الباحث القرآني
قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -:
﴿وَلَقَدْ مَكَّنّاكم في الأرْضِ وجَعَلْنا لَكم فِيها مَعايِشَ قَلِيلا ما تَشْكُرُونَ﴾ ﴿وَلَقَدْ خَلَقْناكم ثُمَّ صَوَّرْناكم ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الساجِدِينَ﴾
اَلْخِطابُ لِجَمِيعِ الناسِ؛ والمُرادُ أنَّ النَوْعَ بِجُمْلَتِهِ مُمْكِنٌ في الأرْضِ؛ و"اَلْمَعايِشُ": جَمْعُ "مَعِيشَةٌ"؛ وهي لَفْظَةٌ تَعُمُّ المَأْكُولَ الَّذِي يُعاشُ بِهِ؛ والتَحَرُّفَ الَّذِي يُؤَدِّي إلَيْهِ؛ وقَرَأ الجُمْهُورُ: "مَعايِشَ" بِكَسْرِ الياءِ؛ دُونَ هَمْزٍ؛ وقَرَأ الأعْرَجُ وغَيْرُهُ: "مَعائِشَ"؛ بِالهَمْزِ؛ كَـ "مَدائِنُ"؛ و"سَفائِنُ"؛ ورَواهُ خارِجَةُ عن نافِعٍ ؛ ورُوِيَ عن ورْشٍ: "مَعايْشَ"؛ بِسُكُونِ (p-٥١٩)الياءِ؛ فَمَن قَرَأ: "مَعايِشَ"؛ بِتَصْحِيحِ الياءِ فَهو الأصْوَبُ؛ لِأنَّها جَمْعُ "مَعِيشَةٌ"؛ وزْنُها "مَفْعِلَةٌ"؛ ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "مَفْعُلَةٌ"؛ بِضَمِّ العَيْنِ؛ قالَهُما سِيبَوَيْهِ ؛ وقالَ الفَرّاءُ: "مَفْعَلَةٌ"؛ بِفَتْحِ العَيْنِ؛ فالياءُ في "مَعِيشَةٌ" أصْلِيَّةٌ؛ وأُعِلَّتْ "مَعِيشَةٌ"؛ لِمُوافَقَتِها الفِعْلَ؛ الَّذِي هو "يَعِيشُ"؛ في الياءِ؛ أيْ في المُتَحَرِّكِ؛ والساكِنِ؛ وصُحِّحَتْ "مَعايِشُ"؛ في جَمْعِ التَكْسِيرِ؛ لِزَوالِ المُوافَقَةِ المَذْكُورَةِ في اللَفْظِ؛ ولِأنَّ التَكْسِيرَ - مَعْنًى - لا يَكُونُ في الفِعْلِ؛ إنَّما تَخْتَصُّ بِهِ الأسْماءُ؛ ومَن قَرَأ "مَعايْشَ"؛ فَعَلى التَخْفِيفِ مِن "مَعايِشَ"؛ ومَن قَرَأ "مَعائِشَ"؛ فَأعَلَّها؛ فَذَلِكَ غَلَطٌ؛ وأمّا تَوْجِيهُهُ فَعَلى تَشْبِيهِ الأصْلِ بِالزائِدِ؛ لِأنَّ "مَعِيشَةٌ"؛ تُشْبِهُ في اللَفْظِ "صَحِيفَةٌ"؛ فَكَما يُقالُ: "صَحائِفُ"؛ قِيلَ: "مَعائِشُ"؛ وإنَّما هُمِزَتْ ياءُ "صَحائِفُ"؛ ونَظائِرُها؛ مِمّا الياءُ فِيهِ زائِدَةٌ؛ لِأنَّها لا أصْلَ لَها في الحَرَكَةِ؛ وإنَّما وزْنُها "فَعِيلَةٌ"؛ ساكِنَةً؛ فَلَمّا اضْطُرَّ إلى تَحْرِيكِها في الجَمْعِ؛ بُدِّلَتْ بِأجْلَدَ مِنها.
و"قَلِيلًا"؛ نُصِبَ بِـ "تَشْكُرُونَ"؛ ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "ما"؛ زائِدَةً؛ ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَعَ الفِعْلِ بِتَأْوِيلِ المَصْدَرِ؛ و"قَلِيلًا"؛ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ تَقْدِيرُهُ: "شُكْرًا قَلِيلًا شُكْرُكُمْ"؛ أو "شُكْرًا قَلِيلًا تَشْكُرُونَ".
وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْناكم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ هَذِهِ الآيَةُ مَعْناها التَنْبِيهُ عَلى مَوْضِعِ العِبْرَةِ والتَعْجِيبِ؛ مِن غَرِيبِ الصَنْعَةِ؛ وإسْداءِ النِعْمَةِ؛ فَبَدَأ بِالخَلْقِ؛ الَّذِي هو الإيجادُ بَعْدَ العَدَمِ؛ ثُمَّ بِالتَصْوِيرِ في هَذِهِ البِنْيَةِ المَخْصُوصَةِ لِلْبَشَرِ؛ وإلّا فَلَمْ يُعَرَّ المَخْلُوقُ قَطُّ مِن صُورَةٍ.
واضْطِرابُ الناسِ في تَرْتِيبِ هَذِهِ الآيَةِ؛ لِأنَّ ظاهِرَها يَقْتَضِي أنَّ الخَلْقَ؛ والتَصْوِيرَ لِبَنِي آدَمَ؛ قَبْلَ القَوْلِ لِلْمَلائِكَةِ أنْ يَسْجُدُوا؛ وقَدْ صَحَّحَتِ الشَرِيعَةُ أنَّ الأمْرَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: اَلْمُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْناكم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ﴾ ؛ آدَمُ - عَلَيْهِ السَلامُ - بِنَفْسِهِ؛ وإنْ كانَ (p-٥٢٠)الخِطابُ لِبَنِيهِ؛ وذَلِكَ لَمّا كانَ - عَلَيْهِ السَلامُ -سَبَبَ وُجُودِ بَنِيهِ فَما فُعِلَ فِيهِ صَحَّ - مَعَ تَجَوُّزِ - أنْ يُقالَ: "إنَّهُ فُعِلَ في بَنِيهِ"؛ وقالَ مُجاهِدٌ: اَلْمَعْنى: "وَلَقَدْ خَلَقْناكم ثُمَّ صَوَّرْناكم في صُلْبِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ وفي وقْتِ اسْتِخْراجِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَلامُ - مِن ظَهْرِهِ؛ أمْثالَ الذَرِّ؛ في صُورَةِ البَشَرِ".
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ويَتَرَتَّبُ في هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ أنْ تَكُونَ "ثُمَّ"؛ عَلى بابِها في التَرْتِيبِ؛ والمُهْلَةِ.
وقالَ عِكْرِمَةُ ؛ والأعْمَشُ: اَلْمُرادُ: "خَلَقْناكم في ظُهُورِ الآباءِ؛ وصَوَّرْناكم في بُطُونِ الأُمَّهاتِ"؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ والرَبِيعُ بْنُ أنَسٍ: "أمّا "خَلَقْناكُمْ"؛ فَآدَمُ - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ وأمّا "صَوَّرْناكُمْ"؛ فَذُرِّيَّتُهُ؛ في بُطُونِ الأُمَّهاتِ"؛ وقالَهُ قَتادَةُ ؛ والضَحّاكُ ؛ وقالَ مُعَمَّرُ بْنُ راشِدٍ - مِن بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ -: بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ في بُطُونِ الأُمَّهاتِ؛ مِن خَلْقٍ؛ وتَصْوِيرٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وقالَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ: إنَّ "ثُمَّ"؛ لِتَرْتِيبِ الأخْبارِ بِهَذِهِ الجُمَلِ؛ لا لِتَرْتِيبِ الجُمَلِ في أنْفُسِها؛ وقالَ الأخْفَشُ: "ثُمَّ"؛ في هَذِهِ الآيَةِ بِمَعْنى الواوِ؛ ورَدَّ عَلَيْهِ نَحْوِيُّو البَصْرَةِ.
و"مَلائِكَةٌ": وزْنُهُ: إمّا "مَفاعِلَةٌ"؛ وإمّا "مَعافِلَةٌ"؛ بِحَسَبِ الِاشْتِقاقِ الَّذِي قَدْ مَضى ذِكْرُهُ في سُورَةِ "اَلْبَقَرَةِ"؛ وهُنالِكَ ذَكَرْنا هَيْئَةَ السُجُودِ؛ والمُرادَ بِهِ؛ ومَعْنى "إبْلِيسُ"؛ وكَيْفَ كانَ قَبْلَ المَعْصِيَةِ؛ وأمّا قَوْلُهُ تَعالى - في هَذِهِ الآيَةِ -: ﴿إلا إبْلِيسَ﴾ ؛ فَقالَ الزَجّاجُ: هو اسْتِثْناءٌ لَيْسَ مِنَ الأوَّلِ؛ ولَكِنَّ إبْلِيسَ أُمِرَ بِالسُجُودِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ما مَنَعَكَ ألا تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: ١٢] ؛ وقالَ غَيْرُ الزَجّاجِ: اَلِاسْتِثْناءُ مِنَ الأوَّلِ؛ لِأنّا لَوْ جَعَلْناهُ مُنْقَطِعًا - عَلى قَوْلِ مَن قالَ: إنَّ إبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ المَلائِكَةِ -؛ لَوَجَبَ أنَّ إبْلِيسَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالسُجُودِ؛ إلّا أنْ يَقُولَ قائِلُ هَذِهِ المَقالَةِ: إنَّ أمْرَ إبْلِيسَ كانَ بِوَجْهٍ آخَرَ؛ غَيْرَ قَوْلِهِ تَعالى "اُسْجُدُوا"؛ وذَلِكَ بَيِّنُ الضَعْفِ.
(p-٥٢١)وَقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنُ القَعْقاعِ: "لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا"؛ بِضَمِّ الهاءِ؛ وهي قِراءَةٌ ضَعِيفَةٌ؛ ووَجْهُها أنَّهُ حَذَفَ هَمْزَةَ "اُسْجُدُوا"؛ وألْقى حَرَكَتَها عَلى الهاءِ؛ وذَلِكَ لا يُتَّجَهُ؛ لِأنَّها هَمْزَةٌ مَحْذُوفَةٌ مَعَ جَرِّ الهاءِ بِحَرَكَةٍ؛ أيْ شَيْءٌ يُلْغى؛ والإلْغاءُ إنَّما يَكُونُ في الوَصْلِ.
{"ayahs_start":10,"ayahs":["وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِیهَا مَعَـٰیِشَۗ قَلِیلࣰا مَّا تَشۡكُرُونَ","وَلَقَدۡ خَلَقۡنَـٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَـٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ لَمۡ یَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِینَ"],"ayah":"وَلَقَدۡ خَلَقۡنَـٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَـٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ لَمۡ یَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق