الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿وإذا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُو القُرْبى واليَتامى والمَساكِينُ فارْزُقُوهُمْ مِنهُ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ۝﴾ [النساء: ٨]. هذه الآيةُ فيمَن حضَرَ قِسْمةَ التَّرِكَةِ مِن غيرِ الوارِثِينَ، واختُلِفَ في نسخِها: فقيل: كانتْ هذه الآيةُ قبلَ نسخِها في حقِّ مَن حضَرَ قِسْمةَ الميراثِ، وشَهِدَها مِن غيرِ الوَرَثَةِ مِن الفقراءِ واليتامى الذين تتشوَّفُ نفوسُهم إلى المالِ المقسومِ، فيُعطَوْنَ منه، تطييبًا لنفوسهم ضربًا يسيرًا مِن غيرِ تقديرٍ، ثمَّ نسَخَ اللهُ ذلك بآياتِ المواريثِ. ومَن قال بالناسخِ لهذه الآيةِ جعَلَهُ جميعَ آياتِ الفرائضِ التي تُقَدِّرُ للوارِثينَ أنْصِباءَهم، فاللهُ جعَلَ مِن الوارِثينَ ما له الثُّلُثانِ، ومنهم ما له النِّصْفُ، ومنهم ما له الثُّلُثُ، ومنهم ما له الرُّبُعُ، ومنهم ما له السُّدُسُ، ومنهم ما له الثُّمُنُ. والقولُ بالنسخِ هو قولُ جماعةٍ مِن السلفِ مِن المفسِّرينَ، وهو قولُ الأئمَّةِ الأربعةِ، لأنّهم لو جُعِلَ لهم حقٌّ في الميراثِ قبلَ قِسْمَتِه، ما كان صاحِبُ النِّصْفِ يأخُذُ النِّصْفَ، والثُّلُثِ يأخُذُ الثُّلُثَ، والرُّبُعِ يأخُذُ الرُّبُعَ، لأنّ الميراثَ نَقَصَ قبلَ قِسْمَتِهِ، فنَقَصَ حقُّه. وجعَلَ ابنُ عبّاسٍ ناسِخَها ما يَلِيها مِن آياتِ الميراثِ، كقولِه: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أوْلادِكُمْ﴾ [النساء: ١١]. وجعَلَ ابنُ عبّاسٍ في قولٍ وابنُ المسيَّبِ وعطاءٌ: الناسخَ كلَّ آياتِ المواريثِ وآياتِ الوصيَّةِ. وهذا مِن خلافِ التنوُّعِ، لا التضادِّ، فكلُّ آياتِ المواريثِ والوصيَّةِ دالَّةٌ على وجوبِ حِفظِ المالِ لأهلِهِ مِن الورثةِ والمُوصى لهم بالمقدارِ المُقدَّرِ في الوصيَّةِ، وبالمقدارِ الذي قدَّرَهُ اللهُ في الميراثِ. وقيل بإحكامِ الآيةِ، ومَن قال بهذا قال: هي على الاستحبابِ بطِيبِ نفسٍ مِن الورثةِ، وبهذا قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ والحسنُ. وقال جماعةٌ مِن السلفِ: إنّ الآيةَ مُحْكَمَةٌ غيرُ منسوخةٍ، وهو قولٌ صحيحٌ عن ابنِ عبّاسٍ، وجاء عن عائشةَ وأبي موسى وأبي العاليةِ والحسنِ وابنِ جُبيرٍ والنَّخَعيِّ والزُّهْريِّ. رواهُ البخاريُّ، عن عِكْرِمةَ، عن ابنِ عبّاسٍ: «هِيَ مُحْكَمَةٌ، ولَيْسَتْ بِمَنسُوخَةٍ»[[أخرجه البخاري (٤٥٧٦) (٦/٤٣).]]. وبهذا قال مالكٌ والشافعيُّ. وحمَلَ مَن قالَ بعدمِ النسخِ الآيةَ على النَّدْبِ، ومنهم مَن حَمَلَها على استحبابِ الوصيَّةِ لهم. وقيل بالوجوبِ، وفي الوجوبِ نظرٌ، فاللهُ لو جعَلَ ذلك حقًّا للقَراباتِ أنْ يُضْرَبَ لهم إنْ حَضَرُوا، فربَّما كان مَن هو أقرَبُ منه لم يحضُرْ، ويَلْزَمُ منه بيانُ مقدارِ الحضورِ ونوعِه، فمنهم: مَن شَهِدَ القِسمةَ كلَّها مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، ومنهم: مَن حضَرَ آخِرَها، ومنهم: مَن شَهِدَهم يَقْبِضُونَ لا يَقْتَسِمُونَ، وهذا لا يَثْبُتُ به حقٌّ بيِّنٌ، ولا يُلزِمُ به الوحيُ المُحْكَمُ. والقولُ بأنّ الآيةَ مُحكمةٌ قولٌ محتملٌ، ولكنَّ حَمْلَهُ على الوجوبِ فيه نظرٌ. وقد رواهُ ابنُ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهدٍ، في هذه الآيةِ، قال: «هِيَ واجِبَةٌ عَلى أهْلِ المِيراثِ، ما طابَتْ بِهِ أنْفُسُهُمْ»[[«تفسير الطبري» (٦/٤٣٢)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٨٧٥).]]. وروى ابنُ أبي حاتمٍ وابنُ جريرٍ، عن يُونُسَ بنِ عُبَيْدٍ، عن محمَّدِ بنِ سِيرينَ، قال: «ولِيَ عَبِيدَةُ وصيَّةً، فأمَرَ بشاةٍ فذُبِحَتْ، فأطعَمَ أصحابَ هذه الآيةِ، وقال: لولا هذه الآيةُ، لكان هذا مِن مالي»[[«تفسير الطبري» (٦/٤٤٤)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٨٧٤).]]. وروى مالكٌ، عن الزُّهْريِّ: «أنّ عُرْوَةَ أعْطى مِن مالِ مُصْعَبٍ حِينَ قَسَّمَ مالَه»[[«تفسير ابن كثير» (٢/٢٢٠).]]. ومَن فعَلَ بهذه الآيةِ عن طِيبِ نفسٍ ولا يقولُ بالوجوبِ، فهو يقولُ بالنسخِ على قولِ مَن يقولُ بأنّ الآيةَ على الوجوبِ، ويَحْمِلُ ما جاء عن السلفِ مِن تقديرٍ لمَن حضَرَ حقًّا، أو جعَلَ الآيةَ مُحكَمةً: أنّ الإحكامَ في الندبِ، لا في الوجوبِ، فمِن الإحسانِ إعطاءُ مَن حضَرَ وشَهِدَ القِسْمةَ إكرامًا وفضلًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب