الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً﴾ فمثلهم رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ فِي الْكَافِ، فَهِيَ اسْمٌ، كَمَا هِيَ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى: أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفُتُلُ [[المعنى: لا ينهى أصحاب الجور مثل طعن جائف، أي نافذ إلى الجوف، يغيب فيه الزيت والفتل. (عن خزانة الأدب).]] وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَرُحْنَا بِكَابِنِ الْمَاءِ يُجْنَبُ وَسَطُنَا ... تُصَوَّبُ فِيهِ الْعَيْنُ طَوْرًا وَتَرْتَقِي [[يقول رجعنا بفرس كأنه ابن ماء (طير ماء) خفة وحسنا وطول عنق. وهو يجنب: أي يقاد فلا يركب.]] أَرَادَ مِثْلَ الطَّعْنِ، وَبِمِثْلِ ابْنِ الْمَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ مَثَلُهُمْ مُسْتَقِرٌّ كَمَثَلِ، فَالْكَافُ عَلَى هَذَا حَرْفٌ. وَالْمَثَلُ وَالْمِثْلُ وَالْمَثِيلُ وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ الشَّبِيهُ. وَالْمُتَمَاثِلَانِ: الْمُتَشَابِهَانِ، هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ. قَوْلُهُ "الَّذِي" يَقَعُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَأْتِي بِالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، كَمَا قَالَ: وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفِلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ [[فلج (بفتح أوله وسكون ثانيه): موضع بين البصرة وضرية. وقيل هو واد بطريق البصرة إلى مكة، ببطنه منازل للحاج. قائله الأشهب بن رميلة ير؟ ى قوما قتلوا في هذا الموضع (عن اللسان).]] وَقِيلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى" وَالَّذِي [[راجع ج ١٥ ص ٢٥٦.]] جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" [الزمر: ٣٣]: إِنَّهُ بِهَذِهِ اللُّغَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي" قِيلَ: الْمَعْنَى كَمَثَلِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا، وَلِذَلِكَ قَالَ: "ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ"، فَحَمَلَ أَوَّلَ الْكَلَامِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَآخِرَهُ عَلَى الْجَمْعِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى:" وَخُضْتُمْ كَالَّذِي [[راجع ج ٨ ص ٢٠١.]] خاضُوا" [التوبة: ٦٩] فَإِنَّ الَّذِي هَاهُنَا وَصْفٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَخُضْتُمْ كَالْخَوْضِ الَّذِي خَاضُوا. وَقِيلَ: إِنَّمَا وَحَّدَ "الَّذِي" وَ "اسْتَوْقَدَ" لِأَنَّ الْمُسْتَوْقِدَ كَانَ وَاحِدًا مِنْ جَمَاعَةٍ تَوَلَّى الْإِيقَادَ لَهُمْ، فَلَمَّا ذَهَبَ الضَّوْءُ رَجَعَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا فَقَالَ "بِنُورِهِمْ". وَاسْتَوْقَدَ بِمَعْنَى أَوْقَدَ، مِثْلَ اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ زَائِدَتَانِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [[هو كعب بن سعد الغنوي ير؟ ى أخاه أبا المغوار (عن اللسان).]] وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ أَيْ يُجِبْهُ. وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي جَوَابِ لَمَّا، وَفِي عَوْدِ الضَّمِيرِ مِنْ "نُورِهِمْ"، فَقِيلَ: جَوَابُ لَمَّا مَحْذُوفٌ وَهُوَ طَفِئَتْ، وَالضَّمِيرُ فِي "نُورِهِمْ" عَلَى هَذَا لِلْمُنَافِقِينَ، وَالْإِخْبَارُ بِهَذَا عَنْ حَالٍ تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ [[راجع ج ١٧ ص ٢٤٦]] " [الحديد: ١٣]. وَقِيلَ: جَوَابُهُ "ذَهَبَ"، وَالضَّمِيرُ فِي "نُورِهِمْ" عَائِدٌ عَلَى "الَّذِي"، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَتِمُّ تَمْثِيلُ الْمُنَافِقِ بِالْمُسْتَوْقِدِ، لِأَنَّ بَقَاءَ الْمُسْتَوْقِدِ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُ كَبَقَاءِ الْمُنَافِقِ فِي حِيرَتِهِ وَتَرَدُّدِهِ. والمعنى المراد بالآية ضرب مثل للمنافقين، وَذَلِكَ أَنَّ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي تثبت لهم به أحكام المسلمين من المناكح وَالتَّوَارُثِ وَالْغَنَائِمِ وَالْأَمْنِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِمَثَابَةِ مَنْ أَوْقَدَ نَارًا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَاسْتَضَاءَ بِهَا وَرَأَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّقِيَهُ وَأَمِنَ مِنْهُ، فَإِذَا طَفِئَتْ عَنْهُ أَوْ ذَهَبَتْ وَصَلَ إِلَيْهِ الْأَذَى وَبَقِي مُتَحَيِّرًا، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ لَمَّا آمَنُوا اغْتَرُّوا بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَصِيرُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ كَمَا أَخْبَرَ التَّنْزِيلُ:" إِنَّ الْمُنافِقِينَ [[راجع ج ٥ ص ٤٢٤.]] فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ" [النساء: ١٤٥] وَيَذْهَبُ نُورُهُمْ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ:" انْظُرُونا نَقْتَبِسْ [[راجع ج ١٧ ص ٢٤٥.]] مِنْ نُورِكُمْ" [الحديد: ١٣]. وَقِيلَ: إِنَّ إِقْبَالَ الْمُنَافِقِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَلَامَهُمْ مَعَهُمْ كَالنَّارِ، وَانْصِرَافَهُمْ عَنْ مَوَدَّتِهِمْ وَارْتِكَاسِهِمْ عِنْدَهُمْ كَذَهَابِهَا. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. قَوْلُهُ: "نَارًا" النَّارُ مُؤَنَّثَةٌ وَهِيَ مِنَ النُّورِ وَهُوَ أَيْضًا الْإِشْرَاقُ. وَهِيَ مِنَ الْوَاوِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ فِي التَّصْغِيرِ: نُوَيْرَةٌ، وَفِي الْجَمْعِ نُورٌ وَأَنْوَارٌ وَنِيرَانٌ، انْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا. وَضَاءَتْ وَأَضَاءَتْ لُغَتَانِ، يُقَالُ: ضَاءَ الْقَمَرُ يَضُوءُ ضَوْءًا وَأَضَاءَ يضئ، يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ: ضَاءَتْ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْعَامَّةُ بِالْأَلِفِ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَضَاءَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ ... دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَّمَ الْجِزَعَ ثَاقِبُهُ [[الجزع (بفتح الجيم وكسرها): ضرب من الخرز. وقيل: هو الخرز اليماني، وهو الذي فيه بياض وسواد، فشبه به الأعين.]] (مَا حَوْلَهُ) "مَا" زَائِدَةٌ مؤكدة. وقيل: مفعولة بأضاءت. و "حوله" ظَرْفُ مَكَانٍ، وَالْهَاءُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِإِضَافَتِهِ إليها. و (ذَهَبَ) وَأَذْهَبَ لُغَتَانِ مِنَ الذَّهَابِ، وَهُوَ زَوَالُ الشَّيْءِ. (وَتَرَكَهُمْ) أَيْ أَبْقَاهُمْ. (فِي ظُلُماتٍ) جَمْعُ ظُلْمَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: "ظُلْمَاتٍ" بِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى الْأَصْلِ. وَمَنْ قَرَأَهَا بِالضَّمِّ فَلِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ والنعت. وقرا أشهب الْعُقَيْلِيُّ: "ظُلَمَاتٍ" بِفَتْحِ اللَّامِ. قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: أَبْدَلَ مِنَ الضَّمَّةِ فَتْحَةً لِأَنَّهَا أَخَفُّ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: "ظُلَمَاتٍ" جَمْعُ الْجَمْعِ، جَمْعُ ظُلَمٍ. (لَا يُبْصِرُونَ) فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: غَيْرُ مُبْصِرِينَ، فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى هَذَا على "ظلمات".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب