الباحث القرآني

ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ الذي يظهر لي -والعلم عند الله- من هذه الآية والتي قبلها: أن الناس فيما سبق إذا أرادوا قسم مال الميت يقسمونه علنًا ظاهرًا، سواء كان ظاهرًا للناس عمومًا أو ظاهرًا لمن حولهم؛ لقوله: ﴿إِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى﴾ ﴿إِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ أي: قسمة المال الموروث، ﴿أُولُو الْقُرْبَى﴾ نأخذ الإعراب قبل. ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى﴾ ﴿الْقِسْمَةَ﴾ مفعول مقدم، و﴿أُولُو﴾ فاعل مؤخر، ورفع بالواو؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون منه للإضافة، ﴿وَالْيَتَامَى﴾ معطوفة على ﴿أُولُو﴾، و﴿الْمَسَاكِينُ﴾ معطوفة على ﴿أُولُو﴾. وقوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾ جواب الشرط (إذا)، واقترنت الفاء بها؛ لأنها طلبية، والجواب الذي يقترن في الفاء سبعة أنواع جمعت في بيت من الشعر: * طالب: اسمية طلبية وبجامد وبما وقد وسوف.. * طالب آخر: ؎اسْمِـــــــيَّـــــــــــةٌطَـــــــلَــــــبِــــــــيَّــــــــةٌ وَبِجَــــــــامِــــــــدٍ ∗∗∗ وَبِمَــــــا وَقَــــدْ وِبَلَـــنْوَبِالتَّنْـــفِـــــيسِ * الشيخ: صح ؎اسْمِـــــــيَّـــــــةٌطَـــــــلَــــــبِــــــيَّـــــــةٌ وَبِجَــــــــــامِـــــــــــدٍ ∗∗∗ وَبِمَـــــا وَقَـــــدْ وِبَلَـــــنْوَبِالتَّنْـــفِـــــيسِ الجملة التي معنا الجوابية من أي نوع؟ طلبية ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ واضح إعرابها. يقول الله عز وجل: ﴿إِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ أي: قسمة المال الموروث إذا حضروا، ﴿أُولُو الْقُرْبَى﴾ يعني: أصحاب القرابة الذين لا يرثون، وإنما قلنا: الذين لا يرثون؛ لأن الذين يرثون لهم نصيب من هذا المقسوم لكن الذين لا يرثون، ﴿الْقُرْبَى﴾ هنا بمعنى أيه؟ بمعنى القرابة. ﴿وَالْيَتَامَى﴾ جمع (يتيم)، وهو من مات أبوه قبل بلوغه، قبل بلوغ من؟ قبل بلوغ الأب ولَّا الولد؟ الولد، من مات أبوه قبل بلوغه سواء ذكر أم أنثى. ﴿وَالْمَسَاكِينُ﴾ هم الفقراء، وسموا المساكين؛ لأن الفقر أسكنهم، فإن الفقر -أعاذنا الله وإياكم منه- يوجب الذل وألا يتكلم الإنسان؛ لأنه يشعر بأنه غير مسموع وغير مقبول، فتجده ساكنًا لا يتكلم؛ لأنه لا يسمع، ولكن قد يكون هذا الفقير المسكين عند الله مسموعًا، «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»[[أخرجه الترمذي (٣٨٥٤) من حديث أنس بن مالك.]]، والشأن كل الشأن أن تكون وجيهًا عند الله، وأنت إذا كنت وجيهًا عند الله، فستكون وجيها عند العباد، ولكن لا تطلب أن تكون وجيهًا عند الله لتكون وجيهًا عند العباد، اطلب أن تكون وجيهًا عند الله لتنال رضاه، وإذا رضي الله عنك أرضى عنك الناس. قال: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ أي: أعطوهم؛ لأن الرزق بمعنى العطاء، وقوله: ﴿مِنْهُ﴾ ولم يقل: فيه؛ لأن هؤلاء يعطون من المال رأسه، من رأس المال، من أصله. وأما أموال اليتامى فقال الله تعالى: ﴿ارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾، وقد سبق لنا أنه قال: ﴿فِيهَا﴾ ولم يقل: منها؛ لأنهم يرزقون بعد الاتجار بها، فيعطون من أيش؟ من الربح، وهو إشارة على ما سبق إلى أنه ينبغي لولي اليتيم أن يتجر في ماله حتى يحصل على ما يرزقه فيه، أما هنا قال: ﴿ارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ يعني: من هذا المال الذي يقسم أمامهم. ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ سبحان الله! إحسان إليهم بالفعل، وإحسان بالقول ﴿قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أي: قولًا طيبًا تطيب به نفوسهم، فلنفرض أن المال كثير، وأن كل وارث سيحصل على مليون ريال مثلًا، فإذا أعطيت الفقير مئة ريال الحاضر، ربما يقول: مئة من مليون؟ قل له قولًا معروفًا تطيب به نفسه، حتى تجمع له بين الإحسان القولي والإحسان الفعلي، عكس -والعياذ بالله- من قلبه حجر إذا وجد اليتيم حوله قال: ويش اللي جابك؟ اذهب اطلب رزق عند الله، فهذا قلبه ليس لينًا لعباد الله ولا راحمًا لهم. والإنسان يجب أن يقدر أنه لو كان هو بهذه الحال ماذا يفعل؟ سوف يتشوف إلى شيء من هذا المال، وسوف يرى أن من أشد الأشياء عليه أن يصرف ولا سيما إذا صرف في قول منكر غير معروف. يقول الله عز وجل في هذه الآية: ﴿إِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ إلى آخره. * في هذه الآية الكريمة من الفوائد: أمر من قسم مالًا وحضره هؤلاء الأصناف الثلاثة: الأقارب واليتامى والمساكين أن يعطيهم منه، وهل الأمر للوجوب؟ يحتمل أن يكون للوجوب، ويحتمل أن يكون للاستحباب؛ لأنه أمر بأدب، وقد قال بعض العلماء: كل الأوامر المتعلقة بالآداب وحسن الأخلاق، فهي للاستحباب، فعلى كل حال المهم أن نقول: الأمر بإعطاء من حضر القسمة. * ومن فوائد الآية: جواز قسمة المال المشترك بحضور غير الشركاء، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾؛ لأن الشركاء لهم نصيب بدون أن نؤمر بإعطائهم. * ومن فوائد الآية الكريمة: ما جاء به الإسلام من الآداب العالية والأخلاق الفاضلة حيث أمرنا أن نعطي هؤلاء الذين حضروا القسمة؛ لأن قلوبهم تتعلق بالمال وتتشوف للنوال؛ فلهذا أمر الشرع بإعطائهم. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الأوامر قد تكون موكولة إلى المأمور غير مقدرة؛ لقوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ ولم يقل: الثلث ولا الربع ولا العشر، بل جعل هذا مطلقًا يرجع إلى كرم المعطي من وجه، وإلى كثرة المال من وجه آخر. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإحسان إلى القرابة أفضل من الإحسان إلى اليتيم والمسكين، وجه ذلك: أنه قدمهم؛ ولهذا «لما أخبرت إحدى أمهات المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها أعتقت جارية لها قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا -يعني أقاربها- لَكَانَ خَيْرًا لَكِ»[[أخرجه أبو داود (١٦٩٠)، وأحمد (٢٦٨١٧) من حديث ميمونة.]]، فدل هذا على أن صلة الرحم أفضل من إعطاء البعيد. * ومن فوائد الآية الكريمة: عناية الشرع، بل عناية الله عز وجل بالضعفاء المستحقين للعناية، من أين تؤخذ؟ من ﴿الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ﴾؛ لأن اليتيم صغير منكسر القلب لفقد أبيه يحتاج إلى رعاية وعناية، والمسكين كذلك، فقير ذليل يحتاج إلى من يجبر ذله ويسقي ظمأه ويكسو عورته. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي لمن أعطى أحدًا شيئًا أن يقول له قولًا معروفًا يطيب قلبه ويبعده من المن بالعطاء؛ لأن المن بالعطاء كبيرة، المن بالصدقة من كبائر الذنوب وهو مبطل للأجر؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ [البقرة ٢٦٤]. * ومن فوائد الآية الكريمة: الجمع بين الإحسان القولي والفعلي، الفعلي من قوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾، والقولي: ﴿قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب