الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ﴾ أَيِ الْمُمْتَنِعُ. (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) هَذِهِ الْمَرَّةُ الثَّالِثَةُ مِنْ عَوْدِهِمْ إِلَى مِصْرَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَخَرَجُوا إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ قَالُوا: "مَسَّنا" أَيْ أَصَابَنَا "وَأَهْلَنَا الضُّرُّ" أَيِ الْجُوعُ وَالْحَاجَةُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الشَّكْوَى عِنْدَ الضُّرِّ، أَيِ الْجُوعُ، بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الضُّرَّ مِنَ الْفَقْرِ وَغَيْرِهِ أَنْ يُبْدِيَ حَالَتَهُ إِلَى مَنْ يَرْجُو مِنْهُ النَّفْعَ، كَمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَشْكُوَ مَا بِهِ مِنَ الْأَلَمِ إِلَى الطَّبِيبِ لِيُعَالِجَهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَدَحًا فِي التَّوَكُّلِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنِ التَّشَكِّي عَلَى سَبِيلِ التَّسَخُّطِ، وَالصَّبْرِ وَالتَّجَلُّدِ فِي النَّوَائِبِ أَحْسَنُ، وَالتَّعَفُّفُ عَنِ المسألة أفضل، وأحسن الكلام فِي الشَّكْوَى سُؤَالُ الْمَوْلَى زَوَالَ الْبَلْوَى، وَذَلِكَ قول يعقوب:﴿نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: ٨٦] أَيْ مِنْ جَمِيلِ صُنْعِهِ، وَغَرِيبِ لُطْفِهِ، وَعَائِدَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَأَمَّا الشَّكْوَى عَلَى غَيْرِ مُشْكٍ فَهُوَ السَّفَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْبَثِّ وَالتَّسَلِّي، كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا دَهْرُ أَنِّي ضَارِعٌ ... لِنَكْبَةٍ تَعْرِقُنِي عرق المدى مارست من لَوْ [[من ع.]] هَوَتِ الْأَفْلَاكُ مِنْ ... جَوَانِبِ الْجَوِّ عَلَيْهِ مَا شَكَا لَكِنَّهَا نَفْثَةُ مَصْدُورٍ إِذَا ... جَاشَ لُغَامٌ [[الزبد، وهو ما يلقيه البعير من فمه، وغما: سقط، يقال: غما البعير إذا رماه ينفض رأسه ومشفره.]] مِنْ نَوَاحِيهَا غَمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ﴾ الْبِضَاعَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الْمَالِ يُقْصَدُ بِهَا شراء شي، تَقُولُ: أَبْضَعْتُ الشَّيْءَ وَاسْتَبْضَعْتُهُ أَيْ جَعَلْتُهُ بِضَاعَةً، وَفِي الْمَثَلِ: كَمُسْتَبْضِعِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ [[هجر: مدينة بالبحرين.]]. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مُزْجاةٍ﴾ صِفَةٌ لِبِضَاعَةٍ، وَالْإِزْجَاءُ السَّوْقُ بِدَفْعٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً﴾[[راجع ج ١٢ ص ٢٨٧.]] [النور: ٤٣] وَالْمَعْنَى أَنَّهَا بِضَاعَةٌ تُدْفَعُ، وَلَا يَقْبَلُهَا كُلُّ أَحَدٍ. قَالَ ثَعْلَبٌ: الْبِضَاعَةُ الْمُزْجَاةُ النَّاقِصَةُ غَيْرُ التامة. واختلفت فِي تَعْيِينِهَا هُنَا [[من ع وى.]]، فَقِيلَ: كَانَتْ قَدِيدًا وَحَيْسًا [[كذا في الأصول وفى البحر: قديد وحش.]]، ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقِيلَ: خَلَقُ الْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَتَاعُ الْأَعْرَابِ صوف وسمن، قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ. وَقِيلَ: الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ والصنوبر وهو البطم، حب شجرة بِالشَّامِ، يُؤْكَلُ وَيُعْصَرُ الزَّيْتُ مِنْهُ لِعَمَلِ الصَّابُونِ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ، فَبَاعُوهَا بِدَرَاهِمَ لَا تَنْفُقُ فِي الطَّعَامِ، وَتَنْفُقُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالُوا: خذها منا بحساب جياد تنفق في الطَّعَامِ. وَقِيلَ: دَرَاهِمُ رَدِيئَةٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقِيلَ: لَيْسَ عَلَيْهَا صُورَةُ يُوسُفَ، وَكَانَتْ دَرَاهِمُ مِصْرَ عَلَيْهِمْ صُورَةُ يُوسُفَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النِّعَالُ وَالْأُدْمُ، وَعَنْهُ: كَانَتْ سَوِيقًا مُنَخَّلًا. وَاللَّهُ أعلم. قوله تعالى: (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ﴾ يُرِيدُونَ كَمَا تَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ لا تنقصنا بمكان دراهمنا، هذا قول أكثرا الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ. "فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ" يُرِيدُونَ الْكَيْلَ الَّذِي كَانَ قَدْ كَالَهُ لِأَخِيهِمْ. "وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا" أَيْ تَفَضَّلْ عَلَيْنَا بِمَا بَيْنَ سِعْرِ الْجِيَادِ وَالرَّدِيئَةِ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ: لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَحْرُمُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: "تَصَدَّقْ عَلَيْنا" بِالزِّيَادَةِ عَلَى حَقِّنَا، قَالَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَلَمْ تَحْرُمِ الصَّدَقَةُ إِلَّا عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمَعْنَى "تَصَدَّقْ عَلَيْنا" بِرَدِ أَخِينَا إِلَيْنَا. وَقَالَ ابْنُ شجرة: "تَصَدَّقْ عَلَيْنا" تجوز عنا، واستشهد بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: تَصَدَّقْ عَلَيْنَا يَا اِبْن عَفَّان [[في ى: يا ابن حسان.]] وَاحْتَسِبْ ... وَأْمُرْ عَلَيْنَا الْأَشْعَرِيّ لَيَالِيَا (إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ، يُقَالُ: هَذَا مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ أنه على دينهم، لذلك لَمْ يَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِيكَ بِصَدَقَتِكَ، فَقَالُوا لَفْظًا يُوهِمُهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوهُ، وَهُمْ يَصِحُّ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ بِالتَّأْوِيلِ، قَالَهُ النَّقَّاشُ وَفِي الْحَدِيثِ:" إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ [[المعاريض: جمع معراض، من التعريض وهو خلاف التصريح من القول.]] لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ". الثَّانِيَةُ- اسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ الْكَيَّالِ عَلَى الْبَائِعِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ نَافِعٍ قَالَ مَالِكٌ: قَالُوا لِيُوسُفَ "فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ" فَكَانَ يُوسُفُ هُوَ الَّذِي يَكِيلُ، وَكَذَلِكَ الْوَزَّانُ وَالْعَدَّادُ وَغَيْرُهُمْ، لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا بَاعَ عِدَّةً مَعْلُومَةً مِنْ طَعَامِهِ، وَأَوْجَبَ الْعَقْدَ عَلَيْهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبْرِزَهَا وَيُمَيِّزَ حَقَّ الْمُشْتَرِي مِنْ حَقِّهِ، إِلَّا أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ مُعَيَّنًا- صُبْرَةً [[الصبرة: الطعام المجتمع كالكومة.]] أَوْ مَا لَا حَقَّ تَوْفِيَةٍ فِيهِ- فَخَلَّى [مَا [[من ع.]]] بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَمَا جَرَى عَلَى الْمَبِيعِ فَهُوَ عَلَى الْمُبْتَاعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ إِلَّا بَعْدَ التَّوْفِيَةِ، وَإِنْ تَلِفَ فَهُوَ مِنْهُ قبل التوفية. الثَّالِثَةُ- وَأَمَّا أُجْرَةُ النَّقْدِ فَعَلَى الْبَائِعِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمُبْتَاعَ الدَّافِعَ لِدَرَاهِمِهِ يَقُولُ: إِنَّهَا طَيِّبَةٌ، فَأَنْتَ الَّذِي تَدَّعِي الرَّدَاءَةَ فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّفْعَ يَقَعُ لَهُ فَصَارَ الْأَجْرُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الَّذِي [يَجِبُ] [[من ع وووى.]] عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَ نَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ طَائِعًا، أَلَا تَرَى أَنَّ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ يَدَهُ، وَيُصَالِحَ عَلَيْهِ إِذَا طَلَبَ الْمُقْتَصُّ ذَلِكَ مِنْهُ، فَأَجْرُ الْقَطَّاعِ عَلَى الْمُقْتَصِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: إِنَّهَا عَلَى الْمُقْتَصِّ مِنْهُ كَالْبَائِعِ. الرَّابِعَةُ- يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ تَصَدَّقْ عَلَيَّ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّنْ يَبْتَغِي الثَّوَابَ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُتَفَضِّلٌ بِالثَّوَابِ بِجَمِيعِ النِّعَمِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَسَمِعَ الْحَسَنُ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ تَصَدَّقْ عَلَيَّ، فَقَالَ الْحَسَنُ: يَا هَذَا! إِنَّ اللَّهَ لَا يَتَصَدَّقُ إِنَّمَا يَتَصَدَّقُ مَنْ يَبْتَغِي الثَّوَابَ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: "إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ" قل: اللهم أعطني وتفضل علي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب