الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ] تَكْمِلَةٌ: مِنْ خَوَاصِّ هَؤُلَاءِ الْخَوَاصِّ وِسَادَةِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
وَهِيَ الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ، وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَحْقِيقِ السَّبْقِ: وَهُوَ التَّقَدُّمُ فِي الصِّفَةِ، أَوْ فِي الزَّمَانِ، أَوْ فِي الْمَكَانِ، فَالصِّفَةُ الْإِيمَانُ، وَالزَّمَنُ لِمَنْ حَصَلَ فِي أَوَانٍ قَبْلَ أَوَانٍ، وَالْمَكَانُ مَنْ تَبَوَّأَ دَارَ النُّصْرَةِ، وَاِتَّخَذَهُ بَدَلًا عَنْ مَوْضِعِ الْهِجْرَةِ، وَهُمْ عَلَى ثَمَانِي مَرَاتِبَ: الْأُولَى: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَسَعْدٌ، وَبِلَالٌ، وَغَيْرُهُمْ.
الثَّانِيَةُ: دَارُ النَّدْوَةِ.
الثَّالِثَةُ: مُهَاجِرَةُ أَصْحَابِ الْحَبَشَةِ، كَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرِ.
الرَّابِعَةُ: أَصْحَابُ الْعَقَبَتَيْنِ، وَهُمْ الْأَنْصَارُ.
الْخَامِسَةُ: قَوْمٌ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِقُبَاءَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ.
السَّادِسَةُ: مَنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَتَيْنِ.
السَّابِعَةُ: أَهْلُ بَدْرٍ.
الثَّامِنَةُ: أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَبِهِمْ انْقَطَعَتْ الْأَوَّلِيَّةُ.
وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ الثَّامِنَةَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَاخْتَارَ فِي تَفْسِيرِهَا ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ مَنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَتَيْنِ.
[مَسْأَلَة الْقِرَاءَة فِي قَوْلِهِ وَالْأَنْصَارِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَالأَنْصَارِ} [التوبة: 100]: بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَيَكُونُونَ أَيْضًا فِيهَا عَلَى مَرَاتِبَ مِنْهُمْ الْعُقْبِيُّونَ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْقِبْلَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ الْبَدْرِيُّونَ، وَمِنْهُمْ الرِّضْوَانِيَّةُ، وَيَكُونُ الْوَقْفُ فِيهِمَا وَاحِدًا.
وَقُرِئَ: وَالْأَنْصَارُ بِرَفْعِ الرَّاءِ، عَطْفًا عَلَى " وَالسَّابِقُونَ " وَيُعْزَى ذَلِكَ إلَى عُمَرَ وَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ، وَاخْتَارَهُ يَعْقُوبُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِرَفْعِ الرَّاءِ أَوْ خَفْضِهَا فَفِي الْأَنْصَارِ سَابِقٌ وَمُصَلٍّ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ وَاحِدٌ.
[مَسْأَلَة أَوَّلُ السَّابِقِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَوَّلُ السَّابِقِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ «قَوْلُ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ اتَّبَعَك عَلَى هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: حُرٌّ وَعَبْدٌ».
وَبِهَذَا احْتَجَّ شَيْخُ السُّنَّةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْجُبَّائِيُّ فِي مَجْلِسِ ابْنِ وَرْقَاءَ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ حِينَ ادَّعَى أَنَّ عَلِيًّا أَوَّلُهُمْ إسْلَامًا وَكَانَا شِيعِيِّينَ.
وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ حَسَّانَ أَنْشَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَضْرَتِهِمْ:
إذَا تَذَكَّرْت شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخَاك أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا
الثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا
فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا قَالَ لَهُ: إنَّمَا كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَارُودِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانٍ النَّيْسَابُورِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَعْدِيٍّ عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ، مَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إسْلَامًا؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ، أَوَ مَا سَمِعْت قَوْلَ حَسَّانَ:
إذَا تَذَكَّرْت شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخَاك أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا
خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا ... بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا
الثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا
وَهَذَا خَبَرٌ اُشْتُهِرَ وَانْتَشَرَ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِأَبْيَاتِ حَسَّانَ، وَذَكَرَهَا ثَلَاثَةً، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنًا فَضْلَ أَبِي بَكْرٍ وَسَبْقَهُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ غَامَرَهُ: «دَعُوا لِي صَاحِبِي، فَإِنِّي بُعِثْت إلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَقَالُوا: كَذَبْت، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْت»، وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مِنْهُمْ الزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وَسَعْدٌ، وَعُثْمَانُ، وَأَهْلُ الْعَقَبَتَيْنِ، وَلَيْسَ فِي تَقْدِمَةِ إسْلَامِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، لَا عَنْ سَلْمَانَ، وَلَا عَنْ الْحَسَنِ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ.
[مَسْأَلَة قِرَاءَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100]: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ الَّذِينَ بِإِسْقَاطِ الْوَاوِ نَعْتًا لِلْأَنْصَارِ، فَرَاجَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَسَأَلَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَصَدَّقَ زَيْدًا فَرَجَعَ إلَيْهِ عُمَرُ، وَثَبَتَتْ الْوَاوُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّابِعِينَ؛ فَقِيلَ: هُمْ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ كَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمَنْ دَانَاهُمْ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ؛ وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ شَكَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَالِدٍ: دَعُوا لِي أَصْحَابِي، فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ». خَرَّجَهُ الْبَرْقَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: هُمْ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلَا عَايَنُوا مُعْجِزَاتِهِ؛ وَلَكِنَّهُمْ سَمِعُوا خَبَرَهُ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي مِنْ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ اسْمٌ مَخْصُوصٌ بِالْقَرْنِ الثَّانِي، فَيُقَالُ صَحَابِيٌّ وَتَابِعِيٌّ بِهَذِهِ الْخُطَّةِ، لِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَفَانَا أَنْ اتَّقَيْنَا اللَّهَ، وَاهْتَدَيْنَا بِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ، وَاقْتَفَيْنَا آثَارَهُ، وَاسْمُ الْأُخُوَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا تِبْيَانًا لَنَا.
[مَسْأَلَة الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ، وَبُيِّنَتْ الْخُطَطُ فَإِنَّ السَّابِقَ إلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمُتَقَدِّمَ إلَى الطَّاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُصَلِّي فِيهَا وَالتَّالِي بِهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].
وَلَكِنْ مَنْ سَبَقَ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ مَرْتَبَةً، وَأَوْفَى أَجْرًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّابِقِ مِنْ الْفَضْلِ إلَّا اقْتِدَاءُ التَّالِي بِهِ، وَاهْتِدَاؤُهُ بِهَدْيِهِ، فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ، وَمِثْلُ ثَوَابِ مَنْ اتَّبَعَهُ مُقْتَدِيًا بِهِ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا».
وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا عَنْهُ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا»؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
[مَسْأَلَة السَّبْقَ يَكُونُ بِالصِّفَاتِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّبْقَ يَكُونُ بِالصِّفَاتِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَفْضَلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ سَبْقُ الصِّفَاتِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ. فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ».
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ مَنْ سَبَقَنَا مِنْ الْأُمَمِ بِالزَّمَانِ فَجِئْنَا بَعْدَهُمْ سَبَقْنَاهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَالِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالِانْقِيَادِ إلَيْهِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِهِ، وَالرِّضَا بِتَكْلِيفِهِ، وَالِاحْتِمَالِ لِوَظَائِفِهِ، لَا نَعْتَرِضُ عَلَيْهِ، وَلَا نَخْتَارُ مَعَهُ، وَلَا نُبَدِّلُ بِالرَّأْيِ شَرِيعَتَهُ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ.
وَذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ لِمَا قَضَاهُ، وَبِتَيْسِيرِهِ لِمَا يَرْضَاهُ، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ.
[مَسْأَلَة هَلْ لِلْأَعْرَابِ حَقّ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: لَمَّا ذَمَّ اللَّهُ الْأَعْرَابَ بِنَقْصِهِمْ وَحَطَّهُمْ عَنْ الْمَرْتَبَةِ الْكَامِلَةِ لِسِوَاهُمْ تَرَتَّبَتْ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، حَسْبَمَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الْحَشْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
ثَانِيهَا: أَنَّ إمَامَتَهُمْ بِأَهْلِ الْحَضَرِ مَمْنُوعَةٌ لِجَهْلِهِمْ بِالسُّنَّةِ وَتَرْكِهِمْ لِلْجُمُعَةِ.
ثَالِثُهَا: إسْقَاطُ شَهَادَةِ الْبَادِيَةِ عَنْ الْحَضَارَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ؛ فَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ، وَمَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ، وَوِلَايَةٌ كَرِيمَةٌ، فَإِنَّهَا قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ، وَتَنْفِيذُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَمَالَ الصِّفَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نُقْصَانَ صِفَتِهِ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ.
وَقِيلَ: إنَّمَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ التُّهْمَةِ إذَا شَهِدَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ بِحُقُوقِ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ، وَتِلْكَ رِيبَةٌ؛ إذْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْحَضَرِيُّونَ، فَعَدَمُ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ وَوُجُودُهَا عِنْدَ الْبَدْوِيِّينَ رِيبَةٌ تَقْتَضِي التُّهْمَةَ، وَتُوجِبُ الرَّدَّ، وَعَنْ هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ كَالْجِرَاحِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَكُونُ فِي الْحَضَرِ مَاضِيَةٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْحَضَرِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَاعِي كُلَّ تُهْمَةٍ؛ أَلَا تَرَاهُ يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ مَنْ أَرَادَ اسْتِيفَاءَهُ.
{"ayah":"وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَـٰجِرِینَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَـٰنࣲ رَّضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُوا۟ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۚ ذَ ٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ"}