الباحث القرآني
ولَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - ما مَنَحَهم بِهِ مِنَ التَّمْكِينِ، ذَكَّرَهم ما كانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ هَذِهِ المُكْنَةِ مِنَ العَدَمِ تَذْكِيرًا بِالنِّعَمِ في سِياقٍ دالٍّ عَلى البَعْثِ الَّذِي فَرَغَ مِن تَقْرِيرِهِ، وعَلى ما خَصَّ بِهِ أباهم آدَمَ [- عَلَيْهِ السَّلامُ - ] مِنَ التَّمْكِينِ في الجَنَّةِ بِالخَلْقِ والتَّصْوِيرِ وإفاضَةِ رُوحِ الحَياةِ ورُوحِ العِلْمِ وأمْرِ أهْلِ سَماواتِهِ بِالسُّجُودِ لَهُ والغَضَبِ عَلى مَن عاداهُ وطَرَدَهُ عَنْ مَحَلِّ كَرامَتِهِ ومَعْدِنِ سَعادَتِهِ وإسْكانِهِ هو بِذَلِكَ المَحَلِّ الأعْلى والمَوْطِنِ الأسْنى مَأْذُونًا لَهُ في كُلِّ ما فِيهِ إلّا شَجَرَةً واحِدَةً، فَلَمّا خالَفَ الأمْرَ أزالَهُ عَنْهُ وأخْرَجَهُ مِنهُ. وفي ذَلِكَ تَحْذِيرٌ لِأهْلِ المُكْنَةِ مِن إزالَةِ المِنَّةِ في اسْتِدْرارِ النِّعْمَةِ وإحْلالِ النِّقْمَةِ، فَقالَ: ﴿ولَقَدْ خَلَقْناكُمْ﴾ أيْ: بِما لَنا مِن صِفاتِ العَظَمَةِ ﴿ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ﴾ أيْ: قَدَّرْنا خَلْقَكم ثُمَّ تَصْوِيرَكم بِأنْ جَعَلْنا فِيكم قابِلِيَّةً قَرِيبَةً مِن ذَلِكَ بِتَخْصِيصِ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ المادَّةِ بِمِقْدارِهِ المُعَيَّنِ بِتَخْمِيرِ طِينَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى حالَةٍ تَقْبَلُ ذَلِكَ كَما يُهَيَّأُ التُّرابُ بِتَخْمِيرِهِ بِإنْزالِ المَطَرِ لِأنْ يَكُونَ مِنهُ شَجَرَةٌ، وقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الشَّجَرَةُ مُهَيَّأةً لِقَبُولِ صُورَةِ الثَّمَرَةِ وقَدْ لا تَكُونُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] ﴿ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٣] ﴿ثُمَّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ (p-٣٦٣)عَلَقَةً فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنا العِظامَ لَحْمًا ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤]
وقالَ النَّبِيُّ ﷺ كَما في الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «(إنَّ أحَدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ المَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ)» وعَنْهُ أيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ مُسْلِمٍ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «(إذا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ اثْنَتانِ وأرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إلَيْها مَلَكًا فَصَوَّرَها وخَلَقَ سَمْعَها وبَصَرَها وجِلْدَها ولَحْمَها وعِظامَها، ثُمَّ قالَ: يا رَبِّ! أذَكَرٌ أمْ أُنْثى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ ما شاءَ ويَكْتُبُ المَلَكُ...» ) الحَدِيثُ. فَظاهِرُ هَذا الحَدِيثِ مُخالِفٌ لِلَّفْظِ الَّذِي قَبْلَهُ ولِلْآيَةِ، فَيُحْمَلُ عَلى أنَّ مَعْنى صَوَّرَها: هَيَّأها في مُدَّةِ الأرْبَعِينَ الثّانِيَةِ لِقَبُولِ الصُّورَةِ تَهْيِئَةً قَرِيبَةً مِنَ الفِعْلِ، وسَهَّلَ أوَّلَها بِالتَّخْمِيرِ عَلى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ بِخِلافِ ما قَبْلَ ذَلِكَ، فَإنَّها كانَتْ نُطْفَةً فَكانَتْ بَعِيدَةً عَنْ قَبُولِ الصُّورَةِ؛ ولِذَلِكَ اخْتَلَفُوا في احْتِرامِها وهَلْ يُباحُ إفْسادُها والتَّسَبُّبُ في إخْراجِها، ومَعْنى (خَلَقَ): قَدَّرَ أيْ: جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ حَدًّا لا يَتَجاوَزُهُ في الجُمْلَةِ، والدَّلِيلُ عَلى هَذا المَجازِ شَكُّهُ في كَوْنِها ذَكَرًا أوْ أُنْثى، ولَوْ كانَ ذَلِكَ عَلى ظاهِرِهِ لَما حَصَلَ شَكٌّ في كَوْنِها ذَكَرًا أوْ أُنْثى إذْ آلَةُ الذَّكَرِ والأُنْثى (p-٣٦٤)مِن جُمْلَةِ الصُّورَةِ، وبِهَذا تَلْتَئِمُ هَذِهِ الآيَةُ مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ﴾ [ص: ٧١] ﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ [ص: ٧٢] فَهَذا خَلْقٌ بِالفِعْلِ، والَّذِي في هَذِهِ السُّورَةِ بِإيداعِهِ القُوَّةَ المُقَرِّبَةَ مِنهُ، والمُرادُ مِنَ الآيَةِ التَّذْكِيرُ بِالنِّعَمِ اسْتِعْطافًا إلى المُؤالَفَةِ وتَفْظِيعًا بِحالِ المُخالَفَةِ، أيْ: خَسِرُوا أنْفُسَهم والحالُ أنّا أنْعَمْنا عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ التَّمْكِينِ بَعْدَ أنْ أنْشَأْناهم عَلى الصُّورَةِ المَذْكُورَةِ بَعْدَ أنْ كانُوا عَدَمًا وأسْجَدْنا مَلائِكَتَنا لِأبِيهِمْ وطَرَدْنا مَن تَكَبَّرَ عَلَيْهِ طَرْدًا لا طَرْدَ مِثْلَهُ، وأبْعَدْناهُ عَنْ مَحَلٍّ قُدْسِنا بُعْدًا لا قُرْبَ مَعَهُ، وأسْكَنّا أباهم الجَنَّةَ دارَ رَحْمَتِنا وقُرْبِنا، فَقالَ تَعالى مُتَرْجِمًا عَنْ ذَلِكَ: ﴿ثُمَّ قُلْنا﴾ أيْ: عَلى ما لَنا مِنَ الِاخْتِصاصِ بِالعَظَمَةِ ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ أيْ: المَوْجُودِينَ في ذَلِكَ الوَقْتِ مِن أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ كُلِّهِمْ، بِما دَلَّتْ عَلَيْهِ (ال) سَواءٌ قُلْنا: إنَّها لِلِاسْتِغْراقِ أوْ الجِنْسِ ﴿اسْجُدُوا لآدَمَ﴾ أيْ: بَعْدَ كَوْنِهِ رَجُلًا قائِمًا سَوِيًّا ذا رُوحٍ كَما هو مَعْرُوفٌ مِنَ التَّسْمِيَةِ؛ ثُمَّ سَبَّبَ عَنْ هَذا الأمْرِ قَوْلَهُ: ﴿فَسَجَدُوا﴾ أيْ: كُلُّهم بِما دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ: ﴿إلا إبْلِيسَ﴾ ولَمّا كانَ مَعْنى ذَلِكَ لِإخْراجِهِ مِمَّنْ سَجَدَ أنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ - صَرَّحَ بِهِ فَقالَ: ﴿لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ﴾ أيْ: لِآدَمَ.
{"ayah":"وَلَقَدۡ خَلَقۡنَـٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَـٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ لَمۡ یَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق