قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ [السجدة ١٤].
المؤلف يقول: (وتقول لهم الخزنة إذا دخلوها: ﴿﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ﴾ ﴾)، ولننظر في كلام المؤلف هل يوافق ظاهر الآية؟ نقرأ: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ هل يناسب أن يكون القائل الملائكة، وأن الملائكة تقول: ﴿إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾؟
* طالب: لا.
* الشيخ: من القائل إذن؟ الله، نعم، كما قال تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة ٦٧].
والصواب: أن هذا القول من قول الله عز وجل، يقول لهم تقريعًا وتوبيخًا وتنديمًا أيضًا، يقول: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ﴾ الأمر هنا ليس (...)، ولا لمجرد الأمر، ولكن للتوبيخ والتقريع والإهانة.
﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ قال المؤلف: (فذوقوا العذاب) أفادنا بهذا التقدير أن مفعول (ذوقوا)؟ مفعولها محذوف، تقديره العذاب، ويحتمل ألّا يكون لها مفعول، والمعنى كقوله: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان ٤٩]، يكون المراد مجرد التوبيخ والإهانة.
قال: (﴿﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ ﴾ أي: بترككم الإيمان به والعمل له)، وأفادنا بقوله: (بترككم) أن (ما) مصدرية، وأن (نسيتم) بمعنى تركتم، وهو كذلك، فإن (ما) مصدرية، أي: بنسيانكم، والنسيان هنا بمعنى الترك، وليس النسيان الذي هو ذهول القلب عن معلوم؛ لأن النسيان المعروف هو ذهول القلب عن معلوم، ولهذا لا يُعاقب عليه الإنسان، ويطلق النسيان على الترك، وهو الذي يُعاقب عليه.
والدليل على إطلاق النسيان على الترك قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة ٦٧]، وهذه الآية ﴿إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ [السجدة ١٤] بمعنى تركناكم، وليس معناها ذهول القلب عن معلوم كقوله تعالى: ﴿فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه ٥٢]، فالنسيان المنفي عن الله غير النسيان المُثبت له، النسيان المُثبت له هو الترك، والنسيان المنفي عنه هو الذهول عن الشيء.
﴿بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ [السجدة ١٤] نسيتم: تركتم لقاءه، تركتم اللقاء، المراد: تركتم العمل له والإيمان به.
﴿إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ [السجدة ١٤] تركناكم في العذاب -نسأل الله العافية- تركهم الله عز وجل، هو ما نسيهم، لا يزال يعلم بهم جل وعلا، ولكنه تركهم، وقال لهم -بعد المراجعة- قال لهم: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون ١٠٨] هل يتكلمون بعد ذلك داخل العذاب؟ أبدًا؛ لأنه في الآخرة ما يقدروا يخالفوه لما قال: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ انقطع رجاؤهم من كل رجاء -والعياذ بالله- نعم، وأيسوا من كل خير.
(﴿﴿إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ ﴾ تركناكم في العذاب ﴿﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ﴾ ﴾ الدائم ﴿﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴾ من الكفر والتكذيب) هذا إقرار بالتأكيد، وبيان أن ما ذاقوه لا يمكن أن يزول عنهم، مع أنهم قالوا فيما سبق: ﴿فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا﴾ [السجدة ١٢]، فقال: ما فيه رجوع.
﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ﴾ يعني: العذاب الدائم، وهذا من باب إضافة الشيء إلى نوعه، أو على تقدير (في) للظرفية؛ يعني: عذاب في الخلد، وعلى كل حال هو عذاب دائم.
﴿عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (ما) هنا يحتمل أن تكون اسمًا موصولًا؛ أي: بالذي كنتم في الدنيا تعملونه، ويحتمل أن تكون مصدرية، ولكن ظاهر تفسير المؤلف أنها اسم موصول، (﴿﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴾ من الكفر والتكذيب).
ثم بَيَّن الله عز وجل من المؤمن حقًّا فقال: (﴿﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾ ﴾ القرآن ﴿﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا﴾ ﴾ [السجدة: ١٥]) (إنما) أداة حصر، حصرت الإيمان في مَن؟ في الذين إذا ذكروا بآيات ربهم خروا سجدًا.
وقوله: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾ قال المؤلف: (القرآن) وعلى هذا فهي الآيات الشرعية.
والصواب: أنها عامة، حتى الآيات الكونية، فمن ذُكِّر بما يفعله الله عز وجل في المكذبين والمجرمين فإن ذلك داخل في الآية ﴿بِآيَاتِنَا﴾.
وقوله: (القرآن) يقتضي أن هذا القول خاص بهذه الأمة ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾ لأنهم هم أهل القرآن، ولكنّ الأولى أن تؤخذ على سبيل العموم حتى فيما سبق ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ [الإسراء ١٠٧].
يقول: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا﴾ [السجدة ١٥] (الذين) ويش إعرابها؟
(الذين) فاعل (يؤمن) يعني: ما يؤمن إلا الذين، والمراد الإيمان الكامل.
وقوله: (﴿﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا﴾ ﴾ وُعِظوا ﴿﴿بِهَا﴾ ﴾) أي: جعلت موعظة لهم وبينت لهم الآيات، فإذا وُعِظوا بها ﴿خَرُّوا سُجَّدًا﴾ (خروا) جواب (إذا)، ﴿خَرُّوا سُجَّدًا﴾، الخُرور يكون من أعلى إلى أسفل ومنه خُرور الماء (...) من فوق إلى تحت.
﴿خَرُّوا سُجَّدًا﴾ من القيام، ﴿وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ حال السجود ﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [السجدة ١٥].
هذه الآية أورد عليها بعض العلماء إشكالًا، وقال: هل كل من ذُكِّر بآيات الله يسجد أم ماذا؟ هل أنتم الآن ما يكون الإنسان مؤمن إلا إذا قرأت عليه الآية سجد أو إذا ما وعظتَه بموعظة سجد؟ ليس كذلك.
إذن ما الجواب عن هذه الآية؟
قال بعضهم: المراد ﴿إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا﴾ في موضع السجود؛ يعني: خروا سجدًا إذا مرت بهم آية سجدة سجدوا، أما إذا ذُكِّروا بآيات ربهم بدون أن تمر بهم آية سجدة فإنهم لا يسجدون، ولكن الصواب خلاف ذلك، الصواب: أن المعنى الذين إذا ذُكروا بها انقادوا لها وخضعوا لها، ولا يلزم من ذلك أن يكون السجود مباشرًا للتذكير، ﴿إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا﴾ يعني حتى في المستقبل، فلا يلزم أن يكون الجواب مباشرًا للشرط؛ يعني: لا يلزم أن يكون جواب الشرط مباشرًا له.
وما يقتضي الترتيبُ من حروف أو التركيب قد يُراد به الترتيب في موضعه في كل شيء بحسبه، ولهذا لو قلت: تزوج زيد فوُلد له، الفاء للترتيب والتعقيب، ومن المعلوم أنه لا يُولد له غيرَ عقد النكاح له، أليس كذلك أو لا؟ تأملوا، هل يولد له بمجرد ما يُعقد له الزواج؟
* طلبة: لا.
* الشيخ: إذن الفاء للترتيب والتعقيب، نقول: تعقيب كل شيء بحسبه، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ [الحج ٦٣] وهل المطر إذا نزل وصار الصباح فإذا هي مخضرة؟ لا، ولكن بعد مدة تخضرّ، وبعد مدة يُولد لهذا المتزوج، كذلك هذه ﴿إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا﴾ ما يلزم من ذلك مجرد التذكير يسجدون، بل المعنى أنهم يلتزمون بذلك، إذا ذُكروا بها التزموا بذلك في السمع والطاعة، فسجدوا في موضع السجود ولم يوجد منهم استكبار، وعلى هذا فلا إشكال في الآية.
﴿خَرُّوا سُجَّدًا﴾ (سجدًا) حال من فاعل (خروا) و﴿وَسَبَّحُوا﴾ معطوف على (خروا)، ومعنى (سبحوا) أي: نزهوا، فالمفعول محذوف، التقدير: لسبحوا ربهم أو سبحوا الله.
وقوله: (متلبسين ﴿﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ ﴾) أفادنا المؤلف أن الباء في قوله: ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ أن الباء للملابسة يعني معناه أن التسبيح مقرون بالحمد، ولو أنه ذهب إلى أن الباء للمصاحبة وسبحوا تسبيحا مصاحَبا بحمد ربهم لكان أولى.
(﴿﴿وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ ﴾ أي قالوا: سبحان الله وبحمده) هذا معنى سبحوا بحمد ربهم يعني قالوا: سبحان الله وبحمده، ويَحتمل ألّا يكون المراد بالتسبيح والحمد تسبيح اللسان وحمده، وأن المراد نزهوه بقلوبهم وحمدوه بألسنتهم، نزهوه بقلوبهم عما لا يليق به وحمدوه بألسنتهم بما يستحق.
﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [السجدة ١٥] الجملة حال؛ يعني: والحال أنهم لا يستكبرون عن الإيمان والطاعة، بل ينقادون ويخضعون.
ثم بين الله تعالى من صفاتهم ما ذكره بقوله: (﴿﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ﴾ ﴾ [السجدة: ١٦] ترتفع) وتبتعد أيضًا؛ لأن المجافاة الإبعاد، ومنه: «كان النبي ﷺ يجافي عضديه في السجود»[[أخرجه البخاري (٨٢٨)، وابن ماجه (١٠٦١) واللفظ له من حديث أبي حميد الساعدي.]] يعني يبعدها عن جنبيه، فمعناها إذن الإبعاد والارتفاع، والارتفاع يستلزم البعد.
﴿عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ [السجدة ١٦] المضاجِع جمع مَضْجِع وهو مكان الاضطجاع، والاضطجاع هو النوم، يقول المؤلف: (مواضع الاضطجاع بفُرُشها لصلاتهم بالليل تهجدًا)، ما ينامون تتجافى جنوبهم عن المضاجع فلا ينامون، ولكنّ هذا مقيد بما جاءت به السنة أنهم يتهجدون ليس كل الليل ولكن الزمن المشروع التهجد فيه.
(﴿﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا﴾ ﴾ من عقابه ﴿﴿وَطَمَعًا﴾ ﴾ في رحمته): (يدعون) هذه جملة حالية من فاعل (تتجافى) أو من المضاف إليه في (جنوبهم) يعني: حال كونهم يدعون ربهم.
دعاء مسألة ولّا عبادة أو الأمرين؟ يشمل الأمرين، يدعونه دعاء مسألة وعبادة.
﴿رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ خوفًا من عقاب الله عز وجل، وطمعًا في رحمته، لكن ما الحامل على الخوف والطمع؟ إذا نظروا إلى تقصيرهم وعظمة الله وشدة عقابه غلب عليهم جانب الخوف، وإذا نظروا إلى سعة رحمة الله وعفوه، وأنهم قاموا بما ينبغي أن يقوموا به غلب عليهم جانب الطمع، فهم يسيرون بجناحين؛ جناحي الخوف والطمع.
ولكن أيهما ينبغي أن يُغَلَّب؟ ما فيه خلاف: قال الإمام أحمد رحمه الله: ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا، فأيهما غلب هلك صاحبه؛ لأنه إن غلّبَ جانبَ الخوف قنط من رحمة الله، وإن غلّبَ جانبَ الرجاء أمن مكر الله، ولكن يكون بين بين.
يقول: الصحيح يغلِّب جانب الخوف، والمريض يُغلِّب جانب الطمع؛ يعني عند المرض يُغلّب جانب الطمع والرجاء، في حال الصحة يُغلِّب جانب الخوف.
وقيل: إن فعل الطاعة فليُغلِّب جانب الرجاء، وإن هَمَّ بالمعصية أو عمِلها فليُغلِّب جانب الخوف.
(﴿﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ ﴾ [السجدة: ١٦] يتصدقون)، (مِن) هل هي لبيان الجنس أو أنها للتبعيض؛ يعني: بعض ما رزقناهم ينفقون؟
* طالب: الأول.
* طالب آخر: للتبعيض.
* الشيخ: للتبعيض، إذا قلت: إنها للتبعيض صار من يبذل كل ماله تقربًا إلى الله صار مذمومًا، وإن قلت: إنها لبيان الجنس وأنهم ينفقون مما رزقناهم؛ فإنه لا يقتضي أن يكون من بذل ماله كلَّه مذمومًا؛ لأن المراد بيان الجنس، فيشمل الكل القليل والكثير.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء: هل يبذُل الإنسان كل ماله في طاعة الله وفي سبيل الله أو يقتصر على بعضه؟
والصواب: أن ذلك يرجِع إلى حال الشخص وإلى الأسباب التي بها يدفع الضرورة عن نفسه وأهله، فإن كان الإنسان ضعيف التوكل أو ضعيف القدرة على التكسب، فالأفضل أن يبذل شيئًا ما ماله، وإن كان الأمر بالعكس فله أن يتصدق بجميع ماله كما فعل أبو بكر، أما أبو لبابة لما نذر أن ينخلع من ماله صدقة لله ورسوله قال له الرسول ﷺ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»[[أخرجه البخاري (٢٧٥٧) من حديث كعب بن مالك.]] فجعل من الخير له أن يمسك بعض المال.
وقوله: ﴿يُنْفِقُونَ﴾ الإنفاق البذل.
قال الله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة ١٧] فلا تعلم نفس، أيُّ نفس، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، لا تعلم ﴿مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ وهذا نفي لعلم الحقيقة لا لعلم المعنى، فإن المعنى معلوم بما أخبر الله من قرة الأعين لكن حقيقة ذلك الشيء مجهولة.
ولهذا قال ابن عباس: «ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء»[[أخرجه البيهقي في البعث والنشور (٣٣٢).]] معلوم أن في الجنة نخلًا ورمانًا وفاكهةً ولبنًا وعسلًا وماءً وخمرًا وطيرًا وما أشبه ذلك، نعلم هذا، ونعلم المعنى، ولكن حقيقة ذلك الشيء مجهولة ولّا لا؟ مجهولة، ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ﴾ أي: حقيقة ما أُخفي، وليس معنى ما أُخفي، المعنى معلوم.
وقوله: (﴿﴿مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ ﴾ [السجدة: ١٧] ما تقر به أعينهم) قرت عينه بمعنى جمدت، وقرت عينه بمعنى سكنت، فعلى الأول تكون من القُرِّ، وهو البرد، ولهذا يُقال: إن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة، ولهذا قال: قَرَّت عينُه؛ إذا سُرت، أما إذا كانت من القرار، وهي أنها لا تلتفت إلى سوى ما هي تنظر إليه؛ يعني أن عيونهم قارة لا تلتفت إلى سوى ما هي عليه، وكلا المعنيين صحيح فإن معنى قرَّت عينه: أي بردت، فلم يلحقها حرارة الحزن، ومعنى قرت عينك؛ أي سكنت، فلا تنظر إلى شيء سوى ما هي عليه، وهذا يكون معناه غاية الأمنية.
قال المؤلف: (وفي قراءة بسكون ياء المضارع) إيش هي سكون الياء؟ (أُخفيَ) هذا فعل ماضٍ، (أُخْفِي) فعل مضارع، أو لا؟ أُخفي يعني أنا.
﴿﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِي لَهُمْ﴾ ﴾ ما أُخْفِي لهم أنا؛ يعني الله عز وجل ﴿مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة ١٧]، أما ﴿مَا أُخْفِيَ لَهُمْ﴾ فهو فعل ماضٍ مبني للمجهول، وفاعله مستتر جوازًا ولّا وجوبًا؟ إذا كانت (أُخفيَ) فهو مُستتر؟
* طالب: وجوبًا.
* الشيخ: لا، جوازًا، إذا كانت (أُخْفِيَ) فهي فعل ماض، وفاعله مستتر جوازًا، وإذا كانت (أُخْفِي) بالسكون فهي فعل مضارع، وفاعله مستتر وجوبًا، تقديره: أنا.
والمعنى على كلتا القراءتين صحيح، فالله هو الذي أخفاه حتى على البناء للمجهول ﴿مَا أُخْفِيَ﴾ فإن المُخفي هو الله، ﴿مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة ١٧].
قال: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة ١٧] (جزاءً) مفعول لأجله، ولكن هل المفعول من أجله هل عامله (أخفي) ولّا (قرة)؟ الظاهر أنها (قرة) يعني قرت أعينهم جزاءً، وليس المعنى أخفيَ لهم جزاءً؛ لأنه قد يُقال: إن الإظهار أبلغ في الجزاء لكنها من قرة أعين جزاءً.
﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة ١٧] أي: بالذي كانوا يعملونه في الدنيا من طاعة الله، فإن قلت: هذا يدل على أنهم يُجازون بعملهم، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٤٦٣)، ومسلم (٢٨١٦ / ٧١) من حديث أبي هريرة.]] فما هو الجمع بين هذا الحديث وبين هذه الآية وأمثالها؟
قال أهل العلم: إن الجمع بينهما باختلاف معنى الباء، فالباء التي للسببية هي الموجودة في مثل هذه الآية: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا﴾ أي: بسبب ما كانوا يعملون.
والباء التي للعوض هي المذكورة في قوله: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ»، أي: عوضًا عن عمله؛ لأننا لو أردنا المعاوضة والمقاصة لظهر العامل مغبونًا مطلوبًا أو لا؟ لو أردنا المقاصة والمعاوضة كان العامل مهما عمل من الصالحات فهو مطلوب، نعمة واحدة من نعم الله عليه تستوعب جميع الأعمال، يقول مثلًا القائل: أنا الحمد لله أصلي الصلوات الخمس وأصوم رمضان وأدفع زكاة مالي وأحج البيت، هذه منزلة للجنة صح، ولَّا لا؟ لو أردنا أن نقابله بنعمة من النعم..
وقوله: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾ [السجدة١٨] المراد بالفسق هنا الفسق الأكبر المُخْرِج عن الإسلام، وليس الفسق الأصغر الذي يبقى فيه الإنسان مُؤْمِنًا ناقص الإيمان.
﴿كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾ الجواب: ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾، وانتبه أيها القارئ فقف على قوله: ﴿فَاسِقًا﴾، فإن كثيرًا من القراء يقرأ ويستمر ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ ما يصلح هذا، ﴿كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ ما يستقيم، ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾ فقِفْ، ثم قل: ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾ هذا الجواب جواب مَن؟ جواب الله عز وجل ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾ فالله تعالى استفْهَمَ وأجابَ نفسه: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾ أجاب: ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾ (أي: المؤمنون والفاسقون)، لماذا؟
(...) (﴿﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا﴾ ﴾ [السجدة: ١٩] وهو ما يعد للضَّيْف ﴿﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴾) ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ﴾ (أمَّا) هذه حرف شرط وتفصيل، وتفيد مع الشرط والتفصيل تفيد التوكيد؛ ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ﴾ [الليل ٥ - ٧] ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ﴾ [الليل ٨ - ١٠].
هنا ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى﴾ تكون فيها ثلاث فوائد:
شرطية؛ بدليل أنها أتى لها جواب ﴿فَلَهُمْ﴾.
تفصيلية؛ لأنها أتت بقِسْمين ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا﴾ أيش بعد؟
توكيدية؛ لأنه لا شك أن هذه الصيغة تفيد التوكيد ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ﴾ هذا جواب الشرط ﴿فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى﴾، الجنات جمع (جَنَّة) وهي في اللغة الحديقة الكثيرة الأشجار، وسُمِّيَت به لأنها تُجِنُّ مَن فيها أي: تستره، لكنها في الشرع الدار التي أعدها الله تعالى لأوليائِه فهي أعلى مما يدور في الخيال أو يخطر على البال.
وقوله: ﴿جَنَّاتُ الْمَأْوَى﴾ يعني التي هي مأواهم لا يبغون عنها حولًا ولا يتحولون عنها، فهي مأوى كما أن الجحيم مأوى الكافرين لا يتحولون عنها، فالمأوى مكان الإيواء أي: أنها هي جناتهم التي يأوون إليها ولا يخرجون منها.
﴿نُزُلًا﴾ يقول المؤلف: (هو ما يُعَدُّ للضيف) وعلى هذا فتكون مصدرًا في موضع الحال، يعني أنه معد لهم هذا النزل.
﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الباء هنا للسببية.
(﴿﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا﴾ ﴾ بالكفر والتكذيب ﴿﴿فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ ﴾) والعياذ بالله، مأواهم أي: مرجعهم ﴿النَّارُ﴾ يخرجون منها؟! لا، ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا﴾ أعوذ بالله، شوف ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا﴾ يُمَنّون بالخروج ترتفع بهم إلى أن يقربوا من أبوابها، ثم بعد أن يتمنون الخروج ويُريدونه يعادون فيها، وهذا أشد والعياذ بالله في التعذيب ولَّا لا؟ لو فرضت أنك محبوس في مكان فقيل لك: تعال، تعال. ثم إذا قربت من الباب رَدّك، أيُّ هذا أو أن تبقى في حجرة الحبس، أيهم أشد؟ أن تبقى في الحجرة أشد؟ أيهما أشد؟
* طالب: الأول.
* الشيخ: إي نعم، أن يُقرَّب من الباب، ثم إذا أراد أن يخرج قيل له: ارجع؛ لأنه والعياذ بالله إذا فُعِلَ هكذا صار كأنه يُحبَس عدة مرات؛ لأن من أشرف على الحياة ثم عاد إلى الموت صار ذلك موتًا آخر، فتكون إعادته إلى محبسه تكون حبسًا ثانيًا، هكذا أهل النار والعياذ بالله، يُمنَّون الخروج، وكلما أرادوا أن يخرجوا أعيدوا فيها.
﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ أيضًا توبيخًا: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ فيجتمع عليهم -والعياذ بالله- يجتمع عليهم العذاب الجسمي والعذاب القلبي؛ الجِسْمِيّ منين؟ مِن النار والعياذ بالله ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ [النساء ٥٦] والقلبي؟ مِن هذا التوبيخ ﴿ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ ويش حَسْرَة الإنسان عندما يقال له هكذا؟ ألا يتحَسَّر ويقول: ليتني ما كذبت، كيف أكذب؟ يتمنى، يكون هذا -والعياذ بالله- فيه من التوبيخ والتنديم وإدخال الحسرة ما هو ظاهر؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى في آية أخرى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة١٦٧] الآن نحن إذا فاتنا شيء بقضاء الله وقدره وهو مما يَسُرُّنا فهل الواحد يندم؟ يندم يقول: ليتني فعلت وليتني فعلت، مع أنه منهي عنه لأن هذا يفتح عمل الشيطان، يفتح باب الندم أو الاعتراض على القدر؛ ولهذا نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه.
فالمهم أن هذا التوبيخ يكون عذابًا أيش؟ قلبيًّا، وأما كونهم يرددون ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا﴾ فهو عذاب جسمي بدني، فهم دائمون والعياذ بالله في عذاب وحسرة وندم ﴿لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ [الزخرف ٧٥] دائمًا وأبدًا ما فيه فترة راحة؛ ولهذا يقولون: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾ [غافر٤٩] شوف -والعياذ بالله- الخزي، والتقاصر ما قالوا: ادعوا ربكم يرفع العذاب، قالوا: يخفف فقط، ولا قالوا: يخفف دائمًا قالوا: يخفف يومًا، وهذا يدل على شدة يأسهم؛ لأنهم أُيِّسوا من الرحمة والعياذ بالله، يتمنون ولا لهم وجه على الله أنهم اللي يسألون، يطلبون من خزنة جهنم أن يشفعوا لهم إلى الله أن يُخَفِّف عنهم ﴿يُخَفِّفْ﴾ لا يرفع، ﴿يَوْمًا﴾ لا دائمًا ﴿يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾.
ولكن ويش تقول لهم الخزنة؟ توبخهم ﴿قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [غافر ٥٠] فيقولون: بلى ﴿قَالُوا بَلَى﴾ ثم يقولون: إذن نحن برآء منكم ما نتدخل في شأنكم ﴿فَادْعُوا﴾ [غافر ٥٠]، ادعوا أنتم، يقول الله عز وجل: ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ [غافر ٥٠] ضائع ما ينفعهم؛ ولهذا إذا ألَحُّوا على ربهم: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا﴾ [المؤمنون ١٠٦، ١٠٧]، شوف التضرع ﴿رَبَّنَا﴾، والاعتراف ﴿غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾، ﴿وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ﴾ هم حكموا على أنفسهم، وكل هذا من باب التضرع؛ لأن الإنسان إذا اعتذر بإساءته فإن هذا مدعاة لرحمته، لو جاءك واحد يعتذر بذنبه ويعترف بذنبه هذا يوجب أنك ترحمه، فهم يعترفون لعلهم يُرحمون ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ [المؤمنون ١٠٧]، قال الله تعالى: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ ﴿اخْسَئُوا﴾ أي: ذُلُّوا وكونوا حَقَارَى، ﴿وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ بأي كلمة حينئذ -والعياذ بالله- ييأسون من كل خير، نسأل الله السلامة؛ ولهذا قال: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ﴾ [السجدة ٢٠، ٢١] هذا فعل مؤكَّد بالنون واللام ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ﴾ تأكيدًا وجوبِيًّا؟ تأكيدًا وجوبيًّا لأنه مثبت، مُستقبل، بجواب قسم، غير (...) باللام.
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى﴾ عذاب الدنيا بالقتل والأسر والجدب والسنين والأمراض.
(﴿﴿دُونَ الْعَذَابِ﴾ ﴾ أي: قبل ﴿﴿دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ﴾ ﴾ عذاب الآخرة، ﴿﴿لَعَلَّهُمْ﴾ ﴾ أي: مَن بقي منهم ﴿﴿يَرْجِعُونَ﴾ ﴾ إلى الإيمان) هذا وعيد من الله عز وجل أنه يذيقهم العذاب الأدنى قبل العذاب الأكبر وهو عذاب الآخرة؛ لعلهم يرجعون (لعل) للتعليل، ولكن هل رجعوا؟ منهم مَنْ رجع، ومنهم من لم يرجع، فإنّ قريشًا أصيبوا بالجدب والسنين والقتل في بدر -قَتْل شرفائهم- والأسر أيضًا، ومع ذلك رجعوا ولّا لا؟ منهم مَنْ رجع، ومنهم من لم يرجع، فمَن أراد الله له النجاة أحيا الله قلبه بهذه المواعظ فرجع، ومن طَبَعَ الله على قلبه بقي على ما هو عليه ولم يرجع.
* * *
(﴿﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾ ﴾ القرآن ﴿﴿ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾ ﴾ أي: لا أحد أظلم منه) ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ (﴿﴿مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ ﴾ أي: من المشركين ﴿﴿مُنْتَقِمُونَ﴾ ﴾). ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ أفادنا المؤلف بقوله: لا أحد أظلم أن الاستفهام هنا للنفي؛ أي: لا أحد أظلم منه، والظلم سبق لنا عِدة مرات أن المراد به أيش؟ النقص في الأصل؛ لقوله تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف ٣٣] أي: لم تنقص، فالمراد به نقص الإنسان فيما يجب عليه فيدعه، أي: نقصه فيما مُنع منه فلا يلتفت ويرتكب المحرم.
وقوله: ﴿مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾ ﴿ذُكِّرَ﴾ ما قال: ممن ذَكَّره الرسول ﷺ لأجل أن يشمل كل مُذكِّر؛ لأن بعض الناس قد يخضع لبعض المذكِّرين لكونه فلانًا، وهذا ليس خاضعًا للآيات، هذا خاضع للأشخاص، تجده إذا ذُكِّر بهذه الآية إن ذَكَّره فلان قَبِل وإن ذَكَّره آخر لم يقبل، أليس كذلك؟ يوجد أناس إذا أمرهم إنسان بأمر معروف ما همه، بل ربما يستهزأ به، وإذا أمره به آخر امتثل وأظهر الموافقة؛ ولهذا قال: ممن ذُكِّر؛ لئلا يَتَقَيَّد بمذكِّر معين، أيّ مذكرٍ يكون.
وقوله: ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾ قال المؤلف: المراد به القرآن. والأصح أنه أعم من القرآن، ويشمل حتى من ذُكِّروا بالتوراة في زمن التوراة، ومن ذُكِّروا بالإنجيل في زمن الإنجيل، وبالزبور في زمن الزبور؛ لأن هذا حكم عام.
وقوله: ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾ أتى بالربوبية المُقْتَضِيَة للانقياد؛ لأنه ما دام التذكير بآيات ربٍّ لك فأنت مَرْبُوبٌ عَبْد، والمربوب في تدبير مَن؟ ربه.
﴿ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾ وفي آية أخرى ﴿فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾ [الكهف ٥٧]، والفرق أنه في الآية الأخرى ﴿فَأَعْرَضَ﴾ أنه بادر بالإعراض فأعرض، في الثانية بعدما فكَّر وقدَّر في هذه الآية أعرض، والناس هكذا منهم من يُعرِض لأول وهلة ولا يلتفت ولا يفكر، ومنهم من قد يفكر ولكن في النهاية يعرض.
وقوله: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ الجملة استئنافية لتهديد هؤلاء المُعرضين وبيان أنهم من المجرمين؛ ولهذا قال: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ وهو إظهار في موضع الإضمار، والأصل (إنا منهم)، لكن أظهر في موضع الإضمار للسببين السابقين الذين أشرنا إليهما؛ أنه من أجل أن يحكم على هؤلاء بالإجرام، ولأجل أن يكون الحكم عامًّا لكل مجرم فيهم وفي غيرهم، والإجرام بمعنى الإثم، فالمجرم هو الآثم الذي ارتكب ما لا يحل له كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين٢٩].
قال: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ ﴿مُنْتَقِمُونَ﴾ جَمْع ليُطابق المبتدأ، أين المبتدأ؟ (إنا) اللي هو اسم (إن)؛ لأن أصلها (إننا) لكن حذفت النون الثانية تخفيفًا، ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ والجمع هنا وفي كل ما يضاف إلى الله يراد به التعظيم، وقد سبق لنا أن النصراني لو استدل بالجمع على التعدد قلنا له: أنت من أصحاب الزيغ الذين يتبعون ما تشابه منه؛ لأنك لو رجعت إلى قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة١٦٣] زال عنك هذه الاشتباه.
وقوله: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ هي كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [آل عمران ٤] فكلمة ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾ تعني أنه صاحب انتقام؛ يعني ممن يستحقه، وهنا ﴿مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ مقيدة، منتقمون من المجرمين، وبهذا نعرف أن المنتقم ليس من أسماء الله، المنتقم ليس من أسماء الله؛ لأن الاسم من أسماء الله يكون مطلقًا دالًّا على المعنى الأحسن على كل تقدير؛ كقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف ١٨٠]، كل كلمة تحتمل هذا وهذا فإنها لا تكون مِن أسماء الله؛ لأن الله يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾، والانتقام لا شك أنه حَسَن في محله، وعليه فلا يصح أن يُوصف الله به على سبيل الإطلاق، وهو مَعدود من الأسماء الحسنى المشهورة، لكنَّ هذه الأسماء الحسنى المشهورة كما قال شيخ الإسلام وغيره من أهل التحقيق ليست ثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ما هي ثابتة؛ لأن فيها أشياء من الأسماء لا تصح اسمًا لله.
إذن هل يوصف الله بالانتقام مطلقًا فيقال: (المنتقم)؟ الجواب: لا؛ لأنه ما ورد إلا مقيدًّا، وورد ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾ نكرة في سياق الإثبات فلا تدل على العموم؛ لأن النكرة في سياق الإثبات كما هو معروف لا تفيد العموم، إنما تفيد العموم إذا كانت في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام الإنكاري كما ذكره أهل الأصول.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ [السجدة ٢٣] ﴿آتَيْنَا﴾ بمعنى أعطينا وهو إعطاء شرعيٌّ قدريٌّ.
وقوله: ﴿مُوسَى الْكِتَابَ﴾ ﴿مُوسَى﴾ مفعول أول و﴿الْكِتَابَ﴾ مفعول ثان، و(أل) في قوله: ﴿الْكِتَابَ﴾ للعهد الذهني؛ لأنه ما سبق له ذكر حتى يُحال على المذكور، وليس شيئًا حاضرًا حتى يقال: إنه عهد؟
* طالب: ذهني.
* الشيخ: إذن فهو عهد ذهني؛ يعني: الكتاب المعهود المعروف وهو التوراة.
(﴿﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ﴾ ﴾ شكٍّ ﴿﴿مِنْ لِقَائِهِ﴾ ﴾) ﴿فَلَا تَكُنْ﴾ الخطاب هنا -على ما مشى عليه المؤلف- الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، والضمير في ﴿لِقَائِهِ﴾ يعود على موسى، والمعنى: ﴿فَلَا تَكُنْ﴾ يا محمد ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾ أي: في شك ﴿مِنْ لِقَائِهِ﴾ لِقاء مَن؟ لقاء موسى، يعني: فإنك ستلاقيه.
قال المؤلف: (وقد التقيا ليلة الإسراء) هذا ما ذهب إليه المؤلف وذهب إليه كثير من المفسرين أيضًا أن الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والضمير يعود على موسى، والمعنى: لا تكن يا محمد في شك من ملاقاة موسى فإنك ستلاقيه، وقد لاقاه في ليلة الإسراء.
قال المؤلف: (الإسراء)؛ لأن الإسراء والمعراج في ليلة واحدة، هذا ما ذهب إليه المؤلف، ويحتمل أن قوله: ﴿فَلَا تَكُنْ﴾ الخطاب لموسى؛ يعني: آتينا موسى الكتاب قائلين له: لا تكن في مرية من لقائه أي: لقاء الجزاء عليه أي: على الكتاب، والمعنى: أن هذا الكتاب الذي آتيناك إياه لا بد أن يُحاسَبَ عليه مَنْ نزل إليهم حتى يلاقوا جزاءهم.
ويحتمل المعنى: ﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾ أي: لقاء موسى أي: لقاء مثل ما لقيه منين؟ من الأذى ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾ أي: لقاء ما لقيه موسى من الأذى فإن موسى أوذي، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «لَقَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣١٥٠)، ومسلم (١٠٦٢ / ١٤١) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.]] ، وهذا أيضًا معنى حسن أن المعنى: أننا آتيناه وآتيناك أيضًا وأوذي فستؤذى، فلا تكن في شك من هذا، وهذا هو الواقع؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لقي من الأذى الشيء الكثير، وكل من تَبِع شريعته وانتهَج منهاجه في الدعوة إلى الله والعمل في شريعة الله فسيلقى الأذى، ولكن الشأن كل الشأن هل يلزم من الأذى الضرر؟
* طالب: ما يلزم.
* الشيخ: ما يلزم من الأذى الضرر؟ ما يلزم؛ ولهذا يصح أن نقول: إن الله يؤذى ولا يتضرر، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ [الأحزاب٥٧] وكما قال تعالى في الحديث القدسي: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبَُ الدَّهْرَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٤٩١)، ومسلم (٢٢٤٦ / ٢) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]] مع أنه قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي»[[أخرجه مسلم (٢٥٧٧ / ٥٥) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.]] فلا يلزم من الأذى الضرر، ها نحن الآن نتأذى برائحة إنسان أكل بصلًا أو ثومًا ولّا لا؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: ونتضرر؟
* طالب: لا، ما نتضرر.
* الشيخ: ما نتضرر؛ فلا يلزم من الأذى الضرر، والرسول عليه الصلاة والسلام لا شك أنه أوذي، ولكن ما ضره ذلك والحمد لله صار الأمر والعاقبة للرسول ﷺ.
* طالب: لا يكون ضرر (...) لا بد للأذى أن يكون فيه ضرر.
* الشيخ: لا ما هو بلا بد.
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: لا، ما يتضرر أحد حتى الآن (...) لو تأذيت من كلامك مثلًا أو تأذيت من رائحة شخص أو ما أشبه ذلك ما أتضرر، وأما قوله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ [آل عمران ١١١] فالمعنى أنهم لن يضروكم أبدًا، ولكن أذى، ولهذا قالوا: إن الاستثناء في هذه الآية منقطع.
﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [السجدة ٢٣] ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى﴾ جعلناه الضمير يعود على موسى أو الكتاب؛ ولهذا قال: ﴿وَجَعَلْنَاهُ﴾ أي: موسى أو الكتاب، ﴿هُدًى﴾ هاديًا ﴿لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، ﴿هُدًى﴾ مصدر قال المؤلف: إنه بمعنى اسم الفاعل، هاديًا لبني إسرائيل، واسم الفاعل صالح للكتاب، وصالح للرسول لموسى.
﴿لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (بني إسرائيل) أي: ذرية إسرائيل، ذريته فيشمل أيش؟ الذكور والإناث، لكن لو قلت: بني فلان وهو شخص ما هو قبيلة، فبني للذكور وإذا قلت مثلًا: بني محمد؛ المعنى: الذكور، وإذا قلت: بني تميم يشمل الذكور والإناث؛ لأنهم قبيلة وإذا قلت: بنو آدم؟
* طالب: الذكور والإناث.
* الشيخ: يشمل الذكور والإناث؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: طيب إذن الرسول يقول: «إِنَّ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٩٤)، ومسلم (١٢١١ / ١١٩) من حديث عائشة رضي الله عنها.]] .
ويش نقول؟
* طالب: واضح.
* الشيخ: واضح ليش؟
* الطالب: لأنه خاص بهم.
* الشيخ: خاص بهم، نعم، (بني إسرائيل) إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق، فهو نبي من الأنبياء، ويقولون: معنى إسرائيل أي: عبد الله وهو لقب له.
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا﴾ [السجدة ٢٤] ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً﴾ أي: صيرنا، والجعل هنا كوني ولَّا شرعي؟ كوني، وغالب الجعل المذكور في القرآن كونيٌّ، وإن كان يأتي بمعنى الشرعي؛ مثل قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ﴾ [المائدة ١٠٣] المعنى: ما جعلهم شرعًا، وأما كوني فقد وقع.
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ﴾ أي: من بني إسرائيل أئمة بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ياء، قادة تفسير لأئمة، أئمة هذا تحقيق، ﴿﴿أَيِمَّةً﴾ ﴾ إبدال الثانية ياء، والمؤلف ما ذكر التفصيل فلا أدري هل أنه ليس فيها قراءة أو أنه غفل عنها، تحتاج إلى مراجعة، لأن كثير من القراء عندنا يقرؤونها بالتسهيل (وجعلناهم أئمة) دائمًا يقولون ﴿﴿أَيِمَّةً﴾ ﴾ بالتسهيل تحتاج إلى مراجعة.
يقول: (قادة) تفسير لأئمة؛ لأن الإمام هو الشيء الذي يُقْتدى به ويُتْبَع.
* طالب: أقول: الجعل يا شيخ ما يكون (...)؟
* الشيخ: (...)، الحكم مشهور هذا شيء مقدم.
وقوله: ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (﴿﴿يَهْدُونَ﴾ ﴾ الناس ﴿﴿بِأَمْرِنَا﴾ ﴾) يهدون: أي يدلون الناس، والمراد بالهداية هنا هداية الدلالة؛ لأن هداية التوفيق لا تكون إلا لله عز وجل، لكن هذه جواب دلالة.
وقوله: ﴿بِأَمْرِنَا﴾ يحتمل أن يكون الأمر الشرعي أو الأمر الكوني؛ فإن كان المراد بالشرعي فالمعنى: يهدون الناس بالشرع أي: إليه، وإن كان الأمر قدريًّا فالمعنى أنهم يهدون ذلك ويدلونهم بقدرنا وتقديرنا، والحقيقة أن الأمر هنا شامل للمعنيين جميعًا.
وقوله: (﴿﴿لَمَّا صَبَرُوا﴾ ﴾ على دينهم وعلى البلاء من عدوهم) ﴿لَمَّا صَبَرُوا﴾ ﴿لَمَّا﴾ هذه فيها قراءتان؛ قراءة: ﴿﴿لِمَا صَبَرُوا﴾ ﴾، وقراءة: ﴿لَمَّا صَبَرُوا﴾، أما على قراءة ﴿لَمَّا صَبَرُوا﴾ فهي بمعنى أيش؟
* طالب: حين.
* الشيخ: بمعنى حين، فهي إذن ظرف ﴿لَمَّا صَبَرُوا﴾، وأما على قراءة: ﴿﴿لِمَا صَبَرُوا﴾ ﴾ فاللام حرف جر، و(ما) مصدرية؛ أي: لصبرهم، وتكون اللام هنا تكون اللام للتعليل.
وقولهم: ﴿صَبَرُوا﴾ قال المؤلف: (على دينهم وعلى البلاء من عدوهم)، وهو الحق، فيكون الصبر هنا على أحكام الله الكونية، ويش بعد؟ والشرعية، الأحكام الكونية والشرعية، فالأحكام الشرعية على دينهم، والكونية على قوله، وعلى البلاء من عدوهم.
(﴿﴿وَكَانُوا بِآيَاتِنَا﴾ ﴾ الدالة على قُدْرَتِنا ووَحْدَانِيَّتِنا ﴿﴿يُوقِنُونَ﴾ ﴾) ﴿وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ الواو حرف عطف، و(كان) معطوفة على ﴿صَبَرُوا﴾؛ يعني: لهذين الأمرين، الصبر ويش بعد؟ واليقين، الصبر واليقين، واليقين هو أعلى درجات الإيمان؛ لأن اليقين معناه أنه يقينًا لا تَزَعْزُع معه ولا شك فيه، وقد قيل: (بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين)، مأخوذ من هذه الآية: ﴿لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾.
وقوله: (﴿﴿بِآيَاتِنَا﴾ ﴾ الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا﴾ يشمل الآيات الشرعية والكونية، وفي قراءة بكسر اللام وتخفيف الميم وهي: ﴿﴿لِمَا صَبَرُوا﴾ ﴾.
(﴿﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ ﴾ [السجدة: ٢٥] من أمر الدين).
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ﴾ الفصل بمعنى القضاء؛ أي: يقضي ويحكم حتى يُمَيِّز الحق لهؤلاء وهؤلاء، والحكم -كما قال الفقهاء- هو فصل الخصومات؛ لأن به يتميز هذا من هذا.
﴿يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ في حكمه الجزائي أو الشرعي؟ الجزائي؛ لأن حكمه الشرعي فاصل في الدنيا، هؤلاء على حق، وهؤلاء على ضلال، لكن أراد الحكم الجزائي الذي هو غاية الشرعي، فيوم القيامة يفصل بينهم هؤلاء إلى النار، وهؤلاء إلى الجنة.
وقوله: ﴿فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ متى كانوا يختلفون؟ في الدنيا يختلفون، فالمؤمنون يقولون: إن هذا هو الحق، وأولئك يقولون: ليس هذا هو الحق، لكن يوم القيامة يُفصَل بينهم ﴿فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، ويتبين مَنْ هو الذي على الحق.
(﴿﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ ﴾ [السجدة: ٢٦] أي: يتبين لكفار مكة إهلاكُنا كثيرًا من القرون).
قوله: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ الهمزة هنا للاستفهام، والواو حرف عطف، وقد سبق لنا في مثل هذا التركيب أن للعلماء في ذلك قولين في الإعراب.
وقوله: ﴿يَهْدِ لَهُمْ﴾ قال المؤلف: (يتبين لهم)، وفي الحقيقة أن هذا التفسير تفسير باللازم، وإلا فإن الهداية في الأصل الدلالة، لكن بالدلالة يكون ويش يكون؟ البيان بالدلالة؛ فلهذا فسَّروها باللازم أو لم يتبين لهم.
وقوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ ﴿كَمْ﴾ هذه تفسيرية، وهي في محل نصبٍ؛ مفعولٌ مُقَدَّمٌ لـ﴿أَهْلَكْنَا﴾، وهذه الجملة ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ تُؤَوَّل بمصدر من غير حرف مصدري؛ يعني: أو لم يتبينْ لهم إهلاكُنا؟ وقد سبق لنا أن الجمل قد تُؤَوَّل بمصدر من غير حرف مصدري، ولها مثال هل تذكرونه؟
* طالب: تسمع بالمَعِيدِيِّ خيرٌ من أن تراه.
* الشيخ: وغيره؛ من القرآن؟ ﴿أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [المنافقون ٦] ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ [البقرة ٦]؛ لأن سواء عليهم إنذارك وعدمه ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ﴾ [المنافقون ٦] استغفارك وعدمه، هذه من هذا الباب مما يُؤَوَّل بمصدر بدون حرف مصدريٍّ.
﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وقوله: (يتبين لكفار مكة) المؤلف دائمًا يخصُّ مثل هذه العبارات لأهل مكة، وكأنه -رحمه الله- يرى أن كون الآية مكية تُعَيِّن أيش؟ المراد.
ولكن الأولى أن يقال: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المكان، كما أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا كان ما هناك سبب يقتضي تخصيص المكان به فإن العبرة بالعموم.
(﴿﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾ ﴾ الأمم بكفرهم) أي: بسببه، بسبب الكفر، والقرون جمع قرن، وما المراد بالقرن، القرن الأمة من الناس، كما في الحديث الصحيح: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٥٢)، ومسلم (٢٥٣٣ / ٢١٢) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.]] يمشون حال من ضمير ﴿لَهُمْ﴾ من اللي ﴿لَهُمْ﴾؟
* طالب: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾.
* الشيخ: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ حال من ضمير ﴿لَهُمْ﴾ وإن كان يحتمل تكون حالًا من ضمير قبلهم، لكن لهم أحسن؛ لأن هي مبتدأ الكلام، يعني حال كون هؤلاء ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ [طه ١٢٨] في أسفارهم إلى الشام وغيرها، يعني أن هؤلاء الذين بقوا إلى وقت نزول القرآن قد تبيَّن لهم إهلاك الأمم السابقة فهؤلاء الذين بَقوا إلى وقت نزول القرآن يمشون في مساكن أولئك المعذبين.
وقوله: (في طريقهم إلى الشام) بناء على أن المراد كفار مكة، مثل أيش؟ مثل ديار ثمود، ومثل ديار قوم لوط، كما قال تعالى في سورة الحجر: ﴿وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [الحجر ٧٩]، وكونهم يمشون في مساكنهم هذا أبلغ في النظر وفي التبيُّن؛ لأنهم يرون ذلك عين اليقين، وعين اليقين أشد من علم اليقين أو لا؟ ولهذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة ٢٦٠] فإحياء الموتى عند إبراهيم قبل أن يشاهده بعينه من باب علم اليقين، فإذا شاهده صار من باب عين اليقين، وقد ذكر العلماء أن لليقين ثلاث درجات: علمًا، وعينًا، وحقًّا. وكل ذلك مذكور في القرآن ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ [التكاثر ٥]، ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ [التكاثر ٧] هذه علم وعين في سورة واحدة، ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الواقعة ٩٥] هذا حق اليقين، هذه مراتب اليقين الثلاث.
والفرق بينها أننا نحن نعلم علم اليقين أن في الجنة نخلًا ورمانًا وفاكهة، أليس كذلك؟ فإذا رأيناها بأعيننا -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم نراها- فإذا رأيناها بأعيننا صار ذلك عَيْنَ اليقين، فإذا أكلناها صار حق اليقين، ولَّا لا؟
لو قال قائل: لماذا لا يكون عين اليقين حق اليقين؟
نقول: الآن في عناقيد من البلاستيك عناقيد عنب، الذي يراها عين اليقين يَحْسِبها عنبًا، يمكن لو تعطيها بذر صغير يأخذها ويأكلها ولَّا لا؟ ما، ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً﴾ [النور ٣٩].
هذه رأيناها عين اليقين، لكن عندما نأكل هذا البلاستيك، ويش يتبين؟
* طالب: حق اليقين.
* الشيخ: لكن ويش اللي يتبين الحقيقة ولَّا لا؟ الحقيقة، فتبيَّن الحق الذي أعلى من عين اليقين، حق اليقين أعلى من عين اليقين، لكن ما لا يُدْرك إلا بالرؤية تكون رؤيته حق اليقين.
(...) كل هذا تقرير على قوله: ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾؛ لأن كونهم يمشون في مساكنهم معناه أنهم يُدْرِكون ذلك عين اليقين، شاهدون بأعينهم وهو أبلغ من الخبر.
(﴿﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ﴾ ﴾ دلالات على قدرتنا) ولو قال المؤلف: وعلى انتقامنا من المجرمين لكان أولى وأنسب؛ لأن المقام الآن مقام اعتبار بما جرى، فيكون هذا فيه دلالة على أيش؟ على الانتقام من المكذبين، فيكون أدعى للاعتبار.
* طالب: قوله: ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ ما سمع (...) اليقين (...).
* الشيخ: لا، اليقين لمن وقع عليه العذاب (...) فهذا عين اليقين.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾ [السجدة ٢٦] هذا للتوبيخ الاستفهام للتوبيخ، والمراد ﴿أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾ سماع تدبر واتعاظ، وإلا فهم يسمعون سماع إدراك، لكنَّ سماع الإدراك لا يُجْدِي بل يضر إذا لم ينفع، سماع الإدراك يعني بالأذن إذا لم تنتفع به كان ضررًا عليك، كما أن العلم إذا لم تنتفع به كان ضررًا. فالمراد هنا سماع الاتعاظ والاعتبار.
ثم قال عز وجل: (﴿﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ﴾ ﴾ [السجدة: ٢٧] اليابسة التي لا نبات فيها ﴿﴿فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ ﴾ هذا فيعلمون أنا نقدر على إعادته).
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ﴾ أسألكم هل المراد بالرؤية رؤية البصر أو العلم أو كلتاهما؟ كلتاهما، نعم، إذا كان ذلك بأرضهم رَأَوْه بأعينهم، وإذا كان في أرض غيرهم رأوه بقلوبهم رؤية علم، وهذا مُشاهَد.
﴿نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ﴾ نسوق الماء في الجو أو نسوقه على الأرض؟ أو كلاهما؟ كلاهما فالأول ماء المطر نسوقه في الجو كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ [النور ٤٣]، والثاني؟
* طالب: البحر.
* الشيخ: البحر ما هو يساق، البحر راكد.
* طالب: الأنهار.
* الشيخ: الأنهار تساق إلى الأراضي القاحلة فتنبت، وسواء كانت الأنهار كبيرة كالأنهار المشهورة المعروفة أو صغيرة كالمياه النابعة فإنها أنهار، عيون.
﴿نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ﴾ ﴿الْجُرُزِ﴾ بمعنى الخالية؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف ٨] خالية من كل شيء، أرض جرز ما فيها شيء، ما فيها أي شجرة فيأتيها المطر أو يأتيها ماء النهر.
يقول الله عز وجل: ﴿فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ﴾ ﴿تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ﴾ أي: الإبل والبقر والغنم، وكذلك غيرها، لكن خص الأنعام لأنها أكثر بأيدي الناس وأكثر ملابسة.
﴿وَأَنْفُسُهُمْ﴾ يأكلون من هذا الزرع النابت.
* طالب: من بعض.
* الشيخ: من بعضه، المهم يأكلون منه؟
* طالب: إي نعم.
* الشيخ: صح؟
* طالب: إي.
* الشيخ: مثل أيش؟ (...).
هذا غير مباشر؛ يعني: كونه ينتفع بالبهائم التي انتفعت من الأشجار هذا غير مباشر.
* طالب: ما نقول: (...) الأنعام بأن أصول الزرع (...) الأنعام (...).
* الشيخ: لا، غالب اللي ينبت من الماء، من الأنهار، ومن السيول ما يحتاج إلى حرث، تنبته الأرض، كل البراري تنبت بدون حرث.
* طالب: (...).
* الشيخ: بس مشكلة، هذه يعتريها قوله تعالى لما ذكر: ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا (٢٨) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا﴾ [عبس ٢٨، ٢٩] إلى أن قال: ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [عبس ٣٢] فبدأ بالمتاع لنا.
على كل حال إن صح هذا التعبير بأن الأنعام ترعى من هذا الخارج من الأرض أكثر مما يرعى منه الإنسان وإن كان كل منهما لا يقوم إلا بالخارج من الأرض، لكن لا شك أن البهائم مثلًا تأتي على هذه البرية تأكل من كل شجرة، والآدمي هل يأكل من كل شجرة؟ ما يأكل من شجر العروشين، ولا يأكل من كثير من المنابت، ما يأكل الجط يأكل (...)، ولَّا لا؟ الآدمي ما يأكله معلوم، نعم.
﴿أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ الاستفهام هنا للتوبيخ؛ يعني: فالواجب أن يبصروا ما يرونه بأعينهم ويستدلوا به على كمال نعمة الله تعالى وقدرته، ويستدلون به على أمر آخر وهو القدرة على أيش؟ إحياء الموتى، فالأرض الجرز الخالية من النبات يأتيها هذا الماء فتنبت بإذن الله عز وجل، فالله تعالى القادر على إحيائها قادر على إحياء الموتى.
قال تعالى: (﴿﴿وَيَقُولُونَ﴾ ﴾ للمؤمنين ﴿﴿مَتَى هَذَا الْفَتْحُ﴾ ﴾ بيننا وبينكم ﴿﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ﴾) أعوذ بالله استبطؤوا العذاب فقالوا: ﴿مَتَى هَذَا الْفَتْحُ﴾، ليس المراد فتح مكة، بل المراد الفتح الحكم بيننا بأن تكون العاقبة لكم أيها المؤمنون، وعلينا أيها الكافرون، متى يكون هذا الذي توعدوننا به؟! فهو كقوله: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس ٤٨]، وهذا الاستفهام للاستبطاء الدالِّ على الإنكار وليس للاستعلام والاسترشاد، ولكنه استبطاء دالٌّ على الإنكار؛ يعني: كأنهم يقولون: إن كانوا هم صادقين بأنكم على حق وأن العاقبة ستكون لكم فأين ذلك؟ وهذا في غاية ما يكون من العناد -والعياذ بالله- وكان الواجب عليهم أن يخافوا مما وَعَدَهم به المؤمنون، لكنهم لا يصدقون كِبرًا وعنادًا كما قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام ٣٣].
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ قال الله تعالى: (﴿﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ﴾ ﴾ بإنزال العذاب بهم ﴿﴿لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ ﴾) فيه التفات من الخطاب للغيبة؛ ما قال: قل يوم الفتح لا ينفعكم، قال: ﴿لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ﴾ لماذا؟ للعموم وللتسهيل عليهم بماذا؟ بما يقتضيه الفعل وهو الكفر.
﴿يَوْمَ الْفَتْحِ﴾ يعني: يوم الفصل بيننا وبينكم والحكم.
(﴿﴿لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ ﴾ يمهلون لتوبة أو معذرة) فإذا جاء العذاب بالمكذبين فإن ذلك لا ينفعهم لو قالوا: آمنا، ويش الدليل؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، وغيره هذه قضية واقعة.
* طالب: (...).
* الشيخ: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر ٨٤، ٨٥] إلى الآن نحن في قضية معينة، ما فيه عموم، لكن قال ﴿سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ [غافر ٨٥] قد مضت؛ يعني: مضت سنت الله عز وجل أن مَن آمن بعد معاينة العذاب فإن ذلك لا ينفعه، كما قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآن﴾ [النساء ١٨] ما له توبة، ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [النساء ١٨] واضحة مات على الكفر.
إذن ﴿يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ﴾ ويش إعراب ﴿يَوْمَ الْفَتْحِ﴾؟ ﴿يَوْمَ﴾ ظرف منصوب على الظرفية، وعامله قوله: ﴿يَنْفَعُ﴾، ومن هنا نأخذ فائدة نحوية عظيمة؛ وهي أن (لا) النافية لا تمنع عمل ما بعدها فيما قبلها.
(﴿﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ ﴾ يعني يمهلون ﴿﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ﴾ ﴾ إنزال العذاب بهم ﴿﴿إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ ﴾ بك حادثًا موت أو قتل فيستريحون منك، وهذا قبل الأمر بقتالهم).
﴿أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ﴾ ﴿أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ ليس المراد الإعراض عن دعوتهم، المراد لا تهتم بهم، هذا المراد، يعني لا تجعل نفسك متعلقاً بهم، ﴿وَانْتَظِرْ﴾ وهنا المفعول محذوف؛ يعني: انتظر نزول العذاب بهم، انتظر.
﴿إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ يحتمل أن يكون المعنى ما قاله المؤلف؛ أي: منتظرون أن ينزل بك هلاك بقتل أو غيره، أو إنهم منتظرون باعتبار الواقع؛ يعني أنهم منتظرون العذاب الواقع بهم، فهم كأنهم لتماديهم بالكفر كأنهم ينتظرون ما ينزل بهم من العذاب.
وقول المؤلف: إن هذا قبل الأمر بقتالهم معناه أن الآية منسوخة، وليس كذلك، هو صحيح أنها قبل الأمر بالقتال؛ لأن هذه السورة مكية فهي قبل الأمر بالقتال بلا شك، لكنها ليست منسوخة؛ لأن الأمر هنا بالإعراض عنهم والانتظار ليس معناه ألا نقوم بما يجب، فالآن نحن ننتظر أن ينزل الله تعالى عذاب بالكفار، لكن مع ذلك ندعوهم ولا لَا؟ ندعوهم ونقاتلهم إذا كان لدينا قدرة، وبهذا انتهت هذه السورة التي كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ بها في فجر يوم الجمعة، ويضيف إليها في الركعة الثانية (هل أتى على الإنسان)، ونرجع الآن للفوائد.
* طالب: أقول: آية السيف..
* الشيخ: ما عندي، وهذا قبل أن ينزل القتال.
* الطالب: قبل أن ينزل آية السيف؟
* الشيخ: ما ذكره المؤلف.
المراد بآية السيف يعني آية القتال، هذا ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ﴾ [التوبة ٥]، السؤال الثاني؟
* طالب: قوله: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [السجدة ١٥] هل تفيد معنى كل ما ذكر لفظ آية من الآيات (...)؟
* الشيخ: ما ذكرنا إحنا في التفسير أنه لا يلزم من كون هذا جوابًا للشرط أن يقع حين وقوع الشرط؟ ما تقدم لنا هذا أو لا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، تقدم وقلنا لكم: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ [الحج ٦٣]، وقلنا: تزوج زيد فوُلِدَ له، وأن التعقيب بحسبه، تعقيب كل شيء بحسبه، وأنه لا يلزم من قوله: ﴿إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا﴾ أنهم يخرون من حين التذكير، وهذه نسينا نقولها في المناقشة، فهذه المعنى ﴿إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا﴾ يعني معناه يسجدون لله ويسبحونه في حال السجود؛ ولهذا مما يشرع في السجود أن تقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك.
قال الله تعالى: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ إلى آخره [السجدة: ١٤].
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: أن أهل النار يُوَبَّخون بتركهم العمل بالنجاة منها؛ لقوله: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾، ويتفرع على هذه الفائدة زيادة التعذيب؛ التعذيب الجسدي أو القلبي؟ القلبي؛ لأن الإنسان إذا وُبِّخ على عمل عمله هو يزداد حسرة وندمًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إطلاق النسيان على الترك؛ لقوله: ﴿نَسِيتُمْ﴾ ﴿إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾.
* ومن فوائدها: إثبات الأفعال الاختيارية لله عز وجل، منين؟ ﴿نَسِينَاكُمْ﴾ يعني: تركناكم، وهذا يدل على أنه تعالى يترك مَنْ شاء ويُقْبِل على من شاء.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن عذاب النار جائز؛ لقوله: ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ﴾ وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة أن عذاب النار أبديٌّ سرمديٌّ، كما أن نعيم الجنة أبديٌّ سرمديٌّ، لكن ذكر ابن القيم رحمه الله أن للسلف في أبدية النار قولين؛ وأما عذابها فهو أبديٌّ ما دامت النار موجودة، فلا يخرج منها أهلها ما دامت موجودة أبدًا، لكن الكلام في أبديتها هي، هل هي مؤبدة أو مؤمدة؟ لكن الصواب أنها مؤبدة، وقد ذكر الله تعالى ذلك في ثلاث آيات من القرآن؛ في سورة النساء وفي سورة الأحزاب، وفي سورة الجن. في سورة النساء أعطنا الآية.
* الطالب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ [النساء ١٦٨]
* الشيخ: ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ﴾ [النساء ١٦٨].
* الطالب: سبيلًا.
* الشيخ: ﴿طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [النساء ١٦٨، ١٦٩] هذه آية النساء، الثانية في الأحزاب..
طالب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾ [النساء ٥٦].
* الشيخ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا﴾.
* الطالب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾.
* الشيخ: ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ﴾.
* الطالب: سبيلًا.
* الشيخ: ﴿طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [النساء ١٦٨، ١٦٩]، هذه آية النساء، الثانية في الأحزاب، ما هي آية الأحزاب؟
* طالب: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [الأحزاب ٦٥]
* الشيخ: في آية الجن.
* طالب: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجن ٢٣].
* الشيخ: ﴿فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾.
فإذا قال قائل: إن التأبيد هنا لخلودهم؟
قلنا: لا تأبيد لخلود إلا والمكان الخالد فيه يكون مؤبَّدًا، إذا تأبَّد الخلود فإن مكان الخلود يكون مؤبَّدًا بالضرورة، ولهذا الصواب المقطوع به أن النار أبدية.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله تعالى لا يظلم أحدًا؛ لقوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [السجدة ١٤].
* ومن فوائدها: أن الجزاء من جنس العمل، فكما أنهم أَفْنَوْا حياتهم في معصية الله فإن حياتهم الآخرة أيضًا ستكون بعذاب الله.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [السجدة ١٥].
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: أن للإيمان علامات؛ لقوله: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا﴾ إلى آخره.
* ويستفاد منها: أن مَن ادَّعَى الإيمان بدون علامة فدعواه باطلة.
* ويستفاد من الآية الكريمة: الاستدلال بالأحوال والقرائن، من أين تؤخذ؟ لأن الله ذَكَرَ علامة على الإيمان بهذه الأفعال، والإيمان محله القلب لا يُعْلَم، لكن هذه الأعمال قرائن وأحوال تدل على وجود ما هي دليل عليه، فيستفاد من الآية الاستدلال بالقرائن، ويش بعد؟ والأحوال على حقيقة الشيء، وهذه مفيدة غاية الفائدة للقضاة.
وقد استدل بالقرائن أحد الأنبياء الكرام، مَن هو؟ سليمان، استدل بالقرائن، واستدل بالقرائن أيضًا النبي عليه الصلاة والسلام في قصة مال حُيَيّ بن أخطب لما سأل عنه بعد خيبر «قال: إنه أَفْنَتْه الحروب، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «الْمَالُ كَثِيرٌ وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ»، ما يمكن تفنيه وحُيَيّ بن أخطب من أغنياء بني النضير، وين ذهب ماله؟! «ثم دفعه إلى الزبير بن العوام وقال له: «مُسَّهُ بِعَذَابٍ»، ولما ضربه قال: والله أنا بادُلُّكم على شيء كان حُيَيّ يختلف إليه كثيرًا، فدَلَّهُم على خربة، فإذا المال مدفون فيها[[أخرج ابن حبان (١٦٩٧) عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال رسول الله ﷺ لعم حيي: «... ما فعل مَسْك حيي الذي جاء به من النضير؟» ،فقالأذهبته النفقات والحروب، فقال رسول الله ﷺ: «العهد قريب والمال أكثر من ذلك»، فدفعه رسول الله ﷺ إلى الزبير فمَسَّه بعذاب، وكان حيي قبل ذلك قد دخل خربة، فقال: قد رأيت حييًّا يطوف في خربة هاهنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا الْمَسْك في الخربة... . الحديث.]] ، فاستدل الرسول عليه الصلاة والسلام بالقرائن على وجود الشيء.
* ويستفاد من الآية الكريمة: أن للإيمان تمامًا ونقصانًا؛ لأن هذه الآية لا شك أنها في كمال الإيمان.
* ومن فوائد الآية الكريمة: انقياد المؤمن للمواعظ، أن من علامة المؤمن انقياده للمواعظ؛ لقوله: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا﴾ [السجدة ١٥].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان المؤمن قد يطرأ عليه الجهل والنسيان، من أين تؤخذ؟ ﴿إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا﴾ قد ينسون أو يجهلون.
* ومن فوائد الآية الكريمة: فريضة السجود؛ لقوله: ﴿خَرُّوا سُجَّدًا﴾ [السجدة ١٥]، وقد ثبت في الحديث أَنَّ: «أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ»[[أخرجه مسلم (٤٨٢/٢١٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]] ، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاجتهاد بالدعاء في حال السجود، وأخبر أنه أحرى بالإجابة[[أخرج عبد الرزاق (٢٨٣٩) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «إني نهيت أن أقرأ في الركوع والسجود، فأما الركوع فيعظم فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم».]] .
* ومن فوائد الآية الكريمة: الجمع بين انتفاء العيب والنقص عن الله مع ثبوت الكمال له، منين نأخذه؟ ﴿وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [السجدة ١٥]، ففي التسبيح تنزيه، وفي الحمد كمال.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن من صفات المؤمن التواضع؛ لقوله: ﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ التواضع لمن؟ للحق وللخلق، ولكن يجب أن نعرف الفرق بين التواضع والذل، فالمؤمن لا يكون ذليلًا، ولكنه يكون متواضعًا، إذا تبين له الحق انقاد له، هذا تواضع للحق، وإذا عامل الْخَلْق عاملهم بماذا؟ بالتواضع، لكن ما يُذِلّ نفسه، هو لا يستكبر على الناس، ولا يَغْمِط الناس حقَّهُم، ولكنه لا يَذِلّ لهم.
* ويستفاد من هذه الآية الكريمة: أن التعصب في التقليد ليس من طريق المؤمنين؛ لقوله: ﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾، ويوجد في المتعصبين للتقليد مَن يستكبر عن الحق، إذا عُرِضَ عليه أبى، ضرب بقول فلان كذا وكذا من مُقَلَّدين، وهذا نوع من الاستكبار عن الحق.
* ويستفاد من الآية الكريمة أيضًا: ذَمُّ مَن أصر على رأيه بباطل، من أين تؤخذ؟
* طالب: ﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾.
* الشيخ: ﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾، من الناس مَن إذا قال قولًا لا يمكن أن يتنازل عنه ولو بَانَ الحق، وهذا نوع من الاستكبار، الواجب أن تعرف نفسك، وأنك بشر، وأنه يفوتك العلم إما نسيانًا وإما جهلًا، ويفوتك أيضًا الوصول إلى الغاية، قد يكون عندك علم لكن ينقصك التركيز والتأمل، والجمع بين الأدلة، وما أشبه ذلك، فتحتاج إلى أن تذكر.
ثم قال تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ [السجدة ١٦] إلى آخره.
* يستفاد من هذه الآية: فضيلة قيام الليل؛ لأن الله تعالى ذكره في سياق النفي ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾، لكن هذا الإطلاق مقيَّد، بماذا؟ بِمَا جاءت به السنة، يعني بألَّا يكون جميع الليل، ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ في حدود ما جاءت به السنة، وبهذا نعرف خطأ ما يوجد في كتب الوعظ من أن فلانًا صلى صلاة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، يعني أنه ما نام الليل، يقوم الليل، هذا خطأ، هذا تَبَرَّأَ منه الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال في الجماعة الذين قال أحدهم: أنا أقوم الليل ولا أنام، قال: «أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».»[[أخرج البخاري (٥٠٦٣)، ومسلم واللفظ له (١٤٠١ / ٥) عن أنس رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «... ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».]]
لكن مشكل هؤلاء الوعَّاظ الذين يكتبون هذه الكتب يريدون أن يُرَغِّبُوا الناس، لكن يرغبونهم في الباطل، ولو أن الناس اختُصِرَ لهم بما صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من التبشير والإنذار، ومن الأعمال الصالحة لاستقاموا، لكن عندما أسمع هذا رجل يُثْنَى عليه أنه أربعين سنة صلَّى الفجر بوضوء العشاء أقول: أين أنا من هذا؟ خلاص أبقى على ما أنا عليه، وأصلي سُنَّة العشاء ركعتين، والوتر أقله ركعة أصلي ركعة، ولا يجب إلا قراءة الفاتحة، يقتصر على الفاتحة، ولا يجب إلا سبحان ربي الأعلى مرة في السجود، وسبحان ربي العظيم مرة في الركوع أقتصر عليها أيضًا، ويمشي، لكن لو أن الناس بُيِّنَت لهم السُّنَّة حقًّا لكفى بها واجبًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: فضيلة الدعاء؛ لقوله: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾.
* ومن فوائدها: أنه ينبغي للداعي وللعامل أيضًا، للداعي وللعامل العابد أن يكون دعاؤه وعبادته بين الخوف والرجاء؛ لقوله: ﴿خَوْفًا وَطَمَعًا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: فضيلة الإنفاق مما رزقك الله؛ لقوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [السجدة ١٦]، على حسب التفصيل اللي ذكرناه في التفسير.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة ١٧]، في هذه الآية دليل على عِظَم نعيم الجنة، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾؛ لأن هذا لا شك أن الإبهام يدل على التفخيم كما قلنا في التفسير.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن في الجنة من قُرَّة العين في المأكول والملبوس والمنقوع والمسكن ما لا يخطر على البال؛ لأن كل هذه الأربعة تقر بها العين، قال الشاعر:
؎وَلُبْسُ عَــــــــــبَـاءَةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي ∗∗∗ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
* ومن فوائد الآية الكريمة: فضل الله عز وجل على العباد، على المؤمنين، فضله السابق واللاحق؛ السابق أنْ وَفَّقَهم للإيمان والعمل الصالح، واللاحق أن جعل هذا الجزاء على عملهم، ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، كأن هذه النعم التي في الجنة كأنها جزاء على عمل لهم، ففيه حقيقة العمل لهم، لكن فيه أن الفضل من الله عز وجل عليهم كأنه فضل منهم على أنفسهم.
وقوله: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ مثل قوله: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن ٦٠]، إحسان العمل بإحسان الجزاء، ومثل قوله: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإنسان ٢٢]، يَمُنّ عليهم بالسعي الحميد ثم يشكرهم عليه، يَمُنّ عليهم هنا بالتوفيق للهداية، ثم يقول: أجازيكم على عملكم، وهذا لا شك أنه من تمام مِنَّة الله عز وجل.
ثم قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة ١٨].
* في هذه الآية: تقرير أنه لا مساواة بين المؤمن ومَن؟ والكافر، وأن هذا أمر لا يمكن، ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾ وقد قال الله تعالى في آية أخرى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم ٣٥، ٣٦]، هذا من السَّفَه، ومن الخطأ في الحكم أن يُجْعَل المسلم كالمجرم، أو الفاسق كالمؤمن، ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن المؤمن خير من الفاسق ولو كان الفاسق أعظم جاهًا في الدنيا عند الخلق، منين نأخذه؟ من العموم، ﴿أَفَمَنْ﴾، (مَن) هذه اسم استفهام، وأسماء الاستفهام من صِيَغ العموم، لا يمكن لأي فاسق أن يكون كالمؤمن، ولو عظمت به الدنيا، ولو نال من الدنيا ما ينال فإنه ليس كالمؤمن ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّار﴾ [السجدة ١٩، ٢٠].
* يستفاد من الآية الكريمة: أن المؤمن لا يساوي الكافر، لا في عمله ولا في الجزاء؛ أما العمل فظاهر، هذا مؤمن وهذا فاسق، وأما الجزاء فبَيَّنَ الله الفرق، الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات المأوى، وأولئك مأواهم النار، وفرق بين هذا وهذا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإيمان لا يَتِمّ إلا بالعمل الصالح؛ لقوله ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، فلا يكفي مجرد العقيدة، بل لا بد من عمل صالح.
* ويستفاد من هذه الآية الكريمة: إثبات الجنة؛ لقوله: ﴿فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى﴾، لكن هل هي موجودة، أو توجَد يوم القيامة؟ موجودة؛ لقوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران ١٣٣]، وهي فعل ماضٍ.
* ومن فوائد الآية الكريمة: طِيبُ منازل الجنة ومقرّها؛ لقوله: ﴿فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى﴾، يعني الجنات التي لا يتمنى الإنسان إلا أن يأوي إليها المأوى، كل أحد يتمنى هذا المأوى لكن لا يناله إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن أهل الجنة يُكْرَمُون بما يُنَعَّمُون به كما يُكْرَم الضيف بضيافته؛ لقوله: ﴿نُزُلًا﴾، وتعلمون ما يجده الضيف من السرور في نفسه إذا أُكْرِم بالضيافة، بخلاف الذي يقدَّم له الطعام عاديًّا، اللي يُقَدَّم له الطعام عاديًّا يرى أنه شيء معتاد ما له أهمية، لكن الذي يقدَّم له كضيافة وكأنه رجل مُكَرَّم ومحترم يجد في نفسه مع ما.. تلذذه بالطعام، التلذذ الجسدي، يجد تلذذًا وراحة نفسية وإكرامًا، ولهذا سماه الله تعالى: ﴿نُزُلًا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الجزاء من جنس العمل؛ لقوله: ﴿نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا﴾ إلى آخره.
* يستفاد من الآية الكريمة: أن الفسق نوعان: فسق أكبر، وهو الكفر، وفسق دون ذلك وهو المعاصي.
* ومن فوائدها: أن الكفار مأواهم النار؛ لقوله: ﴿أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّار﴾.
وهناك فسق آخر ليس مُخْرِجًا عن الملة، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ [الحجرات ١١]، هنا قال ﴿فَمَأْوَاهُمُ النَّار﴾، ولم يقل: فلهم النار مأوى، أو فلهم نار المأوى، الفرق لأن النار كل أحد لا يحب أن تكون مأواه، بخلاف الأول، الجنة كلٌّ يحب أن تكون هي المأوى، وأما هذا فلا، وإن كان هذا الفرق قد يختلف في بعض الآيات، مثل: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات ٣٧ - ٤١]، لكن لكل مقام مقال، هنا المقام مقام معادلة وموازنة، ولهذا فرَّق بينهما، قال: ﴿جَنَّاتُ الْمَأْوَى﴾، وهنا قال: ﴿فَمَأْوَاهُمُ النَّار﴾، أما هناك فليس هناك معادلة، يعني ما ذُكِرَ أن قومًا يَدَّعُون لأنفسهم أنهم أهل الحق فأنكر الله ذلك.
* من فوائد الآية الكريمة: إثبات النار؛ لقوله: ﴿فَمَأْوَاهُمُ النَّار﴾، وهي موجودة الآن ولَّا توجد يوم القيامة؟ موجودة، الدليل: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة ٢٤].
* ومن فوائد الآية الكريمة: شدة عذاب أهل النار؛ لكونهم يُمَنَّوْن بالخروج ويُرْفَعُون، يرتفع بهم اللهب، حتى إذا ظنوا أنهم يخرجون أُعِيدُوا فيها؛ لقوله: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا﴾ [الحج ٢٢].
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: أن أهل النار يُجْمَع لهم بين العذاب الجسمي والعذاب القلبي بالتوبيخ، ﴿وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [السجدة ٢٠].
ثم قال الله تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [السجدة ٢١].
* يستفاد من الآية الكريمة: بيان (...) عز وجل فيما يبتلي به من المصائب، من أين تؤخذ؟ من قوله: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ﴾ ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، وهذا كقوله: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم ٤١].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن عذاب الدنيا لا يُنْسَب إلى عذاب الآخرة؛ لما بينهما من الفرق العظيم، فهذا أدنى وذاك أكبر، يعني كلاهما في طَرَفَيْ نقيض، يعني أدنى اسم تفضيل، وأكبر اسم تفضيل، فإذن هل يُنْسَب أدنى شيء إلى أعلى شيء؟ لا، لا نسبة، ولهذا تقول (...) الفرق العظيم بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
* ويستفاد من الآية الكريمة: قبول التوبة من الكافر؛ لقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
* ويستفاد من الآية الكريمة: إثبات حكمة الله؛ لقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، فإن (لعل) للتعليل، والتعليل هو الحكمة.
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: إثبات العذاب في الآخرة؛ لقوله: ﴿دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ﴾، فإن المراد به عذاب الآخرة.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾ [السجدة ٢٢] إلى آخره.
* يستفاد من الآية الكريمة: أن مَن كان على هذا الوصف فهو لا يكون أحد أظلمَ منه؛ لقوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾، وهاهنا مسألة، وهي أن مثل هذه العبارة جاءت في غير هؤلاء، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [البقرة ١١٤]، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الأنعام ٢١] وهنا نحتاج إلى الجمع بين هذه النصوص، وفي السنة: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٥٥٩)، ومسلم (٢١١١ / ١٠١)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]] ، فكيف نجمع بين هذه النصوص؟
ذكرنا فيما سبق أن الجمع بأحد وجهين؛ الوجه الأول أن نقول: إن الآية ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ لا تفيد أنه لا يوجد مشارك أو مساوٍ لهذا الظلم، فإننا نقول: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ﴾، (وَمَنْ أَظْلَمْ مِمَّنْ) اشتركَا في ماذا في الأظلمية، وأن هذا أعلى ما يكون في الظلم، هذا وجه، والوجه الثاني: أن نقول: إن الأظلم بالنسبة لما تحته من نوعه، يعني: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾، يعني هذا أظلم ما يكون من الْمُذَكَّرِين، بخلاف مَن ذُكِّرَ ثم أعرض عن البعض، أو ما أشبه ذلك، يصير هذا الأظلمية بماذا؟ بالنسبة لما تحته من نوعه، ﴿مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾، يعني: لا أحد أظلم في مَنْع شيء من الأشياء ممن مَنَع مساجد الله، وعلى هذا فَقِس، فصار الجواب بأحد وجهين: إما أن يقال (...).
* الآية الكريمة: وجوب القبول على مَن ذُكِّر بآيات الله، منين نأخذه؟
* طالب: من الوعيد في الإعراض.
* الشيخ: نعم، من الوعيد في الإعراض.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان يجب أن يقبل التذكير من أيّ مَن ذَكَّره، منين نأخذه؟
* طالب: من المبني للمجهول.
* الشيخ: من بناء الفعل للمجهول ﴿ذُكِّرَ﴾، ما قال: ممن ذَكَّرَه الرسول أو ذَكَّرَه فلان أو فلان، إذا وقع التذكير أو أتاك التذكير من أي جهة فالواجب عليك القبول.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإعراض بعد العلم أقبح منه حال الجهل، أو لا؟ لأن الله تعالى جعل هذا أعظم الظلم أن تُذَكَّر ثم تُعْرِض، لكن مَن أعرض بدون تذكير فهو أهون.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الجزاء من جنس العمل؛ لقوله: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ [السجدة ٢٢].
* ومن فوائدها: أن الإعراض عن آيات الله بعد التذكير بها إجرام؛ لقوله: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: جواز إضافة الانتقام إلى الله مُقَيَّدًا؛ لقوله: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾، يعني: الإخبار عن الله بأنه منتقم لكن مُقَيَّدًا، كقوله: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾.
* ومن فوائدها: إثبات عظمة الله؛ لقوله: ﴿مُنْتَقِمُونَ﴾، فإن الجمع هنا للتعظيم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بلاغة القرآن، وأنه في أعلى ما يكون من البلاغة والفصاحة؛ لقوله: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِين﴾، ولم يقل: إنا منه، من أجل أن نستفيد فائدتين؛ الفائدة الأولى أن هذا مُجْرِم، والفائدة الثانية أن الحكم يعمه وغيره من المجرمين.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ [السجدة ٢٣] إلى آخره.
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: إثبات رسالة موسى ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾، وتأكيد هذه الرسالة؛ لقوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا﴾؛ لأن الجملة مؤكَّدة بثلاث مؤكِّدات: اللام، وقد والقسم المقدَّر.
* ومن فوائدها: أن موسى عليه الصلاة والسلام رسول حقًّا لا يجوز الشك فيه؛ لقوله: ﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾ [السجدة ٢٣]، يعني أن هذا حق لا تكن في شك من أنه حصل لموسى هذا الذي حصل، وهذا على التفسير الذي ذكرنا، أما على ما قاله المؤلف فيستفاد منه أن محمدًا ﷺ سوف يلاقي موسى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن التوراة كالقرآن هدى؛ لقوله: ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى﴾ لكن هداية مخصوصة، لِمَن؟ لبني إسرائيل، ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [السجدة ٢٣].
* ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى أنه لا ينبغي لنا أن نطلب الهدى من التوراة، منين نأخذه؟ كقوله: ﴿هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، أما مَن بعد بعثة الرسول فالهدى لهم هو القرآن.
ثم قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة ٢٤] إلى آخره.
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: فضيلة الصبر، منين نأخد فضيلة الصبر؟ من الجزاء عليه، من كون الصابر يكون إمامًا، وهذا دليل على أن الصبر محبوب إلى الله يجازِي عليه بهذا الجزاء العظيم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: فضيلة اليقين، كقوله: ﴿وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: نَيْل الإمامة في الدين بهذين الوصفين، وهما: الصبر واليقين.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن هؤلاء لما صبروا وأيقنوا صاروا أئمة يُقْتَدَى بهم، كلما أصاب الإنسان شيء قال: لقد أُصِيب فلان فَصَبَرَ فيصبر، كلما وردت عليه شبهة قال: لقد كان فلان مُوقِنًا فأنا أوقن، فيكون الإنسان بذلك إمامًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الآيات لله، ﴿وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾.
قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [السجدة ٢٥].
* من فوائد الآية الكريمة: أنه لا حاكم في الآخرة إلا الله، من أين تؤخذ؟ من ضمير الفصل ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ﴾، هو وحده يفصل، وقد قال الله تعالى في آية أخرى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر ١٦]، وقال تعالى: ﴿فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ [غافر ١٢].
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات يوم القيامة؛ لقوله ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
* ومنها: أن الله تعالى يحكم بين المؤمنين والكافرين في ذلك اليوم، ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، فيقول: أنتم على حق، وأنتم على باطل، وهؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، أيهم الغالب؟
* طالب: المؤمنون.
* الشيخ: المؤمنون؟ متأكِّدون؟ أو الكافرون هم الغالبون؟ لا ما هو الأكثر، أيهم الغالب؟
* طالب: أي المنتصر.
* الشيخ: المنتصر.
* طالب: المؤمنون.
* الشيخ: المؤمنون؟ ويش الدليل؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا.
* طالب: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾.
* الشيخ: ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء ١٤١]، شوف قاضي يُعْلِن الحكم بين الخصمين ويقول: أنت الغالب، فيُعْلِن بالحكم قبل القضية، يجوز هذا ولَّا ما يجوز؟ في حق الله عز وجل لا شك أنه جائز، فالآن نحن نقول: نحن نتخاصم مع الكافرين، ولن يكون لهم علينا سبيل، لكن لو يجيء -مثلًا- قضية في الدنيا يجيء القاضي يقول: طالب فلان (...) وذاك ما له سبيل عليك، يجوز ولَّا لا؟ هذا لا يجوز، أولًا: لأن القاضي إلى الآن ما بعد عُرِضَت عليه القضية ولا يدري، ثم إن الخصم غالبًا ويش يَذْكُر، الحجة اللي له ولَّا اللي عليه؟ الغالب أنه يذكر الحجة التي له، سواء قصد إخفاء قضية خصمه، أم ظن أن هذا تنفعه، إي نعم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لا وفاق بين المؤمنين والكافرين، (...) ﴿فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، أيّ إنسان يحاول أن يقارِب بين الإسلام والنصرانية، أو بين الإسلام واليهودية فإنه أراد أن يَرُدّ اللبن في الضرع، ممكن ولَّا لا؟ ممكن ولَّا غير ممكن؟ هذا غير ممكن، كل كافر مهما كان، سواء انتسب إلى الإسلام، أم كان كافرًا مُعْلِنًا بكفره، فإنه لا يمكن أن يتوافق مع المؤمنين أبدًا، لا يمكن، ومَن زعم ذلك فقد أبعد النجعة، وحاول شيئًا مستحيلًا.
ثم قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾ [السجدة ٢٦].
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: استعمال ضرب الأمثال، من أين تؤخذ؟ من قوله: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا﴾، يعني: فإذا كنا أهلكنا مَن قبلهم فسنهلكهم إذا كانوا مثلهم، ولهذا قال الله تعالى في سورة يوسف: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف ١١١].
* ومن فوائد الآية الكريمة: الاستدلال بالشيء المحسوس على الشيء المعقول؛ لقوله: ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾، أو بعبارة أخرى الاستدلال بعين اليقين على صدق علم اليقين، ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾ هذا أيش؟ علم اليقين، ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ هذا عين اليقين، نعم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: جواز المشي بدار المعذَّبِين ومساكنهم، منين نأخذه؟
* طالب: (...).
* الشيخ: قال: ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾، هل ذِكْر الخبر عن الشيء يفيد حِلَّهُ؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: لا، ما يفيد في الواقع، الحقيقة أنه لا يفيد، يعني كون هذا هو الواقع إنهم يمشون في مساكنهم ما يدل على أن هذا مشي مأذون فيه، أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ الظَّعِينَةَ تَمْشِي مِنْ حَضْرَمَوْتَ إِلَى عَدَنَ أَوْ إِلَى صَنْعَاءَ لَا تَخْشَى إِلَّا اللهَ»[[أخرج الحميدي في مسنده (٩٤٠) عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله ﷺ: «كيف بك إذا أقبلَت الظعينة من أقصى اليمن إلى قصور الحيرة لا تخاف إلا الله»، وأخرج البخاري (٣٥٩٥) عنه أنه حاتم قال: بينا أنا عند النبي ﷺ إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: «يا عدي، هل رأيت الحيرة؟» قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال «فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله...». الحديث.]] ، والظعينة وحدها حرام تمشي ولَّا لا؟
* طالب: إي نعم.
* الشيخ: حرام، وقال الرسول: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»[[أخرجه أحمد (٢١٨٩٧) من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه.]] ، اليهود والنصارى، وهذا حرام ولَّا حلال؟
* طالب: حرام.
* الشيخ: حرام، فالإخبار عن كونهم يمشون في مساكنهم ما يدل على أن المشي حلال، لكن هل يدل على أنه حرام؟ لا يدل على أنه حرام، لا على أنه حلال، ولا على أنه حرام، فنرجع إذن إلى الأدلة الدالة على ذلك؛ على التحريم أو التحليل، نجد أن الأدلة تدل على أن السير فيها جائز، وأما السُّكْنَى فلا تجوز، ومع ذلك وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوهَا»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٧٠٢)، ومسلم (٢٩٨٠ / ٣٨) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.]] ، واضح؟ فالإنسان اللي يقصدها نقول: لا تدخلها إلا باكيًا، وأما الذي يمر بها مرورًا فله أن يمر، ولكن يُسْرِع كما أسرع النبي عليه الصلاة والسلام.
أما الذهاب إلى هذه المساكن من أجل أن يتفرج يقول: ما شاء الله، والله حضارة عظيمة هذه، شوف الحضارة القديمة، هل يوجد حضارة جديدة مثلها؟ ويُشَمّ من كلامه تعظيم هؤلاء، فهذا من السير في الأرض المأمور به، توافقون؟
* طلبة: لا.
* الشيخ: لا نوافق، هذا من السير في الأرض المنهي عنه؛ لأن كوننا ندخل على هؤلاء نتفرج مُنْبَسِطِينَ مُنْبَهِرِين بقوتهم متناسين ما وقع بهم من العذاب لمخالفتهم أمر الله ورسله، هذا مذموم وليس محمودًا، ولا مأمورًا به، وعليه فنقول لكل مَن أراد أن يذهب إلى هذه البلاد: إذا كنتم فعلتم ذلك على سبيل النزهة فهذا حرام عليكم، أما على سبيل الاعتبار والاتعاظ بما جرى لهم من العذاب والنكال، وأن تتأثروا بذلك حتى تبكوا، فهذا جائز، وإلا فلا تدخلوا، لا تُعَرِّضُوا أنفسكم للعذاب.
* طالب: شد الرحال؟
* الشيخ: شد الرحال ما فيه بأس، لأنه ما هو على سبيل التعبد لهذا المكان نفسه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن في إهلاك الأمم عبرة وآية؛ لقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾، فهو آية؛ لكون الله تعالى أخذهم وأهلكهم مع قوتهم، وهي عبرة أن الله أخذهم، لماذا؟ لمخالفته، كما قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ [غافر ٢١]، وقال في آية أخرى: ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الحجر ٨٤]، وقال في آية أخرى: ﴿أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾ [الروم ٩]، كل هذا يفيد بأنه يجب علينا نحن أن نعتبر بهذه الآيات، وأن نخاف.
ثم قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ﴾ [السجدة ٢٧] إلى آخره.
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: وجوب النظر في الآيات؛ لأن الاستفهام هنا للتوبيخ ولوم مَن لم ينتفع بذلك.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات أفعال الله الاختيارية ﴿أَنَّا نَسُوقُ﴾.
* ومن فوائدها: بيان قدرة الله عز وجل، حيث يسوق الماء جَوًّا أو بَرًّا إلى هذه الأراضي الخالية الميتة الهامدة فتنبت؛ لقوله: ﴿إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الأصل فيما نبت في الأرض الحِلّ، من أين يؤخذ؟ ﴿أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ﴾، فالأصل فيما نبت في الأرض أنه حلال حتى يقوم دليل على التحريم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بيان قدرة الله عز وجل بإحياء الأرض بعد موتها، ﴿فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ﴾ [السجدة ٢٧].
* ومن فوائدها: الإشارة إلى أعلى درجات اليقين، وهي حق اليقين، من أين تؤخذ؟ من قوله: ﴿تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ﴾، فهم لا ينظرون إليه فقط، ولكنهم يأكلون منه، وهذا هو حق اليقين.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الحث على النظر والتبسط، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ [السجدة ٢٧].
* ومن فوائدها: إثبات الملك في الأنعام؛ لقوله ﴿أَنْعَامُهُمْ﴾، الإضافة هنا إضافة ملك، ولكنه سبق لنا أن كل ملك يثبت للإنسان فهو ملك لله، لكنه ملك مقيَّد، الإنسان ما يملك الشيء ملكًا مطلقًا يتصرف فيه كما شاء، وإنما يملكه ملكًا مقيَّدًا في تحصيله وتمويله وتصريفه، أو لا؟ مقيَّد بالتحصيل ما تُحَصِّله إلا على الوجه المشروع، وفي تمويله يعني الاتجار به، وفي تصريفه؛ ما تصرفه إلا مقيَّدًا، فهل بعد هذا يكون الملك حقًّا أو حقيقيًّا؟ لا.
إذن ملكك للأشياء حتى ملكك الخاص، كالبيت والسيارة والثوب، ليس ملكًا مطلقًا، بل هو ملك مقيَّد.
ثم قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [السجدة ٢٨]، في هذا دليل على سَفَهِ هؤلاء المكذِّبِين وحُمْقِهم؛ لقولهم ﴿مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، والاستفهام قلنا: إنه للاستبطاء والتحدي للرسول عليه الصلاة والسلام ومَن كان معه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الحكم بين المؤمن والكافر من الفتح؛ لأن الله قال: ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ﴾ [السجدة ٢٩]، فأقَرَّ هذه التسمية.
* ومن فوائد الآية: بيان عُتُوّ الكافرين وإجرامهم؛ لكونهم يتحدون الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، يقول: متى هذا الحكم بيننا إن كنتم صادقين؟
* ومن فوائد الآية التي بعدها: أن العذاب إذا نزل لا ينفع الإيمان، من أين يُؤْخَذ؟ ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ﴾ [السجدة ٢٩].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه إذا نزل العذاب فلا إنذار؛ لقوله: ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾.
* ومن فوائدها: أن العذاب قد يُؤَجَّل قبل نزوله، أو لا؟ نعم؛ لأنه يقول: ﴿يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ﴾، فظاهر الآية أنه لو كان هذا الإيمان قبل نزول العذاب فإن الله تعالى يرفعه بالإيمان، ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام عند الكسوف بماذا؟ بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والتكبير من أجل أن يُرْفَع العذاب الذي هذا إنذار به، فإن الكسوف إنذارٌ بالعذاب، هو نفسه ليس عذابًا، لكنه إنذار بأن يُعَذَّب الخلق، فإذا فزعوا إلى الصلاة وإلى الذِّكْر والدعاء والاستغفار رُفِعَ عنهم.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ [السجدة ٣٠].
* يستفاد من الآية الكريمة: أن الْمُكَابِر يُعْرَض عنه ويُتْرَك حتى ينزل به العذاب، فإذا رأيت مَن يكابر تأمره بالحق ولكن يكابر ويجادل ويعاند فاتركه؛ لأن بقاءك معه لا يجدي شيئًا، فالإنسان المكابِر الذي يقول: هذه ليست بشمس، ولكن هذا قمر، تقول: الآن نحن في النهار في الضحى وشوف الشمس ، قال: لا، أنت غلطان، نحن الآن بعد صلاة العشاء، وهذا الذي ترى إنما هو القمر، تتكلم معه؟ أبدًا، تطلب مَن يقرأ عليه أو مَن يداويه؛ لأنه مجنون، كذلك مَن تُرِيه الحق مثل الشمس، والحق أَبْيَن من الشمس، ثم يقول: لا، هذا غير صحيح، فإن هذا ينبغي أن يُطْلَب له مَن يداوي عقله قبل فكره، هذا مُكَابِر ما فيه فائدة الكلام معه، ولهذا يقول الشاعر:
؎كَيْفَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ ∗∗∗ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيـــــلٍ
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الْمُكَذِّب ماذا ينتظر بتكذيبه؟ ما ينتظر إلا العذاب، ﴿إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾، وأما تفسير المؤلف: ﴿إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ أن يَحِلّ بك هلاك أو نحوه فهذا فيه نظر، بل يقال: إنهم منتظرون للعذاب بكونهم استمروا على كفرهم، فهم كالمنتظِر لما ينزل بهم.
وقد يقال: إن الآية تشمل المعنيين جميعًا، يعني: هم ينتظرون (...) أن تموت، وينتظرون عذابهم باستمرارهم على المعصية، كما قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ [الطور ٣٠، ٣١]، ﴿وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ [السجدة ٣٠] نسأل الله العافية.
* طالب: الانتظار هو الترقب؟
* الشيخ: إي نعم، الترقب.
* الطالب: يقال: إنهم ينتظرون العذاب الأليم.
* الشيخ: نعم، كيف؟ هم ينتظرونه، سواء أحسوا بذلك أو ما أحسوا؛ لأن مآلهم إلى العذاب -والعياذ بالله- ولهذا إذا مات الكافر يُعَذَّب على طول، بل هو يُحِسّ بالعذاب في حال النَّزْع، ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ [المؤمنون ٩٩، ١٠٠]، قال الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون ١٠٠].
{"ayahs_start":14,"ayahs":["فَذُوقُوا۟ بِمَا نَسِیتُمۡ لِقَاۤءَ یَوۡمِكُمۡ هَـٰذَاۤ إِنَّا نَسِینَـٰكُمۡۖ وَذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلۡخُلۡدِ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ","إِنَّمَا یُؤۡمِنُ بِـَٔایَـٰتِنَا ٱلَّذِینَ إِذَا ذُكِّرُوا۟ بِهَا خَرُّوا۟ سُجَّدࣰا وَسَبَّحُوا۟ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَهُمۡ لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ ۩","تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ یَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفࣰا وَطَمَعࣰا وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ","فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسࣱ مَّاۤ أُخۡفِیَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡیُنࣲ جَزَاۤءَۢ بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ","أَفَمَن كَانَ مُؤۡمِنࣰا كَمَن كَانَ فَاسِقࣰاۚ لَّا یَسۡتَوُۥنَ","أَمَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَلَهُمۡ جَنَّـٰتُ ٱلۡمَأۡوَىٰ نُزُلَۢا بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ","وَأَمَّا ٱلَّذِینَ فَسَقُوا۟ فَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ كُلَّمَاۤ أَرَادُوۤا۟ أَن یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَاۤ أُعِیدُوا۟ فِیهَا وَقِیلَ لَهُمۡ ذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِی كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ","وَلَنُذِیقَنَّهُم مِّنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَدۡنَىٰ دُونَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَكۡبَرِ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ","وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِۦ ثُمَّ أَعۡرَضَ عَنۡهَاۤۚ إِنَّا مِنَ ٱلۡمُجۡرِمِینَ مُنتَقِمُونَ","وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ فَلَا تَكُن فِی مِرۡیَةࣲ مِّن لِّقَاۤىِٕهِۦۖ وَجَعَلۡنَـٰهُ هُدࣰى لِّبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ","وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَىِٕمَّةࣰ یَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُوا۟ۖ وَكَانُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا یُوقِنُونَ","إِنَّ رَبَّكَ هُوَ یَفۡصِلُ بَیۡنَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ فِیمَا كَانُوا۟ فِیهِ یَخۡتَلِفُونَ","أَوَلَمۡ یَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ یَمۡشُونَ فِی مَسَـٰكِنِهِمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتٍۚ أَفَلَا یَسۡمَعُونَ","أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّا نَسُوقُ ٱلۡمَاۤءَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡجُرُزِ فَنُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعࣰا تَأۡكُلُ مِنۡهُ أَنۡعَـٰمُهُمۡ وَأَنفُسُهُمۡۚ أَفَلَا یُبۡصِرُونَ","وَیَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلۡفَتۡحُ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ","قُلۡ یَوۡمَ ٱلۡفَتۡحِ لَا یَنفَعُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِیمَـٰنُهُمۡ وَلَا هُمۡ یُنظَرُونَ","فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَٱنتَظِرۡ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ"],"ayah":"فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسࣱ مَّاۤ أُخۡفِیَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡیُنࣲ جَزَاۤءَۢ بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ"}