الباحث القرآني
طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [المائدة ٨٢ - ٨٦]
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً﴾ وأظننا فسرنا هذا.
على كل حال، قال الله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ قوله: ﴿لَتَجِدَنَّ﴾ هذه الجملة مؤكدة بمؤكدات ثلاثة: القسم المقدر الذي دلت عليه اللام في قوله: ﴿لَتَجِدَنَّ﴾؛ ولهذا يسمي النحاة هذه اللام موطئة للقسم، وباللام، وبالنون ﴿لَتَجِدَنَّ﴾ والخطاب فيها إما للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى هذا فيكون الحديث عن اليهود والنصارى والمشركين في هذه الآية الذين كانوا في عهد مَن؟ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإما أن يكون الخطاب لكل من يتوجه إليه الخطاب فتكون هذه الأوصاف عامة في هؤلاء إلى يوم القيامة، فالآية محتملة، ومع ذلك حتى لو قلنا بالعموم فليست تَعُمُّ كل يهوديٍّ بعينه وكل نصراني بعينه وكل مشرك بعينه، لكن هذا الحكم على سبيل العموم.
والأحكام تأتي دائمًا على سبيل العموم كما تقول: الرجال خير من النساء، يعني هذا الجنس خير من هذا الجنس، ويوجد في النساء مَن هو خير من كثير من الرجال ويوجد في الرجال مَن هو شر من كثير من النساء.
إذن الخطاب يحتمل أن يكون لِمَن؟ للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى هذا فيختصُّ الحكم لهؤلاء الذين بعد الرسول ﷺ، ويحتمل العموم ويكون المراد الجنس ما هو كل فرد، لا الجنس.
﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ﴾ يحتمل في ﴿أَشَدَّ﴾ أن تكون مفعولًا ثانيًا مقدمًا ويحتمل أن تكون هي المفعول الأول، فعلى الأول يكون التقدير: لتجدن اليهود والذين أشركوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا، هذا إذا جعلنا ﴿أَشَدَّ﴾ مفعولًا أول، وإذا جعلناها ثانيًا: صارت مقدمة، انتبه ﴿أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ يحتمل أن تكون ﴿أَشَدَّ﴾ هي المفعول الأول ويكون المراد الإخبار عن أشد الناس عداوة، ويحتمل أن يكون أشد مفعولًا ثانيًا، ويكون المراد الإخبار عن هاتين الطائفتين اليهود والنصارى بأنهم أشد الناس عداوة، فأيهما أعظم؟ أن نجعل ﴿أَشَدَّ﴾ هي المفعول الأول و﴿الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ المفعول الثاني؟ أو العكس؟ الأول أشد، يعني لو سألت عن أشد الناس عداوة لوجدتهم مَن؟ اليهود والذين أشركوا.
إذن نقول: ﴿أَشَدَّ﴾ هي المفعول الأول وهي في محل مبتدأ؛ لأن (وجد) تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، فحينئذ يكون معناه الإخبار عن أشد الناس عداوة، إذا جعلنا ﴿أَشَدَّ﴾ مفعولًا ثانيًا مقدمًا صار المعنى الإخبار عن اليهود والذين أشركوا أنهم أشد الناس عداوة، لكن المعنى الأول أشد وأعظم.
﴿أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً﴾ والعداوة ضد الولاية، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت ٣٤] أي: صديق مخلص، إذن العداوة ضد أيش؟ ضد الولاية.
وقوله: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني بذلك المؤمنين في عهد الرسول ﷺ إذا جعلنا الخطاب لمَن؟ للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إن جعلنها للعموم فالمراد الذين آمنوا في كل وقت، اليهود هم الذين يَدَّعون أنهم أتباع موسى ويقولون: نحن شعب الله المختار ويحتقرون ما سواهم من الشعوب، وقد عُرِفوا بالاستكبار والتعالي والتعجرف حتى على رسولهم موسى عليه الصلاة والسلام، سُمُّوا يهودًا قيل: إنه مأخوذ من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هَادُوا﴾ [البقرة ٦٢] وقولهم: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف ١٥٦]، وقيل: إنه اسم لجدهم وأن اسمه يهوذا لكن مع التعريب صارت الذال دالًا.
وأيًّا كان فهم معروفون هم طائفة من بني إسرائيل يَدَّعُون أنهم مُتَّبِعُون لمَن؟ لموسى.
﴿وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ الذين أشركوا من العرب وغيرهم، فهذان الصنفان من بني آدم هم أشد الناس عداوة للمؤمنين، أما اليهود فوجه عداوتهم أنهم حسدوا العرب لكون الرسالة العامة الخالدة فيهم، وكان اليهود مِنْ قَبْل يستفتحون على الذين كفروا ويقولون: سيبعث نبيٌّ ونتبعه وننتصر عليكم، ولما بُعِثَ محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم من العرب حسدوهم وأنكروا ذلك، أما الذين أشركوا فهم المشركون وصاروا أشد الناس عداوة؛ لأنهم ضد التوحيد، والمؤمنون موحدون والمشرك يبغض الموحد ويكرهه ويراه أشد الناس عدوًا له.
قال: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ ﴿لَتَجِدَنَّ﴾ نقول فيها ما قلنا في الأولى.
وهنا قال: ﴿أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً﴾ ولم يقل: أشدهم مودة يعني ما فيه مودة، لكنهم قريبون هو قال في اليهود: ﴿أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً﴾ لكن هؤلاء قال: ﴿أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً﴾ ومعلوم أن القرب ليس هو الوصول، فهم ليس عندهم مودة للمؤمنين -أعني النصارى- لكنهم أقرب من غيرهم مودة، ولو كانت عندهم مودة لقال: أشد الناس مودة، أو ما أشبه ذلك.
﴿مَوَدَّةً﴾ (المودة) من الوُدِّ وهو خالص المحبة ومن أسماء الله تعالى (الودود) بمعنى الوادّ وبمعنى المودود.
﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ نقول في أقرب من حيث الإعراب ما قلنا في ﴿أَشَدَّ﴾.
﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ ولا سيما في عهد النبي ﷺ، فالنصارى في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام قريبون من المؤمنين ولذلك أسلم منهم خلق كثير، وممن أسلم ملك الحبشة رحمه الله فإنه آمن بالرسول عليه الصلاة والسلام وآوى المهاجرين من أصحابه إيواءً يُشْكَر عليه ونسأل الله أن يثيبه عليه أتم الثواب، فهو آمن حتى وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه أخ للصحابة وأنه صالح حين توفي قال: «إِنَّهُ تُوِفِّيَ اليَوْمَ أَخٌ لَكُمْ صَالِحٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٨٧٧)، ومسلم (٩٥٢ / ٦٥) من حديث جابر بن عبد الله بنحوه.]] فوصفه بالصلاح والأخوة، رحمه الله.
وكذلك أسلم من النصارى كثير؛ لأن النصارى أقرب عهدًا بالرسالة من اليهود فإنه ليس بين نبيهم عيسى عليه الصلاة والسلام ونبينا محمد ﷺ رسول.
﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ النصارى أي الأنصار، هذا أحسن ما يقال في التفسير؛ لأنه يؤيده قوله في سورة الصف: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ [آل عمران ٥٢] ثم علَّل الله تعالى ذلك بِعِلَل فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ المشار إليه كون النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا ﴿بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ هذه خمسة أشياء.
﴿ذَلِكَ﴾ أي أيش؟ أي: سبب كونهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا ﴿بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾ (القسيس) هو العالم الكبير، والعالم عنده معرفة يعرف الحق ويعمل به لا سيما أن التوراة والإنجيل فيهما وصف الرسول ﷺ وصفًا مطابقًا تمامًا، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف ١٥٧] كل هذه الصفات موجودة في التوراة والإنجيل، فهم عندهم علم أعني القسيسين.
الثاني: الرهبان، ومنهم رهبان، الرهبان هم العباد؛ لأن النصارى فرضوا على أنفسهم رهبانية لم تُفْرَض عليهم؛ قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ [الحديد ٢٧] يعني ما فرضناها عليهم لكن هم يبتغون رضوان الله يريدون بذلك رضوان الله وهي غير مكتوبة عليهم، نظيرهم عندنا في الملة الإسلامية الصوفية، عندهم رهبانية ابتدعوها ما فرضها الله عليهم لكن هم يبتغون بذلك رضوان الله ولو رجعوا إلى أنفسهم لعلموا أن رضوان الله إنما يكون في الاتباع لا في الابتداع.
السبب الثاني: ﴿وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ ليس عندهم استكبار، المشركون عندهم استكبار؟ نعم، عندهم استكبار، اسمع ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا﴾ [الفرقان ٤١] والهمزة هنا للاستفهام الاحتقاري، احتقار، ويقولون: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف ٣١] وهم يعلمون –والله- أن أعظم مَنْ في القريتين ومَنْ في الأرض كلها هو محمد ﷺ لكنه العناد والاستكبار، «ولما جمعهم ودعاهم إلى الله قالوا: تبًا لك، ألهذا جمعتنا؟»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٧٧٠)، ومسلم (٢٠٨ / ٣٥٥) من حديث عبد الله بن عباس.]]. اليهود، حَدِّث ولا حرج في الاستكبار حتى قالوا لنبيهم: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة ٢٤] استكبار واضح، ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ قاعدون على الكراسي، على الأرض، على الفرش وأنتم اذهبوا للقتال، أفبعد هذا الاستكبار شيء؟ لا، فهم مستكبرون إذا كان هذا قولهم لنبيهم فما بالك بنبي بُعِثَ من العرب ﴿وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾.
الثالث: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾ هذا، نقل المؤرخون والمفسرون أيضًا أن الذين هاجروا إلى الحبشة لما قرؤوا القرآن على النجاشي ومن حوله جعلوا يبكون تفيض أعينهم من الدمع يعني تمتلئ، من قولهم: فاض الإناء، إذا امتلأ وخرج الماء من حافتيه، أعينهم قامت ترقرق بالدمع وتفيض مما عرفوا من الحق وقالوا: هذا الذي نزل على عيسى، فعرفوا أن هذا هو الحق، كما قال ورقة بن نوفل، قال للرسول عليه الصلاة والسلام حين أخبره بما نزل عليه من الحق قال: «هذا هو النَّامُوسُ الذي نزل على موسى»[[متفق عليه؛ البخاري (٣)، ومسلم (١٦٠ / ٢٥٢) من حديث عائشة رضي الله عنها.]] فهم عرفوا الحق وبكوا. نعم يأتي في الفوائد.
﴿مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾ ﴿يَقُولُونَ﴾ أيضا هذا سبب ثالث؟
* طالب: رابع.
* الشيخ: ﴿بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾.
الرابع: أنه ليس عندهم استكبار، يُسَلِّمُون للحق من حين أن عرفوه ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾.
والمفسرون أيضًا أن الذين هاجروا إلى الحبشة لما قرؤوا القرآن على النجاشي ومَن حوله جعلوا يبكون، تفيض أعينهم من الدمع، يعني تمتلئ، من قولهم: فاض الإناء، إذا امتلأ الإناء وخرج الماء من حافتيه، أعينهم قامت ترقرق بالدمع وتفيض، ﴿مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾، وقالوا: هذا الذي نزل على عيسى، فعرفوا أن هذا هو الحق، كما قال ورقة بن نوفل، قال للرسول عليه الصلاة والسلام حين أخبره بما نزل عليه من الحق، قال: «هذا هو الناموس الذي نزل على موسى»[[متفق عليه؛ البخاري (٣)، ومسلم (١٦٠ / ٢٥٢) من حديث عائشة.]]، فهم عرفوا الحق وبكوا، ﴿مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ﴾، أيضًا هذا سبب ثالث.
* طالب: (...).
* الشيخ: ﴿بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾ [المائدة ٨٢ ، ٨٣]
الرابع: أنه ليس عندهم استكبار، يُسَلِّمون للحق من حين أن عرفوه.
﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ إقرار بالربوبية في قولهم: ﴿رَبَّنَا﴾، وبدين الله في قولهم: ﴿آمَنَّا﴾.
﴿فَاكْتُبْنَا﴾ (الفاء) هذه للسببية، أي: فبسبب إقرارنا بالرب عز وجل وإيماننا به اكتبنا مع الشاهدين، والذي يسأل الله أن يكتبه مع الشاهدين هل يمكن أن يستكبر عن دين الشاهدين؟ لا يمكن، هم يسألون هذا، ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ من هم؟
قال العلماء: الشاهدون هم محمد ﷺ وأمته، الحمد لله؛ لأن الله يقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة ١٤٣] يعني: عدلًا خيارًا، فلا أحد من الأمم أعدل من هذه الأمة -اللهم اجعلنا منهم- لا أحد أعدل منها.
﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة ١٤٣]، نحن نشهد على الناس، والرسول ﷺ يشهد علينا أنه بلَّغَنا، وأننا أقررنا بتبليغه.
إذن ﴿مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ يعني: مع محمد والمؤمنين، وكانوا شهداء؛ لأنهم هم آخر الأمم، كل الأمم ماضية وسابقة يعرفونها، لكن الأمة الأولى تشهد على من بعدها؟ لا، ما تشهد، ولذلك لو سُئِلْنا: من الأمة الشاهدة؟ لقلنا: أمة محمد ﷺ؛ لأنها آخر الأمم، تعرف ما جرى على الأمم وتشهد به.
﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾، ثم قال: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ﴾ [المائدة ٨٤]، هذا الحديث: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ﴾ يحتمل أنه حديث نفس، بمعنى أن الواحد منهم يقول: كيف ما أؤمن والحق واضح، ويحتمل أنه دفعٌ لِلَوم وُجِّهَ إليهم، يعني قيل لهم: ليش تؤمنون بمحمد؟ فقالوا: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ﴾.
هل يمكن أن يكون لهذا وهذا؟ يمكن أن يكون بعضهم يصارع نفسه، ونفسه تقول له تحدثه: ليش تؤمن، فيقول: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾، عندما يفكرون يرون أنه لا بد أن يؤمنوا؛ لأن الحق واضح.
ويحتمل أنه إذا ألقى إليهم أحد لومًا وقال: كيف تؤمنون؟ يقولون: ﴿وَمَا لَنَا﴾، يعني أي شيء يصدنا، أي شيء يمنعنا، ﴿لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ﴾، وهذا يدل على كمال عقلهم.
قال: ﴿وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾، سبحان الله! تعبير المؤمن: ﴿نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾، والقوم الصالحون يشمل من كان صالحًا من هذه الأمة، ومن كان صالحًا من غيرها، في الأول قالوا: اكتبنا مع الشاهدين، مع هذه الأمة، في الثاني وهو الطمع بدخول الجنة قالوا: ﴿نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾؛ لأن الجنة دار لهذه الأمة وللصالحين من غيرها، فلذلك قالوا: ﴿وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾، واضح الفرق بين التعبيرين؛ الأولى: سألوا الله أن يكتبهم مع الشاهدين، والثانية: طمعوا أن يُدخِلهم الله في الصالحين، ﴿أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾ يعني: يدخلنا الجنة؛ لأن الجنة تكون للصالح من هذه الأمة وغيرها.
* طالب: ما يؤيد احتمال وجوه الآية؟
* الشيخ: أي الأوجه؟
* الطالب: أن هذه الآية نزلت مخاطبة للنبي (...) من صاروا نصارى في عهده، قوله: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ مع أن كثيرًا من الآيات تأتي في وصفهم بالنصاري، مما يفيد أن هذه الآية تضمنت وصفهم بهذه الـ..
* الشيخ: ربما تكون هذه تُقَوِّي، لكن كلمة ﴿قَالُوا﴾ قد يعبِّر بالماضي عن المستقبل لحكاية الحال.
* طالب: قوله تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ [الحديد ٢٧] هذا ذم، مما ذكر هنا في الآية أنهم يقبلون الحق، وأنهم أقرب مودة للمؤمنين بأن منهم رهبانًا، كيف يتم الجمع؟
* الشيخ: لأن هناك ما أتاهم رسول، عيسى عليه الصلاة والسلام تُوُفِّي وما جاء بعده رسول، فابتدعوا في دين الله ما ليس منه، لكن بعد أن جاء محمد عرفوا الحق.
* الطالب: الرهبانية الآن بقية مما ابتدعوه، يعني هذه بدعة مستمرة معهم؟
* الشيخ: إي نعم، مستمرة، فلما جاء الرسول واتبعوا الحق تركوها، لكن الراهب أقرب إلى قبول الحق؛ لأنه يريد رضا الله.
* طالب: قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾، هذه الصفات التي ذُكِرَت في الآية تقتضي أنهم يكونون أشدهم مودة؟
* الشيخ: لا، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾، وأنهم ﴿إِذَا سَمِعُوا﴾، الأوصاف هذه لمن آمن منهم، لكن على سبيل العموم، وعلى سبيل الجنس هم الذين قالوا: ﴿إِنَّا نَصَارَى﴾، وأنا ذكرت لكم قبل قليل الفرق بين الجنس وبين الفرد، الآن هل نقول: كل يهودي أشد الناس عداوة للمؤمنين، وكل نصراني أقربهم مودة؟ لا، هذا باعتبار الجنس.
* طالب: بارك الله فيكم، السؤال يا شيخ: هل يؤيد ما ذُكِر في الآية أن أكثر من يُسلِم الآن من النصاري، ثم كيف نرد على الذين يقولون بتقريب الأديان ويقولون: هذه الآية دليل لنا فنحن نقارب النصارى (...).
* الشيخ: هذه سوف تأتي في الفوائد إن شاء الله، السؤال هذا يكون في الفوائد.
* طالب: الحكمة من التعبير بـ(نطمع) في قولهم ﴿وَنَطْمَعُ﴾؟
* الشيخ: إي نعم؛ لأن الإنسان ما يجزم، قال الله عز وجل: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [السجدة ١٦]، الإنسان ما يجزم، بل إن الإنسان إذا جزم لنفسه بأنه من أهل الجنة فهذا غلط عظيم، لكن يرجو ويطمع، لو أنه جزم بأنه من أهل الجنة لكان يلزم من هذا أنه زكى نفسه وشهد لها بالجنة، وهذا خطير جدًّا على الإنسان؛ لأن معناه أنه وثِق بأن عمله مقبول، وأنه ليس منه خطأ يمنعه من دخول الجنة.
* طالب: ذكرنا في قواعد التفسير أن من الأفضل للإنسان أن يحاول أن يفسِّر بنفسه، فما هو الحد الأدنى من المعرفة التى تجعل الإنسان يحاول التفسير بنفسه؟
* الشيخ: طالب العلم، إنسان يعرف، طالب علم، نحن ما نقول لعاميّ ما يعرف إلا دكانه: تعال حاول أن تفسر القرآن، ما هو بعالم.
* طالب: معاني الكلمات، هل يقرأ معاني الكلمات؟
* الشيخ: معاني الكلمات ما هي لازمة، المهم المعنى الإجمالي، وما تدور حوله الآية، والإنسان يعرف هذا، كل طالب علم يمكن يحاول ويعرف.
* طالب: المراد بالذين ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ هل هم عموم النصارى، أو القسيسون والرهبان منهم؟
* الشيخ: لا، عموم النصارى، لكن كما قلت لك: المراد الجنس، يعني ليس فيهم استكبار المشركين واليهود، وقد يكون في بعضهم أعظم من استكبار اليهود والمشركين.
* طالب: ما حكم تسمية الكثير من النصارى، أغلب المسلمين يطلقون عليهم المسيحيين، يقول: هذا مسيحي، وهذا..؟
* الشيخ: أتدري متى حدث هذا؟ حدث بعد الاستعمار، وإلا تجد كلام العلماء رحمهم الله إلى أن بدأ الاستعمار وذلَّ المسلمون أمام قوة الاستعمار، تجدهم لا يعبِّرون إلا بالنصارى، انظر كتب العلماء -رحمهم الله- السابقين إلى أن استعمر الغرب الدول الإسلامية، فقال: المسيحيين، والكُتَّاب الذين عاشوا تحت وطأة الاستعمار تابَعوهم؛ لأن الغالب -كما قال ابن خلدون في مقدمته-: الغالب أن الذليل يخضع للعزيز ويتابعه، وإلا فليسوا مسيحيين، إذا نزل المسيح في آخر الزمان ماذا يصنع؟ يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ولا يقبل إلا الإسلام، حتى الجزية لا تُقبَل في ذلك الوقت[[متفق عليه؛ البخاري (٢٢٢٢)، ومسلم (١٥٥ / ٢٤٢) من حديث أبي هريرة. ]].
* * *
قال الله تبارك تعالى: ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [المائدة ٨٥].
﴿أَثَابَهُمُ﴾ بمعنى: أعطاهم ثوابًا، والثواب مكافأة العامل في عمله، قال الله تعالى: ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المطففين ٣٦].
وقوله: ﴿بِمَا قَالُوا﴾ أي: بسبب قولهم، وهو: ﴿آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ [المائدة ٨٣، ٨٤] إلى آخره.
والباء في قوله: ﴿بِمَا قَالُوا﴾ للسببية، و(ما) يحتمل أن تكون مصدرية، ويحتمل أن تكون موصولة؛ فإن جعلناها مصدرية صار التقدير: أثابهم الله بقولهم، وإذا جعلناها اسمًا موصولًا صار التقدير: أثابهم الله بالذي قالوا، وحينئذ لا بد من عائد يعود إلى الموصول، وهو هنا محذوف، والتقدير: بما قالوه.
وقوله: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، ﴿جَنَّاتٍ﴾ هنا جمع (جنة)، والله سبحانه وتعالى يعبِّر عنها أحيانًا بالجنة مفردة، وأحيانًا بـ(جنات)، فأما إذا عُبِّر عنها بالجنة مفردة فالمراد بها الجنس، وإذا عُبِّر عنها بالجمع فالمراد بها أنواعها، وأنتم تعلمون أن الله ذكر في سورة الرحمن أربعة أنواع: جنتان، وجنتان، وفي الحديث: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٨٧٨)، ومسلم (١٨٠ / ٢٩٦) من حديث أبي موسى الأشعري.]].
وقوله: ﴿جَنَّاتٍ﴾، إن أردنا أن نردها إلى المعنى اللغوي قلنا: الجنات هي البساتين الكثيرة الأشجار، وسُمِّيَت بذلك لأن أشجارها تُجِنُّ أرضها، أي: تسترها؛ لكثرتها وانتشارها، لكن هذا التفسير لو فُسِّر للعامة لهبطت قيمة الجنة عندهم، وتصوَّروا أنها من جنس بساتين الدنيا، ولهذا نقول في تفسيرها: إنها الدار التي أعدَّها الله عز وجل لأوليائه، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، حتى يعرف الإنسان أن هذه الجنة ليس لها نظير.
وقوله: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي: من تحت قصورها وأشجارها، وليس المراد من تحت أرضها؛ لأن من تحت أرضها لا يُستفاد منه، لكن من تحت أشجارها وقصورها، والأنهار جمع نهر، وهي أربعة ذُكِرَت في سورة محمد، في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد ١٥]، هذه الأنهار خلقها الله عز وجل من غير ما خلقها في الأرض، الماء في الأرض يخرج بحفر الآبار، أو بالأمطار والسيول، لكن في الجنة ليس هكذا، أنهار تجري بغير أخدود، وبغير حفر سواقي، بل بقدرة الله عز وجل.
﴿أَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ ليس من بقر، ولا من إبل، ولا من غنم، بل هي أنهار خلقها الله عز وجل من هذا.
﴿أَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ﴾ ليس عصير عنب، ولا شعير، ولا غير ذلك، بل هو مخلوق هكذا.
﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ﴾ من نحل؟ لا، عسل خلقه الله عز وجل وصار أنهارًا يجري في الجنة، هذه أربعة أنواع من الأنهار مما ذكره الله لنا.
﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾، الخالد هو الباقي، والأصل في الخلود البقاء الدائم، هذا الأصل، قد يؤكد أحيانًا بكلمة (أبدًا)، وقد لا يراد به الدائم بقرينة، الخلود إذنْ هو الأصل البقاء الدائم، قد يؤكَّد بالأبدية، وقد لا يراد به الأبدية، فأما ما يؤكَّد بالأبدية فهو كثير في القرآن، لا في أهل الجنة، ولا في أهل النار، وأما ما لا يراد بالتأبيد بدليل آخر فمثل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء ٩٣]، فهنا ﴿خَالِدًا﴾ ليس المراد التأبيد؛ لأن قتل المؤمن عمدًا لا يُخرِج من الإيمان، اللهم إلا من استحلَّه، فمن استحله فهو كافر باستحلاله لا بقتله؛ لأن من استحل قتل المؤمن فهو كافر، سواء قتل أم لم يقتل.
المهم اجعل على بالك أن الخلود أيش؟ البقاء الدائم، قد يؤكَّد بالأبدية، وقد لا يراد به الأبد لدليل.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ﴾ المشار إليه ما أثابهم الله به من الجنات.
﴿جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾، أي: مكافأتهم على عملهم، والمحسن يعُمّ من أحسن في عبادة الله، ومن أحسن إلى عباد الله؛ أما الإحسان في عبادة الله فقد فسَّره النبي صلى الله وعلى آله وسلم في قوله: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠)، ومسلم (٩ / ٥) من حديث أبي هريرة.]].
فجعل للإحسان مرتبتين؛ الأولى: أن يعبد الله كأنه يراه، وهذه عبادة رغبة؛ لأن الشيء الذي تراه ترغب فيه وتطلبه، «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ»، يعني إن لم تصل إلى هذه الحال، «فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، أي: فاعبده خوفًا منه وهربًا من عقابه، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام للإنسان هاتين المرتبتين.
أما الإحسان إلى عباد الله فهو بذل المعروف لهم، بالمال، والبدن، والجاه، وغير ذلك، فهو بذل المعروف، فمن أعطاك درهمًا فهو محسِن، ومن بَشَّ في وجهك وأدخل السرور عليك فهو محسِن، ومن شفع لك في أمر فهو محسن، إذنْ الإحسان يكون في عبادة الله، ويكون في معاملة عباد الله.
ولما ذكر الله سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء المحسنين قال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [المائدة ٨٦]، والقرآن الكريم مثاني تُثَنَّى فيه المعاني، إذا ذُكِر ثواب المحسنين ذُكِر ثواب المسيئين، وإذا ذُكِر ثواب المسيئين ذُكِر ثواب المحسنين، ليبقى الإنسان بين الرغبة والرهبة.
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا﴾ كفروا بالأمر، وكذَّبوا بالخبر، كفروا بالأمر فلم يقوموا بطاعة، ولم ينتهوا عن معصية، وكذَّبوا بالخبر فلم يُصَدِّقوا، فمن أنكر البعث فمن أي القسمين هو؟ مكذِّب، لكنه كافر، هو مكذِّب وكافر، ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾ [التغابن ٧]، ومن لم يُصَلِّ فهو كافر.
فإذا قال قائل: هل نقول: إنه لا بد أن يجتمع الكفر والتكذيب؟ فالجواب: لا، إذا وُجِدَ الكفر ثبت الجزاء، إذا وُجِد التكذيب ثبت الجزاء.
ولذلك لو قال قائل: الصلوات الخمس غير مفروضة، ولا أصدق أنها مفروضة، ولكنه يصلي، لا تفوته الصلاة أبدًا، ماذا نقول فيه؟ كافر؛ لأنه مكذِّب، فالجمع بينهما ليس بشرط، بل إذا وُجِد أحدهما ثبت الحكم.
وقوله: ﴿بِآيَاتِنَا﴾ يشمل الآيات الكونية والآيات الشرعية، فمن ادعى أن مع الله خالقًا فهو مكذِّب بالآيات الكونية، ومن أقرَّ بالخالق لكن لم يقبل شريعته فهو مكذِّب بالآيات الشرعية، وقد يوجد من يكذِّب بهما جميعًا، ومن كذَّب ببعض وصدَّق ببعض؟ فهو كافر؛ لأن الله يقول: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ [النساء ١٥١].
وقوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾، اسم الإشارة هنا للبُعد ولَّا للقرب؟ للبُعد، لكن البُعد قد يكون بُعدًا سُفولًا وقد يكون بُعدًا عُلُوًّا، فإذا كان البعد مشارًا به إلى عالي المرتبة فهو بُعْد عُلُوًّا، مثل قوله تعالى: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة ١، ٢] هو بين أيدينا الآن ما هو بعيد، لكن لعلوّ مرتبته وشرفه أشار إليه بإشارة البعيد، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر ٣٣] فأشار إليهم إشارة البُعد لعلُوّ منزلتهم.
في هذه الآية: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ أي البُعْدَين أراد؟ السُّفْل، البعد سُفُولًا.
وقوله: ﴿أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾، اعلم أن الله إذا ذكر أصحاب النار أصحاب الجحيم فهذا في الكفار الخُلَّص؛ لأن الصاحب هو الملازم، ولا أحد يلازم الجحيم -يعني النار- إلا إذا كان ممن لا يدخل الجنة، فالذين كفروا وكذَّبوا بآيات الله ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾.
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: وكذلك الآية التي قبلها: أن أشد الناس عداوة للمؤمنين هم اليهود والمشركون، والمراد من؟ المراد الجنس، ونعني بذلك أنه قد يوجد من اليهود من لا يكون أشد عداوة، وكذلك من المشركين، نجد مثلًا أبا طالب مشرك، ومع ذلك هل كان يودّ الرسول عليه الصلاة والسلام؟ نعم يَوَدُّه، لكن الجنس أن المشركين واليهود هم أشد الناس عداوة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن عداوة هؤلاء ظاهرة؛ لقوله: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً﴾، لكن اعلم أن الظهور والبطون أمران نسبيان، بمعنى أن بعض الناس يظهر له ما يخفى على آخر، وبعض الناس يخفى عليه ما يظهر للآخر، لكن مَن سَبَر الأمور ونظر باعتبار تبيَّن له ذلك، ولَّا قد يقول مثلًا قائل: لا نجد هذا، نقول: إذا لم تجد فهذا لبلادتك؛ لأنك بليد لا تعرف.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن غير المسلمين يختلفون في العداوة للمسلمين، من أين نأخذها؟
* طالب: ﴿أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً﴾.
* الشيخ: ﴿أَشَدَّ﴾ و﴿أَشَدَّ﴾ اسم..؟
* طالب: تفضيل.
* الشيخ: اسم تفضيل، تدل على أن هؤلاء الأعداء يختلفون، وهو كذلك، هذا هو الواقع، لكن بماذا نعرف الأشد؟ نعرفه بالآثار، إذا تظاهروا علينا وتحالفوا ضدنا وما أشبه ذلك عرفنا أنهم أعداء.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن أقرب الناس مودة للمؤمنين هم النصارى، وقد بيَّنَّا في التفسير السبب في ذلك.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن كل حكم له سبب، وهذا مطرد يا إخواني، كل حكم شرعي أو قدري فله سبب، لكن من الأسباب ما يُعلَم، ومن الأسباب ما لا يُعْلَم؛ لأن الله تعالى لم يُطلعنا على كل شيء، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ﴾ إلى آخره.
* ومن فوائد الآية الكريمة: حسن تعليم الله عز وجل في كتابه العزيز؛ لأنه إذا ذكر الحكم أحيانًا ذكر العلة، فهنا ذكر حكمًا قدريًّا، وهو قرب النصارى من مودة المسلمين، هذا حكم قدري، وذكر له علة.
وذكر الله سبحانه وتعالى أحكامًا شرعية كثيرة مقرونة بحِكَمِهَا، مثل قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ [البقرة ٢٢٢]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ [الأنعام ١٤٥]، أي هذا المطعوم، وغلط من قال: (إنه) عائد على لحم الخنزير، هذا غلط؛ لأننا إذا أعدنا آخر الكلام على أوله فأوله يقول: ﴿إِلَّا أَنْ يَكُونَ﴾ أي ذلك المطعوم، ﴿مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ﴾ أي المطعوم، ﴿رِجْسٌ﴾، وليس عائدًا على لحم الخنزير.
المهم أن من حسن تعليم الله عز وجل أنه إذا ذكر الحُكْم ذكر العلة، سواء كان الحكم قدريًّا أو كان شرعيًّا، وكذلك في السنة، أحيانًا تُذْكَر العلة، فإن النبي ﷺ أمر أبا طلحة فنادى: «إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٥٢٨)، ومسلم (١٩٤٠ / ٣٥) من حديث أنس بن مالك.]].
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن قرب مودة النصارى للمؤمنين له أسباب، كم؟
* طالب: خمسة أسباب.
* الشيخ: نشوف، أولًا: ﴿أَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾، فيُستفاد من هذا: أن العلم نافع حتى لغير المسلمين، وأن العبادة تُرَقِّق القلب؛ أما الأول فيؤخذ من قوله: ﴿بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ﴾، وأما الثاني فيؤخذ من قوله: ﴿وَرُهْبَانًا﴾؛ لأن الراهب إنما سلك هذا الطريق يريد رضا الله، فليس مستكبرًا، لكنه طالب لرضا الله، فهو إذا تبين له يكون من أقرب الناس إلى العمل به.
* من فوائد الآية الكريمة: أن بني آدم ينقسمون إلى علماء وعُبَّاد، لكن هل يمكن أن يكونوا علماء عُبَّادًا؟ نعم، وبكثرة، أن يكونوا علماء عُبَّادًا، لكن من الناس من يغلب عليه العلم، ومن الناس من يغلب عليه العبادة، أعني الذين يتصفون بالعلم والعبادة منهم من يغلب عليه جانب العلم، فتجده دائمًا في بحث، وفي تحقيق، وفي مراجعة، ومنهم من يغلب عليه العبادة، ولهذا تجدون في تراجم العلماء -رحمهم الله- أنهم إذا ترجموا لبعض العلماء قالوا: وكان كثير العبادة.
فأيهما أفضل في العالِم؛ أن يكون كثير العبادة، أو كثير المراجعة؟ كثير المراجعة لا شك أفضل، لكن يجب على كثير المراجعة أن يراجِع قلبه، إذا وجد منه قسوة فليشتغل بالعبادة قليلًا؛ لأنه أحيانًا مع كثرة المراجعة والمطالعة والمناقشة يكون الإنسان كأنه بطل بين صَفَّيْن، لا يلتفت مثلًا للصلاة والتهجد وما أشبهها، إذا رأيت من نفسك أنك أبعدت عن العبادة فارددها حتى لا تغفل عن العبادة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من أسباب قبول الحق والمودة للمؤمنين التواضع؛ لقوله: ﴿وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾.
* ويؤخذ منها: أن الاستكبار سبب لرد الحق، وهو كذلك، التواضع سبب لقبول الحق؛ لأن الإنسان لا يرى نفسه، لا يرى نفسه أنه معصوم من الخطأ، فإذا بان له الحق اتبعه، ولهذا كان في كتاب عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «لا يمنعنَّك قضاء قضيته اليوم أن ترجع إلى الحق غدًا»[[أخرجه الدارقطني (٤٤٧١)، والبيهقي في السنن الكبرى (١٠ / ١٥٠).]]، أو كلمة نحوها، بمعنى أنك تتبع الحق أينما كان، فتكون مِطْوَاعًا للحق، ذليلًا أمام الحق.
وهل هذا الذل أمام الحق يوجب للإنسان أن يكون ذليلًا بين الناس؟ لا، «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللهُ»[[أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (٨٣٠٧)، والبيهقي في شعب الإيمان (٧٧٩٠) من حديث عمر بن الخطاب.]]. ومن تواضع للحق وُفِّقَ للحق، وعلامة ذلك أنك إذا بان لك الحق اتبعته فورًا بدون تردد، بدون جدال، إن ترددت أو جادلت فهو خطر عليك عظيم، قال الله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾ لماذا؟ ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام ١١٠].
ولذلك إذا بان لك الحق لا تجادل، لا تحاول أنك تروح يمين ويسار لتبرِّر رأيك، إنك على خطر، وقال عز وجل: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ [ق ٥]: مختلط، يختلط عليهم الحق بالباطل، إذا كذبوا بالحق إذا جاءهم، انتبه لهذه الفائدة وأنت طالب علم، وربما يخالفك من يخالفك من الناس بمقتضى الدليل، ولكن تريد أن تفرض رأيك، هذا غلط كبير، اتبع الحق أينما كان يتبعك الناس أينما كنت؛ لأن الناس يطلبون الحق، فإذا رأوا منك أنه متى بان لك الحق رجعت رجعوا.
إذنْ التواضع للحق هو في الحقيقة علُوّ، كما قال النبي ﷺ: «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ»[[أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (٨٣٠٧)، والبيهقي في شعب الإيمان (٧٧٩٠) من حديث عمر بن الخطاب.]]، ضد ذلك الاستكبار، الاستكبار -والعياذ بالله- يوجب أن لا يقبل الحق ولا يتبع الحق.
* من فوائد الآية الكريمة: فضيلة هؤلاء القوم الذين يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام، أنهم ﴿إِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾، ولا شك أن فيضها من الدمع دليل على أيش؟ على الإيمان والتصديق والتأثر؛ لأن الإنسان كلما آمن فإنه يزداد خشوعًا.
الآن إذا ذكرت آبائك وإخوانك وأصدقاءك الذين ذهبوا وماتوا، ربما تبكي أكثر مما لو ذكرت شيئًا آخر يؤمَن به؛ لأن هؤلاء أدركتهم إدراكًا حسيًّا، فالإيمان كلما قوي صار المؤمن كأنما يشاهد الشيء بعينه، فيزداد إيمانًا وخشوعًا وبكاءً.
نأخذ الفوائد المفردات،* من فوائد قوله: ﴿مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ﴾ [المائدة ٨٣] أن القرآن نزل من عند الله؛ لأن هذا مبني لما لم يُسَمَّ فاعله ﴿مَا أُنْزِلَ﴾؛ لأن فاعله معلوم، وهو الله الذي أنزله.
فيُستفاد منه: أن القرآن كلام الله، وهو كذلك، تكلم به سبحانه وتعالى حقيقةً، تكلم به على وجه مسموع، من سمعه؟ سمعه جبريل، وهو أمين قوي، نزل به على قلب الرسول ﷺ، فوعاه وعقله، حتى قال له ربه عز وجل: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة ١٦، ١٧]، ما يتفرق أبدًا، هو مجموع لك، ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾ [القيامة ١٨] يعني قرأه جبريل، ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة ١٨، ١٩].
التزامات عظيمة من الله عز وجل لهذا القرآن، مما يدل على عناية الله به -سبحانه وتعالى- ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾: نبينه للناس لفظًا ومعنى، ولهذا نقول: لا يمكن يوجد في كتاب الله شيء لا يعرف الناس معناه، إن خفي على بعض علمه آخرون.
* في هذه الآية الكريمة من الفوائد: التنويه بالرسول محمد ﷺ؛ لقوله: ﴿الرَّسُولِ﴾؛ لأن (أل) هنا للعهد الذهني، يعني كأنه رسول معلوم مفهوم لا يخفى على أحد.
* ومن فوائدها: إثبات رسالة النبي ﷺ، وهو رسول الله حقًّا، أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء ١٠٧].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: نقول: الثناء على من بكى لسماع القرآن؟ نعم، نقول: الثناء على من بكى لسماع القرآن، ولكن اعلم أن البكاء نوعان: بكاء متكلَّف مُصْطَنَع، فهذا لا يفيد، وليس التكحل في العينين كالكَحَل، وبكاء آخر من لين القلب، هذا هو المفيد؛ لأنه صادر عن القلب، عن الإيمان.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن تأثر هؤلاء إنما كان بسبب معرفتهم الحق؛ ولهذا قال: ﴿مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾، والإنسان كلما علم الحق ازداد إيمانه به، وازداد تأثره به.
* من فوائد الآية الكريمة؛ ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا﴾ إلى آخره.
* من فوائد هذه الجملة: الثناء على هؤلاء الذين آمنوا بما أُنْزِل على الرسول ﷺ بأنهم يعلنون الإيمان، ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا﴾، لا يُخفُون إيمانهم؛ لأنهم مؤمنون، والمؤمن حقًّا يعلن إيمانه، لا سيما إذا كانوا قسيسين ورهبانًا؛ لأنهم قدوة للناس.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: اعتراف الأمم بأن هذه الأمة هي الشاهدة على الأمم؛ لقوله: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾، وهم أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة ١٤٣].
* طالب: تفسيرنا لقوله تعالى: ﴿أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً﴾ هل يُستدل من الآية عداوة النصارى للمسلمين، يكونون على خلاف ما يفهمه الناس الآن؟
* الشيخ: إي نعم، إحنا ذكرنا هذا لأجل أن لا يُفهَم منه الخطأ، يعني قولهم: ﴿أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً﴾، ما دخلوا في المودة، ولا عندهم مودة، وإلا لقال: أشدهم مودة.
* طالب: شيخ، بارك الله فيكم، الثبات إذا كان القلب قاسيًا، فقرأ الإنسان القرآن ربما لم يجد رقة فتباكى، إن قلنا: إنه لا يفيد يا شيخ، ربما التباكي يرقِّق قلبه.
* الشيخ: لا، لا، ما هو التباكي، التباكي غير البكاء المصطَنَع، بعض الناس ما يبكي، يعني يجعل صوته كأنه يبكي، وهو ما يبكي.
* الطالب: هذا رياء.
* الشيخ: هذا هو.
* طالب: أكرمك الله يا شيخ، المشكلة يا شيخ وهو الفرق بين التواضع والترفُّع؛ لأن بعض الناس مثلًا إذا تبسَّط مع العامة قد يهونون في نظرهم، خاصة إذا كان مثلًا طالب علم أو عالم، فهل يترك مثلًا التبسط؟
* الشيخ: هذا تصور، ما هو بصحيح، أنا لست أقول: تواضع للعامة، قدم له حذاءه وابسط له ظهرك يركب عليه، لا، لكن لَاقِه بوجه طلق وسماحة؛ لأن بعض الناس حتى من طلبة العلم تجده مع العامي يتكلم بأحد منخريه، ما هو بكل أنفه، وينظر، يعني ما نقدر نقول شيء، تواضع يا أخي، الناس الآن يُثْنُون على الرجل الذي يكون متواضعًا، نسمع يثنون على فلان وفلان؛ لأنه متواضع، لكن ليس معنى ذلك أنك تجعل نفسك ذليلًا أمامهم، لا، التواضع غير الذل.
* طالب: شيخ، بارك الله فيكم، ما هو الحد الأدنى الذي لا ينبغي لطالب العلم أن يقصر عنه في العبادة؟
* الشيخ: أنا أظن أن الحد الأدنى الصلوات الخمس بالنسبة للصلاة، الصلوات الخمس برواتبها، والوتر، وما يوجد له أسباب، وكذلك بالنسبة لبذل المال الزكاة والصدقات.
* الطالب: ورد القرآن؟
* الشيخ: ويش لون ورد القرآن، يعني ما يقرأ من القرآن؟ قد أقول: على حسب نشاطه، لكن أخشى أن قول هكذا يتهاون الإنسان؛ لأنه إذا قرأ على حسب نشاطه يوم يقرأ مثلًا جزأين، ثلاثة، ويوم ما يقرأ شيئًا، ويضيع عليه الوقت، ولهذا قال العلماء: ينبغي أن يكون له ورد معين يحرص عليه، وأظن أن الجزأين في اليوم إن شاء الله فيهم بركة، إذا قرأ جزأين كل يوم يحفظ القرآن في الشهر مرتين، هذه نعمة.
* الطالب: الصيام؟
* الشيخ: الصيام ما كان الرسول يصومه؛ ثلاثة أيام من كل شهر، لكن أحيانًا يكون الإنسان يحب الصيام، ولذلك كان من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يصوم حتى يُقال: لا يفطر، ويٌفطر حتى يقال: لا يصوم[[متفق عليه؛ البخاري (١٩٦٩)، ومسلم (١١٥٦ / ١٧٥) من حديث عائشة.]]، لكن الشيء الذي ينبغي أن نواظب عليه صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ لأن الرسول كان لا يدع صيام ثلاثة أيام من كل شهر[[متفق عليه؛ البخاري (١٩٨١)، ومسلم (٧٢١ / ٨٥) من حديث أبي هريرة.]]، ولا يبالي أن يصومها من أول الشهر، أو وسطه، أو آخره.
* طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، كيف نجمع بين ذكر الله عز وجل حكاية عن قول هؤلاء وبين أن القرآن معجز.
* الشيخ: ويش التعارض؟
* الطالب: أنهم قد قالوه، قد يقول قائل: إن قولهم معجز.
* الشيخ: إن قولهم معجز؟! لا، هذه ما فيها إشكال، يعني هو الأخ يقول: كيف نقول: إنهم قالوا بهذا اللفظ؟ هم لم يقولوا بهذا اللفظ، فالقرآن يحكي أقوال الآخرين بالمعنى، ولذلك شوف قول السحرة: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الأعراف ١٢١، ١٢٢]، في سورة طه: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾ [طه ٧٠]، والقول واحد، لكن الله تعالى قدَّم ذكر هارون في سورة طه من أجل تناسب الآيات، فكل ما يحكيه الله عن السابقين فهو بالمعنى؛ لأنا نعلم أنهم ما قالوا بالعربية، لغتهم غير عربية، وترتيبهم ليس كترتيب القرآن فيما نعلم -والله أعلم-، وقد يقال: إن الله حكى قولهم، ولكنه صاغه -سبحانه وتعالى- أو تحدث به على ما يريد.
* طالب: شيخ، أحسن الله إليك، هل التفرغ للعبادة وطلب العلم وترك الوظيفة كأن يتيسر له مال؟
* الشيخ: أما إذا كان له ما يقيته فالتفرغ لا شك أفضل، إلا إذا كانت الوظيفة تصلح بوجوده؛ لأن بعض الوظائف تحتاج إلى الشخص، مثل وظائف القضاء، كُتَّاب العدل، وأشياء كثيرة، فالإنسان ينظر للمصالح.
* طالب: قوله تعالى: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ هل يمكن أن يؤخذ منها أن الْمُجْمَل الاتباع؟
* الشيخ: لا، يعني قصدك مطلق المعية؟
* الطالب: مُجْمَل الاتباع.
* الشيخ: ليه؟
* الطالب: لما جاء به الرسل.
* الشيخ: اكتبنا معهم يعني: نفعل كما يفعلون.
* طالب: المنكرون لكلام الله يقولون: إن القرآن ليس كلام الله، إنما هو عبارة عن كلام الله، ما معنى قولهم هذا يا شيخ؟
* الشيخ: يقولون: إن الله سبحانه وتعالى ما تكلم به، لكن خلق أصواتًا لتعبر عما في نفسه، فسمعها جبريل ونزل بها، قول بلا علم، حقيقة أنك إذا تأملت كلامهم انتهيت إلى أن الله ليس بشيء، لا يتكلم، ولا يستوي على العرش، ولا ينزل، ولا يأتي للفصل بين عباده، ولا يفرح، وليس له يد، وليس له وجه، وليس له عين، اللهم لك الحمد، نسأل الله الهداية.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ [المائدة ٨٦ - ٨٨].
* الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد، فإننا كما بدأنا في الأسبوع الماضي قررنا أن نبدأ بقواعد من قواعد التفسير، وهذا جيد، لكن يحتاج منكم تقييد القاعدة التي تكلمنا عليها؛ لئلا تتكرر؛ لأنه ليس بين أيدينا كتاب نقرأ منه حتى نأمن التكرار، في الأسبوع الماضي تكلمنا على قواعد في..؟
* طالب: تفسير الآية بالمضمون.
* الشيخ: إلى أين نرجع في التفسير؟
* طالب: القاعدة الأولى تكلمنا أنه –التفسير- هل هو فرض عين أو فرض كفاية، وذكرنا التفصيل في ذلك بأنه: ما لا يقوم دين المرء إلا به فهو فرض عين، على كل مسلم أن يعلم تفسيره، وما سوى ذلك فهو فرض كفاية، هذه القاعدة الأولى.
والقاعدة الثانية هي: بماذا يكون تفسير القرآن؟ فذكرنا له ثلاثة أقسام: القسم الأول: هو تفسير القرآن بالقرآن، وهذا إذا ورد فلا عدول عنه؛ لأن المتكلم بالقرآن هو الله عز وجل، وهو أعلم بمراده،
والمرتبة الثانية: هي تفسير القرآن بالسنة؛ لأن الرسول ﷺ هو أعلم الخلق بمراد الله عز وجل.
والثالث: هو تفسير القرآن بأقوال السلف؛ لأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم هم أدرى الناس بما قال الله عز وجل.
* الشيخ: الرابع: التفسير بمقتضى اللغة العربية، فيه شيء آخر؟
* طالب: مراعاة المعنى؟
* الشيخ: أيش؟
* الطالب: كقوله تعالى (...) هل يستحسن أن يقف على..
* الشيخ: لا، الوقف والوصل ما يدخل في التفسير.
* طالب: ذكرنا الطريقة المثلى في التفسير أن يفسر الإنسان بنفسه ويحاول أن يستنبط المعاني.
* الشيخ: نعم، هذا أيضًا مهم، أن الإنسان يحاول أن يعرف معنى القرآن بنفسه أولًا، ثم بعد ذلك يرجع إلى ما قال المفسرون، وليس معنى هذا أن يأخذ بما رآه، ولكن يُكَوِّن معنى في نفسه، ثم يرجع إلى أقوال المفسرين؛ لئلا يضل، لكن كونه يقرأ أقوال المفسرين فقط قراءة عابرة كأنه صبي يُرْضَع برَضَّاعة هذا لا يستفيد الفائدة المطلوبة.
أما الليلة فهو في النسخ، نتكلم الآن في النسخ، هل يمكن النسخ في القرآن أو لا يمكن؟ يقال: الصحيح أنه يمكن، يمكن النسخ، وأنه واقع، وهذا هو ما عليه جمهور الأمة، ولا يعنينا أن ينكر ذلك من ينكره، فاليهود مثلًا قالوا: لا يمكن نسخ الشرائع؛ لأننا لو جَوَّزْنَا النسخ لَجَوَّزْنا البداء على الله، أي أنه تبدو له المصلحة بعد أن كانت خفيَّة عليه، فيحكم بشيء، ثم بعد ذلك يعدل عنه؛ لأنه لم يدرِ عن عواقب ما حكم به أولًا.
ومعلوم أنه لا يجوز للإنسان أن يصف ربه عز وجل بالجهل ثم البداء، ولكن الله عز وجل رد عليهم، فقال: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ [آل عمران ٩٣]، فبيَّن أن النسخ واقع، وهو كذلك، ومن أجل إنكارهم النسخ أنكروا نبوة عيسى، ونبوة محمد صلى الله عليهما وسلم، وقالوا: إن شريعتيهما نسخت شريعة التوراة وهذا لا يجوز.
المسلمون مُجْمِعون على جواز النسخ عقلًا، ووقوعه شرعًا، إلا أن أبا مسلم الأصفهاني رحمه الله قال: لا نسخ في القرآن، وحَمَل النسخ الذي ثبت في القرآن على التخصيص.
مثال ذلك: أوجب الله على المسلمين في الجهاد أن الواحد يصابر عشرة، ثم نسخ ذلك وقال: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ [الأنفال ٦٦]، وهذا واضح أن هذا نسخ، وكذلك في الحديث: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا»[[أخرجه مسلم (٩٧٧ / ١٠٦) من حديث بريدة بن الحصيب.]]، هذا أيضًا نسخ واضح، ثبت بنفس القرآن ونفس السنة.
ادعى هو رحمه الله أن هذا تخصيص وليس بنسخ، ووجَّه قوله: بأن الحكم المنسوخ كان عامًّا في جميع الأزمان وفي جميع الأحوال، ثم نُسِخ، فخرج بالنسخ الزمنُ الذي تبقى، وقال: هذا تخصيص.
وبناء على هذا التوجيه يكون الخلاف بينه وبين جمهور الأمة خلافًا لفظيًّا لا فائدة منه، ما دمنا متفقين على أنه يمكن أن يكون هذا الحكم العام في كل زمن، وفي كل مكان، وفي كل أمة، وفي كل حال، يجوز أن يُلْغَى في وقت من الأوقات، فهذا هو النسخ، سَمِّه تخصيصًا، أو سَمِّه نسخًا.
ثم يقال له رحمه الله: ما الفائدة من أن نتحاشى كلمة (نسخ)، والله تعالى في القرآن يقول: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة ١٠٦].
نرجع إلى جواز النسخ عقلًا، أما وقوعه شرعًا فلا شك فيه، لكن كيف يجوز عقلًا؟ ألا يجوز أن يرد ما أورده اليهود؟ بأن الله بَدَا له بعد أن كان خفيًّا عنه أن الحكم منسوخ لا يستقيم؟
فالجواب: لا، الأحكام تثبت بحسب أحوال الأمم، فقد يكون الوجوب مثلًا مصلحة للأمة في وقت، غير مصلحة في وقت آخر، أليس كذلك؟
وقد يكون النسخ لابتلاء المكلَّف، يبتليه الله عز وجل، هل يمتثل أو لا يمتثل، ثم يأتي النسخ؛ لأن بعض الناس قد لا يقبل النسخ، كالذين ارتدوا حينما حُوِّلَت القبلة؛ لأنهم قالوا: كيف أمس نتَّجه إلى بيت المقدس، والآن نتجه إلى الكعبة؟ لا يمكن، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة ١٤٣]، ويكفي هذا حكمة.
فإذا كان تغيير الحُكْم ونسخه له حِكَم لم يلزم على الله البداء؛ لأنه سبحانه وتعالى يشرع لعباده من الأحكام ما تقوم به مصالح دينهم ودنياهم، أرأيت لو كَلَّفت ولدك بعمل، ثم رأيت هذا العمل شاقًّا عليه، فهل من المصلحة أن تبقيه في هذا العمل الشاق، أو أن تنقله إلى عمل آخر؟ تنقله إلى عمل آخر، هذا مقتضى العقل، فحينئذ يبطل ما ادَّعاه اليهود من أنه يلزم منه البداء على الله، أي الظهور بعد الخفاء.
إذنْ فالنسخ جائز عقلًا، وواقع شرعًا، ثم إن النسخ يكون على ثلاثة وجوه: نسخ للحكم مع بقاء اللفظ، ونسخ اللفظ مع بقاء الحكم، ونسخهما جميعًا، ثلاثة أقسام.
الأول: نسخ الحكم مع بقاء اللفظ، وهذا كثير، مثل قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة ١٤٩] هذا نسخ ليش؟ للقبلة الأولى، اللفظ باقٍ ولَّا لا؟ باقٍ؛ لأن الله قال: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾ [البقرة ١٤٤]، ومثل قول الله تبارك وتعالى في الصوم: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة ١٨٧]، ومثل قوله في الآية في مصابرة العدو أن الله تعالى أوجب أن يصابِر المسلمون عشرة أمثالهم، ثم نُسِخَ ذلك، هذا نسخ أيش؟ نسخ الحكم مع بقاء اللفظ.
وهنا يرد سؤال: ما الفائدة من نسخ الحكم مع بقاء اللفظ، لماذا لم ينسخ اللفظ؛ لأن العمل باللفظ انتهى؟ فيقال: الفائدة بالنسبة للقرآن، أولًا: زيادة الأجر بالتلاوة، وثانيًا: تذكير العباد بنعمة الله عليهم؛ حيث نقلهم من الأشد إلى الأخف، أو بالعكس، أو بالمماثل، لكن المهم التذكير بالنعمة.
القسم الثاني عكس هذه المسألة، وهو: نسخ اللفظ مع بقاء الحكم، مثاله آية الرجم، آية الرجم كانت قرآنًا يُتْلَى.
يقول عمر رضي الله عنه: «قرأناها ووعيناها، ورجم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورجمنا بعده»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٨٢٩)، ومسلم (١٦٩١ / ١٥). ]]، فهي كانت موجودة في القرآن، أين لفظها؟ غير موجود، ما في القرآن أن الثيب يُرْجَم إذا زنى، فاللفظ غير موجود -أعني اللفظ المنسوخ- ولفظ الناسخ؟ الناسخ موجود أو غير موجود؟ ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور ٢]، والثيِّب جاء في السنة، فهنا لا يوجد آية الرجم في القرآن، لفظها غير موجود.
فما هي الآية التي نُسِخَت؟ ورد أن لفظها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم)[[أخرجه أحمد (٢١٢٠٧) من حديث أبي بن كعب.]]، لكن هذا لا يصح، هذا اللفظ لا يطابق الحكم؛ لأن الحكم منوط بأيش؟ بالثيوبة، ما هو بالشيخوخة، وعمر رضي الله عنه يقول: «وإن الرجم حق ثابت في كتاب الله على من زنى إذا أحصن وكان الحبل أو الاعتراف»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٨٢٩)، ومسلم (١٦٩١ / ١٥). ]].
فقوله: إنه حق ثابت في القرآن على من زنى إذا أحصن، ما قال: إذا شاخ، قال: إذا أحصن، يتبين أن لفظ الآية المنسوخة ليس كما رُوِيَ، ولذلك لو زنى الشيخ وهو بكر لم يُرْجَم، ولو زنى الشاب وهو ثيِّب يُرْجَم، إذن الآية غير معروفة اللفظ، لكن نعلم أنها لفظ دالٌّ على ما ذكره عمر رضي الله عنه.
فإن قال قائل: ما الحكمة من أنه يُنْسَخ اللفظ ويبقى الحكم؟ لأننا ذكرنا أن بقاء اللفظ فيه فائدة وهي التلاوة، لكن هنا ما الفائدة؟ الفائدة -والله أعلم- أنه يتبين فضل هذه الأمة على من سبقها، فاليهود حاولوا إخفاء آية الرجم، مع أنها موجودة في التوراة، لكنهم تركوا العمل بها، وسبب ترك العمل بها أنه كثر الزنا في أشرافهم، وشق عليهم أن يقتلوا أشرافهم، فأحدثوا حكمًا جائرًا ليس في شريعة الله.
هذه الأمة -ولله الحمد- عملت بحكم لا يوجد نصُّه، فأظهرت الحكم مع خفاء الدليل، واليهود بالعكس؛ أبطلوا الحكم مع وجود الدليل، هذا ما تبيَّن من الحكمة.
وقد يقال: إن هناك حكمة أخرى، وهي: بشاعة الجريمة؛ لأن زنا الثيِّب لا شك أنه بشع، وأقبح مِن زنا الشاب، ولذلك كانت عقوبته الرجم، بخلاف غير المحصن.
هذا الأخير الإنسان يتردد في أن هذا هو الحكمة؛ لأنه سيقول: إن هذا هو مراد الله عز وجل، وهذا صعب؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر ما هو أبشع من هذا، وهو إتيان الذكر –اللواط- صريحًا: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ [الشعراء ١٦٥، ١٦٦].
لكن الوجه الأول وهو: بيان فضل هذه الأمة على من سبقها واضح.
بقي القسم الثالث وهو: نسخ اللفظ والحكم، هذا له مثال، وهو حديث عائشة في الرضاع: «كان فيما أُنْزِل عشر رضعات معلومات يُحَرِّمن، فنُسِخْنَ بخمس معلومات»[[أخرجه مسلم (١٤٥٢ / ٢٤).]]، الآن لا تجد عشر رضعات، لا في القرآن، ولا في الحكم، عشر رضعات العمل بها منسوخ، إلى كم؟ إلى خمس، الخمس منسوخة لفظًا لا حكمًا، والعشر منسوخة لفظًا وحكمًا.
فيه أقسام أيضًا للنسخ لكن الوقت ضاق علينا، نؤجله إن شاء الله إلى الدرس القادم.
* * *
نعود إلى درسنا، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾، تقدم الكلام عليها، وعلى فوائدها.
قال الله تعالى عن هؤلاء النصارى الذين أسلموا، قال: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ إلى آخره.
* في هذه الآية من الفوائد: دفع اللوم عن الإنسان، يعني الإنسان ينبغي أن يدفع اللوم عن نفسه، ولا يبدي عِرْضَه لعباد الله يعملون ما يشاؤون فيه، ولهذا أصل من السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما قام يقلِب إحدى زوجاته وهي صفية رضي الله عنها بعد أن بقيت عنده، قام يقلِبها، فمرَّ به رجلان من الأنصار، فلما رأيَا رسول الله ﷺ ومعه أهله خجلَا وسارَا بسرعة، فقال لهما: «عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ»، فقالَا: سبحان الله،» يعني لا يمكن أن يقع في قلوبنا شيء، فقال لهما: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٠٣٥)، ومسلم (٢١٧٥ / ٢٤) من حديث صفية بنت حيي.]]، أو قال: «شَيْئًا»».
* من فوائد هذه الآية الكريمة أيضًا على الوجه الثاني في قوله: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ﴾: حمل النفس عند الوسواس على الإيمان والعمل الصالح، يعني إذا رأيت في نفسك فتورًا فقوِّها، قَوِّ عزيمتها؛ لأننا ذكرنا في قوله: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ﴾ احتمالين.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن ما جاء به الرسول ﷺ حق بشهادة من سبق من الأمم؛ لقوله: ﴿وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ﴾.
وهل يعتد بشهادة الأمم السابقة؟ الجواب: نعم يُعْتَدُّ؛ لقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ [يونس ٩٤].
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الإنسان لا ينبغي أن يُعْجَب بعمله، فيشهد لنفسه أنه من أهل الجنة؛ لقولهم: ﴿وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا﴾، ولم يجزموا بذلك.
ولهذا مهما عملت من عمل صالح مبني على الإيمان لا تُزَكِّ نفسك، لا تدري فلعل هناك سرًّا في القلب لا تشعر به -أعاذنا الله وإياكم من النفاق- «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٨٩٨)، ومسلم (١١٢ / ١٧٩) من حديث سهل بن سعد.]].
يمكن أن نأخذ من هذا أنه لا يُشْهَد لأحد بالجنة لكونه مؤمنًا عاملًا صالحًا؟ يمكن، ولهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة ألَّا نشهد لأحد بالجنة إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه ينبغي اختيار الرفيق الصالح؛ لقوله: ﴿وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾، وهذا أمر دَلَّت عليه السنة دلالة صريحة؛ فإن النبي ﷺ قال: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ؛ إِمَّا أَنْ يَبِيعَكَ، أَوْ أَنْ يُحْذِيَكَ، أَوْ تَجِدَ مِنْهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٥٣٤)، ومسلم (٢٦٢٨ / ١٤٦) من حديث أبي موسى الأشعري.]].
ثم قال تعالى: ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ﴾ إلى آخره.
* في هذه الآية الكريمة: بيان فضل الله عز وجل، حيث أثاب هؤلاء الذين مَنَّ عليهم بالإيمان بهذا الجزاء العظيم.
* ومن فوائدها: إثبات الأسباب؛ لقوله: ﴿بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ﴾.
فإن قال قائل: كيف نجمع بين هذه الآية الكريمة وأمثالها، وقول النبي ﷺ: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٦٧٣)، ومسلم (٢٨١٦ / ٧٥) من حديث أبي هريرة.]]، فنفى أن يدخل الجنة أحد بعمله، مع أن النصوص كثيرة في أن العمل يدخل به الإنسان الجنة؟
فالجواب أن يقال: الباء تكون للسببية أحيانًا، وتكون للعِوَض أحيانًا، فإذا قلت: بعت عليك هذا الثوب بدرهم، فالباء للعِوَض، ولا يمكن أن تكون للسببية، وإذا قلت: أكرمتك بما أكرمتني، صارت للسببية، فالمنفيُّ هو أن تكون الباء للعوض، «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ»، يعني لا يمكن أن يكون العمل كالدرهم بالنسبة للثوب في البيع، لا يمكن هذا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو أراد أن يحاسبنا على أعمالنا لكانت نعمة واحدة من نعمه تحيط بأعمالنا كلها، بل إن توفيقنا للعمل الصالح يا إخواننا نعمة تحتاج إلى شكر.
فإذن لا يمكن أن يكون دخولنا الجنة _وأسأل الله أن يدخلني وإياكم إياها_ لا يمكن أن يكون عوضًا عن العمل، لكن يكون سببًا، وبهذا الجمع يزول الإشكال، واعلم أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين نصوص الكتاب والسنة أبدًا، فإما أن لا يكون تعارض، وإما أن يكون تعارض بحسب فهم المستدِلّ، أما أن يوجد تعارض بين كلام الله بعضه ببعض، أو بين كلام الله وما صح من سُنَّة الرسول، أو بين سُنَّة الرسول بعضها مع بعض فهذا مستحيل.
* ومن فوائد هذه الآية: إثبات الجنة، وأنها أنواع؛ لقوله: ﴿جَنَّاتٍ﴾.
* ومن فوائدها: أن الجنة ذات أنهار مطردة تحت هذه القصور والأشجار، ولا يمكن للإنسان أن يتصور ذلك المنظر العظيم البهيج السارَّ أبدًا؛ لأن الجنة فوق ما ندرك، كما قال الله عز وجل: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة ١٧]، وهذا في القرآن، وكما قال تعالى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٢٤٤)، ومسلم (٢٨٢٤ / ٢) من حديث أبي هريرة.]]، وهذا في الحديث القدسي.
* ومن فوائد هذه الآية: أن الأنهار في الجنة أنواع؛ للجمع: ﴿الْأَنْهَارُ﴾، وقد مر علينا تفسير أنواعها.
* من فوائدها: أن نعيم الجنة دائم؛ لقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾، وقد قررنا أن الخلود ما هو المكث الطويل، هو المكث الدائم، إلا بدليل.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الحث على الإحسان؛ لقوله: ﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾، الإحسان في عبادة الله، والإحسان إلى عباد الله، «وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»[[أخرجه مسلم (٢٦٢٦ / ١٤٤) من حديث أبي ذر.]].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: علُوُّ هذا الجزاء؛ لقوله: ﴿وَذَلِكَ﴾، حيث أشار إليه بإشارة البعيد.
{"ayahs_start":82,"ayahs":["۞ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَ ٰوَةࣰ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةࣰ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّا نَصَـٰرَىٰۚ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّیسِینَ وَرُهۡبَانࣰا وَأَنَّهُمۡ لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ","وَإِذَا سَمِعُوا۟ مَاۤ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰۤ أَعۡیُنَهُمۡ تَفِیضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُوا۟ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِینَ","وَمَا لَنَا لَا نُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَاۤءَنَا مِنَ ٱلۡحَقِّ وَنَطۡمَعُ أَن یُدۡخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلصَّـٰلِحِینَ","فَأَثَـٰبَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُوا۟ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ وَذَ ٰلِكَ جَزَاۤءُ ٱلۡمُحۡسِنِینَ"],"ayah":"۞ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَ ٰوَةࣰ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةࣰ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّا نَصَـٰرَىٰۚ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّیسِینَ وَرُهۡبَانࣰا وَأَنَّهُمۡ لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق