنَّهُ قِياسٌ في مُقابَلَةِ النَّصِّ، فَهو ساقِطٌ ونُسِبَ إلَيْهِ. فإنَّ الفَضْلَ هُنا هو ما يَعْمَلُ الإنْسانُ مِمّا يَرْجُو بِهِ فَضْلَ اللَّهِ ورَحْمَتَهُ، مِن إعانَةِ ضَعِيفٍ، وإغاثَةِ مَلْهُوفٍ، وإطْعامِ جائِعٍ، واعْتَرَضَهُ القاضِي بِأنَّ هَذِهِ الأشْياءَ واجِبَةٌ أوْ مَندُوبٌ إلَيْها، فَلا يُقالُ فِيها ”لا جُناحَ عَلَيْكم“، إنَّما يُقالُ في المُباحاتِ والتِّجارَةِ إنْ أوْقَعَتْ نَقْصًا في الطّاعَةِ، لَمْ تَكُنْ مُباحَةً، وإنْ لَمْ تُوقِعْ نَقْصًا فالأوْلى تَرَكُها، فَهي إذًا جارِيَةٌ مَجْرى الرُّخَصِ. وتَقَدَّمَ إعْرابُ مِثْلِ: أنْ تَبْتَغُوا، في قَوْلِهِ: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما﴾ [البقرة: ١٥٨]، و”مِن رَبِّكم“ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”تَبْتَغُوا“ و”مِن“ لِابْتِداءِ الغايَةِ، أوْ بِمَحْذُوفٍ، وتَكُونُ صِفَةً لِفَضْلٍ. فَتَكُونُ ”مِن“ لِابْتِداءِ الغايَةِ أيْضًا، أوْ لِلتَّبْعِيضِ، فَيُحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ مُضافٍ مَحْذُوفٍ أيْ: مِن فُضُولِ. ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ﴾، قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلى وُجُوبِ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ: لِأنَّ الإفاضَةَ لا تَكُونُ إلّا بَعْدَهُ. انْتَهى هَذا القَوْلُ، ولا يَظْهَرُ مِن هَذا الشَّرْطِ الوُجُوبُ، إنَّما يُعْلَمُ مِنهُ الحُصُولُ في عَرَفَةَ، والوُقُوفُ بِها، فَهَلْ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الوُجُوبِ أوِ النَّدْبِ ؟ لا دَلِيلَ في الآيَةِ عَلى ذَلِكَ، لَكِنَّ السُّنَّةَ الثّابِتَةَ والإجْماعَ يَدُلّانِ عَلى ذَلِكَ. وقالَ في (المُنْتَخَبِ): الإفاضَةُ مِن عَرَفاتٍ مَشْرُوطَةٌ بِالحُصُولِ في عَرَفاتٍ، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلّا بِهِ وكانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ فَهو واجِبٌ، فَثَبَتَ أنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّ الحُصُولَ في عَرَفاتٍ واجِبٌ في الحَجِّ، فَإذا لَمْ يَأْتِ بِهِ لَمْ يَكُنْ إيتاءً بِالحَجِّ المَأْمُورِ بِهِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَخْرُجَ عَنِ العُهْدَةِ، وهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ شَرْطًا، انْتَهى كَلامُهُ. فَقَوْلُهُ: الإفاضَةُ مِن عَرَفاتٍ مَشْرُوطَةٌ بِالحُصُولِ في عَرَفاتٍ، كَلامٌ مُبْهَمٌ، فَإنْ عُنِيَ مَشْرُوطٌ وُجُودُها، أيْ: وُجُودُ الإفاضَةِ بِالحُصُولِ في عَرَفاتٍ فَصَحِيحٌ، والوُجُودُ لا يَدُلُّ عَلى الوُجُوبِ، وإنْ عُنِيَ مَشْرُوطٌ وُجُوبُها بِالحُصُولِ في عَرَفاتٍ فَلا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، بَلْ نَقُولُ: لَوْ وقَفَ بِعَرَفَةَ واتَّخَذَها مَسْكَنًا إلى أنْ ماتَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الإفاضَةُ مِنها، ولَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا في واجِبٍ إذا ماتَ بِها، وحَجُّهُ تامٌّ إذا كانَ قَدْ أتى بِالأرْكانِ كُلِّها. وقَوْلُهُ: وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلى آخِرِ الجُمْلَةِ، مُرَتَّبَةٌ عَلى أنَّ الإفاضَةَ واجِبَةٌ، وقَدْ مَنَعْنا ذَلِكَ، وقَوْلُهُ: فَثَبَتَ أنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّ الحُصُولَ في عَرَفاتٍ واجِبٌ في الحَجِّ، مَبْنِيٌّ عَلى ما قَبْلَهُ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّهُ لا يَلْزَمُ ذَلِكَ، و”إذا“ لا تَدُلُّ عَلى تُعَيُّنِ زَمانٍ، بَلْ تَدُلُّ عَلى تَيَقُّنِ الوُجُودِ أوْ رُجْحانِهِ، فَظاهِرُهُ يَقْتَضِي أنَّهُ مَتى أفاضَ مِن عَرَفاتٍ جازَ لَهُ ذَلِكَ، واقْتَضى ذَلِكَ أنَّ الوُقُوفَ بِعَرَفَةَ الَّذِي تَعْتَقِبُهُ الإفاضَةُ كانَ مُجْزِيًا. ووَقْتُ الوُقُوفِ مِن زَوالِ شَمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلى طُلُوعِ الفَجْرِ مِن يَوْمِ النَّحْرِ بِلا خِلافٍ، وأجْمَعُوا عَلى أنَّ مَن وقَفَ بِاللَّيْلِ فَحَجُّهُ تامٌّ، ولَوْ أفاضَ قَبْلَ الغُرُوبِ، وكانَ وقَفَ بَعْدَ الزَّوالِ، فَأجْمَعُوا عَلى أنَّ حَجَّهُ تامٌّ، إلّا مالِكًا فَقالَ: يَبْطُلُ حَجُّهُ. ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الزُّبَيْرِ، وقالَ مالِكٌ: ويَحُجُّ مِن قابِلٍ وعَلَيْهِ هَدْيٌ يَنْحَرُهُ في حَجِّهِ القابِلِ. ومَن قالَ: حَجُّهُ تامٌّ، فَقالَ الحَسَنُ: عَلَيْهِ هَدْيٌ، وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بَدَنَةٌ، وقالَ عَطاءٌ، والثَّوْرِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وأبُو ثَوْرٍ: عَلَيْهِ دَمٌ. ولَوْ أفاضَ قَبْلَ الغُرُوبِ ثُمَّ عادَ إلى عَرَفَةَ، فَدَفَعَ بَعْدَ الغُرُوبِ، فَذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيُّ، وأبُو ثَوْرٍ، إلى أنَّهُ لا يَسْقُطُ الدَّمُ. وذَهَبَ الشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وداوُدُ الطَّبَرَيُّ إلى أنَّهُ لا شَيْءَ عَلَيْهِ. وحَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ: وأفاضَ مِن عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أوْ نَهارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وقَضى تَفَثَهُ، مُوافِقٌ لِظاهِرِ الآيَةِ في عَدَمِ اشْتِراطِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ إلّا ما صَدَّ عَنْهُ الإجْماعُ مِن أنَّ الوُقُوفَ قَبْلَ الزَّوالِ لا يَجْزِي، وأنَّ مَن أفاضَ نَهارًا لا شَيْءَ عَلَيْهِ. ومِن، في قَوْلِهِ ”﴿مِن عَرَفاتٍ﴾“ لِابْتِداءِ الغايَةِ، وهي تَتَعَلَّقُ بِـ ”أفَضْتُمْ“، وظاهِرُ هَذا اللَّفْظِ يَقْتَضِي عُمُومَ عَرَفاتٍ (p-٩٦)فَمِن أيِّ نَواحِيها أفاضَ أجْزَأهُ، ويَقْتَضِي ذَلِكَ جَوازَ الوُقُوفِ، بِأيِّ نَواحِيها وقَفَ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ عُرَنَةَ مِن عَرَفاتٍ. وحَكى الباجِّيُّ، عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ أنَّ عُرَنَةَ في الحِلِّ، وعُرَنَةُ في الحَرَمِ، وقِيلَ: الجِدارُ الغَرْبِيُّ مِن مَسْجِدِ عُرَنَةَ، لَوْ سَقَطَ سَقَطَ في بَطْنِ عُرَنَةَ، ومَن قالَ: بَطْنُ عُرَنَةَ مِن عَرَفاتٍ، فَلَوْ وقَفَ بِها. فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والقاسِمِ، وسالِمٍ أنَّهُ: «مَن أفاضَ مِن عُرَنَةَ لا حَجَّ لَهُ»، وذَكَرَهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ الشّافِعِيِّ، وأبُو المُصْعَبِ عَنْ مالِكٍ، ورَوى خالِدُ بْنُ نَوارٍ عَنْ مالِكٍ أنَّ حَجَّهُ تامٌّ. ويُهَرِيقُ دَمًا، وذَكَرَهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ مالِكٍ أيْضًا. ورَوى: «عَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ، وارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ»، وأكْثَرُ الآثارِ لَيْسَ فِيها هَذا الِاسْتِثْناءُ، فَهي كَظاهِرِ الآيَةِ. وكَيْفِيَّةُ الإفاضَةِ أنْ يَسِيرُوا سَيْرًا جَمِيلًا، ولا يَطَئُوا ضَعِيفًا، ولا يُؤْذُوا ماشِيًا، إذْ كانَ ﷺ إذا دَفَعَ مِن ئ عَرَفاتٍ أعْنَقَ، وإذا وجَدَ فُرْجَةً نَصَّ. والعَنَقُ: سَيْرٌ سَرِيعٌ مَعَ رِفْقٍ، والنَّصُّ: سَيْرٌ شَدِيدٌ فَوْقَ العَنَقِ، قالَهُ الأصْمَعِيُّ، والنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. ولَوْ تَأخَّرَ الإمامُ مِن غَيْرِ عُذْرٍ دَفَعَ النّاسُ. والتَّعْرِيفُ الَّذِي يَصْنَعُهُ النّاسُ في المَساجِدِ تَشْبِيهًا بِأهْلِ عَرَفَةَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: هو لَيْسَ بِشَيْءٍ، وأوَّلُ مَن عَرَّفَ ابْنُ عَبّاسٍ بِالبَصَرَةِ، وعَرَّفَ أيْضًا عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، وقالَ أحْمَدُ: أرْجُو أنْ لا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، وقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ واحِدٍ، الحَسَنُ، وبَكْرٌ، وثابِتٌ، ومُحَمَّدُ بْنُ واسِعٍ كانُوا يَشْهَدُونَ المَسْجِدَ يَوْمَ عَرَفَةَ. وأمّا الصَّوْمُ يَوْمَ عَرَفَةَ لِلْواقِفِينَ بِها، فَقالَ يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ الأنْصارِيُّ: يَجِبُ عَلَيْهِمُ الفِطْرُ، وأجازَهُ بَعْضُهم، وصامَهُ عُثْمانُ بْنُ القاضِي، وابْنُ الزُّبَيْرِ، وعائِشَةُ. وقالَ عَطاءٌ: أُصُومُهُ في الشِّتاءِ ولا أصُومُهُ في الصَّيْفِ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ تَرْكَ الصَّوْمِ أوْلى؛ اتِّباعًا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ . * * * ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾ . الفاءُ جَوابُ إذا، والذِّكْرُ هُنا الدُّعاءُ والتَّضَرُّعُ والثَّناءُ، أوْ صَلاةُ المَغْرِبِ والعِشاءِ بِالمُزْدَلِفَةِ، أوِ الدُّعاءُ. وهَذِهِ الصَّلاةُ أقْوالٌ ثَلاثَةٌ يَبْنِي عَلَيْها أهْلُ الأمْرِ، أمْرَ نَدْبٍ، أمْ أمْرَ وُجُوبٍ ؟ وإذا كانَ الذِّكْرُ هو الصَّلاةَ فَلا دَلالَةَ فِيهِ عَلى الجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ، فَيَصِيرُ الأمْرُ بِالذِّكْرِ بِالنِّسْبَةِ إلى الجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ مُجْمَلًا يُبَيِّنُهُ فِعْلُهُ ﷺ، وهو سُنَّةٌ بِالمُزْدَلِفَةِ. ولَوْ صَلّى المَغْرِبَ قَبْلَ أنْ يَأْتِيَ المُزْدَلِفَةَ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ، ومُحَمَّدٌ: لا يُجْزِئُهُ، وقالَ عَطاءٌ، وعُرْوَةُ، والقاسِمُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، ومالِكٌ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وأبُو ثَوْرٍ: لَيْسَ الجَمْعُ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ. ومَن لَهُ عُذْرٌ عَنِ الإفاضَةِ مِمَّنْ وقَفَ مَعَ الإمامِ صَلّى كُلَّ صَلاةٍ لِوَقْتِها، قالَهُ ابْنُ المَوّازِ. وقالَ مالِكٌ: يَجْمَعُ بَيْنَهُما إذا غابَ الشَّفَقُ، وقالَ ابْنُ القاسِمِ: إنْ رَجا أنْ يَأْتِيَ المُزْدَلِفَةَ ثُلُثَ اللَّيْلِ، فَلْيُؤَخِّرِ الصَّلاتَيْنِ حَتّى يَأْتِيَها، وإلّا صَلّى كُلَّ صَلاةٍ لِوَقْتِها. وهَلْ يُصَلِّيهِما بِإقامَتَيْنِ دُونَ أذانٍ ؟ أوْ بِأذانٍ واحِدٍ لِلْمَغْرِبِ وإقامَتَيْنِ ؟ أوْ بِأذانَيْنِ وإقامَتَيْنِ ؟ أوْ بِأذانٍ وإقامَةٍ لِلْأُولى، وبِلا أذانٍ ولا إقامَةٍ لِلثّانِيَةِ ؟ أقْوالٌ أرْبَعَةٌ. الأوَّلُ: قَوْلُ سالِمٍ، والقاسِمِ، والشّافِعِيِّ، وإسْحاقَ، وأحْمَدَ في أحَدِ قَوْلَيْهِ. والثّانِي: قَوْلُ زُفَرَ، والطَّحاوِيِّ، وابْنِ حَزْمٍ، ورُوِيَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ. والثّالِثُ: قَوْلُ مالِكٍ. والرّابِعُ: قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ، والسُّنَّةُ أنْ لا يَتَطَوَّعَ الجامِعُ بَيْنَهُما. والمَشْعَرُ مَفْعَلٌ مِن شَعَرَ، أيِ: المَعْلَمُ، والحَرامُ: لِأنَّهُ مَمْنُوعٌ أنْ يُفْعَلَ فِيهِ ما نُهِيَ عَنْهُ مِن مَحْظُوراتِ الإحْرامِ. وهَذا المَشْعَرُ يُسَمّى جَمْعًا، وهو ما بَيْنَ جَبَلَيِ المُزْدَلِفَةِ مِن حَدِّ مَفْضى عَرَفَةَ إلى بَطْنِ مُحَسِّرٍ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ عُمَرَ، وابْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ. وتُسَمِّي العَرَبُ وادِيَ مُحَسِّرٍ: وادِي النّارِ، ولَيْسَ المَأْزِمانِ ولا وادِي مُحَسِّرٍ مِنَ المَشْعَرِ الحَرامِ، والمَأْزِمُ المَضِيقُ، وهو مَضِيقٌ واحِدٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، ثَنَّوْهُ لِمَكانِ الجَبَلَيْنِ. وقِيلَ: المَشْعَرُ الحَرامُ هو قُزَحُ، وهو الجَبَلُ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الإمامُ وعَلَيْهِ المَيْقَدَةُ. قِيلَ: وهو الصَّحِيحُ لِحَدِيثِ جابِرٍ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا صَلّى الفَجْرَ، يَعْنِي بِالمُزْدَلِفَةِ، بِغَلَسٍ رَكِبَ ناقَتَهُ حَتّى أتى المَشْعَرَ الحَرامَ، فَدَعا وكَبَّرَ وهَلَّلَ، ولَمْ يَزَلْ واقِفًا حَتّى أسْفَرَ»، فَعَلى هَذا لَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ المَذْكُورَةُ لِلذِّكْرِ (p-٩٧)بِالمُزْدَلِفَةِ، لا عَلى أنَّهُ الدُّعاءُ ولا الصَّلاةُ بِها، وإنَّما هَذا أمْرٌ بِالذِّكْرِ عِنْدَ هَذا الجَبَلِ، وهو قُزَحُ الَّذِي رَكِبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَدَعا عِنْدَهُ وكَبَّرَ وهَلَّلَ، ووَقَفَ بَعْدَ صَلاتِهِ الصُّبْحَ بِالمُزْدَلِفَةِ بِغَلَسٍ حَتّى أسْفَرَ، ويَكُونُ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ التَّقْدِيرُ: فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ، ونِمْتُمْ بِالمُزْدَلِفَةِ، فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ. ومَعْنى العِنْدِيَّةِ هُنا القُرْبُ مِنهُ، وكَوْنُهُ يَلِيهِ. ومُزْدَلِفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ، إلّا وادِي مُحَسِّرٍ، وجُعِلَتْ كُلُّها مَوْقِفًا لِكَوْنِها في حُكْمِ المَشْعَرِ ومُتَّصِلَةً بِهِ، وقِيلَ: سُمِّيَتِ المُزْدَلِفَةُ وما تَضَمَّنَهُ الحَدُّ الَّذِي ذُكِرَ مَشْعَرًا، ووُحِّدَ لِاسْتِوائِهِ في الحُكْمِ، فَكانَ كالمَكانِ الواحِدِ. وقالَ في (المُنْتَخَبِ): هَذا الأمْرُ يَدُلُّ عَلى أنَّ الحُصُولَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ واجِبٌ، ويَكْفِي فِيهِ المُرُورُ كَما في عَرَفَةَ، فَأمّا الوُقُوفُ هُناكَ فَمَسْنُونٌ، انْتَهى كَلامُهُ. وكَوْنُ الوُقُوفِ مَسْنُونًا هو قَوْلُ جُمْهُورِ العُلَماءِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: هو واجِبٌ، فَمَن تَرَكَهُ مِن غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، فَإنْ كانَ لَهُ عُذْرٌ أوْ خافَ الزِّحامَ فَلا بَأْسَ أنْ يُعَجِّلَ بِلَيْلٍ، ولا شَيْءَ عَلَيْهِ. وقالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، والحَسَنُ، وعَلْقَمَةُ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والأوْزاعِيُّ: الوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ فَرْضٌ، ومَن فاتَهُ فَقَدْ فاتَهُ الحَجُّ، ويَجْعَلُ إحْرامَهُ عُمْرَةً. والآيَةُ لا تَدُلُّ إلّا عَلى مَطْلُوبِيَّةِ الذِّكْرِ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ، لا عَلى الوُقُوفِ، ولا عَلى المَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وأجْمَعُوا عَلى أنَّ المَبِيتَ لَيْسَ بِرُكْنٍ. وقالَ مالِكٌ: مَن لَمْ يَبِتْ بِها فَعَلَيْهِ دَمٌ، وإنْ أقامَ بِها أكْثَرَ لَيْلَةٍ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ: لِأنَّ المَبِيتَ بِها سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ مالِكٍ. وهو مَذْهَبُ عَطاءٍ، وقَتادَةَ، والزُّهْرِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وأبِي حَنِيفَةَ، وأحْمَدَ، وإسْحاقَ، وأبِي ثَوْرٍ. وقالَ الشّافِعِيُّ: إنْ خَرَجَ مِنها بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، أوْ قَبْلَهُ افْتَدى، والفِدْيَةُ شاةٌ. ومُطْلَقُ الأمْرِ بِالذِّكْرِ لا يَدُلُّ عَلى ذِكْرٍ مَخْصُوصٍ. قالَ بَعْضُهم: وأوْلى الذِّكْرِ أنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ كَما وفَّقْتَنا فِيهِ فَوَفِّقْنا لِذِكْرِكَ كَما هَدَيْتَنا، واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا كَما وعَدْتَنا بِقَوْلِكَ وقَوْلُكَ الحَقُّ: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ﴾، ويَتْلُو إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٩٩]، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَدْعُو بِما شاءَ مِن خَيْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ ذِكْرَ اللَّهِ هُنا هو الثَّناءُ عَلَيْهِ، والحَمْدُ لَهُ، ولا يُرادُ بِذِكْرِ اللَّهِ هُنا ذِكْرُ لَفْظَةِ اللَّهِ، وإنَّما المَعْنى: اذْكُرُوا اللَّهَ بِالألْفاظِ الدّالَّةِ عَلى تَعْظِيمِهِ، والثَّناءِ عَلَيْهِ، والمُحَمِّدَةِ لَهُ. و”عِنْدَ“ مَنصُوبٌ بِـ ”اذْكُرُوا“، وهَذا مِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ جَوابَ ”إذا“ لا يَكُونُ عامِلًا فِيها: لِأنَّ مَكانَ إنْشاءِ الإفاضَةِ غَيْرُ مَكانِ الذِّكْرِ: لِأنَّ ذَلِكَ عَرَفاتٌ، وهَذا المَشْعَرُ الحَرامُ، وإذا اخْتَلَفَ المَكانانِ لَزِمَ مِن ذَلِكَ ضَرُورَةُ اخْتِلافِ الزَّمانَيْنِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الذِّكْرُ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ واقِعًا وقْتَ إنْشاءِ الإفاضَةِ. ﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ﴾ هَذا الأمْرُ الثّانِي هو الأوَّلُ، وكُرِّرَ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ والمُبالَغَةِ في الأمْرِ بِالذِّكْرِ: لِأنَّ الذِّكْرَ مِن أفْضَلِ العِباداتِ، أوْ غَيْرُ الأوَّلِ، فَيُرادُ بِهِ تَعَلُّقُهُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، أيْ: واذْكُرُوهُ بِتَوْحِيدِهِ كَما هَداكم بِهِدايَتِهِ، أوِ اتِّصالُ الذِّكْرِ لِمَعْنى: اذْكُرُوهُ ذِكْرًا بَعْدَ ذِكْرٍ، قالَ هَذا القَوْلَ مُحَمَّدُ بْنُ قاسِمٍ النَّحْوِيُّ، والذِّكْرُ المَفْعُولُ عِنْدَ الوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ غَداةَ جَمْعٍ، ويُرادُ بِالأوَّلِ صَلاةُ المَغْرِبِ والعِشاءِ بِالمُزْدَلِفَةِ، حَكاهُ القاضِي أبُو يَعْلى. والكافُ في ”كَما“ لِلتَّشْبِيهِ، وهي في مَوْضِعِ نَصْبٍ إمّا عَلى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وإمّا عَلى الحالِ. وقَدْ تَقَدَّمَ هَذا البَحْثُ في غَيْرِ مَوْضِعٍ. والمَعْنى: أوْجِدُوا الذِّكْرَ عَلى أحْسَنِ أحْوالِهِ مِن مُماثَلَتِهِ لِهِدايَةِ اللَّهِ لَكم، إذْ هِدايَتُهُ إيّاكم أحْسَنُ ما أسْدى إلَيْكم مِنَ النِّعَمِ، فَلْيَكُنِ الذِّكْرُ مِنَ الحُضُورِ والدَّيْمُومَةِ في الغايَةِ حَتّى تُماثِلَ إحْسانَ الهِدايَةِ، ولِهَذا المَعْنى قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اذْكُرُوهُ ذِكْرًا حَسَنًا كَما هَداكم هِدايَةً حَسَنَةً، انْتَهى. ويَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ الكافُ لِلتَّعْلِيلِ عَلى مَذْهَبِ مَن أثْبَتَ هَذا المَعْنى لِلْكافِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: كَما هَداكم، أيِ: اذْكُرُوهُ وعَظِّمُوهُ لِلْهِدايَةِ السّابِقَةِ مِنهُ تَعالى لَكم، وحَكى سِيبَوَيْهِ: كَما أنَّهُ لا يَعْلَمُ فَتَجاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ، أيْ: لِأنَّهُ لا يَعْلَمُ، وأثْبَتَ لَها هَذا المَعْنى الأخْفَشُ، وابْنُ بُرْهانٍ. و”ما“ في ”كَما“ مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ: كَهِدايَتِهِ إيّاكم، وجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ أنْ تَكُونَ ”ما“ كافَّةً لِلْكافِ عَنِ العَمَلِ، والفَرْقُ بَيْنَهُما أنَّ ”ما“ المَصْدَرِيَّةُ (p-٩٨)تَكُونُ هي وما بَعْدَها في مَوْضِعِ جَرٍّ، إذْ يَنْسَبِكُ مِنها مَعَ الفِعْلِ مَصْدَرٌ، والكافُ لا يَكُونُ ذَلِكَ فِيها إذْ لا عَمَلَ لَها البَتَّةَ، والأوْلى حَمْلُها عَلى أنَّ ”ما“ مَصْدَرِيَّةٌ: لِإقْرارِ الكافِ عَلى ما اسْتَقَرَّ لَها مِن عَمَلِ الجَرِّ، وقَدْ مَنَعَ أنْ تَكُونَ الكافُ مَكْفُوفَةً بِـ ”ما“ عَنِ العَمَلِ أبُو سَعْدٍ، وعَلِيُّ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ الفَرُّخالِ صاحِبُ (المُسْتَوْفِي)، واحْتَجَّ مَن أثْبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎لَعَمْرُكَ إنَّنِي وأبا حُمَيْدٍ كَما النَّشْوانُ والرَّجُلُ الحَلِيمُ ؎أُرِيدُ هِجاءَهُ وأخافُ رَبِّي ∗∗∗ وأعْلَمُ أنَّهُ عَبْدٌ لَئِيمٌ والهِدايَةُ هُنا خاصَّةٌ، أيْ: بِأنْ رَدَّكم في مَناسِكَ حَجِّكم إلى سُنَّةِ إبْراهِيمَ - صَلّى اللَّهُ عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ - فَـ ”ما“ عامَّةٌ تَتَناوَلُ أنْواعَ الهِداياتِ مِن مَعْرِفَةِ اللَّهِ، ومَعْرِفَةِ مَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ وشَرائِعِهِ. ﴿وإنْ كُنْتُمْ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ﴾، ”إنْ“ هُنا عِنْدَ البَصْرِيِّينَ هي الَّتِي لِلتَّوْكِيدِ المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، ودَخَلَتْ عَلى الفِعْلِ النّاسِخِ كَما دَخَلَتْ عَلى الجُمْلَةِ الِابْتِدائِيَّةِ، واللّامُ في ”لَمِنَ“، وما أشْبَهَهُ فِيها خِلافٌ: أهِيَ لامُ الِابْتِداءِ لَزِمَتْ لِلْفَرْقِ ؟ أمْ هي لامٌ أُخْرى اجْتُلِبَتْ لِلْفَرْقِ ؟ ومَذْهَبُ الفَرّاءِ في نَحْوِ هَذا: ”إنْ“ هي النّافِيَةُ بِمَعْنى ما، واللّامُ بِمَعْنى إلّا، وذَهَبَ الكِسائِيُّ إلى أنَّ إنْ بِمَعْنى: قَدْ، إذا دَخَلَ عَلى الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ، وتَكُونُ اللّامُ زائِدَةً، وبِمَعْنى ما النّافِيَةِ إذا دَخَلَ عَلى الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، واللّامُ بِمَعْنى إلّا، ودَلائِلُ هَذِهِ المَسْألَةِ تُذْكَرُ في عِلْمِ النَّحْوِ. فَعَلى قَوْلِ البَصْرِيِّينَ: تَكُونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُثْبَتَةً مُؤَكَّدَةً لا حَصْرَ فِيها، وعَلى مَذْهَبِ الفَرّاءِ: مُثْبَتَةً إثْباتًا مَحْصُورًا، وعَلى مَذْهَبِ الكِسائِيِّ: مُثَبَّتَةً مُؤَكَّدَةً مِن جِهَةٍ غَيْرِ جِهَةِ قَوْلِ البَصْرِيِّينَ. و”مِن قَبْلِهِ“ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، ويُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ لَمِنَ الضّالِّينَ، التَّقْدِيرُ: وإنْ كُنْتُمْ ضالِّينَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ، ومَن تَسْمَحُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ في تَقْدِيمِ الظَّرْفِ والمَجْرُورِ عَلى العامِلِ الواقِعِ صِلَةً لِلْألِفِ واللّامِ، فَيَتَعَلَّقُ عَلى مَذْهَبِهِ مِن قَبْلِهِ بِقَوْلِهِ مِنَ الضّالِّينَ، وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذا. والهاءُ في ”قَبْلِهِ“ عائِدَةٌ عَلى الهُدى المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ ”هُداكم“ أيْ: وإنْ كُنْتُمْ مِن قَبْلِ الهُدى لَمِنَ الضّالِّينَ، ذَكَّرَهم تَعالى بِنِعْمَةِ الهِدايَةِ الَّتِي هي أتَمُّ النِّعَمِ: لِيُوالُوا ذِكْرَهُ والثَّناءَ عَلَيْهِ تَعالى والشُّكْرَ الَّذِي هو سَبَبٌ لِمَزِيدِ الإنْعامِ، وقِيلَ: تَعُودُ الهاءُ عَلى القُرْآنِ، وقِيلَ: عَلى النَّبِيِّ ﷺ . والظّاهِرُ في الضَّلالِ أنَّهُ ضَلالُ الكُفْرِ، كَما أنَّ الظّاهِرَ في الهِدايَةِ هِدايَةُ الإيمانِ، وقِيلَ: مِنَ الضّالِّينَ عَنْ مَناسِكِ الحَجِّ، أوْ عَنْ تَفْصِيلِ شَعائِرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب