الباحث القرآني
﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ لَمّا جاءَ بِحَقِيقَةِ حالِهِمْ عَقَّبَها بِضَرْبِ المَثَلِ زِيادَةً في التَّوْضِيحِ والتَّقْرِيرِ، فَإنَّهُ أوْقَعُ في القَلْبِ وأقْمَعُ لِلْخَصْمِ الألَدِّ، لِأنَّهُ يُرِيكَ المُتَخَيَّلَ مُحَقَّقًا والمَعْقُولَ مَحْسُوسًا، ولِأمْرٍ ما أكْثَرَ اللَّهُ في كُتُبِهِ الأمْثالَ، وفَشَتْ في كَلامِ الأنْبِياءِ والحُكَماءِ. والمِثْلُ في الأصْلِ بِمَعْنى النَّظِيرِ يُقالُ: مَثَلٌ ومِثْلٌ ومَثِيلٌ كَشَبَهٍ وشِبْهٍ وشَبِيهٍ، ثُمَّ قِيلَ لِلْقَوْلِ السّائِرِ المُمَثَّلِ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ، ولا يُضْرَبُ إلّا ما فِيهِ غَرابَةٌ، ولِذَلِكَ حُوفِظَ عَلَيْهِ مِنَ التَّغْيِيرِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ حالٍ أوْ قِصَّةٍ أوْ صِفَةٍ لَها شَأْنٌ وفِيها غَرابَةٌ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ﴾ وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلِلَّهِ المَثَلُ الأعْلى﴾ .
والمَعْنى حالُهُمُ العَجِيبَةُ الشَّأْنِ كَحالِ مَنِ اسْتَوْقَدَ نارًا، والَّذِي: بِمَعْنى الَّذِينَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَخُضْتُمْ كالَّذِي خاضُوا﴾ إنْ جُعِلَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ في بِنُورِهِمْ، وإنَّما جازَ ذَلِكَ ولَمْ يَجُزْ وضْعُ القائِمِ مَوْضِعَ القائِمِينَ لِأنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالوَصْفِ، بَلِ الجُمْلَةُ الَّتِي هي صِلَتُهُ وهو وصْلَةٌ إلى وصْفِ المَعْرِفَةِ بِها لِأنَّهُ لَيْسَ بِاسْمٍ تامٍّ بَلْ هو كالجُزْءِ مِنهُ، فَحَقُّهُ أنَّهُ لا يُجْمَعُ كَما لا تُجْمَعُ أخَواتُها، ويَسْتَوِي فِيهِ الواحِدُ والجَمْعُ ولَيْسَ الَّذِينَ جَمْعَهُ المُصَحَّحَ، بَلْ ذُو زِيادَةٍ زِيدَتْ لِزِيادَةِ المَعْنى ولِذَلِكَ جاءَ بِالياءِ أبَدًا عَلى اللُّغَةِ الفَصِيحَةِ الَّتِي عَلَيْها التَّنْزِيلُ، ولِكَوْنِهِ مُسْتَطالًا بِصِلَتِهِ اسْتَحَقَّ التَّخْفِيفَ، ولِذَلِكَ بُولِغَ فِيهِ فَحُذِفَ ياؤُهُ ثُمَّ كَسَرْتَهُ ثُمَّ اقْتَصَرَ عَلى اللّامِ في أسْماءِ الفاعِلِينَ والمَفْعُولِينَ، أوْ قُصِدَ بِهِ جِنْسُ المُسْتَوْقِدِينَ، أوِ الفَوْجُ الَّذِي اسْتَوْقَدَ. والِاسْتِيقادُ: طَلَبُ الوَقُودِ والسَّعْيُ في تَحْصِيلِهِ، وهو سُطُوعُ النّارِ وارْتِفاعُ لَهَبِها. واشْتِقاقُ النّارِ مِن: نارَ يَنُورُ نَوْرًا إذا نَفَرَ لِأنَّ فِيها حَرَكَةً واضْطِرابًا.
﴿فَلَمّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ﴾ أيِ: النّارُ، ما حَوْلَ المُسْتَوْقِدِ إنْ جَعَلْتَها مُتَعَدِّيَةً، وإلّا أمْكَنَ أنْ تَكُونَ مُسْنَدَةً إلى ما، والتَّأْنِيثُ لِأنَّ ما حَوْلَهُ أشْياءُ وأماكِنُ أوْ إلى ضَمِيرِ النّارِ، وما: مَوْصُولَةٌ في مَعْنى الأمْكِنَةِ، نُصِبَ عَلى الظَّرْفِ، أوْ مَزِيدَةٌ، وحَوْلَهُ ظَرْفٌ وتَأْلِيفُ الحَوْلِ لِلدَّوَرانِ. وقِيلَ لِلْعامِ حَوْلٌ لِأنَّهُ يَدُورُ.
﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ جَوابُ لَمّا، والضَّمِيرُ لِلَّذِي، وجَمَعَهُ لِلْحَمْلِ عَلى المَعْنى، وعَلى هَذا إنَّما قالَ: ﴿بِنُورِهِمْ﴾ ولَمْ يَقُلْ: بِنارِهِمْ لِأنَّهُ المُرادُ مِن إيقادِها. أوِ اسْتِئْنافٌ أُجِيبَ بِهِ اعْتِراضُ سائِلٍ يَقُولُ: ما بالُهم شُبِّهَتْ حالُهم بِحالِ مُسْتَوْقِدٍ انْطَفَأتْ نارُهُ؟ أوْ بَدَلٌ مِن جُمْلَةِ التَّمْثِيلِ عَلى سَبِيلِ البَيانِ. والضَّمِيرُ عَلى الوَجْهَيْنِ لِلْمُنافِقِينَ، والجَوابُ مَحْذُوفٌ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ﴾ لِلْإيجازِ وأمْنِ الِالتِباسِ. وإسْنادُ الذَّهابِ (p-50)إلى اللَّهِ تَعالى إمّا لِأنَّ الكُلَّ بِفِعْلِهِ، أوْ لِأنَّ الإطْفاءَ حَصَلَ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ، أوْ أمْرٍ سَماوِيٍّ كَرِيحٍ أوْ مَطَرٍ، أوْ لِلْمُبالَغَةِ ولِذَلِكَ عَدّى الفِعْلَ بِالباءِ دُونَ الهَمْزَةِ لِما فِيها مِن مَعْنى الِاسْتِصْحابِ والِاسْتِمْساكِ، يُقالُ: ذَهَبَ السُّلْطانُ بِمالِهِ إذا أخَذَهُ، وما أخَذَهُ اللَّهُ وأمْسَكَهُ فَلا مُرْسِلَ لَهُ، ولِذَلِكَ عَدَلَ عَنِ الضَّوْءِ الَّذِي هو مُقْتَضى اللَّفْظِ إلى النُّورِ، فَإنَّهُ لَوْ قِيلَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِضَوْئِهِمُ احْتَمَلَ ذَهابَهُ بِما في الضَّوْءِ مِنَ الزِّيادَةِ وبَقاءِ ما يُسَمّى نُورًا، والغَرَضُ إزالَةُ النُّورِ عَنْهم رَأْسًا ألا تَرى كَيْفَ قَرَّرَ ذَلِكَ وأكَّدَهُ بِقَوْلِهِ ﴿وَتَرَكَهم في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾ فَذَكَرَ الظُّلْمَةَ الَّتِي هي عَدَمُ النُّورِ، وانْطِماسُهُ بِالكُلِّيَّةِ، وجَمَعَها ونَكَّرَها ووَصَفَها بِأنَّها ظُلْمَةٌ خالِصَةٌ لا يَتَراءى فِيها شَبَحانِ. وتَرَكَ في الأصْلِ بِمَعْنى طَرَحَ وخَلّى، ولَهُ مَفْعُولٌ واحِدٌ فَضَمِنَ مَعْنى صَيَرَ، فَجَرى مَجْرى أفْعالِ القُلُوبِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَتَرَكَهم في ظُلُماتٍ﴾ .
وَقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎ فَتَرَكْتُهُ جَزْرَ السِّباعِ يَنُشْنَهُ... يَقْضُمْنَ حُسْنَ بَنانِهِ والمِعْصَمِ
والظُّلْمَةُ مَأْخُوذَةٌ مِن قَوْلِهِمْ: ما ظَلَمَكَ أنْ تَفْعَلَ كَذا، أيْ ما مَنَعَكَ، لِأنَّها تَسُدُّ البَصَرَ وتَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ.
وَظُلُماتُهُمْ: ظُلْمَةُ الكُفْرِ، وظُلْمَةُ النِّفاقِ، وظُلْمَةُ يَوْمِ القِيامَةِ ﴿يَوْمَ تَرى المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهم بَيْنَ أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ﴾ . أوْ ظُلْمَةُ الضَّلالِ، وظُلْمَةُ سُخْطِ اللَّهِ، وظُلْمَةُ العِقابِ السَّرْمَدِيِّ، أوْ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ كَأنَّها ظُلْمَةٌ مُتَراكِمَةٌ، ومَفْعُولُ ﴿لا يُبْصِرُونَ﴾ مِن قَبِيلِ المَطْرُوحِ المَتْرُوكِ فَكَأنَّ الفِعْلَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ.
والآيَةُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمَن آتاهُ ضَرْبًا مِنَ الهُدى فَأضاعَهُ، ولَمْ يُتَوَصَّلْ بِهِ إلى نَعِيمِ الأبَدِ فَبَقِيَ مُتَحَيِّرًا مُتَحَسِّرًا، تَقْرِيرًا وتَوْضِيحًا لِما تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ الأُولى، ويَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهِ هَؤُلاءِ المُنافِقُونَ فَإنَّهم أضاعُوا ما نَطَقَتْ بِهِ ألْسِنَتُهم مِنَ الحَقِّ بِاسْتِبْطانِ الكُفْرِ، وإظْهارِهِ حِينَ خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ، ومَن آثَرَ الضَّلالَةَ عَلى الهُدى المَجْعُولِ لَهُ بِالفِطْرَةِ، أوِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ ما آمَنَ، ومَن صَحَّ لَهُ أحْوالُ الإرادَةِ فادَّعى أحْوالَ المَحَبَّةِ فَأذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ ما أشْرَقَ عَلَيْهِ مِن أنْوارِ الإرادَةِ، أوْ مَثَّلَ لِإيمانِهِمْ مِن حَيْثُ إنَّهُ يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِحَقْنِ الدِّماءِ، وسَلامَةِ الأمْوالِ والأوْلادِ، ومُشارَكَةِ المُسْلِمِينَ في المَغانِمِ. والأحْكامُ بِالنّارِ المُوقَدَةِ لِلِاسْتِضاءَةِ، ولِذَهابِ أثَرِهِ وانْطِماسِ نُورِهِ بِإهْلاكِهِمْ وإفْشاءِ حالِهِمْ بِإطْفاءِ اللَّهِ تَعالى إيّاها وإذْهابِ نُورِها.
{"ayah":"مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِی ٱسۡتَوۡقَدَ نَارࣰا فَلَمَّاۤ أَضَاۤءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِی ظُلُمَـٰتࣲ لَّا یُبۡصِرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق