الباحث القرآني

شَبَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْداءَهُ المُنافِقِينَ بِقَوْمٍ أوْقَدُوا نارًا لِتُضِيءَ لَهم ويَنْتَفِعُوا بِها، فَلَمّا أضاءَتْ لَهُمُ النّارُ فَأبْصَرُوا في ضَوْئِها ما يَنْفَعُهم ويَضُرُّهم وأبْصَرُوا الطَّرِيقَ بَعْدَ أنْ كانُوا حَيارى تائِهِينَ فَهم كَقَوْمٍ سَفْرٍ ضَلُّوا عَنِ الطَّرِيقِ فَأوْقَدُوا النّارَ لِتُضِيءَ لَهُمُ الطَّرِيقَ؛ فَلَمّا أضاءَتْ لَهم فَأبْصَرُوا وعَرَفُوا طُفِئَتْ تِلْكَ النّارُ وبَقُوا في الظُّلُماتِ لا يُبْصِرُونَ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمْ أبْوابُ الهُدى الثَّلاثُ، فَإنَّ الهُدى يَدْخُلُ إلى العَبْدِ مِن ثَلاثَةِ أبْوابٍ، مِمّا يَسْمَعُهُ بِأُذُنِهِ ويَراهُ بِعَيْنِهِ ويَعْقِلُهُ بِقَلْبِهِ، وهَؤُلاءِ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمْ أبْوابُ الهُدى فَلا تَسْمَعُ قُلُوبُهم شَيْئًا ولا تُبْصِرُهُ ولا تَعْقِلُ ما يَنْفَعُها. وَقِيلَ: لَمّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِأسْماعِهِمْ وأبْصارِهِمْ وقُلُوبِهِمْ نَزَلُوا مَنزِلَةَ مَن لا سَمْعَ لَهُ ولا بَصَرَ ولا عَقْلَ، والقَوْلانِ مُتَلازِمانِ، وقالَ في صِفَتِهِمْ: ﴿فَهم لا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨]؛ لِأنَّهم قَدْ رَأوْا في ضَوْءِ النّارِ وأبْصَرُوا الهُدى فَلَمّا طُفِئَتْ عَنْهم لَمْ يَرْجِعُوا إلى ما رَأوْا وأبْصَرُوا وقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧]، ولَمْ يَقُلْ: ذَهَبَ نُورُهُمْ، وفِيهِ سِرٌّ بَدِيعٌ وهو انْقِطاعُ تِلْكَ المَعِيَّةِ الخاصَّةِ الَّتِي هي لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى مَعَ المُؤْمِنِينَ، وإنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ، و﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هم مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨]، فَذَهابُ اللَّهِ بِذَلِكَ النُّورِ انْقِطاعٌ لِمَعِيَّتِهِ الخاصَّةِ الَّتِي هي لِلْمُؤْمِنِينَ خَصَّ بِها أوْلِياءَهُ فَقَطَعَها بَيْنَهُ وبَيْنَ المُنافِقِينَ فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهم بَعْدَ ذَهابِ نُورِهِمْ ولا مَعَهم فَلَيْسَ لَهم نَصِيبٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ [التوبة: ٤٠] ولا مِن: ﴿كَلّا إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢]. وَتَأمَّلْ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أضاءَتْ ما حَوْلَهُ﴾ [البقرة: ١٧] كَيْفَ جَعَلَ ضَوْءَها خارِجًا عَنْهُ مُنْفَصِلًا ولَوِ اتَّصَلَ ضَوْءُها بِهِ ولابَسَهُ لَمْ يَذْهَبْ، ولَكِنَّهُ كانَ ضَوْءَ مُجاوَرَةٍ لا مُلابَسَةٍ ومُخالَطَةٍ وكانَ الضَّوْءُ عارِضًا والظُّلْمَةُ أصْلِيَّةً فَرَجَعَ الضَّوْءُ إلى مَعْدِنِهِ وبَقِيَتِ الظُّلْمَةُ في مَعْدِنِها فَرَجَعَ كُلٌّ مِنهُما إلى أصْلِهِ اللّائِقِ بِهِ، حُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ قائِمَةٌ، وحِكْمَةٌ بالِغَةٌ تَعَرَّفَ بِها إلى أُولِي الألْبابِ مِن عِبادِهِ، وتَأمَّلْ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧] ولَمْ يَقُلْ: بِنارِهِمْ لِتُطابِقَ أوَّلَ الآيَةِ؛ فَإنَّ النّارَ فِيها إشْراقٌ وإحْراقٌ، فَذَهَبَ بِما فِيها مِنَ الإشْراقِ وهو النُّورُ وأبْقى عَلَيْهِمْ ما فِيها مِنَ الإحْراقِ وهو النّارِيَّةُ. وَتَأمَّلْ كَيْفَ قالَ: ﴿بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧] ولَمْ يَقُلْ: بِضَوْئِهِمْ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ﴾ [البقرة: ١٧]؛ لِأنَّ الضَّوْءَ هو زِيادَةٌ في النُّورِ، ولَوْ قِيلَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِضَوْئِهِمْ لَأوْهَمَ الذَّهابَ بِالزِّيادَةِ فَقَطْ دُونَ الأصْلِ، فَلَمّا كانَ النُّورُ أصْلُ الضَّوْءِ كانَ الذَّهابُ بِهِ ذَهابًا بِالشَّيْءِ وزِيادَتِهِ، وأيْضًا فَإنَّهُ أبْلَغُ في النَّفْيِ عَنْهم وأنَّهم مِن أهْلِ الظُّلُماتِ الَّذِينَ لا نُورَ لَهُمْ، وأيْضًا: فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى سَمّى كِتابَهُ نُورًا، ورَسُولَهُ ﷺ نُورًا، ودِينَهُ نُورًا، وهُداهُ نُورًا، ومِن أسْمائِهِ النُّورُ، والصَّلاةُ نُورٌ، فَذَهابُهُ سُبْحانَهُ بِنُورِهِمْ ذَهابٌ بِهَذا كُلِّهِ. وَتَأمَّلْ مُطابَقَةَ هَذا المَثَلِ لِما تَقَدَّمَهُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهم وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: ١٦]، كَيْفَ طابَقَ هَذِهِ التِّجارَةَ الخاسِرَةَ الَّتِي تَضَمَّنَتْ حُصُولَ الضَّلالَةِ والرِّضى بِها وبَذْلَ الهُدى في مُقابَلَتِها وحُصُولَ الظُّلُماتِ الَّتِي هي الضَّلالَةُ والرِّضى بِها، بَدَلًا عَنِ النُّورِ الَّذِي هو الهُدى والنُّورُ فَبَذَلُوا الهُدى والنُّورَ وتَعَوَّضُوا عَنْهُ بِالظُّلْمَةِ والضَّلالَةِ فَيالَها " مِن " تِجارَةٍ ما أخْسَرَها وصَفْقَةٍ ما أشَدَّ غَبْنَها. وَتَأمَّلْ كَيْفَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧] فَوَحَّدَهُ، ثُمَّ قالَ: ﴿وَتَرَكَهم في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾ فَجَمَعَها، فَإنَّ الحَقَّ واحِدٌ وهو صِراطُ اللَّهِ المُسْتَقِيمُ الَّذِي لا صِراطَ يُوصِلُ إلَيْهِ سِواهُ وهو عِبادَتُهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ بِما شَرَعَهُ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ ﷺ لا بِالأهْواءِ والبِدَعِ وطُرُقِ الخارِجِينَ عَمّا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الهُدى ودِينِ الحَقِّ بِخِلافِ طُرُقِ الباطِلِ، فَإنَّها مُتَعَدِّدَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ ولِهَذا يُفْرِدُ سُبْحانَهُ وتَعالى الحَقَّ، ويَجْمَعُ الباطِلَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ والَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهم مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢٥٧] وَقالَ تَعالى: ﴿وَأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣] فَجَمَعَ سُبُلَ الباطِلِ ووَحَّدَ سَبِيلَهُ الحَقَّ ولا يُناقِضُ هَذا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ﴾ [المائدة: ١٦] فَإنَّ تِلْكَ هي طُرُقُ مَرْضاتِهِ الَّتِي يَجْمَعُها سَبِيلُهُ الواحِدُ وصِراطُهُ المُسْتَقِيمُ، فَإنَّ طُرُقَ مَرْضاتِهِ كُلُّها تَرْجِعُ إلى صِراطٍ واحِدٍ وسَبِيلٍ واحِدٍ، وهي سَبِيلُهُ الَّتِي لا سَبِيلَ إلَيْهِ إلّا مِنها وقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ خَطَّ خَطًّا مُسْتَقِيمًا، وقالَ: هَذا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وعَنْ شِمالِهِ فَقالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلى كُلِّ سَبِيلٍ مِنها شَيْطانٌ يَدْعُو إلَيْهِ ثُمَّ قَرَأ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكم وصّاكم بِهِ لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣]. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذا مَثَلٌ لِلْمُنافِقِينَ وما يُوقِدُونَهُ مِن نارِ الفِتْنَةِ الَّتِي يُوقِعُونَها بَيْنَ أهْلِ الإسْلامِ ويَكُونُ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلَّما أوْقَدُوا نارًا لِلْحَرْبِ أطْفَأها اللَّهُ﴾ [المائدة: ٦٤] ويَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ مُطابِقًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أطْفَأها اللَّهُ﴾ [المائدة: ٦٤] ويَكُونُ تَخْيِيبُهم وإبْطالُ ما رامُوهُ هو تَرْكُهم في ظُلُماتِ الحَيْرَةِ لا يَهْتَدُونَ إلى التَّخَلُّصِ مِمّا وقَعُوا فِيهِ ولا يُبْصِرُونَ سَبِيلًا بَلْ هم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ. وَهَذا التَّقْدِيرُ وإنْ كانَ حَقًّا فَفي كَوْنِهِ مُرادًا بِالآيَةِ نَظَرٌ، فَإنَّ السِّياقَ إنَّما قُصِدَ لِغَيْرِهِ، ويَأْباهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ﴾ وَمَوْقِدُ نارِ الحَرْبِ لا يُضِيءُ ما حَوْلَهُ أبَدًا، ويَأْباهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ ومَوْقِدُ نارِ الحَرْبِ لا نُورَ لَهُ، ويَأْباهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَتَرَكَهم في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾ وَهَذا يَقْتَضِي أنَّهُمُ انْتَقَلُوا مِن نُورِ المَعْرِفَةِ والبَصِيرَةِ إلى ظُلْمَةِ الشَّكِّ والكُفْرِ، قالَ الحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هو المُنافِقُ أبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ وعَرَفَ ثُمَّ أنْكَرَ، ولِهَذا قالَ: ﴿فَهم لا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨]. " أيْ: لا يَرْجِعُونَ " إلى النُّورِ الَّذِي فارَقُوهُ. وَقالَ تَعالى في حَقِّ الكُفّارِ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهم لا يَرْجِعُونَ﴾ فَسَلَبَ العَقْلَ عَنِ الكُفّارِ إذْ لَمْ يَكُونُوا مِن أهْلِ البَصِيرَةِ والإيمانِ وسَلَبَ الرُّجُوعَ عَنِ المُنافِقِينَ لِأنَّهم آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَلَمْ يَرْجِعُوا إلى الإيمانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب