الباحث القرآني

﴿فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ﴾ أيْ عَلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ ما رَجَعُوا إلى مِصْرَ بِمُوجِبِ أمْرِ أبِيهِمْ وإنَّما لَمْ يُذْكَرْ إيذانًا بِمُسارَعَتِهِمْ إلى ما أُمِرُوا بِهِ وإشْعارًا بِأنَّ ذَلِكَ أمْرٌ مُحَقَّقٌ لا يَفْتَقِرُ إلى الذِّكْرِ والبَيانِ وأنْكَرَ اليَهُودُ رُجُوعَهم بَعْدَ أخْذِ بِنْيامِينَ إلى أبِيهِمْ ثُمَّ عَوْدَهم إلى مِصْرَ وزَعَمُوا أنَّهم لَمّا جاءُوا أوَّلًا لِلْمِيرَةِ اتَّهَمَهم بِأنَّهم جَواسِيسُ فاعْتَذَرُوا وذَكَرُوا أنَّهم أوْلادُ نَبِيِّ اللَّهِ تَعالى يَعْقُوبَ وأنَّهم كانُوا اثْنَيْ عَشَرَ ولَدًا هَلَكَ واحِدٌ مِنهم وتَخَلَّفَ أخُوهُ عِنْدَ أبِيهِمْ يَتَسَلّى بِهِ عَنِ الهالِكِ حَيْثُ أنَّهُ كانَ يُحِبُّهُ كَثِيرًا فَقالَ: ائْتُونِي بِهِ لِأتَحَقَّقَ صِدْقَكم وحُبِسَ شَمْعُونُ عِنْدَهُ حَتّى يَجِيئُوا فَلَمّا أتَوْا بِهِ ووَقَعَ ما وقَعَ مِن أمْرِ السَّرِقَةِ أظْهَرُوا الخُضُوعَ والِانْكِسارَ فَلَمْ يَمْلِكْ عَلَيْهِ السَّلامُ نَفْسَهُ حَتّى تَعَرَّفَ إلَيْهِمْ ثُمَّ أمَرَهم بِالعَوْدِ إلى أبِيهِمْ لِيُخْبِرُوهُ الخَبَرَ ويَأْتُوا بِهِ وهو الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ تَوْراتُهُمُ اليَوْمَ وما بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلالُ ﴿قالُوا يا أيُّها العَزِيزُ﴾ خاطَبُوهُ بِذَلِكَ تَعْظِيمًا لَهُ عَلى حَدِّ خِطابِهِمُ السّابِقِ بِهِ عَلى ما هو ظاهِرٌ وهَلْ كانُوا يَعْرِفُونَ اسْمَهُ أمْ لا لَمْ أرَ مَن تَعَرَّضَ (p-46)لِذَلِكَ فَإنْ كانُوا يَعْرِفُونَهُ ازْدادَ أمْرُ جَهالَتِهِمْ غَرابَةً والمُرادُ عَلى ما قالَ الإمامُ وغَيْرُهُ يا أيُّها المَلِكُ القادِرُ المَنِيعُ ﴿مَسَّنا وأهْلَنا الضُّرُّ﴾ الهُزالُ مِن شِدَّةِ الجُوعِ والمُرادُ بِالأهْلِ ما يَشْمَلُ الزَّوْجَةَ وغَيْرَها ﴿وجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ﴾ مَدْفُوعَةٍ يَدْفَعُها كُلُّ تاجِرٍ رَغْبَةً عَنْها واحْتِقارًا مِن أزْجَيْتُهُ إذا دَفَعْتُهُ وطَرَدْتُهُ والرِّيحُ تُزْجِي السَّحابَ وأنْشَدُوا لِحاتِمٍ: ؎لِيَبْكِ عَلى مُلْحانَ ضَيْفٌ مُدْفَعٌ وأرْمَلَةٌ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أرْمَلا وكُنِّيَ بِها عَنِ القَلِيلِ أوِ الرَّدِيءِ لِأنَّهُ لِعَدَمِ الِاعْتِناءِ يُرْمى ويُطْرَحُ قِيلَ: كانَتْ بِضاعَتُهم مِن مَتاعِ الأعْرابِ صُوفًا وسَمْنًا وقِيلَ: الصَّنَوْبَرُ وحَبَّةُ الخَضْراءِ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أبِي صالِحٍ وزَيْدِ بْنِ أسْلَمَ وقِيلَ: سَوِيقُ المَقْلِ والأقْطُ وقِيلَ: قَدِيدٌ وحَشٌّ وقِيلَ: حِبالًا وأعْدالًا وأحْقابًا وقِيلَ: كانَتْ دَراهِمَ زُيُوفًا لا تُؤْخَذُ إلّا بِوَضِيعَةٍ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما والمَرْوِيُّ عَنِ الحَسَنِ تَفْسِيرُها بِقَلِيلَةٍ لا غَيْرَ وعَلى كُلٍّ فَمُزْجاةٌ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لِلْبِضاعَةِ وقالَ الزَّجّاجُ: هي مِن قَوْلِهِمْ: فُلانٌ يُزْجِي العَيْشَ أيْ يَدْفَعُ الزَّمانَ بِالقَلِيلِ والمَعْنى إنّا جِئْنا بِبِضاعَةٍ يُدْفَعُ بِها الزَّمانُ ولَيْسَتْ مِمّا يُنْتَفَعُ بِهِ والتَّقْدِيرُ عَلى هَذا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ بِها الأيّامُ أيْ تُدْفَعُ بِها ويُصَبَّرُ عَلَيْها حَتّى تَنْقَضِيَ كَما قِيلَ: ؎دَرِّجِ الأيّامَ تَنْدَرِجْ ∗∗∗ وبُيُوتُ الهَمِّ لا تُلَجْ وما ذُكِرَ أوَّلًا هو الأوْلى وعَنِ الكَلْبِيِّ أنَّ مُزْجاةً مِن لُغَةِ العَجَمِ وقِيلَ: مِن لُغَةِ القِبْطِ وتَعَقَّبَ ذَلِكَ ابْنُ الأنْبارِيِّ بِأنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يُجْعَلَ لَفْظٌ مَعْرُوفُ الِاشْتِقاقِ والتَّصْرِيفِ مَنسُوبًا إلى غَيْرِ لُغَةِ العَرَبِ فالنِّسْبَةُ إلى ذَلِكَ مُزْجاةٌ. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ( مُزْجِيةٍ ) بِالإمالَةِ لِأنَّ أصْلَها الياءُ والظّاهِرُ أنَّهم إنَّما قَدَّمُوا هَذا الكَلامَ لِيَكُونَ ذَرِيعَةً إلى إسْعافِ مَرامِهِمْ بِبَعْثِ الشَّفَقَةِ وهَزِّ العَطْفِ والرَّأْفَةِ وتَحْرِيكِ سِلْسِلَةِ الرَّحْمَةِ ثُمَّ قالُوا: ﴿فَأوْفِ لَنا الكَيْلَ﴾ أيْ أتْمِمْهُ لَنا ولا تَنْقُصْهُ لِقِلَّةِ بِضاعَتِنا أوْ رَداءَتِها واسْتُدِلَّ بِهَذا عَلى أنَّ الكَيْلَ عَلى البائِعِ ولا دَلِيلَ فِيهِ﴿وتَصَدَّقْ عَلَيْنا﴾ ظاهِرُهُ بِالإيفاءِ أوْ بِالمُسامَحَةِ وقَبُولِ المُزْجاةِ أوْ بِالزِّيادَةِ عَلى ما يُساوِيها. وقالَ الضَّحّاكُ وابْنُ جُرَيْجٍ إنَّهم أرادُوا تَصَدَّقْ عَلَيْنا بَرَدِّ أخِينا بِنْيامِينَ عَلى أبِيهِ قِيلَ: وهو الأنْسَبُ بِحالِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلى أمْرِ أبِيهِمْ وكَأنَّهم أرادُوا تَفَضَّلْ عَلَيْنا بِذَلِكَ لِأنَّ رَدَّ الأخِ لَيْسَ بِصَدَقَةٍ حَقِيقَةً وقَدْ جاءَتِ الصَّدَقَةُ بِمَعْنى التَّفَضُّلِ كَما قِيلَ: ومِنهُ تَصَدَّقَ اللَّهُ تَعالى عَلى فُلانٍ بِكَذا وأمّا قَوْلُ الحَسَنِ لِمَن سَمِعَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ تَصَدَّقْ عَلَيَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَتَصَدَّقُ إنَّما يَتَصَدَّقُ مَن يَبْغِي الثَّوابَ قُلِ: اللَّهُمَّ أعْطِنِي أوْ تَفَضَّلْ عَلَيَّ أوِ ارْحَمْنِي فَقَدْ رُدَّ بِقَوْلِهِ ﷺ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ تَعالى بِها عَلَيْكم فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» وأُجِيبَ عَنْهُ مَجازًا ومُشاكَلَةً وإنَّما رَدَّ الحَسَنُ عَلى القائِلِ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَلِيغًا كَما في قِصَّةِ المُتَوَفّى وادَّعى بَعْضُهم تَعَيُّنَ الحَمْلِ عَلى المَجازِ أيْضًا إذا كانَ المُرادُ طَلَبَ الزِّيادَةِ عَلى ما يُعْطى بِالثَّمَنِ بِناءً عَلى أنَّ حُرْمَةَ أخْذِ الصَّدَقَةِ لَيْسَتْ خاصَّةً بِنَبِيِّنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بَلْ هي عامَّةٌ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ولِمَن قَبْلَهُ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وآلِهِمْ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ البَعْضُ والسّائِلُونَ مِن إحْدى الطّائِفَتَيْنِ لا مَحالَةَ وتُعُقِّبَ بِأنّا لَوْ سَلَّمْنا العُمُومَ لا نُسَلِّمُ أنَّ المُحَرَّمَ (p-47)أخْذُ الصَّدَقَةِ مُطْلَقًا بَلِ المُحَرَّمُ إنَّما هو أخْذُ الصَّدَقَةِ المَفْرُوضَةِ وما هُنا لَيْسَ مِنها والظّاهِرُ كَما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّهم تَمَسْكَنُوا لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِمْ: ﴿مَسَّنا﴾ .. إلَخْ وطَلَبُوا إلَيْهِ أنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ: ( تَصَدَّقْ عَلَيْنا ) فَلَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلى الظّاهِرِ لَما طابَقَهُ ذَلِكَ التَّمْهِيدُ ولا هَذا التَّوْطِيدُ أعْنِي ﴿إنَّ اللَّهَ يَجْزِي المُتَصَدِّقِينَ﴾ . (88) . بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى وجَزائِهِ الحامِلِينَ عَلى ذَلِكَ وإنَّ فاعِلَهُ مِنهُ تَعالى بِمَكانٍ. قالَ النَّقّاشُ: وفي العُدُولِ عَنْ إنَّ اللَّهَ تَعالى يَجْزِيكَ بِصَدَقَتِكَ إلى ما في النَّظْمِ الكَرِيمِ مَندُوحَةٌ عَنِ الكَذِبِ فَهو مِنَ المَعارِيضِ فَإنَّهم كانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مَلِكًا كافِرًا ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الضَّحّاكِ ووَجْهُ عَدَمِ بَدْئِهِمْ بِما أُمِرُوا بِهِ عَلى القَوْلِ بِخِلافِ الظّاهِرِ في مُتَعَلِّقِ التَّصَدُّقِ بِأنَّ فِيما سَلَكُوهُ اسْتِجْلابًا لِلشَّفَقَةِ والرَّحْمَةِ فَكَأنَّهم أرادُوا أنْ يَمْلَؤُوا حِياضَ قَلْبِهِ مِن نَمِيرِها لِيَسْقُوا بِهِ أشْجارَ تَحَسُّسِهِمْ لِتُثْمِرَ لَهم غَرَضَ أبِيهِمْ ووَجَّهَهُ بَعْضُهم بِمِثْلِ هَذا ثُمَّ قالَ: عَلى أنَّ قَوْلَهم ﴿وتَصَدَّقْ﴾ .. إلَخْ كَلامٌ ذُو وجْهَيْنِ فَإنَّهُ يَحْتَمِلُ الحَمْلَ عَلى المَحْمَلَيْنِ فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ حَمَلَهُ عَلى طَلَبِ الرَّدِّ ولِذَلِكَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب