الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ ويقال في ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ كما قيل في الآية التي قبلها: إن الاستفهام للإنكار والتعجيب، يعني يقول تعجب من حال هؤلاء، ﴿إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا﴾ أي: أعطوا نصيبًا، و(آتى) تنصب مفعولين وهنا نصبت مفعولين، الأول منهما نائب الفاعل وهو (الواو)، والثاني ﴿نَصِيبًا﴾. وقوله: ﴿الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا﴾ أي: أعطوا نصيبًا، أي قسطًا، ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي: الكتاب المنزل على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ﴿نَصِيبًا﴾ يعني: قسطًا من الكتاب، الكتاب المنزل على الرسل، فمن المراد بهؤلاء؟ المراد بهؤلاء اليهود؛ لأن الله آتاهم نصيبًا من الكتاب وهو التوراة ولم يعطهم علم كل شيء. ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ هذا محل التعجب أنهم أعطوا نصيبًا من الكتاب وقامت عليهم الحجة ومع ذلك يؤمنون بالجبت ويؤمنون بالطاغوت، الجبت: كل ما لا فائدة فيه، كل ما لا فائدة فيه في الدين فإنه جبت، ومنه السحر والكهانة والطرق والعيافة وما أشبه ذلك، فإن هذه كلها من الجبت. وأما الطاغوت فالطاغوت: كل ما طغى به الإنسان فهو طاغوت، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ [البقرة ٢٥٧]، فأئمة الكفر ودعاة الكفر طواغيت، والشيطان طاغوت؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه: «الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان»[[أخرجه سعيد بن منصور (٦٤٩)، والطبري (٧ / ١٣٥).]]، يعني: أن السحر فرد من أفراد الجبت، والشيطان فرد من أفراد الطاغوت، وإلا فإن التعريف العام للطاغوت ما ذكره ابن القيم رحمه الله: كل ما تجاوز به العبد حده من معبودٍ أو متبوعٍ أو مطاعٍ. ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ ومعنى إيمانهم به إقرارهم إياه وعدم إنكاره. ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ ﴿يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قال بعض المفسرين: إن (اللام) هنا بمعنى (في)، أي يقولون في شأنهم ﴿هَؤُلَاءِ﴾ أي: الذين كفروا، ﴿أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾، وقيل: إن اللام كقولك: قلت لفلان، أي هي اللام المعدية للفعل، وأن قوله: ﴿هَؤُلَاءِ﴾ بمعنى (أنتم)، يعني يقول هؤلاء للذين كفروا: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلًا، وعلى هذا تكون الإشارة في مقام ضمير المخاطب؛ لأنك إذا قلت: قلت لفلان كذا، صار فلانٌ مخاطبًا، فلا بد أن يؤتى بضمير المخاطب، و(هؤلاء) اسم إشارة ليس ضمير مخاطب لكن قالوا: إنها بمعنى (أنتم)، وهذا ما مشى عليه الجلالين. ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والمراد بالذين كفروا أهل مكة؛ لأن طائفة من اليهود قابلوا أهل مكة فقالوا لهم أهل مكة: هذا محمد، فرق بيننا وبين أبنائنا، وبيننا وبين غلماننا، وبيننا وبين أزواجنا، وفرق بيننا وبين العرب، وسب آلهتنا، وسفه أحلامنا، أما نحن فإننا أهل البيت نسقي الحجيج، ونفعل كذا وكذا، وذكروا أشياء، فأينا أهدى أنحن أم محمد؟ فاليهود انتهزوا هذه الفرصة وقالوا: أنتم أهدى من محمد؛ لأنهم لا يريدون أن يقوم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قائمًا ويحسدونه، فانتهزوا هذه الفرصة أن يسألهم قوم هم شيعة محمد عليه الصلاة والسلام وقرابته فقالوا هذا الكلام. ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ أي: طريقًا، و﴿سَبِيلًا﴾ هنا تمييز؛ لأنها وقعت بعد اسم التفضيل، والمنصوب بعد اسم التفضيل يكون تمييزًا، ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾. قال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾ المشار إليه هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا وقالوا للكفار: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلًا، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾، وهذه الجملة تفيد الحصر لتعريف طرفيها؛ المبتدأ والخبر، فالمبتدأ (أولاء) وهو اسم إشارة معرفة، والخبر (الذين) وهو اسم موصول معرفة. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أي: طردهم وأبعدهم عن رحمته، والعياذ بالله. ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ ﴿مَنْ﴾ هنا اسم شرط، و﴿يَلْعَنِ﴾ فعل الشرط مجزوم به ولكنه حرك بالكسر لالتقاء الساكنين، ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ أي: لن تجد له من ينصره فيقربه من رحمة الله ويدخله في رحمة الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بقوم سوءًا فلا مرد له. يستفاد من هذه الآية والتي قبلها فوائد: * أولًا: التعجب أو التعجيب من حال هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب ومع ذلك ينكرون ما دل عليه الكتاب. * ومن فوائدها: بيان قبح صنيعهم؛ حيث إن الله تعالى قد أعطاهم نصيبًا من الكتاب ومع ذلك قالوا للكفار: إنهم أهدى من المؤمنين، ومعلوم أن من حكم بخلاف ما يعلم فهو أقبح ممن حكم بما لا يعلم، والكل قبيح، لكن الأول أشد. * ومن فوائد هذه الآية: بيان حقد اليهود على المؤمنين. * ومن فوائدها: أنهم يؤمنون بالجبت ويؤمنون بالطاغوت، فلا ينكرون الجبت ولا الطاغوت بل يقرونه. * ومن فوائدها: الإشارة إلى أن أصل السحر متلقى ممن؟ من اليهود؛ ولهذا سحروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، «فإن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسحر عظيم»[[أخرجه مسلم (٢١٨٩ / ٤٣) من حديث عائشة.]]، ولكن الله تعالى حمى نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أن يؤثر فيه ذلك التأثير الذي كانوا يريدونه. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن اليهود أهل حسد؛ لأنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن محمدًا أهدى من المشركين؛ لأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، لكن لما امتلأت قلوبهم من حسده صاروا يفضلون عليه الكفار عليه وعلى من اتبعه. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تأثير الدعاية بلبس الحق بالباطل، وإلا من المعلوم أن الكافر ليس فيما يرمي إليه أو فيما يذهب إليه ليس فيه هداية إطلاقًا، ومع ذلك قالوا: إنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلًا. * ويتفرع على هذه الفائدة: ما كان عليه بعض الناس اليوم من قولهم: إن الكفار أوفى بالعهد من المؤمنين، وإنهم أخلص من المؤمنين، وأنصح من المؤمنين، وما أشبه ذلك، فمن قال هذا في المسلمين فإن فيه شبهًا من اليهود، ونحن لا ننكر أن في المسلمين من خالف طريق الإسلام بعدم الصدق في القول، وعدم الوفاء بالعهد، وعدم الوفاء بالوعد، وعدم النصح في العمل، ولكن كل هذه الأخلاق حذر منها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أشد التحذير[[من ذلك قوله ﷺ: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» متفق عليه؛ البخاري (٣٣)، ومسلم (١٠٧ / ٥٩) من حديث أبي هريرة.]]، فهي أخلاق دخيلة على الشعب المسلم، وسببها ما كان عليه هؤلاء من النقص في العلم والنقص في الإيمان. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تحريم تفضيل الكفار على المؤمنين؛ لأن الله تعالى أنكره بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ إلى آخره. * ومن فوائد الآية الثانية: بيان أن كل من قال مثل هذا القول فإنه مستحق للعنة؛ لقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّه﴾، وأحكام الله سبحانه وتعالى الشرعية والجزائية لا تتعلق بالأشخاص أبدًا، فإذا استحق هؤلاء اللعن بإيمانهم بالجبت والطاغوت وقولهم للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا، فمن جرى مجراهم استحق ما يستحقون من العقاب. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن من لعنه الله فلا ناصر له؛ لقوله: ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾. * ومن فوائدها: التحذير من التعرض للعنة الله؛ لأن الإنسان إذا تعرض للعنة الله وحقت عليه لن يجد من ينصره.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب