الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٧ ] ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا فَلَمّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهم في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾ ولَمّا جاءَ بِحَقِيقَةِ صِفَتِهِمْ، عَقَّبَها بِضَرْبِ المَثَلِ -زِيادَةً في الكَشْفِ، وتَتْمِيمًا لِلْبَيانِ- فَقالَ تَعالى "مَثَلُهُمْ" أيْ: مِثالُهم في نِفاقِهِمْ، وحالُهم فِيهِ "كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ" أيْ: أوْقَدَ "نارًا" في ظُلْمَةٍ - والتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ -: "فَلَمّا أضاءَتْ" أيْ: أنارَتِ النّارُ (p-٥٤)"ما حَوْلَهُ" فَأبْصَرَ، واسْتَدْفَأ، وأمِنَ مِمّا يَخافُهُ "ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ" أيْ: أطْفَأ اللَّهُ نارَهُمُ - الَّتِي هي مَدارُ نُورِهِمْ- فَبَقُوا في ظُلْمَةٍ وخَوْفٍ- وجَمْعُ الضَّمِيرِ مُراعاةً لِمَعْنى الَّذِي كَقَوْلِهِ ﴿وخُضْتُمْ كالَّذِي خاضُوا﴾ [التوبة: ٦٩] "وتَرَكَهم في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ" ما حَوْلَهم - مُتَحَيِّرِينَ عَنِ الطَّرِيقِ، خائِفِينَ - فَكَذَلِكَ هَؤُلاءِ اسْتَضاؤُوا قَلِيلًا بِالِانْتِفاعِ بِالكَلِمَةِ المُجْراةِ عَلى ألْسِنَتِهِمْ، حَيْثُ أمِنُوا عَلى أنْفُسِهِمْ وما يَتْبَعُها. ثُمَّ وراءَ اسْتِضاءَتِهِمْ بِنُورِ هَذِهِ الكَلِمَةِ –ظُلْمَةُ النِّفاقِ- الَّتِي تَرْمِي بِهِمْ إلى ظُلْمَةِ سُخْطِ اللَّهِ، وظُلْمَةِ العِقابِ السَّرْمَدِ، ومَحْصُولُهُ: أنَّهُمُ انْتَفَعُوا بِهَذِهِ الكَلِمَةِ مُدَّةَ حَياتِهِمُ القَلِيلَةِ، ثُمَّ قَطَعَهُ اللَّهُ تَعالى بِالمَوْتِ. ونُقِلَ - عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ - تَفْسِيرٌ آخَرُ، وهو: تَمْثِيلُ إيمانِهِمْ أوَّلًا، ثُمَّ كُفْرِهِمْ ثانِيًا. فَيَكُونُ إذْهابُ النُّورِ في الدُّنْيا، كَما قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ [المنافقون: ٣] الآيَةَ، فَلَمّا آمَنُوا أضاءَ الإيمانُ في قُلُوبِهِمْ -كَما أضاءَتِ النّارُ لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا نارًا - ثُمَّ لَمّا كَفَرُوا، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمُ: انْتَزَعَهُ - كَما ذَهَبَ بِضَوْءِ هَذِهِ النّارِ - وعَلى هَذا فالتَّمْثِيلُ مُرْتَبِطٌ بِما قَبْلَهُ. فَإنَّهم - لَمّا وُصِفُوا بِأنَّهُمُ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى - مَثَّلَ هُداهُمُ - الَّذِي باعُوهُ بِالنّارِ المُضِيئَةِ ما حَوْلَ المُسْتَوْقَدِ - والضَّلالَةَ - الَّتِي اشْتَرَوْها وطُبِعَ بِها عَلى قُلُوبِهِمْ - بِذَهابِ اللَّهِ بِنُورِهِمْ، وتَرْكِهِ إيّاهم في الظُّلُماتِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الكَشّافِ: ولِضَرْبِ العَرَبِ الأمْثالَ، واسْتِحْضارِ العُلَماءِ المُثُلَ (p-٥٥)والنَّظائِرَ شَأْنٌ لَيْسَ بِالخَفِيِّ في إبْرازِ خَبِيّاتِ المَعانِي، ورَفْعِ الأسْتارِ عَنِ الحَقائِقِ، حَتّى تُرِيَكَ المُتَخَيَّلَ في صُورَةِ المُحَقَّقِ، والمُتَوَهَّمَ في مَعْرِضِ المُتَيَقَّنِ، والغائِبَ كَأنَّهُ مُشاهَدٌ - وفِيهِ تَبْكِيتٌ لِلْخَصْمِ الألَدِّ، وقَمْعٌ لِسَوْرَةِ الجامِحِ الأبِيِّ. ولِأمْرٍ ما، أكْثَرَ اللَّهُ - في كِتابِهِ المُبِينِ، وفي سائِرِ كُتُبِهِ - أمْثالَهُ، وفَشَتْ في كَلامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وكَلامِ الأنْبِياءِ والحُكَماءِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وما يَعْقِلُها إلا العالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٣] و(المَثَلُ): في أصْلِ كَلامِهِمْ بِمَعْنى: المِثْلُ وهو النَّظِيرُ. يُقالُ: مِثْلٌ، ومَثَلٌ، ومَثِيلٌ - كَشِبْهٍ وشَبَهٍ وشَبِيهٍ - ثُمَّ قِيلَ لِلْقَوْلِ السّائِرِ المُمَثِّلِ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ: مَثَلٌ. ولَمْ يَضْرِبُوا مَثَلًا، ولا رَأوْهُ أهْلًا لِلتَّسْيِيرِ ولا جَدِيرًا بِالتَّداوُلِ والقَبُولِ، إلّا قَوْلًا فِيهِ غَرابَةٌ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ. ومِن ثَمَّ حُوفِظَ عَلَيْهِ، وحُمِيَ مِنَ التَّغْيِيرِ. فَإنَّهُ - لَوْ غُيِّرَ - لَرُبَّما انْتَفَتِ الدَّلالَةُ عَلى تِلْكَ الغَرابَةِ. وقِيلَ: إنَّ المُحافَظَةَ عَلى المَثَلِ إنَّما هي بِسَبَبِ كَوْنِهِ اسْتِعارَةً. فَوَجَبَ لِذَلِكَ أنْ يَكُونَ هو بِعَيْنِهِ لَفْظَ المُشَبَّهِ بِهِ. فَإنَّ وقَعَ تَغْيِيرٌ، لَمْ يَكُنْ مَثَلًا، بَلْ مَأْخُوذًا مِنهُ، وإشارَةً إلَيْهِ - كَما في قَوْلِكَ: بِالصَّيْفِ ضَيَّعْتَ اللَّبَنَ بِالتَّذْكِيرِ. (p-٥٦)وقالَ بَعْضُهم: قَدِ اسْتُعِيرَ المَثَلُ لِلْحالِ، أوِ القِصَّةِ، أوِ الصِّفَةِ - إذا كانَ لَها شَأْنٌ، وفِيها غَرابَةٌ - كَأنَّهُ قِيلَ: حالُهُمُ العَجِيبَةُ الشَّأْنِ كَحالِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ﴾ [الرعد: ٣٥] أيْ: - فِيما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنَ العَجائِبِ - قِصَّةَ الجَنَّةِ العَجِيبَةِ الشَّأْنَ، ثُمَّ أخَذَ في بَيانِ عَجائِبِها: ﴿ولِلَّهِ المَثَلُ الأعْلى﴾ [النحل: ٦٠] أيِ: الوَصْفُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ مِنَ العَظَمَةِ والجَلالَةِ ﴿مَثَلُهم في التَّوْراةِ﴾ [الفتح: ٢٩] أيْ: صِفَتُهم وشَأْنُهُمُ المُتَعَجَّبُ مِنهُ. ولِما في المَثَلِ مِن مَعْنى الغَرابَةِ قالُوا: فُلانٌ مُثْلَةٌ في الخَيْرِ والشَّرِّ، فاشْتَقُّوا مِنهُ صِفَةً لِلْعَجِيبِ الشَّأْنِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب