الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أشْرَكُوا ولَتَجِدَنَّ أقْرَبَهم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إنّا نَصارى﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ مِن أحْوالِ أهْلِ الكِتابِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى ما ذَكَرَهُ ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ اليَهُودَ في غايَةِ العَدَواةِ مَعَ المُسْلِمِينَ؛ ولِذَلِكَ جَعَلَهم قُرَناءَ لِلْمُشْرِكِينَ في شِدَّةِ العَدَواةِ، بَلْ نَبَّهَ عَلى أنَّهم أشَدُّ في العَدَواةِ مِنَ المُشْرِكِينَ مِن جِهَةِ أنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَهم عَلى ذِكْرِ المُشْرِكِينَ، ولَعَمْرِي إنَّهم كَذَلِكَ، وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«ما خَلا يَهُودِيّانِ بِمُسْلِمٍ إلّا هَمّا بِقَتْلِهِ» “ وذَكَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّ النَّصارى ألْيَنُ عَرِيكَةً مِنَ اليَهُودِ وأقْرَبُ إلى المُسْلِمِينَ مِنهم. (p-٥٦)وهَهُنا مَسْألَتانِ:
الأُولى: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وعَطاءٌ والسُّدِّيُّ: المُرادُ بِهِ النَّجاشِيُّ وقَوْمُهُ الَّذِينَ قَدِمُوا مِنَ الحَبَشَةِ عَلى الرَّسُولِ ﷺ وآمَنُوا بِهِ، ولَمْ يُرِدْ جَمِيعَ النَّصارى مَعَ ظُهُورِ عَداوَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وقالَ آخَرُونَ: مَذْهَبُ اليَهُودِ أنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إيصالُ الشَّرِّ إلى مَن يُخالِفُهم في الدِّينِ بِأيِّ طَرِيقٍ كانَ، فَإنْ قَدَرُوا عَلى القَتْلِ فَذاكَ، وإلّا فَبِغَصْبِ المالِ أوْ بِالسَّرِقَةِ أوْ بِنَوْعٍ مِنَ المَكْرِ والكَيْدِ والحِيلَةِ، وأمّا النَّصارى فَلَيْسَ مَذْهَبُهم ذاكَ بَلِ الإيذاءُ في دِينِهِمْ حَرامٌ، فَهَذا هو وجْهُ التَّفاوُتِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المَقْصُودُ مِن بَيانِ هَذا التَّفاوُتِ تَخْفِيفُ أمْرِ اليَهُودِ عَلى الرَّسُولِ ﷺ، واللّامُ في قَوْلِهِ: (لَتَجِدَنَّ) لامُ القَسَمِ، والتَّقْدِيرُ: قَسَمًا إنَّكَ تَجِدُ اليَهُودَ والمُشْرِكِينَ أشَدَّ النّاسِ عَدَواةً مَعَ المُؤْمِنِينَ، وقَدْ شَرَحْتُ لَكَ أنَّ هَذا التَّمَرُّدَ والمَعْصِيَةَ عادَةٌ قَدِيمَةٌ لَهم، فَفَرِّغْ خاطِرَكَ عَنْهم ولا تُبالِ بِمَكْرِهِمْ وكَيْدِهِمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى سَبَبَ هَذا التَّفاوُتِ فَقالَ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ مِنهم قِسِّيسِينَ ورُهْبانًا وأنَّهم لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾
وفِي الآيَةِ مَسْألَتانِ:
الأُولى: عِلَّةُ هَذا التَّفاوُتِ أنَّ اليَهُودَ مَخْصُوصُونَ بِالحِرْصِ الشَّدِيدِ عَلى الدُّنْيا، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَتَجِدَنَّهم أحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ ومِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ [البَقَرَةِ: ٩٦] فَقَرَنَهم في الحِرْصِ بِالمُشْرِكِينَ المُنْكِرِينَ لِلْمَعادِ، والحِرْصُ مَعْدِنُ الأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ؛ لِأنَّ مَن كانَ حَرِيصًا عَلى الدُّنْيا طَرَحَ دِينَهُ في طَلَبِ الدُّنْيا وأقْدَمَ عَلى كُلِّ مَحْظُورٍ ومُنْكَرٍ بِطَلَبِ الدُّنْيا، فَلا جَرَمَ تَشْتَدُّ عَداوَتُهُ مَعَ كُلِّ مَن نالَ مالًا أوْ جاهًا، وأمّا النَّصارى فَإنَّهم في أكْثَرِ الأمْرِ مُعْرِضُونَ عَنِ الدُّنْيا مُقْبِلُونَ عَلى العِبادَةِ وتَرْكِ طَلَبِ الرِّياسَةِ والتَّكَبُّرِ والتَّرَفُّعِ، وكُلُّ مَن كانَ كَذَلِكَ فَإنَّهُ لا يَحْسُدُ النّاسَ ولا يُؤْذِيهِمْ ولا يُخاصِمُهم بَلْ يَكُونُ لَيِّنَ العَرِيكَةِ في طَلَبِ الحَقِّ سَهْلَ الِانْقِيادِ لَهُ، فَهَذا هو الفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الفَرِيقَيْنِ في هَذا البابِ، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ مِنهم قِسِّيسِينَ ورُهْبانًا وأنَّهم لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ .
وهَهُنا دَقِيقَةٌ نافِعَةٌ في طَلَبِ الدِّينِ وهو أنَّ كُفْرَ النَّصارى أغْلَظُ مِن كُفْرِ اليَهُودِ؛ لِأنَّ النَّصارى يُنازِعُونَ في الإلَهِيّاتِ وفي النُّبُوّاتِ، واليَهُودُ لا يُنازِعُونَ إلّا في النُّبُوّاتِ، ولا شَكَّ في أنَّ الأوَّلَ أغْلَظُ، ثُمَّ إنَّ النَّصارى مَعَ غِلْظِ كُفْرِهِمْ لَمّا لَمْ يَشْتَدَّ حِرْصُهم عَلى طَلَبِ الدُّنْيا بَلْ كانَ في قَلْبِهِمْ شَيْءٌ مِنَ المَيْلِ إلى الآخِرَةِ شَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ ﴿ولَتَجِدَنَّ أقْرَبَهم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إنّا نَصارى﴾ وأمّا اليَهُودُ مَعَ أنَّ كُفْرَهم أخَفُّ في جَنْبِ كُفْرِ النَّصارى طَرَدَهم وخَصَّهُمُ اللَّهُ بِمَزِيدِ اللَّعْنِ، وما ذاكَ إلّا بِسَبَبِ حِرْصِهِمْ عَلى الدُّنْيا، وذَلِكَ يُنَبِّهُكَ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِ ﷺ: «حُبُّ الدُّنْيا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» " .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: القَسُّ والقِسِّيسُ اسْمٌ لِرَئِيسِ النَّصارى، والجَمْعُ القِسِّيسُونَ، وقالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: صَنَعَتِ النَّصارى الإنْجِيلَ وأدْخَلَتْ فِيهِ ما لَيْسَ مِنهُ وبَقِيَ واحِدٌ مِن عُلَمائِهِمْ عَلى الحَقِّ والدِّينِ، وكانَ اسْمُهُ قِسِّيسًا، فَمَن كانَ عَلى هَدْيِهِ ودِينِهِ فَهو قِسِّيسٌ، قالَ قُطْرُبٌ: القَسُّ والقِسِّيسُ العالِمُ بِلُغَةِ الرُّومِ، وهَذا مِمّا وقَعَ الوِفاقُ فِيهِ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، وأمّا الرُّهْبانُ فَهو جَمْعُ راهِبٍ كَرُكْبانٍ وراكِبٍ، وفُرْسانٍ وفارِسٍ، وقالَ بَعْضُهم: الرُّهْبانُ واحِدٌ، وجَمْعُهُ رَهابِينُ كَقُرْبانٍ وقَرابِينَ، وأصْلُهُ مِنَ الرَّهْبَةِ بِمَعْنى المَخافَةِ. (p-٥٧)فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها﴾ [الحَدِيدِ: ٢٧] وقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لا رَهْبانِيَّةَ في الإسْلامِ» .
قُلْنا: إنَّ ذَلِكَ صارَ مَمْدُوحًا في مُقابَلَةِ طَرِيقَةِ اليَهُودِ في القَساوَةِ والغِلْظَةِ، ولا يَلْزَمُ مِن هَذا القَدْرِ كَوْنُهُ مَمْدُوحًا عَلى الإطْلاقِ.
{"ayah":"۞ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَ ٰوَةࣰ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةࣰ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّا نَصَـٰرَىٰۚ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّیسِینَ وَرُهۡبَانࣰا وَأَنَّهُمۡ لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق