الباحث القرآني

﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ لَمّا جاءَ بِحَقِيقَةِ صِفَتِهِمْ عَقَّبَها بِضَرْبِ المَثَلِ زِيادَةً في الكَشْفِ، وتَتْمِيمًا لِلْبَيانِ. ولِضَرْبِ الأمْثالِ في إبْرازِ خَفِيّاتِ المَعانِي ورَفْعِ الأسْتارِ عَنِ الحَقائِقِ تَأْثِيرٌ ظاهِرٌ. ولَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ في الكُتُبِ السَماوِيَّةِ. ومِن سُوَرِ الإنْجِيلِ سُورَةُ الأمْثالِ. والمَثَلُ في أصْلِ كَلامِهِمْ: هو المَثَلُ، وهو النَظِيرُ. يُقالُ: مَثَلٌ ومِثْلٌ ومَثِيلٌ كَشَبَهٍ وشِبْهٍ وشَبِيهٍ. ثُمَّ قِيلَ لِلْقَوْلِ السائِرِ المَثَلِ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ: مَثَلٌ. ولَمْ يَضْرِبُوا مَثَلًا إلّا قَوْلًا فِيهِ غَرابَةٌ، ولِذا حُوفِظَ عَلَيْهِ فَلا يُغَيَّرُ. وقَدِ اسْتُعِيرَ المَثَلُ لِلْحالِ، أوِ الصِفَةِ، أوِ القِصَّةِ إذا كانَ لَها شَأْنٌ، وفِيها غَرابَةٌ. كَأنَّهُ قِيلَ: حالُهُمُ العَجِيبَةُ الشَأْنِ كَحالِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ﴾ [الرَعْدُ: ٣٥] أيْ: وفِيما قَصَصْنا (p-٥٥)عَلَيْكَ مِنَ العَجائِبِ قِصَّةُ الجَنَّةِ العَجِيبَةِ الشَأْنِ، ثُمَّ أخَذَ في بَيانِ عَجائِبِها ﴿وَلِلَّهِ المَثَلُ الأعْلى﴾ [النَحْلُ: ٦٠] أيِ: الوَصْفُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ مِنَ العَظَمَةِ والجَلالَةِ. ووَضَعَ الَّذِي مَوْضِعَ الَّذِينَ كَقَوْلِهِ: ﴿وَخُضْتُمْ كالَّذِي خاضُوا﴾ [التَوْبَةُ: ٦٩] فَلا يَكُونُ تَمْثِيلُ الجَماعَةِ بِالواحِدِ، أوْ قَصْدُ جِنْسِ المُسْتَوْقَدِينَ، أوْ أُرِيدَ الفَوْجُ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا، عَلى أنَّ ذَواتِ المُنافِقِينَ لَمْ يُشَبَّهُوا بِذاتِ المُسْتَوْقِدِ حَتّى يَلْزَمَ مِنهُ تَشْبِيهُ الجَماعَةِ بِالواحِدِ، إنَّما شُبِّهَتْ قِصَّتُهم بِقِصَّةِ المُسْتَوْقِدِ. ومَعْنى اسْتَوْقَدَ: أوْقَدَ. ووُقُودُ النارِ: سُطُوعُها. والنارُ: جَوْهَرُ لَطِيفٌ مُضِيءٌ حارٌّ مُحْرِقٌ. واشْتِقاقُها مِن: نارَ يَنُورُ، إذا نَفَرَ، لِأنَّ فِيها حَرَكَةً واضْطِرابًا ﴿فَلَمّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ﴾ الإضاءَةُ: فَرْطُ الإنارَةِ، ومِصْداقُهُ قَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَمْسَ ضِياءً والقَمَرَ نُورًا﴾ [يُونُسُ: ٥] وهي في الآيَةِ مُتَعَدِّيَةٌ. [وَيُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ غَيْرَ مُتَعَدِّيَةٍ] مُسْنَدَةً إلى ﴿ما حَوْلَهُ﴾ والتَأْنِيثُ لِلْحَمْلِ عَلى المَعْنى، لِأنَّ ما حَوْلَ المُسْتَوْقَدِ أماكِنُ وأشْياءُ. وجَوابُ "فَلَمّا" ﴿ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ﴾ وهو ظَرْفُ زَمانٍ، والعامِلُ فِيهِ جَوابُهُ مِثْلُ إذا، وما مَوْصُولَةٌ، وحَوْلَهُ نَصْبٌ عَلى الظَرْفِ، أوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، والتَقْدِيرُ: فَلَمّا أضاءَتْ شَيْئًا ثابِتًا حَوْلَهُ. وجَمْعُ الضَمِيرِ وتَوْحِيدُهُ لِلْحَمْلِ عَلى اللَفْظِ تارَةً، وعَلى المَعْنى أُخْرى. والنُورُ: ضَوْءُ النارِ، وُضُوءُ كُلِّ نَيِّرٍ. ومَعْنى أذْهَبَهُ: أزالَهُ وجَعَلَهُ ذاهِبًا، ومَعْنى ذَهَبَ بِهِ: اسْتَصْحَبَهُ، ومَضى بِهِ. والمَعْنى: أخَذَ اللهُ بِنُورِهِمْ، وأمْسَكَهُ ﴿وَما يُمْسِكْ﴾ اللهُ ﴿فَلا مُرْسِلَ لَهُ﴾ [فاطِرُ: ٢] فَكانَ أبْلَغَ مِنَ الإذْهابِ، ولَمْ يَقُلْ: ذَهَبَ اللهُ بِضَوْئِهِمْ، لِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا أضاءَتْ﴾ لِأنَّ ذِكْرَ النُورِ أبْلَغُ، لِأنَّ الضَوْءَ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى الزِيادَةِ، والمُرادُ: إزالَةُ النُورِ عَنْهم رَأْسًا، ولَوْ قِيلَ: ذَهَبَ اللهُ بِضَوْئِهِمْ، لِأوْهَمَ الذَهابَ بِالزِيادَةِ، وبَقاءَ ما يُسَمّى نُورًا. ألا تَرى كَيْفَ ذَكَرَ عَقِيبَهُ ﴿وَتَرَكَهم في ظُلُماتٍ﴾ والظُلْمَةُ: عَرَضَ يُنافِي النُورَ، وكَيْفَ جَمَعَها، وكَيْفَ نَكَّرَها، وكَيْفَ أتْبَعَها ما يَدُلُّ عَلى أنَّها ظُلْمَةٌ لا يَتَراءى فِيها شَبَحانِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿لا يُبْصِرُونَ﴾ وتَرَكَ بِمَعْنى: طَرَحَ (p-٥٦)وَخَلّى إذا عُلِّقَ بِواحِدٍ، فَإذا عُلِّقَ بِشَيْئَيْنِ كانَ مُضَمَّنًا مَعْنى صَيَّرَ، فَيَجْرِي مَجْرى أفْعالِ القُلُوبِ، ومِنهُ ﴿وَتَرَكَهم في ظُلُماتٍ﴾ أصْلُهُ: هم في ظُلُماتٍ، ثُمَّ دَخَلَ تَرَكَ فَنَصَبَ الجُزْأيْنِ، والمَفْعُولُ الساقِطُ مِن ﴿لا يُبْصِرُونَ﴾ مِن قَبِيلِ المَتْرُوكِ المَطْرُوحِ، لا مِن قَبِيلِ المُقَدَّرِ المَنَوِيِّ، كَأنَّ الفِعْلَ غَيْرُ مُتَّعَدٍ أصْلًا، وإنَّما شُبِّهَتْ حالُهم بِحالِ المُسْتَوْقِدِ، لِأنَّهم غِبُّ الإضاءَةِ وقَعُوا في ظُلْمَةٍ وحَيْرَةٍ. نَعَمْ. المُنافِقُ خابِطٌ في ظُلُماتِ الكُفْرِ أبَدًا، ولَكِنَّ المُرادَ ما اسْتَضاءُوا بِهِ قَلِيلًا مِنَ الِانْتِفاعِ بِالكَلِمَةِ المُجْراةِ عَلى ألْسِنَتِهِمْ، ووَراءَ اسْتِضاءَتِهِمْ بِنُورِ هَذِهِ الكَلِمَةِ ظُلْمَةُ النِفاقِ المُفْضِيَةُ بِهِمْ إلى ظُلْمَةِ العِقابِ السَرْمَدِ. ولِلْآيَةِ تَفْسِيرٌ آخَرُ وهُوَ: أنَّهم لَمّا وُصِفُوا بِأنَّهُمُ اشْتَرَوُا الضَلالَةَ بِالهُدى عَقَّبَ ذَلِكَ بِهَذا التَمْثِيلِ لِيُمَثِّلَ هُداهُمُ الَّذِي باعُوهُ بِالنارِ المُضِيئَةِ ما حَوْلَ المُسْتَوْقِدِ، والضَلالَةِ الَّتِي اشْتَرَوْها بِذَهابِ اللهِ بِنُورِهِمْ، وتَرْكِهِ إيّاهم في الظُلُماتِ، وتَنْكِيرُ النارِ لِلتَّعْظِيمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب