قوله: ﴿وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ﴾، الآية.
المعنى: والذين سبقوا إلى الإيمان، ﴿مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ﴾، أي: سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله: ﴿رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾، أي: أجزل لهم في الثواب.
قال الشافعي : ﴿وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ﴾: من أدرك بيعة الرضوان.
ورُوي عنه: من أدرك بيعة الشجرة. و "المهاجرون الأولون" من (هاجر قبل البيعة.
وقال أبو موسى الأشعري ﴿وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ﴾: المهاجرون الأولون من) صلى القبلتين.
وهو قول ابن المسيب، والحسن، وقتادة، وابن سيرين.
ورُوي عن عمر: أنه قرأ: "والأنصار" بالرفع، عطف على: السابقين، وبذلك قرأ الحسن، وهي قراءة يعقوب الحضرمي.
وعن عمر رضي الله عنه، أنه قرأ: "الذين اتَّبَعُوهم" بغير واو، فرد عليه زيد بـ "الواو" فسأل عمر أبيّاً، فقال له: "بالواو" فرجع عمر إلى زيادة "الواو". وهم إجماع من القراء والمصاحف.
ومن قرأ: ﴿مِن تَحْتِهَا﴾، بزيادة ﴿مِن﴾ فمن أجل أنها في مصاحف أهل مكة كذلك، وفي سائر المصاحف بغير ﴿مِن﴾.
وهذا باب في خطوط المصاحف في الحروف التي اختلف فيها القراء
من ذلك:
قوله في سورة البقرة: ﴿وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً﴾، هي في مصاحف أهل الشام بغير "واو"، وفي سائر المصاحف بـ: "الواو".
وفيها: ﴿وَأوصىٰ﴾، هي في مصاحف المدينة والشام بـ: "ألف" وفي سائر المصاحف بـ: "الواو" بغير ألف.
وفي آل عمران: ﴿سَارِعُوۤاْ﴾، في مصاحف أهل المدينة، وأهل الشام بغير "واو"، وفي سائر المصاحف بـ "الواو".
وفي آل عمران أيضاً: ﴿جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾، بزيادة "باء" [في] ﴿وَالزُّبُرِ﴾، وفي سائر المصاحف بغير "باء" في ﴿الزُّبُرِ﴾، وكلهم حذفها من "وَبِالْكِتَبِ".
وقد قرأ هشام بن عمار: "وبِالْكِتَبِ" بالباء، ولا أصل لهذه "الباء" في مصاحف أهل الشام ولا غيرهم.
وفي النساء: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾، بألف في مصاحف أهل الشام، وبغير "ألف" في سائر المصاحف.
وفي المائدة، في مصحف أهل مكة والمدينة والشام: ﴿يَقُولُ الذِينَ ءَامَنُواْ﴾ بغير "واو"، وفي سائر المصاحف بالواو.
وفي المائدة أيضاً: ﴿مَن يَّرْتَدِدْ﴾، بـ: "دالَيْن"، وفي مصاحف المدينة والشام، وفي باقي المصاحف بـ: "دال" واحدة.
وفي سورة الأعراف، في مصاحف أهل الشام: ﴿مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ﴾ بغير "واو"، وفي سائر المصاحف: ﴿وَمَا﴾ بـ: "الواو".
وفيها: في قصة صالح: ﴿وقَالَ ٱلْمَلأُ﴾، بزيادة و[او]، في مصاحف الشام، وفي سائر المصاحف: ﴿قَالَ﴾ بغير "واو".
وفي براءة ﴿مِن تَحْتِهَا﴾، بزيادة "من" في مصاحف مكة، وفي سائر المصاحف، بغير "مِن".
وفيها: ﴿الذِينَ اتَّخَذُواْ﴾، بغير "واو"، في مصحف أهل الشام، وأهل المدينة، وفي سائر المصاحف: ﴿وَالَّذِينَ﴾، بزيادة "واو".
وفي سورة بني إسرائيل ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي﴾ بـ: "ألف"، في مصاحف أهل مكة والشام، [و] في سائر المصاحف: ﴿قُلْ﴾، بغير ألف.
وفي الكهف: ﴿خَيْراً مِّنْهُمَا﴾، بزيادة "ميم"، في مصحف أهل المدينة ومكة والشام، وفي سائر المصاحف: ﴿مِّنْهَا﴾ بغير "ميم".
وفيها: ﴿مَا مَكَّنِّي﴾، بنونين، في مصحف أهل مكة خاصة، وفي سائر المصاحف بـ "نون" واحدة.
وفي سورة الأنبياء: ﴿قُلَ رَبِّي يَعْلَمُ﴾، ﴿قُلَ رَبِّ احْكُم﴾، بألف فيهما، في مصحف أهل الكوفة، وفي سائر المصاحف: ﴿قُل﴾، بغير ألف.
وفيها: ﴿لَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ﴾، بغير "واو"، في مصحف أهل مكة، وفي سائر المصاحف: ﴿أَوَلَمْ﴾ بواو.
وفي سورة المؤمنين: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾، في الأول. [و] في الثاني والثالث:
﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾، بالألف، في مصحف أهل البصرة، وفي سائر المصاحف: ﴿لِلَّهِ﴾، من غير "ألف" في الثلاثة.
وفي سورة الشعراء: ﴿فَتَوكَّلْ﴾ بالفاء، في مصحف أهل المدينة، [و] الشام، وفي سائر المصاحف، ﴿فَتَوكَّلْ﴾ بالواو.
وفي النمل: ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي﴾، بنونين، في مصحف أهل مكة، وفي سائر المصاحف، بنون واحدة.
وفي القصص: ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّيۤ أَعْلَمُ﴾، بغير "واو"، في مصحف أهل مكة، وفي سائر المصاحف: ﴿وَقَالَ﴾، بالواو.
وفي غافر: ﴿أَشَدَّ مِنْهُمْ﴾ بالكاف، في مصاحف الشام، وفي سائر المصاحف: (منهم)، بالهاء.
وفيها: ﴿وَأَن يُظْهِرَ﴾، بغير ألف قبل الواو، في مصاحف أهل المدينة والبصرة والشام، وفي مصاحف الكوفة: ﴿أَنْ أَوَ﴾، بزيادة ألف.
وفي عَسِق في مصاحف أهل المدينة والشام: ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾، بغير فاء، وفي سائر المصاحف: ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾، بالفاء.
وفي الزخرف: ﴿تَشْتَهِيهِ﴾، بالهاء، في مصاحف أهل المدينة والشام والكوفة، وفي سائر المصاحف: ﴿تَشْتَهِيهِ﴾، بغير "هاء".
وقد قيل: إنَّها غير مثبتة في مصاحف أهل الكوفة، وبذلك قرأوا.
وفي الأحقاف: ﴿حُسْناً﴾، بألف في مصاحف أهل الكوفة، وفي سائر المصاحف: ﴿حُسْناً﴾، بغير ألف، أعني قبل الحاء.
وفي سورة الرحمن في آخرها: ﴿ذِي ٱلْجَلاَلِ﴾، بالواو، في مصاحف أهل الشام، وفي سائر المصاحف: ﴿ذِي﴾، بالياء.
وفي سورة الحديد: ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ﴾، بغير ألف، [في مصاحف أهل الشام، وفي سائر المصاحف: ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ﴾ بألف.
وفيها: ﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ﴾، بغير (هو)، في مصاحف أهل المدينة [و] الشام، وفي سائر المصاحف: ﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ ٱلْغَنِيُّ﴾، بزيادة (هو).
وفي سورة الشمس وضحيها: ﴿فَلاَ يَخَافُ﴾، بالفاء، في مصاحف أهل المدينة والشام، وفي سائر المصاحف: بالواو: "ولا يخاف".
وذكر أبو حاتم في هذه الحروف أنّ في مصاحف المدينة، خاصة: ﴿وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ايتُونِي﴾، بغير ياء قبل التاء.
وفي الحج والملائكة ﴿وَلُؤْلُؤاً﴾، بألف، في مصاحف المدينة، وبعض مصاحف الكوفة.
وفي الزخرف: ﴿يٰعِبَادِ﴾، [بياء]، لا حذف في مصاحف المدينة [و] الكوفة.
و﴿قَوَارِيرَاْ﴾ الثاني بألف في مصاحف المدينة.
وفي: (قل أوحى): ﴿قَالَ إِنَّمَآ أَدْعُواْ﴾، بغير ألف في مصاحف الكوفة.
وفي النساء: ﴿فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ على التوحيد، في مصاحف البصرة،
ولم يقرأ به أحد.
قال: وفي يَس: ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ﴾ بغير "هاء"، في مصاحف أهل الكوفة.
ومثله: ﴿حُسْناً﴾، بـ: "ألف"، في الأحقاف.
ومثله: ﴿لَّئِنْ أَنجَيْتَنَا﴾، في الأنعام.
وقال: في مصاحف أهل الشام خاصة في الأنعام: ﴿وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ﴾، "الآخرة" بلام واحدة.
ومثله في: الأعراف: "تحتها" في موضع: ﴿مِن تَحْتِهِمْ﴾، ولم يقرأ به أحد.
ومثله: ﴿(وَإِذْا) نْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ﴾، بألف فيهما.
ومثله: ﴿كِيدُونِ﴾ بالياء في الأعراف.
ومثله: "ما كان للنبي أن يكون له أسرى، بلامين في الأنفال، ولم يقرأ به أحد.
ومثله: (ينشركم) بالشين، في يونس.
وهذا باب آخر نذكر فيه سبب اختلاف القراء واختلاف هذه المصاحف
فكان سبب هذا الاختلاف، أن النبي ﷺ، قال: "نزل هذا القرآن على سبعة أحرُفٍ"، فكان من قرأ عليه من أصحابه بأي حرف قرأ تركه، ودلّ على ذلك حديث عمر مع هشام بن حكيم، إذ سمعه عمر يقرأ القرآن على غير ما قرأ هو على النبي عليه السلام، فلما توجها إلى النبي ﷺ، وتحاكما لديه، قرأ عليه، أجاز قراءة كل واحد منهما، وقال: "هكذا أُنْزِلَ". وكان اختلافها في أحرفٍ من سورة الفرقان.
فدل على أنه ﷺ، كان يترك كل واحد يقرأ على لُغَتِهِ، فإذا صح أنه كان يقرأ كل واحد على لغته، وصح عنه ﷺ، أنه كان يرسل أصحابه إلى البلدان، يعلمونهم القرآن والفقه في الدين، وأنه وجّه معاذ بن جبل إلى اليمن وكان قد خَلَفَه قبل ذلك، وأبا موسى الأشعري بمكة [حين] توجه إلى حنين لحرب هَوَازِن ليعَلِّمَا من كان بها القرآن والعلم.
وبعث إلى الطائف في مثل ذلك عثمان بن أبي العاص الثقفي.
ثم توفي النبي ﷺ، وفتحت البلدان، فمضى على سيرته وزيراه: أبو بكر وعمر. فوجه عمر ابن مسعود إلى الكوفة مُعَلِّماً لهم، ووجه أبا (موسى) إلى البصرة بمثل ذلك. وكان بالشام معاذ بن جبل، وأبو الدرداء. وكان بالمدينة جماعة من أصحاب النبي ﷺ، من أهل حفظ القرآن منهم: أُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، فكان كل واحد يقرئ في موضعه بحرفٍ من السبعة التي أمر الله عز وجل، بها نبيه عليه السلام.
فلما انتشر ذلك في البلدان، وتعلم الناس، وسافروا من كل بلد، وتلاقوا في الغزوات، واجتمعوا في الموسم، قرأ كل قوم كما عُلِّمُوا، فأنكر بعضهم على بعض، الزيادة والنقص، والرفع والنصب، وكذَّبَ بعضهم بعضاً، وعظم الأمر فيهم، وذلك في أيام عثمان.
فتكلم بعض أصحاب النبي عليه السلام إلى عثمان أن يكتب للناس مصحفاً يجمعهم عليه، وكان ممن كلمه في ذلك حُذَيْفَة [بن] اليمان، وقد كان أراد أن يكلم عمر في مثل ذلك، حتى مات عمر رضي الله عنه، وكان حذيفة قدم من غزوة شهدها بإرمينية، فرأى اختلاف الناس في القرآن، فلما قدم المدينة لم يدخل (بيته) حتى أتى عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين، أدْرِك الناس، فقال عثمان: وما ذلك؟ فقال: غزوة إرمينية يحضرها أهل العراق، وأهل الشام، فإذا أهل المدينة يقرأون بقراءة: أُبَيّ بن كعب، فيكفرهم أهل العراق، و (أهل العراق) يقرأون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيكفرهم أهل الشام.
فجعل عثمان زيداً يكتب مصحفاً وأدخل معه رجلاً فصيحاً، وهو أبان بن سعيد بن العاص، وقال لهما: إذا اجتمعتما فاكتبا، وإذا اختلفتما فارفعا إليّ ما تختلفان فيه.
قال أنس بن مالك: اجتمع لغزوة أَذْرَبِيجان وإرمينية أهل الشام والعراق، فتذاكرا القرآن فاختلفوا فيه، حتى كاد يكون بينهم فتنة، فركب حذيفة بن اليمان في ذلك إلى عثمان، فقال: إن الناس قد اختلفوا في القرآن، حتى أني والله خشيت أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف.
فَفَزِع لذلك عثمان رضي الله عنه، فزعاً شديداً، وأرسل إلى حفصة فاستخرج المصحف الذي كان أبو بكر، رضي الله عنه، أمر زيداً بجمعه، فنسخ منه مصاحف فبعث بها إلى البلدان.
وكان عثمان قد انتسخ من المصحف الذي عند حفصة، بحضرة زيد بن ثابت وأبان بن سعيد بن العاص.
وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الزبير، وقال : ما اختلفتم فيه فاكتبوه بلسان قريش.
قال الزهري: فاختلفوا يومئذ في ﴿ٱلتَّابُوتُ﴾، فقال القرشيون:
﴿ٱلتَّابُوتُ﴾، وقال زيد: "التَّابُوه".
فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه بلغة قريش.
فلما كتب عثمان النسخة، جعلها أربع نسخ، فأنفذ مُصْحفاً إلى: الشام، ومصحفاً إلى العراق، ومصحفاً إلى اليمن، واحْتَبس مُصحفاً.
وقيل: بل وجه واحداً إلى الشام، وآخر إلى الحجاز، وآخر إلى الكوفة، وآخر إلى البصرة.
وقيل: بل كتب سبعة مصاحف، فبعث مصحفاً إلى مكة، ومصحفاً إلى الكوفة، ومصحفاً إلى البصرة، ومصحفاً إلى الشام، ومصحفاً إلى اليمن، ومصحفاً إلى البحرين، واحتبس مصحفاً.
فأما مصحف اليمن والبحرين فليس يعرف لهما خبر.
ولم يمت النبي ﷺ، إلاَّ والقُرْآنُ مُؤَلَّفٌ في الصُّدُور، إلا أنه لم يكتب في مصحف.
وأول من جمعه أبو بكر رضي الله عنه في المصحف، ومات وتركه عند عمر، ومات عمر وتركه [عند] حفصة ابنته. قال ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكره السدي.
وروى الزهري عن عبيد بن السّبَّاق أن زيد بن ثابت حدثه، قال: أرسل إلي أبو بكر، فأتيته، فإذا عنده عمر رضي الله عنهم، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل اسْتَحَرَّ بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخْشَى أن يَسْتَحِرَّ القتل بالقراء في المواطن كلها، فيذهب قرآن كثير، وإنّي أرى أنْ تأْمر بجمع القرآن. قال أبو بكر: فقلت: فكيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ﷺ، فقال عمر: هو والله خير، قال أبو بكر: فلم [يزل] عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له، ورأيت فيه الذي رأى عمر. قال زيد: قال لي أبو بكر: إنَّك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ، فَتَتَبَّعْ القرآن فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال لكان أثقل عليّ من ذلك. فقلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله ﷺ؟ فقال أبو بكر:
هو والله خير. فلم يزل يراجعي في ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى شرح الله صدري للذي شرح إليه صدرهما، فتتبعت القرآن من الرِّقَاع والعُسُبِ، ومن صدور الرجال، فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨، ١٢٩]، إلى آخرها، وكانت الصحف عند أبي بكر حتى مات، ثم كانت عند عمر حتى مات، ثم كانت عند حفصة، ثم نسخ عثمان من عند حفصة المصاحف، ووجه إلى كل أُفقٍ مصحفاً، وأمر بما سوى ذلك أن يُحَرَّق.
ومعنى قول النبي ﷺ: "أُنْزِل القرآن على سبعة أَحْرُف"، أي: على سبع لغات متفرقة في القرآن، (لا أن كُلَّ حرف من القرآن) يقرأ على سبع لغات.
قال الشيخ أبو بكر، رضي الله عنه، وَجْهُ هذه الزيادة والنقص في المصاحف، أنها كتبت على قراءة من كان وجه إلى كل بلد من الصحابة، ويدل على ذلك أنَّ القراء يُسْنِدُونَ قراءتهم إلى إمام مِصْرهم من الصحابة، وقد كانت هذه الحروف يقرأ بها على عهد رسول الله ﷺ، وتنقص، ولولا ذلك ما أثبتت في بعض المصاحف وحذفت من بعض ولا يجوز أن يُتَوَهَّم أنها وهم من الكاتب؛ لأن الله قد حفظه، ويدل على ذلك أن علياً لما صارت إليه الخلافة لم يغير منها شيئاً بل استحسن فعل عثمان، وقد كانوا يكرهون النقط في المصاحف خوف الزيادة، فكيف يزيدون الحروف وتجوز عليهم الزيادة.
وكره النخعي الفصل بين السور، والتَّعْشِيرِ، بالحمرة.
وقال يحيى بن كثير: كان القرآن مُجَرَّداً، فأول ما أُحْدِثَ فيه العَجْمُ: نقط التاء والثاء، فلم ينكره أحد، ثم أحدثوا نَقْطاً على منتهى الآي، ثم أحدثوا التعشير، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم.
وقال قتادة: وددت أنَّ الأيدي قُطِعت في هذه النقط.
فليس يجوز على هذا الاحتياط أن تقع هذه الحروف إلا بنصّ وَمَعْرِفَةٍ، ولم تقع على وهم من الكاتب.
وقد ذكر أبو بكر عن بعض العلماء أنه قال: إنَّ أصحاب رسول الله ﷺ، لما جمعوا القرآن ونسخوه من عند حفصة في نسخ، عمدوا إلى كل حَرْفٍ سمعوا رسول الله ﷺ، قرِأه على وجهين، فأثبتوا في مصاحف وجهاً، وفي مصاحف وجهاً آخر. لتحصل الوجهان للمسلمين، ولا يسقط عنهم وجه قراءته، فحصل هذا الاختلاف في المصاحف على هذا الوجه، وهو داخل في السبعة، وهذا إن شاء الله هو الحق والصواب.
فأما اختلافهم في الحركات والمْدَ والْقَصْر والهمز وشِبْهه من إبدال حرف مكان آخر بصورته، فإن السبب في ذلك أن المصاحف التي وجهت إلى الأمصار لم تضبط ولا نقطت، وإنما كانت حروفاً أشخاصاً. فلما خلت الحروف من النقط والضبط صارت التاء (التي) هي غير منقوطة محتملة لأن تكون: ياءً أو باءً أو تاءً، واشتركت الصور في الحروف. ألا ترى أنك لو كتبت "لم يقم"، ولم تنقط الحرف الأول جاز أن يكون تاء، وباء، ونوناً، فقرأ أهل كل مصر على ما كانوا تعلموا من إمامهم الصحابي قبل إتيان المصاحف إليهم، فقرأ أهل البصرة على ما كان علمهم أبو موسى الأشعري، وأهل الكوفة على ما علمهم علي، وابن مسعود، وأهل الحرمين على ما تعلموا من أُبيّ، وزيد، وأهل الشام على ما تعلموا من معاذ بن جبل، وأبي الدرداء، ووافقوا بقراءتهم خط المصحف الذي وجه إليهم، فقرأ هؤلاء بنصبٍ وهؤلاء برفعٍ، وهؤلاء بِهَمْزٍ، وهؤلاء بِيَاءٍ، وهؤلاء بِتَاءٍ والصور واحدة، كل قوم قرأوا على ما كانوا تعلموا قبل وصول المصحف إليهم، فوافقوا بقراءتهم المصحف الذي وجه إليهم من زيادة أو نقص. فهذا سبب الاختلاف.
وقد كان جَمَعَ القرآن على عهد النبي ﷺ، ستة نفرٍ من الأنصار: معاذ بن جبل، وأُبيُّ بن كعب، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، وسعد، بن عبيد. وجمعه مُجَمَّعُ بن جارية، إلا سورتين، ولم يجمعه من الأئمة إلا عثمان.
وذكر أنس والشعبي أنه لم يجمعه على عهد النبي عليه السلام، أحدٌ. والدليل على ذلك أن عثمان لم يتكل فيه على أحدٍ حتى جمع إليه جماعة، وأن زيد بن ثابت قال: جمعته من صدور الرجال، ومن كذا وكذا، فهذا يدل على أنه لم يكن يحفظه.
وإنما اختار عثمان زيداً، لأنه كان يكتب الوحي؛ ولأن قراءته كانت على العرضة الآخرة؛ ولأنه وهو الذي اختار أبو بكر لجمعه.
{"ayah":"وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَـٰجِرِینَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَـٰنࣲ رَّضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُوا۟ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۚ ذَ ٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ"}