الباحث القرآني
* فصل: [الأتباع السعداء]
أما أتباع السعداء فنوعان:
أتباع لهم حكم الاستقلال وهم الذين قال الله عز وجل فيهم: ﴿والسّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهم بِإحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ﴾
فهؤلاء هم السعداء الذين ثبت لهم رضا الله عنهم وهم أصحاب رسول الله ﷺ، وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة.
ولا يختص ذلك بالقرن الذين رأوهم فقط وإنما خص التابعين بمن رأوا الصحابة تخصيصا عرفيًا ليتميزوا به عمن بعدهم فقيل: التابعون مطلقًا لذلك القرن فقط، وإلا فكل من سلك سبيلهم فهو من التابعين لهم بإحسان وهو ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
وقيد سبحانه هذه التبعية بأنها تبعية بإحسان ليست مطلقة فتحصل بمجرد النية والاتباع في شيء والمخالفة في غيره، ولكن تبعية مصاحبة الإحسان، وأن الباء هاهنا للمصاحبة.
والإحسان والمتابعة شرط في حصول رضاء الله عنهم وجناته، وقد قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ وإنْ كانُوا مِن قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ وآخَرِينَ مِنهم لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾.
فالأولون: هم الذين أدركوا رسول الله ﷺ وصحبوه.
والآخرون: هم الذين لم يلحقوهم وهم كل من بعدهم على منهاجهم إلى يوم القيامة، فيكون التأخر وعدم اللحاق في الفضل والرتبة بل هم دونهم فيكون عدم اللحاق في الرتبة.
والقولان كالمتلازمين، فإن من بعدهم لا يلحقون بهم لا في الفضل ولا في الزمان فهؤلاء الصنفان هم السعداء.
* (فائدة)
ثلاثة من الصحابة جمعوا بين كونهم أنصارا ومهاجرين ذكرهم ابن إسحاق في سيرته:
- أحدهم ذكوان بن عبد قيس من بني الخزرج
قال ابن إسحاق: "كان خرج إلى رسول الله ﷺ وكان معه بمكة المكرمة، ثم هاجر منها إلى المدينة وكان يقال له مهاجري أنصاري شهدا بدرا وقتل بأحد شهيدا".
- والعباس بن عبادة بن نضلة من بني الخزرج أيضا
قال ابن إسحاق: "كان فيمن خرج إلى رسول الله ﷺ وهو بمكة المكرمة، فأقام معه بها قتل يوم أحد شهيدا.
- وعقبة بن وهب خرج إلى رسول الله ﷺ من المدينة المنورة إلى مكة، وكان يقال له مهاجري أنصاري حليف لبني الخزرج.
* [فَصْلٌ: الفَتْوى بِالآثارِ السَّلَفِيَّةِ والفَتاوى الصَّحابِيَّةِ]
[القَوْلُ في جَوازِ الفَتْوى بِالآثارِ السَّلَفِيَّةِ]
فِي جَوازِ الفَتْوى بِالآثارِ السَّلَفِيَّةِ والفَتاوِي الصَّحابِيَّةِ، وأنَّها أوْلى بِالأخْذِ بِها مِن آراءِ المُتَأخِّرِينَ وفَتاوِيهمْ، وأنَّ قُرْبَها إلى الصَّوابِ بِحَسَبِ قُرْبِ أهْلِها مِن عَصْرِ الرَّسُولِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ، وأنَّ فَتاوى الصَّحابَةِ أوْلى أنْ يُؤْخَذَ بِها مِن فَتاوى التّابِعِينَ، وفَتاوى التّابِعِينَ أوْلى مِن فَتاوى تابِعِي التّابِعِينَ، وهَلُمَّ جَرًّا وكُلَّما كانَ العَهْدُ بِالرَّسُولِ أقْرَبَ كانَ الصَّوابُ أغْلَبَ، وهَذا حُكْمٌ بِحَسَبِ الجِنْسِ لا بِحَسَبِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ مِن المَسائِلِ، كَما أنَّ عَصْرَ التّابِعِينَ، وإنْ كانَ أفْضَلَ مِن عَصْرِ تابِعِيهِمْ فَإنَّما هو بِحَسَبِ الجِنْسِ لا بِحَسَبِ كُلِّ شَخْصٍ شَخْصٌ، ولَكِنْ المُفَضَّلُونَ في العَصْرِ المُتَقَدِّمِ أكْثَرُ مِن المُفَضَّلِينَ في العَصْرِ المُتَأخِّرِ، وهَكَذا الصَّوابُ في أقْوالِهِمْ أكْثَرُ مِن الصَّوابِ في أقْوالِ مَن بَعْدِهِمْ؛ فَإنَّ التَّفاوُتَ بَيْنَ عُلُومِ المُتَقَدِّمِينَ والمُتَأخِّرِينَ كالتَّفاوُتِ الَّذِي بَيْنَهم في الفَضْلِ والدِّينِ، ولَعَلَّهُ لا يَسَعَ المُفْتِيَ والحاكِمَ عِنْدَ اللَّهِ أنْ يُفْتِيَ ويَحْكُمَ بِقَوْلِ فُلانٍ وفُلانٍ مِن المُتَأخِّرِينَ مِن مُقَلِّدِي الأئِمَّةِ ويَأْخُذَ بِرَأْيِهِ وتَرْجِيحِهِ ويَتْرُكَ الفَتْوى والحُكْمَ بِقَوْلِ البُخارِيِّ، وإسْحاقَ بْنِ راهْوَيْهِ وعَلِيِّ بْنِ المَدِينِيِّ ومُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ المَرْوَزِيِّ، وأمْثالِهِمْ، بَلْ يَتْرُكُ قَوْلَ ابْنِ المُبارَكِ والأوْزاعِيِّ وسُفْيانَ الثَّوْرِيِّ وسُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وحَمّادِ بْنِ زَيْدٍ وحَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وأمْثالِهِمْ، بَلْ لا يَلْتَفِتُ إلى قَوْلِ ابْنِ أبِي ذِئْبٍ والزُّهْرِيِّ واللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وأمْثالِهِمْ، بَلْ لا يَعُدُّ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ والحَسَنِ والقاسِمِ وسالِمٍ وعَطاءٍ وطاوُسٍ وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ وشُرَيْحٍ، وأبِي وائِلٍ وجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وأضْرابِهِمْ مِمّا يَسُوغُ الأخْذُ بِهِ، بَلْ يَرى تَقْدِيمَ قَوْلِ المُتَأخِّرِينَ مِن أتْباعِ مَن قَلَّدَهُ عَلى فَتْوى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وعُمَرَ وعُثْمانَ وعَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ وأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وأبِي الدَّرْداءِ وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وعُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ، وأبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ، وأضْرابِهِمْ، فَلا يَدْرِي ما عُذْرُهُ غَدًا عِنْدَ اللَّهِ إذا سَوّى بَيْنَ أقْوالِ أُولَئِكَ وفَتاوِيهِمْ، وأقْوالِ هَؤُلاءِ وفَتاوِيهِمْ، فَكَيْفَ إذا رَجَّحَها عَلَيْها؟ فَكَيْفَ إذا عَيَّنَ الأخْذَ بِها حُكْمًا، وإفْتاءً، ومَنَعَ الأخْذَ بِقَوْلِ الصَّحابَةِ، واسْتَجازَ عُقُوبَةَ مَن خالَفَ المُتَأخِّرِينَ لَها، وشَهِدَ عَلَيْهِ بِالبِدْعَةِ والضَّلالَةِ ومُخالَفَةِ أهْلِ العِلْمِ، وأنَّهُ يَكِيدُ الإسْلامَ؟ تاللَّهِ لَقَدْ أخَذَ بِالمَثَلِ المَشْهُورِ " رَمَتْنِي بِدائِها وانْسَلَّتْ " وسُمِّيَ ورَثَةُ الرَّسُولِ بِاسْمِهِ هُوَ، وكَساهم أثْوابَهُ، ورَماهم بِدائِهِ، وكَثِيرٌ مِن هَؤُلاءِ يَصْرُخُ ويَصِيحُ ويَقُولُ ويُعْلِنُ أنَّهُ يَجِبُ عَلى الأُمَّةِ كُلِّهِمْ الأخْذُ بِقَوْلِ مَن قَلَّدْناهُ دِينَنا، ولا يَجُوزُ الأخْذُ بِقَوْلِ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ وعَلِيٍّ وغَيْرِهِمْ مِن الصَّحابَةِ.
وَهَذا كَلامُ مَن أخَذَ بِهِ وتَقَلَّدَهُ ولّاهُ اللَّهُ ما تَوَلّى، ويَجْزِيه عَلَيْهِ يَوْمَ القِيامَةِ الجَزاءَ الأوْفى، واَلَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ ضِدُّ هَذا القَوْلِ، والرَّدِّ عَلَيْهِ فَنَقُولُ:
إذا قالَ الصَّحابِيُّ قَوْلًا فَإمّا أنْ يُخالِفَهُ صَحابِيٌّ آخَرُ أوْ لا يُخالِفُهُ، فَإنْ خالَفَهُ مِثْلُهُ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ أحَدِهِما حُجَّةً عَلى الآخَرِ، وإنْ خالَفَهُ أعْلَمُ مِنهُ كَما إذا خالَفَ الخُلَفاءُ الرّاشِدُونَ أوْ بَعْضُهم غَيْرَهم مِن الصَّحابَةِ في حُكْمٍ، فَهَلْ يَكُونُ الشِّقُّ الَّذِي فِيهِ الخُلَفاءُ الرّاشِدُونَ أوْ بَعْضُهم حُجَّةً عَلى الآخَرِينَ؟ فِيهِ قَوْلانِ لِلْعُلَماءِ، وهُما رِوايَتانِ عَنْ الإمام أحْمَدَ، والصَّحِيحُ أنَّ الشِّقَّ الَّذِي فِيهِ الخُلَفاءُ أوْ بَعْضُهم أرْجَحُ، وأوْلى أنْ يُؤْخَذَ بِهِ مِن الشِّقِّ الآخَرِ، فَإنْ كانَ الأرْبَعَةُ في شِقٍّ فَلا شَكَّ أنَّهُ الصَّوابُ، وإنْ كانَ أكْثَرُهم في شِقٍّ فالصَّوابُ فِيهِ أغْلَبُ، وإنْ كانُوا اثْنَيْنِ واثْنَيْنِ فَشِقُّ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ أقْرَبُ إلى الصَّوابِ، فَإنْ اخْتَلَفَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ فالصَّوابُ مَعَ أبِي بَكْرٍ.
وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لا يَعْرِفُ تَفْصِيلَها إلّا مَن لَهُ خِبْرَةٌ واطِّلاعٌ عَلى ما اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحابَةُ وعَلى الرّاجِحِ مِن أقْوالِهِمْ، ويَكْفِي في ذَلِكَ مَعْرِفَةُ رُجْحانِ قَوْلِ الصِّدِّيقِ في الجَدِّ والإخْوَةِ، وكَوْنِ الطَّلاقِ الثَّلاثِ بِفَمٍ واحِدٍ مَرَّةً واحِدَةً، وإنْ تَلَفَّظَ فِيهِ بِالثَّلاثِ، وجَوازِ بَيْعِ أُمَّهاتِ الأوْلادِ، وإذا نَظَرَ العالِمُ المُنْصِفُ في أدِلَّةِ هَذِهِ المَسائِلِ مِن الجانِبَيْنِ تَبَيَّنَ لَهُ أنَّ جانِبَ الصِّدِّيقِ أرْجَحُ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ في مَسْألَةِ الجَدِّ والطَّلاقِ الثَّلاثِ بِفَمٍ واحِدٍ،
وَلا يُحْفَظُ لِلصِّدِّيقِ خِلافُ نَصٍّ واحِدٍ أبَدًا، ولا يُحْفَظُ لَهُ فَتْوى ولا حُكْمٌ مَأْخَذُها ضَعِيفٌ أبَدًا، وهو تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ خِلافَتِهِ خِلافَةَ نُبُوَّةٍ.
* [فَصْلٌ: رَأْيُ الشّافِعِيِّ في أقْوالِ الصَّحابَةِ]
وَإنْ لَمْ يُخالِفْ الصَّحابِيُّ صَحابِيًّا آخَرَ فَإمّا أنْ يَشْتَهِرَ قَوْلُهُ في الصَّحابَةِ أوْ لا يَشْتَهِرُ، فَإنْ اشْتَهَرَ فاَلَّذِي عَلَيْهِ جَماهِيرُ الطَّوائِفِ مِن الفُقَهاءِ أنَّهُ إجْماعٌ وحُجَّةٌ، وقالَتْ طائِفَةٌ مِنهُمْ: هو حُجَّةٌ ولَيْسَ بِإجْماعٍ، وقالَتْ شِرْذِمَةٌ مِن المُتَكَلِّمِينَ وبَعْضُ الفُقَهاءِ المُتَأخِّرِينَ: لا يَكُونُ إجْماعًا ولا حُجَّةً، وإنْ لَمْ يَشْتَهِرْ قَوْلُهُ أوْ لَمْ يُعْلَمْ هَلْ اشْتُهِرَ أمْ لا فاخْتَلَفَ النّاسُ: هَلْ يَكُونُ حُجَّةً أمْ لا؟ فاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الأُمَّةِ أنَّهُ حُجَّةٌ هَذا قَوْلُ جُمْهُورِ الحَنَفِيَّةِ، صَرَّحَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ، وذَكَرَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ نَصًّا، وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، وأصْحابِهِ، وتَصَرُّفُهُ في مُوَطَّئِهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وهو قَوْلُ إسْحاقَ بْنِ راهْوَيْهِ وأبِي عُبَيْدٍ، وهو مَنصُوصُ الإمامِ أحْمَدَ في غَيْرِ مَوْضِعٍ عَنْهُ واخْتِيارُ جُمْهُورِ أصْحابِهِ، وهو مَنصُوصُ الشّافِعِيِّ في القَدِيمِ والجَدِيدِ، أمّا القَدِيمُ فَأصْحابُهُ مُقِرُّونَ بِهِ، وأمّا الجَدِيدُ فَكَثِيرٌ مِنهم يُحْكى عَنْهُ فِيهِ أنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وفي هَذِهِ الحِكايَةِ عَنْهُ نَظَرٌ ظاهِرٌ جِدًّا؛ فَإنَّهُ لا يُحْفَظُ لَهُ في الجَدِيدِ حَرْفٌ واحِدٌ أنَّ قَوْلَ الصَّحابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وغايَةُ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ مِن نَقْلِ ذَلِكَ أنَّهُ يَحْكِي أقْوالًا لِلصَّحابَةِ في الجَدِيدِ ثُمَّ يُخالِفُها، ولَوْ كانَتْ عِنْدَهُ حُجَّةٌ لَمْ يُخالِفْها، وهَذا تَعَلُّقٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإنَّ مُخالَفَةَ المُجْتَهِدِ الدَّلِيلَ المُعَيَّنَ لِما هو أقْوى في نَظَرِهِ مِنهُ لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَراهُ دَلِيلًا مِن حَيْثُ الجُمْلَةُ، بَلْ خالَفَ دَلِيلًا لِدَلِيلٍ أرْجَحَ عِنْدَهُ مِنهُ، وقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُهم بِأنَّهُ يَراهُ في الجَدِيدِ إذا ذَكَرَ أقْوالَ الصَّحابَةِ مُوافِقًا لَها لا يَعْتَمِدُ عَلَيْها وحْدَها كَما يَفْعَلُ بِالنُّصُوصِ، بَلْ يُعَضِّدُها بِضُرُوبٍ مِن الأقْيِسَةِ؛ فَهو تارَةً يَذْكُرُها ويُصَرِّحُ بِخِلافِها، وتارَةً يُوافِقُها ولا يَعْتَمِدُ عَلَيْها بَلْ يُعَضِّدُها بِدَلِيلٍ آخَرَ، وهَذا أيْضًا تَعَلُّقٌ أضْعَفُ مِن الَّذِي قَبْلَهُ؛ فَإنَّ تَظافُرَ الأدِلَّةِ وتَعاضُدِها وتَناصُرِها مِن عادَةِ أهْلِ العِلْمِ قَدِيمًا وحَدِيثًا، ولا يَدُلُّ ذِكْرُهم دَلِيلًا ثانِيًا وثالِثًا عَلى أنَّ ما ذَكَرُوهُ قَبْلَهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ.
وَقَدْ صَرَّحَ الشّافِعِيُّ في الجَدِيدِ مِن رِوايَةِ الرَّبِيعِ عَنْهُ بِأنَّ قَوْلَ الصَّحابَةِ حُجَّةٌ يَجِبُ المَصِيرُ إلَيْهِ، فَقالَ: المُحْدَثاتُ مِن الأُمُورِ ضَرْبانِ، أحَدُهُما: ما أُحْدِثَ يُخالِفُ كِتابًا أوْ سُنَّةً أوْ إجْماعًا أوْ أثَرًا فَهَذِهِ البِدْعَةُ الضَّلالَةُ، والرَّبِيعُ إنّما أخَذَ عَنْهُ بِمِصْرَ، وقَدْ جَعَلَ مُخالَفَةَ الأثَرِ الَّذِي لَيْسَ بِكِتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا إجْماعٍ ضَلالَةً، وهَذا فَوْقَ كَوْنِهِ حُجَّةً، وقالَ البَيْهَقِيُّ في كِتابِ مَدْخَلِ السُّنَنِ لَهُ: بابُ ذِكْرِ أقاوِيلِ الصَّحابَةِ إذا تَفَرَّقُوا.
قالَ الشّافِعِيُّ: أقاوِيلُ الصَّحابَةِ إذا تَفَرَّقُوا فِيها تَصِيرُ إلى ما وافَقَ الكِتابِ والسُّنَّةِ أوْ الإجْماعِ إذا كانَ أصَحَّ في القِياسِ، وإذا قالَ الواحِدُ مِنهم القَوْلَ لا يُحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِنهم فِيهِ لَهُ مُوافَقَةٌ ولا خِلافَ صِرْتُ إلى اتِّباعِ قَوْلِهِ إذا لَمْ أجِدْ كِتابًا ولا سُنَّةً ولا إجْماعًا ولا شَيْئًا في مَعْناهُ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ أوْ وُجِدَ مَعَهُ قِياسٌ.
قالَ البَيْهَقِيُّ وقالَ في كِتابِ اخْتِلافِهِ مَعَ مالِكٍ: ما كانَ الكِتابُ والسُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فالعُذْرُ عَلى مَن سَمِعَهُ مَقْطُوعٌ إلّا بِإتْيانِهِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِرْنا إلى أقاوِيلِ الصَّحابَةِ أوْ واحِدٍ مِنهُمْ، ثُمَّ كانَ قَوْلُ الأئِمَّةِ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ إذا صِرْنا إلى التَّقْلِيدِ أحَبَّ إلَيْنا، وذَلِكَ إذا لَمْ نَجِدْ دَلالَةً في الِاخْتِلافِ تَدُلُّ عَلى أقْرَبِ الِاخْتِلافِ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ فَنَتْبَعُ القَوْلَ الَّذِي مَعَهُ الدَّلالَةُ؛ لِأنَّ قَوْلَ الإمامِ مَشْهُورٌ بِأنَّهُ يَلْزَمُ النّاسَ ومَن لَزِمَ قَوْلُهُ النّاسَ كانَ أشْهَرَ مِمَّنْ يُفْتِي الرَّجُلَ أوْ النَّفَرَ وقَدْ يَأْخُذُ بِفُتْياهُ ويَدَعُها، وأكْثَرُ المُفْتِينَ يُفْتُونَ الخاصَّةَ في بُيُوتِهِمْ ومَجالِسِهِمْ ولا يَعْتَنِي العامَّةُ بِما قالُوا عِنايَتَهم بِما قالَ الإمامُ، وقَدْ وجَدْنا الأئِمَّةَ يُنْتَدَبُونَ فَيُسْألُونَ عَنْ العِلْمِ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ فِيما أرادُوا أنْ يَقُولُوا فِيهِ ويَقُولُونَ فَيُخْبِرُونَ بِخِلافِ قَوْلِهِمْ، فَيَقْبَلُونَ مِن المُخْبِرِ، ولا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ أنْ يَرْجِعُوا لِتَقْواهم اللَّهَ وفَضْلِهِمْ، فَإذا لَمْ يُوجَدْ عَنْ الأئِمَّةِ فَأصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في الدِّينِ في مَوْضِعِ الأمانَةِ أخَذْنا بِقَوْلِهِمْ، وكانَ اتِّباعُهم أوْلى بِنا مِن اتِّباعِ مَن بَعْدَهم.
قالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والعِلْمُ طَبَقاتٌ، الأوْلى: الكِتابُ والسُّنَّةُ، الثّانِيَةُ: الإجْماعُ فِيما لَيْسَ كِتابًا ولا سُنَّةً، الثّالِثَةُ: أنْ يَقُولَ صَحابِيٌّ فَلا يُعْلَمُ لَهُ مُخالِفٌ مِن الصَّحابَةِ، الرّابِعَةُ: اخْتِلافُ الصَّحابَةِ، الخامِسَةُ: القِياسُ، هَذا كُلُّهُ كَلامُهُ في الجَدِيدِ.
قالَ البَيْهَقِيُّ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ هَذا: وفي الرِّسالَةِ القَدِيمَةِ لِلشّافِعِيِّ - بَعْدَ ذِكْرِ الصَّحابَةِ وتَعْظِيمِهِمْ - قالَ: وهو فَوْقَنا في كُلِّ عِلْمٍ واجْتِهادٍ ووَرَعٍ وعَقْلٍ، وأمْرٍ اسْتُدْرِكَ بِهِ عِلْمٌ، وآراؤُهم لَنا أحْمَدُ، وأوْلى بِنا مِن رَأْيِنا، ومَن أدْرَكْنا مِمَّنْ تُرْضى أوْ حُكِيَ لَنا عَنْهُ بِبَلَدِنا صارُوا فِيما لَمْ يَعْلَمُوا فِيهِ سُنَّةً إلى قَوْلِهِمْ إنْ اجْتَمَعُوا أوْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنْ تَفَرَّقُوا، وكَذا نَقُولُ، ولَمْ نَخْرُجْ مِن أقْوالِهِمْ كُلِّهِمْ.
قالَ: وإذا قالَ الرَّجُلانِ مِنهم في شَيْءٍ قَوْلَيْنِ نَظَرْت، فَإنْ كانَ قَوْلُ أحَدِهِما أشْبَهَ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ أخَذْت بِهِ، لِأنَّ مَعَهُ شَيْئًا قَوِيًّا؛ فَإنْ لَمْ يَكُنْ عَلى واحِدٍ مِن القَوْلَيْنِ دَلالَةً بِما وصَفْت كانَ قَوْلُ الأئِمَّةِ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ أرْجَحَ عِنْدَنا مِن واحِدٍ لَوْ خالَفَهم غَيْرُ إمامٍ.
قالَ البَيْهَقِيُّ: وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: فَإنْ لَمْ يَكُنْ عَلى القَوْلِ دَلالَةٌ مِن كِتابٍ ولا سُنَّةٍ كانَ قَوْلُ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ أحَبَّ إلَيَّ مِن قَوْلِ غَيْرِهِمْ، فَإنْ اخْتَلَفُوا صِرْنا إلى القَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ دَلالَةٌ، وقَلَّما يَخْلُو اخْتِلافُهم مِن ذَلِكَ، وإنْ اخْتَلَفُوا بِلا دَلالَةٍ نَظَرْنا إلى الأكْثَرِ، فَإنْ تَكافَئُوا نَظَرْنا أحْسَنَ أقاوِيلِهِمْ مَخْرَجًا عِنْدَنا، وإنْ وجَدْنا لِلْمُفْتِينَ في زَمانِنا أوْ قَبْلَهُ إجْماعًا في شَيْءٍ تَبِعْناهُ، فَإذا نَزَلَتْ نازِلَةٌ لَمْ نَجِدْ فِيها واحِدَةً مِن هَذِهِ الأُمُورِ فَلَيْسَ إلّا إجْهادُ الرَّأْيِ، فَهَذا كَلامُ الشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ورَضِيَ عَنْهُ بِنَصِّهِ، ونَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ أنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ، بَلْ كَلامُهُ في الجَدِيدِ مُطابِقٌ لِهَذا مُوافِقٌ لَهُ كَما تَقَدَّمَ ذِكْرُ لَفْظِهِ، وقَدْ قالَ في الجَدِيدِ في قَتْلِ الرّاهِبِ: إنّهُ القِياسُ عِنْدَهُ، ولَكِنْ أتْرُكُهُ لِقَوْلِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَقَدْ أخْبَرَنا أنَّهُ تَرَكَ القِياسَ الَّذِي هو دَلِيلٌ عِنْدَهُ لِقَوْلِ الصّاحِبِ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ مُوجِبَ الدَّلِيلِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ؟ وقالَ: في الضِّلَعِ بَعِيرٌ، قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُمَرَ، وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُثْمانَ، وقالَ في الفَرائِضِ: هَذا مَذْهَبٌ تَلَقَّيْناهُ عَنْ زَيْدٍ. ولا تَسْتَوْحِشْ مِن لَفْظَةِ التَّقْلِيدِ في كَلامِهِ، وتَظُنَّ أنَّها تَنْفِي كَوْنَ قَوْلِهِ حُجَّةً بِناءً عَلى ما تَلَقَّيْتُهُ مِن اصْطِلاحِ المُتَأخِّرِينَ أنَّ التَّقْلِيدَ قَبُولُ قَوْلِ الغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، فَهَذا اصْطِلاحٌ حادِثٌ، وقَدْ صَرَّحَ الشّافِعِيُّ في مَوْضِعِ مِن كَلامِهِ بِتَقْلِيدِ خَبَرِ الواحِدِ فَقالَ: قُلْت هَذا تَقْلِيدًا لِلْخَبَرِ، وأئِمَّةُ الإسْلامِ كُلُّهم عَلى قَبُولِ قَوْلِ الصَّحابِيِّ.
قالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمّادٍ: ثنا ابْنُ المُبارَكِ قالَ: سَمِعْت أبا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إذا جاءَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فَعَلى الرَّأْسِ والعَيْنِ، وإذا جاءَ عَنْ الصَّحابَةِ نَخْتارُ مِن قَوْلِهِمْ، وإذا جاءَ عَنْ التّابِعِينَ زاحَمْناهم.
وَذَهَبَ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ مِن الحَنَفِيَّةِ والشّافِعِيَّةِ والمالِكِيَّةِ والحَنابِلَةِ، وأكْثَرُ المُتَكَلِّمِينَ إلى أنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وذَهَبَ بَعْضُ الفُقَهاءِ إلى أنَّهُ إنْ خالَفَ القِياسَ فَهو حُجَّةٌ، وإلّا فَلا، قالُوا: لِأنَّهُ إذا خالَفَ القِياسَ لَمْ يَكُنْ إلّا عَنْ تَوْقِيفٍ وعَلى هَذا فَهو حُجَّةٌ، وإنْ خالَفَهُ صَحابِيٌّ آخَرُ، واَلَّذِينَ قالُوا " لَيْسَ بِحُجَّةٍ " قالُوا: لِأنَّ الصَّحابِيَّ مُجْتَهِدٌ مِن المُجْتَهِدِينَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الخَطَأُ فَلا يَجِبُ تَقْلِيدُهُ، ولا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً كَسائِرِ المُجْتَهِدِينَ، ولِأنَّ الأدِلَّةَ الدّالَّةَ عَلى بُطْلانِ التَّقْلِيدِ تَعُمُّ تَقْلِيدَ الصَّحابَةِ ومَن دُونَهُمْ، ولِأنَّ التّابِعِيَّ إذا أدْرَكَ عَصْرَ الصَّحابَةِ اعْتَدَّ بِخِلافِهِ عِنْدَ أكْثَرِ النّاسِ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُ الواحِدِ حُجَّةً عَلَيْهِ؟ ولِأنَّ الأدِلَّةَ قَدْ انْحَصَرَتْ في الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجْماعِ والقِياسِ والِاسْتِصْحابِ، وقَوْلُ الصَّحابِيِّ لَيْسَ واحِدًا مِنها، ولِأنَّ امْتِيازَهُ بِكَوْنِهِ أفْضَلَ، وأعْلَمَ وأتْقى لا يُوجِبُ وُجُوبَ اتِّباعِهِ عَلى مُجْتَهِدٍ آخَرَ مِن عُلَماءِ التّابِعِينَ بِالنِّسْبَةِ إلى مَن بَعْدَهم.
* [فصل: الأدِلَّةُ عَلى وُجُوبِ اتِّباعِ الصَّحابَةِ]
فَأمّا الأوَّلُ فَمِن وُجُوهٍ: أحَدُها: ما احْتَجَّ بِهِ مالِكٌ، وهو قَوْله تَعالى ﴿والسّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهم بِإحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ وأعَدَّ لَهم جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾
فَوَجْهُ الدَّلالَةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى أثْنى عَلى مَن اتَّبَعَهُمْ، فَإذا قالُوا قَوْلًا فاتَّبَعَهم مُتَّبِعٌ عَلَيْهِ قَبْلَ أنْ يَعْرِفَ صِحَّتَهُ فَهو مُتَّبِعٌ لَهُمْ، فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ مَحْمُودًا عَلى ذَلِكَ، وأنْ يَسْتَحِقَّ الرِّضْوانَ، ولَوْ كانَ اتِّباعُهم تَقْلِيدًا مَحْضًا كَتَقْلِيدِ بَعْضِ المُفْتِينَ لَمْ يَسْتَحِقَّ مَن اتَّبَعَهم الرِّضْوانَ إلّا أنْ يَكُونَ عامِّيًّا، فَأمّا العُلَماءُ المُجْتَهِدُونَ فَلا يَجُوزُ لَهم اتِّباعُهم حِينَئِذٍ.
فَإنْ قِيلَ: اتِّباعُهم هو أنْ يَقُولَ ما قالُوا بِالدَّلِيلِ، وهو سُلُوكُ سَبِيلِ الِاجْتِهادِ؛ لِأنَّهم إنّما قالُوا بِالِاجْتِهادِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿بِإحْسانٍ﴾ ومَن قَلَّدَهم لَمْ يَتَّبِعْهم بِإحْسانٍ لِأنَّهُ لَوْ كانَ مُطْلَقُ الِاتِّباعِ مَحْمُودًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الِاتِّباعِ بِإحْسانٍ أوْ بِغَيْرِ إحْسانٍ، وأيْضًا فَيَجُوزُ أنْ يُرادُ بِهِ اتِّباعُهم في أُصُولِ الدِّينِ، وقَوْلُهُ ﴿بِإحْسانٍ﴾ أيْ بِالتِزامِ الفَرائِضِ واجْتِنابِ المَحارِمِ، ويَكُونُ المَقْصُودُ أنَّ السّابِقِينَ قَدْ وجَبَ لَهم الرِّضْوانُ، وإنْ أساءُوا؛ لِقَوْلِهِ ﷺ «وَما يُدْرِيك أنَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ»، وأيْضًا فالثَّناءُ عَلى مَن اتَّبَعَهم كُلَّهُمْ، وذَلِكَ اتِّباعُهم فِيما أجْمَعُوا عَلَيْهِ، وأيْضًا فالثَّناءُ عَلى مَن اتَّبَعَهم لا يَقْتَضِي وُجُوبَهُ، وإنَّما يَدُلُّ عَلى جَوازِ تَقْلِيدِهِمْ، وذَلِكَ دَلِيلُ جَوازِ تَقْلِيدِ العالِمِ كَما هو مَذْهَبُ طائِفَةٍ مِن العُلَماءِ، أوْ تَقْلِيدِ الأعْلَمِ كَقَوْلِ طائِفَةٍ أُخْرى.
أمّا الدَّلِيلُ عَلى وُجُوبِ اتِّباعِهِمْ فَلَيْسَ في الآيَةِ ما يَقْتَضِيهِ.
فالجَوابُ مِن وُجُوهِ: أحَدُها: أنَّ الِاتِّباعَ لا يَسْتَلْزِمُ الِاجْتِهادَ لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الِاتِّباعَ المَأْمُورَ بِهِ في القُرْآنِ كَقَوْلِهِ ﴿فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١] ﴿واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٨] ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: ١١٥] ونَحْوُهُ لا يَتَوَقَّفُ عَلى الِاسْتِدْلالِ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ مَعَ الِاسْتِغْناءِ عَنْ القائِلِ.
الثّانِي: أنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ اتِّباعَهم في الِاسْتِدْلالِ والِاجْتِهادِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ السّابِقِينَ وبَيْنَ جَمِيعِ الخَلائِقِ؛ لِأنَّ اتِّباعَ مُوجِبِ الدَّلِيلِ يَجِبُ أنْ يَتَّبِعَ فِيهِ كُلُّ أحَدٍ، فَمَن قالَ قَوْلًا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وجَبَ مُوافَقَتُهُ فِيهِ.
الثّالِثُ: أنَّهُ إمّا أنْ تَجُوزَ مُخالَفَتُهم في قَوْلِهِمْ بَعْدَ الِاسْتِدْلالِ أوْ لا تَجُوزُ، فَإنْ لَمْ تَجُزْ فَهو المَطْلُوبُ، وإنْ جازَتْ مُخالَفَتُهم فَقَدْ خُولِفُوا في خُصُوصِ الحُكْمِ واتَّبَعُوا في أحْسَنِ الِاسْتِدْلالِ، فَلَيْسَ جَعْلُ مَن فَعَلَ ذَلِكَ مُتْبِعًا لِمُوافَقَتِهِمْ في الِاسْتِدْلالِ بِأوْلى مِن جَعْلِهِ مُخالِفًا لِمُخالَفَتِهِ في عَيْنِ الحُكْمِ.
الرّابِعُ: أنَّ مَن خالَفَهم في الحُكْمِ الَّذِي أفْتَوْا بِهِ لا يَكُونُ مُتَّبِعًا لَهم أصْلًا، بِدَلِيلِ أنَّ مَن خالَفَ مُجْتَهِدًا مِن المُجْتَهِدِينَ في مَسْألَةٍ بَعْدَ اجْتِهادٍ لا يَصِحُّ أنْ يُقالَ " اتَّبِعْهُ "، وإنْ أطْلَقَ ذَلِكَ فَلا بُدَّ مِن تَقْيِيدِهِ بِأنْ يُقالَ اتَّبِعْهُ في الِاسْتِدْلالِ أوْ الِاجْتِهادِ. الخامِسُ: أنَّ الِاتِّباعَ افْتِعالٌ مِن اتَّبَعَ، وكَوْنُ الإنْسانِ تابِعًا لِغَيْرِهِ نَوْعَ افْتِقارٍ إلَيْهِ ومَشْيٍ خَلْفَهُ، وكُلُّ واحِدٍ مِن المُجْتَهِدِينَ المُسْتَدِلِّينَ لَيْسَ تَبَعًا لِلْآخَرِ ولا مُفْتَقِرًا إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ حَتّى يَسْتَشْعِرَ مُوافَقَتَهُ والِانْقِيادَ لَهُ، ولِهَذا لا يَصِحُّ أنْ يُقالَ لِمَن وافَقَ رَجُلًا في اجْتِهادِهِ أوْ فَتْواهُ اتِّفاقًا إنّهُ مُتَّبِعٌ لَهُ.
السّادِسُ: أنَّ الآيَةَ قُصِدَ بِها مَدْحُ السّابِقِينَ والثَّناءُ عَلَيْهِمْ، وبَيانُ اسْتِحْقاقِهِمْ أنْ يَكُونُوا أئِمَّةً مَتْبُوعِينَ، وبِتَقْدِيرِ ألّا يَكُونَ قَوْلُهم مُوجِبًا لِلْمُوافَقَةِ ولا مانِعًا مِن المُخالَفَةِ - بَلْ إنّما يَتَّبِعُ القِياسَ مَثَلًا - لا يَكُونُ لَهم هَذا المَنصِبُ، ولا يَسْتَحِقُّونَ هَذا المَدْحَ والثَّناءَ.
السّابِعُ: أنَّ مَن خالَفَهم في خُصُوصِ الحُكْمِ فَلَمْ يَتَّبِعْهم في ذَلِكَ الحُكْمِ ولا فِيما اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلى ذَلِكَ الحُكْمِ فَلا يَكُونُ مُتَّبِعًا لَهم بِمُجَرَّدِ مُشارَكَتِهِمْ في صِفَةٍ عامَّةٍ، وهي مُطْلَقُ الِاسْتِدْلالِ والِاجْتِهادِ، ولا سِيَّما وتِلْكَ الصِّفَةُ العامَّةُ لا اخْتِصاصَ لَها بِهِ؛ لِأنَّ ما يَنْفِي الِاتِّباعَ أخَصُّ مِمّا يُثْبِتُهُ.
وَإذا وُجِدَ الفارِقُ الأخَصُّ والجامِعُ الأعَمُّ - وكِلاهُما مُؤَثِّرٌ - كانَ التَّفْرِيقُ رِعايَةً لِلْفارِقِ أوْلى مِن الجَمْعِ رِعايَةً لِلْجامِعِ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿بِإحْسانٍ﴾ فَلَيْسَ المُرادُ بِهِ أنْ يَجْتَهِدَ، وافَقَ أوْ خالَفَ؛ لِأنَّهُ إذا خالَفَ لَمْ يَتَّبِعْهم فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونَ بِإحْسانٍ، ولِأنَّ مُطْلَقَ الِاجْتِهادِ لَيْسَ فِيهِ اتِّباعٌ لَهُمْ، لَكِنَّ الِاتِّباعَ لَهم اسْمٌ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَن وافَقَهم في الِاعْتِقادِ والقَوْلِ، فَلا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ المُتَّبِعُ مُحْسِنًا بِأداءِ الفَرائِضِ واجْتِنابِ المَحارِمِ؛ لِئَلّا يَقَعَ الِاغْتِرارُ بِمُجَرَّدِ المُوافَقَةِ قَوْلًا، وأيْضًا فَلا بُدَّ أنْ يُحْسِنَ المُتَّبِعُ لَهم القَوْلَ فِيهِمْ، ولا يَقْدَحُ فِيهِمْ، اشْتَرَطَ اللَّهُ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِأنْ سَيَكُونُ أقْوامٌ يَنالُونَ مِنهم.
وَهَذا مِثْلُ قَوْله تَعالى بَعْدَ أنْ ذَكَرَ المُهاجِرِينَ والأنْصارَ ﴿والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخْوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ ولا تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحشر: ١٠] وأمّا تَخْصِيصُ اتِّباعِهِمْ بِأُصُولِ الدِّينِ دُونَ فُرُوعِهِ فَلا يَصِحُّ؛ لِأنَّ الِاتِّباعَ عامٌّ، ولِأنَّ مَن اتَّبَعَهم في أُصُولِ الدِّينِ فَقَطْ لَوْ كانَ مُتَّبِعًا لَهم عَلى الإطْلاقِ لَكُنّا مُتَّبِعِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِن أهْلِ الكِتابِ، ولَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ اتِّباعِ السّابِقِينَ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ وغَيْرِها.
وَأيْضًا فَإنَّهُ إذا قِيلَ " فُلانٌ يَتَّبِعُ فُلانًا، واتَّبِعْ فُلانًا، وأنا مُتَّبِعٌ فُلانًا "، ولَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ ولا حالِيَّةٍ فَإنَّهُ يَقْتَضِي اتِّباعَهُ في كُلِّ الأُمُورِ الَّتِي يَتَأتّى فِيها الِاتِّباعُ؛ لِأنَّ مَن اتَّبَعَهُ في حالٍ وخالَفَهُ في أُخْرى لَمْ يَكُنْ وصْفُهُ بِأنَّهُ مُتَّبِعٌ أوْلى مِن وصْفِهِ بِأنَّهُ مُخالِفٌ؛ ولِأنَّ الرِّضْوانَ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِاتِّباعِهِمْ، فَيَكُونُ الِاتِّباعُ سَبَبًا لَهُ؛ لِأنَّ الحُكْمَ المُعَلَّقَ بِما هو مُشْتَقٌّ يَقْتَضِي أنَّ ما مِنهُ الِاشْتِقاقُ سَبَبٌ، وإذا كانَ اتِّباعُهم سَبَبًا لِلرِّضْوانِ اقْتَضى الحُكْمَ في جَمِيعِ مَوارِدِهِ، ولا اخْتِصاصَ لِلِاتِّباعِ بِحالٍ دُونَ حالٍ، ولِأنَّ الِاتِّباعَ يُؤْذِنُ بِكَوْنِ الإنْسانِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وفَرْعًا عَلَيْهِ، وأُصُولُ الدِّينِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ولِأنَّ الآيَةَ تَضَمَّنَتْ الثَّناءَ عَلَيْهِمْ وجَعْلَهم أئِمَّةً لِمَن بَعْدَهُمْ، فَلَوْ لَمْ يَتَناوَلْ إلّا اتِّباعَهم في أُصُولِ الدِّينِ دُونَ الشَّرائِعِ لَمْ يَكُونُوا أئِمَّةً في ذَلِكَ لِأنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ اتِّباعِهِمْ.
* (فَصْلٌ)
وَأمّا قَوْلُهم " إنّ الثَّناءَ عَلى مَن اتَّبَعَهم كُلَّهم " فَنَقُولُ: الآيَةُ اقْتَضَتْ الثَّناءَ عَلى مَن يَتَّبِعُ كُلَّ واحِدٍ مِنهُمْ، كَما أنَّ قَوْلَهُ ﴿والسّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ﴾ يَقْتَضِي حُصُولَ الرِّضْوانِ لِكُلِّ واحِدٍ مِن السّابِقِينَ واَلَّذِينَ اتَّبَعُوهم في قَوْلِهِ ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ وأعَدَّ لَهم جَنّاتٍ تَجْرِي﴾ وكَذَلِكَ في قَوْلِهِ ﴿اتَّبَعُوهُمْ﴾ لِأنَّهُ حُكْمٌ عَلَّقَ عَلَيْهِمْ في هَذِهِ الآيَةِ، فَقَدْ تَناوَلَهم مُجْتَمِعِينَ ومُنْفَرِدِينَ.
وَأيْضًا فَإنَّ الأصْلَ في الأحْكامِ المُعَلَّقَةِ بِأسْماءٍ عامَّةٍ ثُبُوتُها لِكُلِّ فَرَدٍّ فَرْدٌ مِن تِلْكَ المُسَمَّياتِ كَقَوْلِهِ ﴿أقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [الأنعام: ٧٢] وقَوْلِهِ ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: ١٨] وقَوْله تَعالى ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ﴾ [التوبة: ١١٩] وأيْضًا فَإنَّ الأحْكامَ المُعَلَّقَةَ عَلى المَجْمُوعِ يُؤْتى فِيها بِاسْمٍ يَتَناوَلُ المَجْمُوعَ دُونَ الأفْرادِ كَقَوْلِهِ ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] وقَوْلِهِ ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] وقَوْلِهِ ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: ١١٥] فَإنَّ لَفْظَ الأُمَّةِ ولَفْظَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ لا يُمْكِنُ تَوْزِيعُهُ عَلى أفْرادِ الأُمَّةِ، وأفْرادِ المُؤْمِنِينَ، بِخِلافِ لَفْظِ السّابِقِينَ فَإنَّهُ يَتَناوَلُ كُلَّ فَرْدٍ مِن السّابِقِينَ.
وَأيْضًا فالآيَةُ تَعُمُّ اتِّباعَهم مُجْتَمِعِينَ ومُنْفَرِدِينَ في كُلِّ مُمْكِنٍ؛ فَمَن اتَّبَعَ جَماعَتَهم إذا اجْتَمَعُوا واتَّبَعَ آحادَهم فِيما وجَدَ عَنْهم مِمّا لَمْ يُخالِفْهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنهم فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ أنَّهُ اتَّبَعَ السّابِقِينَ، أمّا مَن خالَفَ بَعْضَ السّابِقِينَ فَلا يَصِحُّ أنْ يُقالَ " اتَّبَعَ السّابِقِينَ " لِوُجُودِ مُخالَفَتِهِ لِبَعْضِهِمْ، لا سِيَّما إذا خالَفَ هَذا مَرَّةً، وهَذا مَرَّةً، وبِهَذا يَظْهَرُ الجَوابُ عَنْ اتِّباعِهِمْ إذا اخْتَلَفُوا؛ فَإنَّ اتِّباعَهم هُناكَ قَوْلُ بَعْضِ تِلْكَ الأقْوالِ بِاجْتِهادٍ واسْتِدْلالٍ، إذْ هم مُجْتَمِعُونَ عَلى تَسْوِيَةِ كُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأقْوالِ لِمَن أدّى اجْتِهادُهُ إلَيْهِ، فَقَدْ قَصَدَ اتِّباعَهم أيْضًا، أمّا إذا قالَ الرَّجُلُ قَوْلًا، ولَمْ يُخالِفْهُ غَيْرُهُ فَلا يَعْلَمُ أنَّ السّابِقِينَ سَوَّغُوا خِلافَ ذَلِكَ القَوْلِ، وأيْضًا فالآيَةُ تَقْتَضِي اتِّباعَهم مُطْلَقًا.
فَلَوْ فَرَضْنا أنَّ الطّالِبَ وقَفَ عَلى نَصٍّ يُخالِفُ قَوْلَ الواحِدِ مِنهم فَقَدْ عَلِمْنا أنَّهُ لَوْ ظَفِرَ بِذَلِكَ النَّصِّ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ، أمّا إذا رَأيْنا رَأْيًا فَقَدْ يَجُوزُ أنْ يُخالِفَ ذَلِكَ الرَّأْيِ، وأيْضًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ اتِّباعُهم إلّا فِيما أجْمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّهم لَمْ يَحْصُلْ اتِّباعُهم إلّا فِيما قَدْ عَلِمَ أنَّهُ مِن دِينِ الإسْلامِ بِالِاضْطِرارِ؛ لِأنَّ السّابِقِينَ الأوَّلِينَ خَلْقٌ عَظِيمٌ، ولَمْ يُعْلَمْ أنَّهم أجْمَعُوا إلّا عَلى ذَلِكَ؛ فَيَكُونُ هَذا الوَجْهُ هو الَّذِي قَبْلَهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلانُهُ؛ إذْ الِاتِّباعُ في ذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وأيْضًا فَجَمِيعُ السّابِقِينَ قَدْ ماتَ مِنهم أُناسٌ في حَياةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وحِينَئِذٍ فَلا يَحْتاجُ في ذَلِكَ الوَقْتِ إلى اتِّباعِهِمْ لِلِاسْتِغْناءِ عَنْهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ لَوْ فَرَضْنا أحَدًا يَتَّبِعُهم إذْ ذاكَ لَكانَ مِن السّابِقِينَ، فَحاصِلُهُ أنَّ التّابِعِينَ لا يُمْكِنُهم اتِّباعُ جَمِيعِ السّابِقِينَ، وأيْضًا فَإنَّ مَعْرِفَةَ قَوْلِ جَمِيعِ السّابِقِينَ كالمُتَعَذَّرِ، فَكَيْفَ يُتَّبَعُونَ كُلُّهم في شَيْءٍ لا يَكادُ يُعْلَمُ؟
وَأيْضًا فَإنَّهم إنّما اسْتَحَقُّوا مَنصِبَ الإمامَةِ والِاقْتِداءِ بِهِمْ بِكَوْنِهِمْ هم السّابِقِينَ، وهَذِهِ صِفَةٌ مَوْجُودَةٌ في كُلِّ واحِدٍ مِنهُمْ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنهم إمامًا لِلْمُتَّقِينَ كَما اسْتَوْجَبَ الرِّضْوانَ والجَنَّةَ.
* (فَصْلٌ)
وَأمّا قَوْلُهُ " لَيْسَ فِيها ما يُوجِبُ اتِّباعُهم " فَنَقُولُ: الآيَةُ تَقْتَضِي الرِّضْوانَ عَمَّنْ اتَّبَعَهم بِإحْسانٍ، وقَدْ قامَ الدَّلِيلُ عَلى أنَّ القَوْلَ في الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرامٌ؛ فَلا يَكُونُ اتِّباعُهم قَوْلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، بَلْ قَوْلًا بِعِلْمٍ، وهَذا هو المَقْصُودُ، وحِينَئِذٍ فَسَواءٌ يُسَمّى تَقْلِيدًا أوْ اجْتِهادًا، وأيْضًا فَإنْ كانَ تَقْلِيدُ العالِمُ لِلْعالِمِ حَرامًا كَما هو قَوْلُ الشّافِعِيَّةُ والحَنابِلَةُ فاتِّباعُهم لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ لِأنَّهُ مَرَضِيٌّ، وإنْ كانَ تَقْلِيدُهم جائِزًا أوْ كانَ تَقْلِيدُهم مُسْتَثْنًى مِن التَّقْلِيدِ المُحَرَّمِ فَلَمْ يَقُلْ أحَدٌ إنّ تَقْلِيدَ العُلَماءِ مِن مُوجِباتِ الرِّضْوانِ؛ فَعُلِمَ أنَّ تَقْلِيدَهم خارِجٌ عَنْ هَذا، لِأنَّ تَقْلِيدَ العالِمِ، وإنْ كانَ جائِزًا فَتَرَكَهُ إلى قَوْلِ غَيْرِهِ أوْ إلى اجْتِهادٍ جائِزٌ أيْضًا بِالِاتِّفاقِ، والشَّيْءُ المُباحُ لا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرِّضْوانُ، وأيْضًا فَإنَّ رِضْوانَ اللَّهِ غايَةُ المَطالِبِ الَّتِي لا تُنالُ إلّا بِأفْضَلِ الأعْمالِ، ومَعْلُومٌ أنَّ التَّقْلِيدَ الَّذِي يَجُوزُ خِلافُهُ لَيْسَ بِأفْضَلِ الأعْمالِ، بَلْ الِاجْتِهادُ أفْضَلُ مِنهُ، فَعُلِمَ أنَّ اتِّباعَهم هو أفْضَلُ ما يَكُونُ في مَسْألَةٍ اخْتَلَفُوا فِيها هم ومَن بَعْدَهُمْ، وأنَّ اتِّباعَهم دُونَ مَن بَعْدَهم هو المُوجِبُ لِرِضْوانِ اللَّهِ؛ فَلا رَيْبَ أنَّ رُجْحانَ أحَدِ القَوْلَيْنِ يُوجِبُ اتِّباعَهُ.
[وَقَوْلُهم أرْجَحُ] بِلا شَكٍّ، ومَسائِلُ الِاجْتِهادِ لا يَتَخَيَّرُ الرَّجُلُ فِيها بَيْنَ القَوْلَيْنِ، وأيْضًا فَإنَّ اللَّهَ أثْنى عَلى الَّذِينَ اتَّبَعُوهم بِإحْسانٍ، والتَّقْلِيدُ وظِيفَةُ العامَّةِ، فَأمّا العُلَماءُ فَإمّا أنْ يَكُونَ مُباحًا لَهم أوْ مُحَرَّمًا؛ إذْ الِاجْتِهادُ أفْضَلُ مِنهُ لَهم بِغَيْرِ خِلافٍ، وهو واجِبٌ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ أُرِيدَ بِاتِّباعِهِمْ التَّقْلِيدُ الَّذِي يَجُوزُ خِلافَهُ لَكانَ لِلْعامَّةِ في ذَلِكَ النَّصِيبُ الأوْفى، وكانَ حَظُّ عُلَماءِ الأُمَّةِ مِن هَذِهِ الآيَةِ أبْخَسَ الحُظُوظِ، ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا فاسِدٌ، وأيْضًا فالرِّضْوانُ عَمَّنْ اتَّبَعَهم دَلِيلٌ عَلى أنَّ اتِّباعَهم صَوابٌ لَيْسَ بِخَطَإٍ؛ فَإنَّهُ لَوْ كانَ خَطَأٌ لَكانَ غايَةُ صاحِبِهِ أنْ يُعْفى لَهُ عَنْهُ، فَإنَّ المُخْطِئَ إلى أنْ يُعْفى عَنْهُ أقْرَبُ مِنهُ إلى أنْ يَرْضى عَنْهُ، وإذا كانَ صَوابًا وجَبَ اتِّباعُهُ؛ لِأنَّ خِلافَ الصَّوابِ خَطَأٌ، والخَطَأُ يَحْرُمُ اتِّباعُهُ إذا عُلِمَ أنَّهُ خَطَأٌ، وقَدْ عُلِمَ أنَّهُ خَطَأٌ يَكُونُ الصَّوابُ خِلافَهُ، وأيْضًا فَإذا كانَ اتِّباعُهم مُوجِبٌ الرِّضْوانَ لَمْ يَكُنْ تَرْكُ اتِّباعِهِمْ مُوجِبٌ الرِّضْوانَ؛ لِأنَّ الجَزاءَ لا يَقْتَضِيه وُجُودُ الشَّيْءِ وضِدُّهُ ولا وُجُودُهُ وعَدَمُهُ؛ لِأنَّهُ يَبْقى عَدِيمَ الأثَرِ في ذَلِكَ الجَزاءِ، وإذا كانَ في المَسْألَةِ قَوْلانِ أحَدُهُما يُوجِبُ الرِّضْوانَ والآخَرُ لا يُوجِبُهُ كانَ الحَقُّ ما يُوجِبُهُ، وهَذا هو المَطْلُوبُ، وأيْضًا فَإنَّ طَلَبَ رِضْوانِ اللَّهِ واجِبٌ؛ لِأنَّهُ إذا لَمْ يُوجَدْ رِضْوانُهُ فَإمّا سَخَطُهُ أوْ عَفْوُهُ، والعَفْوُ إنّما يَكُونُ مَعَ انْعِقادِ سَبَبِ الخَطِيئَةِ، وذَلِكَ لا تُباحُ مُباشَرَتُهُ إلّا بِالنَّصِّ، وإذا كانَ رِضْوانُهُ إنّما هو في اتِّباعِهِمْ، واتِّباعُ رِضْوانِهِ واجِبٌ، كانَ اتِّباعُهم واجِبًا، وأيْضًا فَإنَّهُ إنّما أثْنى عَلى المُتَّبِعِ بِالرِّضْوانِ، ولَمْ يُصَرِّحْ بِالوُجُوبِ؛ لِأنَّ إيجابَ الِاتِّباعِ يَدْخُلُ في الِاتِّباعِ في الأفْعالِ، ويَقْتَضِي تَحْرِيمَ مُخالَفَتِهِمْ مُطْلَقًا، فَيَقْتَضِي ذَمَّ المُخْطِئِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ، أمّا الأقْوالُ فَلا وجْهَ لِمُخالَفَتِهِمْ فِيها بَعْدَما ثَبَتَ أنَّ فِيها رِضا اللَّهِ تَعالى وأيْضًا فَإنَّ القَوْلَ إذا ثَبَتَ أنَّ فِيهِ رِضا اللَّهِ لَمْ يَكُنْ رِضا اللَّهِ في ضِدِّهِ، بِخِلافِ الأفْعالِ فَقَدْ يَكُونُ رِضا اللَّهِ في الأفْعالِ المُخْتَلِفَةِ وفي الفِعْلِ والتَّرْكِ بِحَسَبِ قَصْدَيْنِ وحالَيْنِ، أمّا الِاعْتِقاداتُ والأقْوالُ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإذا ثَبَتَ أنَّ في قَوْلِهِمْ رِضْوانَ اللَّهِ تَعالى لَمْ يَكُنْ الحَقُّ والصَّوابُ إلّا هُوَ؛ فَوَجَبَ اتِّباعُهُ.
فَإنْ قِيلَ: السّابِقُونَ هم الَّذِينَ صَلَّوْا إلى القِبْلَتَيْنِ، أوْ هم أهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوانِ ومَن قَبْلَهُمْ، فَما الدَّلِيلُ عَلى اتِّباعِ مَن أسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ قِيلَ: إذا ثَبَتَ وُجُوبُ اتِّباعِ أهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوانِ فَهو أكْبَرُ المَقْصُودِ، عَلى أنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ، وكُلُّ الصَّحابَةِ سابِقٌ بِالنِّسْبَةِ إلى مَن بَعْدَهم.
{"ayah":"وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَـٰجِرِینَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَـٰنࣲ رَّضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُوا۟ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۚ ذَ ٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق