الباحث القرآني
(p-٢٢٢٩)سُورَةُ الأنْعامِ
(p-٢٢٣٠)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ٦- سُورَةُ الأنْعامِ
وهِيَ مَكِّيَّةٌ. وهي مِائَةٌ وخَمْسٌ وسِتُّونَ آيَةً.
رَوى العَوْفِيُّ وعِكْرِمَةُ وعَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ الأنْعامِ بِمَكَّةَ.
رَوى أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: هي مَكِّيَّةٌ، نَزَلَتْ جُمْلَةً واحِدَةً، نَزَلَتْ لَيْلًا وكَتَبُوها مِن لَيْلَتِهِمْ، غَيْرَ سِتِّ آياتٍ مِنها، فَإنَّها مَدَنِيّاتٌ، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١] إلى آخِرِ الثَّلاثِ آياتٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١] (p-٢٢٣١)الآيَةَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الأنعام: ٩٣] إلى آخِرِ الآيَتَيْنِ.
وذَكَرٌ مُقاتِلٌ نَحْوَ هَذا وزادَ آيَتَيْنِ، وهُما قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْلَمُونَ أنَّهُ مُنَـزَّلٌ مِن رَبِّكَ﴾ [الأنعام: ١١٤] الآيَةَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ﴾ [الأنعام: ٢٠] الآيَةَ.
ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا وقَتادَةَ أنَّهُما قالا: إنَّها مَكِّيَّةٌ إلّا آيَتَيْنِ نَزَلَتا بِالمَدِينَةِ، قَوْلُهُ: ﴿وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١] وقَوْلُهُ: ﴿وهُوَ الَّذِي أنْشَأ جَنّاتٍ﴾ [الأنعام: ١٤١] الآيَةَ.
(p-٢٢٣٢)قالَ البَيْهَقِيُّ في (الدَّلائِلِ): في بَعْضِ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَكَّةَ آياتٌ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، فَأُلْحِقَتْ بِها. وكَذا قالَ ابْنُ الحَصّارِ: كُلُّ نَوْعٍ مِنَ المَكِّيِّ والمَدَنِيِّ، مِنهُ آياتٌ مُسْتَثْناةٌ. قالا: إلّا أنَّ مِنَ النّاسِ مَنِ اعْتَمَدَ في الِاسْتِثْناءِ عَلى الِاجْتِهادِ دُونَ النَّقْلِ. ثُمَّ ناقَشَ هَذِهِ الآياتِ، قالَ: ولا يَصِحُّ بِهِ نَقْلٌ، خُصُوصًا ما ورَدَ أنَّها نَزَلَتْ جُمْلَةً.
ورَدَّ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ بِأنَّهُ صَحَّ النَّقْلُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، بِاسْتِثْناءِ: ﴿قُلْ تَعالَوْا﴾ [الأنعام: ١٥١] الآياتُ الثَّلاثُ، والبَواقِي: ﴿وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١] لِما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ أنَّها نَزَلَتْ في مالِكِ بْنِ الصَّيْفِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الأنعام: ٩٣] نَزَلَتا في مُسَيْلِمَةَ، وقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ﴾ [الأنعام: ٢٠] وقَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْلَمُونَ أنَّهُ مُنَـزَّلٌ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ﴾ [الأنعام: ١١٤]
وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ الكَلْبِيِّ قالَ: نَزَلَتِ الأنْعامُ كُلُّها بِمَكَّةَ، إلّا آيَتَيْنِ نَزَلَتا بِالمَدِينَةِ في رَجُلٍ مِنَ اليَهُودِ، وهو الَّذِي قالَ: ﴿ما أنْـزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١] - كَذا في (اللُّبابِ) و(الإتْقانِ). ومِن خَصائِصِ هَذِهِ السُّورَةِ ما أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الأنْعامِ بِمَكَّةَ لَيْلًا، جُمْلَةً واحِدَةً، حَوْلَها سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ، يَجْأرُونَ بِالتَّسْبِيحِ.
(p-٢٢٣٣)ورَوى السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الأنْعامِ يُشَيِّعُها سَبْعُونَ ألْفًا مِنَ المَلائِكَةِ. ورُوِيَ نَحْوُهُ مِن وجْهٍ آخَرَ عَنْهُ أيْضًا.
رَوى الحاكِمُ في (مُسْتَدْرَكِهِ) عَنْ جابِرٍ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ سُورَةُ الأنْعامِ سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قالَ: لَقَدْ شَيَّعَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ المَلائِكَةِ ما سَدَّ الأُفُقَ». . ثُمَّ قالَ: صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وأخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نَزَلَتْ سُورَةُ الأنْعامِ مَعَها مَوْكِبُ المَلائِكَةِ سَدَّ ما بَيْنَ الخافِقَيْنِ، لَهم زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ، والأرْضُ بِهِمْ تَرْتَجُّ، ورَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ: سُبْحانَ اللَّهِ العَظِيمِ؟ سُبْحانَ اللَّهِ العَظِيمِ!»
وأخْرَجَ أيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الأنْعامِ جُمْلَةً واحِدَةً، وشَيَّعَها سَبْعُونَ ألْفًا مِنَ المَلائِكَةِ، لَهم زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ والتَّحْمِيدِ».
قالَ الرّازِيُّ: قالَ الأُصُولِيُّونَ: هَذِهِ السُّورَةُ اخْتُصَّتْ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الفَضِيلَةِ:
أحَدُهُما: - أنَّها نَزَّلَتْ دُفْعَةً واحِدَةً.
والثّانِي: أنَّها شَيَّعُها سَبْعُونَ ألْفًا مِنَ المَلائِكَةِ. والسَّبَبُ فِيهِ أنَّها مُشْتَمِلَةٌ عَلى دَلائِلِ التَّوْحِيدِ، والعَدْلِ، والنُّبُوَّةِ، والمَعادِ، وإبْطالِ مَذاهِبِ المُبْطِلِينَ والمُلْحِدِينَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ عِلْمَ الأُصُولِ في غايَةِ الجَلالَةِ والرِّفْعَةِ. وأيْضًا فَإنْزالُ ما يَدُلُّ عَلى الأحْكامِ، قَدْ تَكُونُ المَصْلَحَةُ أنْ يُنْزِلَهُ اللَّهُ تَعالى قَدْرَ حاجَتِهِمْ، وبِحَسْبِ الحَوادِثِ والنَّوازِلِ. وأمّا ما يَدُلُّ عَلى عِلْمِ الأُصُولِ، فَقَدْ أنْزَلَهُ اللَّهُ تَعالى جُمْلَةً واحِدَةً، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ تَعَلُّمَ عِلْمِ الأُصُولِ واجِبٌ عَلى الفَوْرِ، لا عَلى التَّراخِي.
وأخْرَجَ الدّارِمِيُّ في (مُسْنَدِهِ) عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: الأنْعامُ مِن نَواجِبِ القُرْآنِ.
وفِي القامُوسِ: نَجائِبُ القُرْآنِ: أفْضَلُهُ ومَحْضُهُ. ونَواجِبُهُ لُبابُهُ. انْتَهى.
وسُمِّيَتْ بِ (سُورَةِ الأنْعامِ)، لِأنَّ أكْثَرَ أحْكامِها، وجَهالاتِ المُشْرِكِينَ فِيها، وفي التَّقَرُّبِ بِها إلى أصْنامِهِمْ - مَذْكُورَةٌ فِيها.
(p-٢٢٣٤)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[١] ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾
﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أيْ: جَمِيعُ المَحامِدِ، بِما حَمِدَ بِهِ نَفْسَهُ أوْ خَلْقُهُ، أوْ حَمِدَ بِهِ الخَلْقُ رَبَّهُمْ، أوْ بَعْضُهُمْ، مَخْصُوصٌ بِهِ. ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ الكامِلَةِ، الواجِبَةِ لِاسْتِحْقاقِهِ لِجَمِيعِ المَحامِدِ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ خَصَّهَما بِالذِّكْرِ، لِأنَّهُما أعْظَمُ المَخْلُوقاتِ، فِيما يَرى العِبادُ، وفِيهِما العِبَرُ والمَنافِعُ؛ لِأنَّ السَّماواتِ بِأوْضاعِها وحَرَكاتِها أسْبابُ الكائِناتِ والفاسِداتِ الَّتِي هي مَظاهِرُ الكَمالاتِ الإلَهِيَّةِ. والأرْضُ مُشْتَمِلَةٌ عَلى قَوابِلِ الكَوْنِ والفَسادِ الَّتِي هي المُسَبِّباتُ.
﴿وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ﴾ أيْ: أوْجَدَهُما مَنفَعَةً لِعِبادِهِ، في لَيْلِهِمْ ونَهارِهِمْ.
وهَهُنا لَطائِفُ:
الأُولى: أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الآيَةِ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ المُنْعِمَ بِهَذِهِ النِّعَمِ الجِسامِ هو الحَقِيقُ بِالحَمْدِ والعِبادَةِ، دُونَ ما سِواهُ.
الثّانِيَةُ: لَفْظُ (جَعَلَ) يَتَعَدّى إلى واحِدٍ إذا كانَ بِمَعْنى أحْدَثَ وأنْشَأ، كَما هُنا؛ وإلى مَفْعُولَيْنِ إذا كانَ بِمَعْنى (صَيَّرَ) كَقَوْلِهِ: ﴿وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾ [الزخرف: ١٩] والفَرْقُ بَيْنَ (الخَلْقِ) و(الجَعْلِ) أنَّ الخَلْقَ فِيهِ مَعْنى التَّقْدِيرِ، وفي (الجَعْلِ) مَعْنى التَّضْمِينِ، كَإنْشاءِ شَيْءٍ مِن شَيْءٍ أوْ تَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا، أوْ نَقْلِهِ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ. ومِن ذَلِكَ: (p-٢٢٣٥)﴿وجَعَلَ مِنها زَوْجَها﴾ [الأعراف: ١٨٩] ﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا﴾ [ص: ٥] وإنَّما حَسُنَ لَفْظُ (الجَعْلِ) هَهُنا؛ لِأنَّ النُّورَ والظُّلْمَةَ لَمّا تَعاقَبا، صارَ كَأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما إنَّما تَوَلَّدَ مِنَ الآخَرِ - قالَهُ الرّازِيُّ - وسَبَقَهُ إلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. قالَ النّاصِرُ في "الِانْتِصافِ": وقَدْ ورَدَتْ: جَعَلَ و: خَلَقَ مَوْرِدًا واحِدًا. فَوَرَدَ: وخَلَقَ مِنها زَوْجَها. ووَرَدَ: وجَعَلَ مِنها زَوْجَها. وذَلِكَ ظاهِرٌ في التَّرادُفِ. إلّا أنَّ لِلْخاطِرِ مَيْلًا إلى الفَرْقِ الَّذِي أبْداهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. ويُؤَيِّدُهُ أنَّ: جَعَلَ لَمْ يَصْحَبِ السَّماواتِ والأرْضَ، وإمّا لَزِمَتْهُما: خَلَقَ. وفي إضافَةِ (الخَلْقِ) في هَذِهِ الآيَةِ إلى السَّماواتِ والأرْضِ، و(الجَعْلِ) إلى الظُّلُماتِ والنُّورِ، مِصْداقٌ لِلْمَيْزِ بَيْنَهُما، واللَّهُ أعْلَمُ.
الثّالِثَةُ: إنْ قِيلَ: لِمَ جُمِعَتِ السَّماواتُ دُونَ الأرْضِ مَعَ أنَّها مِثْلُهُنَّ لِقَوْلِهِ تَعالى: (p-٢٢٣٦)﴿ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ١٢] وفي الحَدِيثِ: ««هَلْ تَدْرُونَ ما هَذِهِ؟ قالُوا: هَذِهِ أرْضٌ. هَلْ تَدْرُونَ ما تَحْتَها؟ قالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ؟ قالَ: أرْضٌ أُخْرى، وبَيْنَهُما مَسِيرُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، حَتّى عَدَّ سَبْعَ أرْضِينَ، بَيْنَ كُلِّ أرْضِينَ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ»». - أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وأبُو الشَّيْخِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(p-٢٢٣٧)فالجَوابُ: لِأنَّ السَّماواتِ طَبَقاتٌ مُتَفاضِلَةٌ بِالذّاتِ، مُخْتَلِفَةٌ بِالحَقِيقَةِ، بِخِلافِ الأرْضِينَ، كَما قالَهُ البَيْضاوِيُّ.
وقالَ الرّازِيُّ: إنَّ السَّماءَ جارِيَةٌ مَجْرى الفاعِلِ. والأرْضَ مَجْرى القابِلِ. فَلَوْ كانَتِ السَّماءُ واحِدَةً لَتَشابَهَ الأثَرُ، وذَلِكَ يُخِلُّ بِمَصالِحِ هَذا العالَمِ. أمّا لَوْ كانَتْ كَثِيرَةً اخْتَلَفَتِ الِاتِّصالاتُ الكَوْكَبِيَّةُ، فَحَصَلَ بِسَبَبِها الفُصُولُ الأرْبَعَةُ، وسائِرُ الأحْوالِ المُخْتَلِفَةِ، وحَصَلَ بِسَبَبِ تِلْكَ الِاخْتِلافاتِ مَصالِحُ هَذا العالَمِ. أمّا الأرْضُ فَهي قابِلَةٌ لِلْأثَرِ، والقابِلُ الواحِدُ كافٍ في القَبُولِ. انْتَهى.
وقَدَّمَ السَّماواتِ لِشَرَفِها وعُلُوِّ مَكانِها.
الرّابِعَةُ: الظّاهِرُ في (الظُّلُماتِ والنُّورِ) أنَّ المُرادَ مِنهُما الأمْرانِ المَحْسُوسانِ بِحِسِّ البَصَرِ. والَّذِي يُقَوِّي ذَلِكَ أنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِيهِما. والأصْلُ اللَّفْظُ عَلى حَقِيقَتِهِ. ولِأنَّ (الظُّلُماتِ والنُّورَ) إذا قُرِنا بِالسَّماواتِ والأرْضِ، لَمْ يُفْهَمْ مِنهُما إلّا الأمْرانِ المَحْسُوسانِ، ونُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أنَّهُ عَنى بِهِما الكُفْرَ والإيمانَ.
ورَجَّحَ الرّازِيُّ الأوَّلَ لِما ذُكِرَ.
ووَجَّهَ بَعْضُهُمُ الثّانِيَ بِأنَّ المَعْنى: أنَّهُ لَمّا خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ، فَقَدْ نَصَبَ الأدِلَّةَ عَلى مَعْرِفَتِهِ وتَوْحِيدِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ طَرِيقَ الضَّلالِ، وطَرِيقَ الهُدى، بِإنْزالِ الشَّرائِعِ والكُتُبِ السَّماوِيَّةِ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فَناسَبَ المَقامَ (ثُمَّ) الِاسْتِبْعادِيَّةُ إذْ يَبْعُدُ مِنَ العاقِلِ النّاظِرِ بَعْدَ إقامَةِ الدَّلِيلِ، اخْتِيارُ الباطِلِ. انْتَهى.
وعَلَيْهِ فَجَمْعُ (الظُّلُماتِ) وتَوْحِيدُ (النُّورِ) ظاهِرٌ؛ لِأنَّ الهُدى واحِدٌ، والضَّلالَ مُتَعَدِّدٌ، كَما قالَ في آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣]
(p-٢٢٣٨)وعَلى الأوَّلِ، فَجَمْعُها لِظُهُورِ كَثْرَةِ أسْبابِها ومَحالِّها عِنْدَ النّاسِ، فَإنَّ لِكُلِّ جِرْمٍ ظُلْمَةً، ولَيْسَ لِكُلِّ جِرْمٍ نُورٌ. وأمّا تَقْدِيمُهُما فَلِسَبْقِها في التَّقْدِيرِ والتَّحَقُّقِ، عَلى النُّورِ.
وفِي الأثَرِ: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ في ظُلْمَةٍ ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِن نُورِهِ».
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى الجُمْلَةِ السّابِقَةِ النّاطِقَةِ بِما مَرَّ مِن مُوجِباتِ اخْتِصاصِهِ تَعالى، بِالحَمْدِ المُسْتَدْعِي لِاقْتِصارِ العِبادَةِ عَلَيْهِ. مَسُوقٌ لِإنْكارِ ما عَلَيْهِ الكَفَرَةُ، واسْتِبْعادِهِ مِن مُخالَفَتِهِمْ لِمَضْمُونِها، واجْتِرائِهِمْ عَلى ما يَقْضِي بِبُطْلانِهِ بَدِيهَةُ (p-٢٢٣٩)العُقُولِ. والمَعْنى أنَّهُ تَعالى مُخْتَصٌّ بِاسْتِحْقاقِ الحَمْدِ والعِبادَةِ، بِاعْتِبارِ ذاتِهِ، وبِاعْتِبارِ ما فُصِّلَ مِن شُؤُونِهِ العَظِيمَةِ الخاصَّةِ بِهِ، المُوجِبَةِ لِقَصْرِ الحَمْدِ والعِبادَةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ هَؤُلاءِ الكَفَرَةُ لا يَعْمَلُونَ بِمُوجِبِهِ، ويَعْدِلُونَ بِهِ سُبْحانَهُ. أيْ: يُسَوُّونَ بِهِ غَيْرَهُ في العِبادَةِ الَّتِي هي أقْصى غاياتِ الشُّكْرِ، الَّذِي رَأسُهُ الحَمْدُ، مَعَ كَوْنِ كُلِّ ما سِواهُ مَخْلُوقًا لَهُ، غَيْرَ مُتَّصِفٍ بِشَيْءٍ مِن مَبادِئِ الحَمْدِ. وكَلِمَةُ (ثُمَّ) لِاسْتِبْعادِ الشِّرْكِ بَعْدَ وُضُوحِ ما ذُكِرَ مِنَ الآياتِ التَّكْوِينِيَّةِ، القاضِيَةِ بِبُطْلانِهِ. و(الباءُ) مُتَعَلِّقَةٌ بِ (يَعْدِلُونَ) ووُضِعَ (الرَّبُّ) مَوْضِعَ ضَمِيرِهِ تَعالى، لِزِيادَةِ التَّشْنِيعِ والتَّقْبِيحِ. والتَّقْدِيمُ لِمَزِيدِ الِاهْتِمامِ والمُسارَعَةِ إلى تَحْقِيقِ مَدارِ الإنْكارِ والِاسْتِبْعادِ، والمُحافَظَةِ عَلى الفَواصِلِ، وتُرِكَ المَفْعُولُ لِظُهُورِهِ، أوْ لِتَوْجِيهِ الإنْكارِ إلى نَفْسِ الفِعْلِ، بِتَنْزِيلِهِ مَنزِلَةَ اللّازِمِ، إيذانًا بِأنَّهُ المَدارُ في الِاسْتِبْعادِ، لا خُصُوصِيَّةُ المَفْعُولِ. هَذا هو الحَقِيقُ بِجَزالَةِ التَّنْزِيلِ؛ أفادَهُ أبُو السُّعُودِ.
ثُمَّ ناقَشَ ما وقَعَ لِلْمُفَسِّرِينَ هُنا مِمّا يُخالِفُهُ. فانْظُرْهُ.
وأصْلُ (العَدْلِ) مُساواةُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ. والمَعْنى: أنَّهم يَجْعَلُونَ لَهُ عَدِيلًا مِن خَلْقِهِ، مِمّا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، فَيَعْبُدُونَ الحِجارَةَ، مَعَ إقْرارِهِمْ بِأنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ.
وقالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: (الباءُ) بِمَعْنى (عَنْ) أيْ: عَنْ رَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ويَنْحَرِفُونَ، مِنَ العُدُولِ عَنِ الشَّيْءِ.
لَطِيفَةٌ:
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: (ثُمَّ) دالَّةٌ عَلى قُبْحِ فِعْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ لِأنَّ المَعْنى أنَّ خَلْقَهُ السَّماواتِ قَدْ تَقَرَّرَ، وآياتُهُ قَدْ سَطَعَتْ، وإنْعامُهُ بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ، ثُمَّ بَعْدَ هَذا كُلِّهِ قَدْ عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ. فَهَذا كَما تَقُولُ: أعْطَيْتُكَ وأحْسَنْتُ إلَيْكَ، ثُمَّ تَشْتُمُنِي؟ ولَوْ وقَعَ العَطْفُ في هَذا ونَحْوِهِ بِ (الواوِ) لَمْ يَلْزَمِ التَّوْبِيخُ كَلُزُومِهِ بِ (ثُمَّ). انْتَهى. أيْ: فَفِيها الدَّلالَةُ عَلى التَّوْبِيخِ والإنْكارِ، كالتَّعْجِيبِ أيْضًا.
(p-٢٢٤٠)قالَ أبُو حَيّانَ: هَذا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ مِن أنْ (ثُمَّ) لِلتَّوْبِيخِ. والزَّمَخْشَرِيُّ مِن أنَّها لِلِاسْتِبْعادِ - مَفْهُومٌ مِن سِياقِ الكَلامِ، لا مِن مَدْلُولِ (ثُمَّ). انْتَهى.
وإنَّما لَمْ تَحْمِلْ (ثُمَّ) عَلى التَّراخِي، مَعَ اسْتِقامَتِهِ، لِكَوْنِ الِاسْتِبْعادِ أوْفَقُ بِالمَقامِ؛ لِأنَّ التَّراخِيَ الزَّمانِيَّ مَعْلُومٌ فِيهِ، فَلا فائِدَةَ في ذِكْرِهِ.
{"ayah":"ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِرَبِّهِمۡ یَعۡدِلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق