(p-٢٠٢)﴿ولَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ولَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ﴾ ﴿فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكم هَذا إنّا نَسِيناكم وذُوقُوا عَذابَ الخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿إنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنا الَّذِينَ إذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّدًا وسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وهم لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ ﴿تَتَجافى جُنُوبُهم عَنِ المَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهم خَوْفًا وطَمَعًا ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهم مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿أفَمَن كانَ مُؤْمِنًا كَمَن كانَ فاسِقًا لا يَسْتَوُونَ﴾ ﴿أمّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهم جَنّاتُ المَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿وأمّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النّارُ كُلَّما أرادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنها أُعِيدُوا فِيها وقِيلَ لَهم ذُوقُوا عَذابَ النّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ ﴿ولَنُذِيقَنَّهم مِنَ العَذابِ الأدْنى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْها إنّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ .
﴿لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها﴾ أيِ: اخْتَرَعْنا الإيمانَ فِيها، كَقَوْلِهِ: ﴿أنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدى النّاسَ جَمِيعًا﴾ [الرعد: ٣١] و﴿لَجَمَعَهم عَلى الهُدى﴾ [الأنعام: ٣٥] و﴿لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً﴾ [هود: ١١٨] . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى طَرِيقِ الإلْجاءِ والقَسْرِ، ولَكِنّا بَنَيْنا الأمْرَ عَلى الِاخْتِيارِ دُونَ الِاضْطِرارِ، فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى، فَحَقَّتْ كَلِمَةُ العَذابِ عَلى أهْلِ العَمى دُونَ أهْلِ البَصَرِ. ألا تَرى إلى ما عَقَّبَهُ بِهِ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ﴾ ؟ فَجَعَلَ ذَوْقَ العَذابِ نَتِيجَةَ فِعْلِهِمْ مِن نِسْيانِ العاقِبَةِ وقِلَّةِ الفِكْرِ فِيها، وتَرْكِ الِاسْتِعْدادِ لَها. والمُرادُ بِالنِّسْيانِ خِلافُ التَّذَكُّرِ، يَعْنِي: أنَّ الِانْهِماكَ في الشَّهَواتِ أنْهَكَكم وألْهاكم عَنْ تَذَكُّرِ العاقِبَةِ، وسَلَّطَ عَلَيْكم نِسْيانَها. ثُمَّ قالَ: ﴿إنّا نَسِيناكُمْ﴾ عَلى المُقابَلَةِ: أيْ: جازَيْناكم جَزاءَ نِسْيانِكم. وقِيلَ: هو بِمَعْنى التَّرْكِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ، أيْ: تَرَكْتُمُ الفِكْرَ في العاقِبَةِ، فَتَرَكْناكم مِنَ الرَّحْمَةِ. انْتَهى. وقَوْلُهُ: عَلى طَرِيقِ الإلْجاءِ والقَسْرِ، هو قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ. وقالَتِ الإمامِيَّةُ: يَجُوزُ أنْ يُرِيدَ هُداها إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ في الآخِرَةِ، ولَمْ يُعاقِبْ أحَدًا، لَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنهُ أنْ يَمْلَأ جَهَنَّمَ، فَلا يَجِبُ عَلى اللَّهِ هِدايَةُ الكُلِّ إلَيْها. قالُوا: بَلِ الواجِبُ هِدايَةُ المَعْصُومِينَ؛ فَأمّا مَن لَهُ ذَنْبٌ، فَجائِزٌ هِدايَتُهُ إلى النّارِ جَزاءً عَلى أفْعالِهِ، وفي جَوازِ ذَلِكَ مَنعٌ لِقَطْعِهِمْ عَلى أنَّ المُرادَ هَداها إلى الإيمانِ. انْتَهى. و(هَذا) صِفَةٌ لِـ: (يَوْمِكم)، ومَفْعُولُ (فَذُوقُوا) مَحْذُوفٌ، أوْ مَفْعُولُ (فَذُوقُوا) هَذا العَذابَ بِسَبَبِ نِسْيانِكم (لِقاءَ يَوْمِكم هَذا) وهو ما أنْتُمْ فِيهِ مِن نَكْسِ الرُّءُوسِ والخِزْيِ والغَمِّ؛ أوْ ذُوقُوا العَذابَ المُخَلَّدَ في جَهَنَّمَ. وفي اسْتِئْنافِ قَوْلِهِ: ﴿إنّا نَسِيناكُمْ﴾ وبِناءِ الفِعْلِ عَلى إنَّ واسْمِها تَشْدِيدٌ في الِانْتِقامِ مِنهم.
﴿إنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنا﴾ أثْنى تَعالى عَلى المُؤْمِنِينَ في وصْفِهِمْ بِالصِّفَةِ الحُسْنى، مِن سُجُودِهِمْ عِنْدَ التَّذْكِيرِ، وتَسْبِيحِهِمْ وعَدَمِ اسْتِكْبارِهِمْ؛ بِخِلافِ ما يَصْنَعُ الكَفَرَةُ مِنَ الإعْراضِ عَنِ التَّذْكِيرِ، وقَوْلِ الهَجْرِ، وإظْهارِ التَّكَبُّرِ؛ وهَذِهِ السَّجْدَةُ مِن عَزائِمِ سُجُودِ القُرْآنِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: السُّجُودُ هُنا بِمَعْنى الرُّكُوعِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: المَسْجِدُ مَكانُ الرُّكُوعِ، يَقْصِدُ مِن هَذا ويَلْزَمُ عَلى هَذا أنْ تَكُونَ الآيَةُ مَدَنِيَّةً، ومِن مَذْهَبِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ القارِئَ لِلسَّجْدَةِ يَرْكَعُ، واسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وخَرَّ راكِعًا وأنابَ﴾ [ص: ٢٤] .
﴿تَتَجافى جُنُوبُهُمْ﴾ أيْ: تَرْتَفِعُ وتَتَنَحّى، يُقالُ: جَفا الرَّجُلُ المَوْضِعَ: تَرَكَهُ. قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَواحَةَ:
؎نَبِيٌّ تَجافى جَنْبُهُ عَنْ فِراشِهِ إذا اسْتَثْقَلَتْ بِالمُشْرِكِينَ المَضاجِعُ
وقالَ الزَّجّاجُ والرُّمّانِيُّ: التَّجافِي: التَّنَحِّي إلى جِهَةِ فَوْقَ. والمَضاجِعُ: أماكِنُ الِاتِّكاءِ لِلنَّوْمِ، الواحِدُ مَضْجَعٌ، أيْ: هم مُنْتَبِهُونَ لا يَعْرِفُونَ نَوْمًا. وقالَ الجُمْهُورُ: المُرادُ بِهَذا التَّجافِي صَلاةُ النَّوافِلِ بِاللَّيْلِ، وهو قَوْلُ الأوْزاعِيِّ ومالِكٍ والحَسَنِ البَصْرِيِّ وأبِي العالِيَةِ وغَيْرِهِمْ. وفي الحَدِيثِ، ذَكَرَ قِيامَ اللَّيْلِ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِالآيَةِ، يَعْنِي الرَّسُولَ ﷺ . وقالَ أبُو الدَّرْداءِ، وقَتادَةُ، والضَّحّاكُ: تَجافِي الجَنْبِ: هو أنْ يُصَلِّيَ العِشاءَ والصُّبْحَ في جَماعَةٍ. وقالَ الحَسَنُ: هو التَّهَجُّدُ؛ وقالَ أيْضًا: هو وعَطاءٌ: هو العَتَمَةُ. وفي التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أنَسٍ: نَزَلَتْ في انْتِظارِ الصَّلاةِ الَّتِي تُدْعى العَتَمَةُ. وقالَ قَتادَةُ، وعِكْرِمَةُ: التَّنَفُّلُ ما بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشاءِ (يَدْعُونَ) حالٌ، أوْ مُسْتَأْنَفٌ خَوْفًا وطَمَعًا، مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، أوْ مَصْدَرانِ في مَوْضِعِ الحالِ. والظّاهِرُ أنَّ الدُّعاءَ هو: الِابْتِهالُ إلى اللَّهِ، وقِيلَ: الصَّلاةُ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ما أُخْفِيَ لَهُمْ﴾ فِعْلًا ماضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ؛ وحَمْزَةُ، والأعْمَشُ، ويَعْقُوبُ: بِسُكُونِ الياءِ، فِعْلًا مُضارِعًا لِلْمُتَكَلِّمِ؛ وابْنُ مَسْعُودٍ: ”وما نُخْفِي“، بِنُونِ العَظَمَةِ؛ والأعْمَشُ أيْضًا: ”أخْفَيْتُ“ . وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: ”ما أخْفى“، فِعْلًا ماضِيًا مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿مِن قُرَّةِ﴾ عَلى الإفْرادِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وأبُو الدَّرْداءِ، وأبُو (p-٢٠٣)هُرَيْرَةَ، وعَوْفٌ العُقَيْلِيُّ: ”مِن قُرّاتِ“، عَلى الجَمْعِ بِالألِفِ والتّاءِ، وهي رِوايَةٌ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ والأعْمَشِ؛ و﴿ما أُخْفِيَ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وأنْ تَكُونَ اسْتِفْهامِيَّةً، فَيَكُونُ (تَعْلَمُ) مُتَعَلِّقَةً. والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ، إنْ كانَ (تَعْلَمُ) مِمّا عُدِّيَ لِواحِدٍ؛ وفي مَوْضِعِ المَفْعُولَيْنِ إنْ كانَتْ تَتَعَدّى لِاثْنَيْنِ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ﴾ [القصص: ٩] في طَهَ وفي الحَدِيثِ، قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهم مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ﴾». وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: في التَّوْراةِ مَكْتُوبٌ عَلى اللَّهِ لِلَّذِينَ تَتَجافى جُنُوبُهم عَنِ المَضاجِعِ ما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ إلى آخِرِهِ. (ولا تَعْلَمُ نَفْسٌ) نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّفْيِ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ الأنْفُسِ مِمّا ادَّخَرَ اللَّهُ تَعالى لِأُولَئِكَ، وأخْفاهُ مِن جَمِيعِ خَلائِقِهِ مِمّا تَقَرُّ بِهِ أعْيُنُهم، لا يَعْلَمُهُ إلّا هو، وهَذِهِ عِدَةٌ عَظِيمَةٌ لا تَبْلُغُ الأفْهامَ كُنْهَها، بَلْ ولا تَفاصِيلَها. وقالَ الحَسَنُ: أخْفَوُا اليَوْمَ أعْمالًا في الدُّنْيا، فَأخْفى اللَّهُ لَهم ما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ.
﴿جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وهو تَعالى المُوَفِّقُ لِلْعَمَلِ الصّالِحِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَحَسَمَ أطْماعَ المُتَمَنِّينَ. انْتَهى، وهَذِهِ نَزْعَةٌ اعْتِزالِيَّةٌ.
﴿أفَمَن كانَ مُؤْمِنًا كَمَن كانَ فاسِقًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وعَطاءٌ: نَزَلَتْ في عَلِيٍّ والوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ. تَلاحَما، فَقالَ لَهُ الوَلِيدُ: أنا أذْلَقُ مِنكَ لِسانًا، وأحَدُّ سِنانًا، وأرَدُّ لِلْكَتِيبَةِ. فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ: اسْكُتْ، فَإنَّكَ فاسِقٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَنَزَلَتْ عامَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ والفاسِقِينَ، فَتَناوَلَتْهُما وكُلَّ مَن في مِثْلِ حالِهِما. وقالَ الزَّجّاجُ، والنَّحّاسُ: نَزَلَتْ في عَلِيٍّ وعُقْبَةَ بْنِ أبِي مُعَيْطٍ. فَعَلى هَذا تَكُونُ الآيَةُ مَكِّيَّةً؛ لِأنَّ عُقْبَةَ لَمْ يَكُنْ بِالمَدِينَةِ، وإنَّما قُتِلَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، مُنْصَرَفَ بَدْرٍ. والجَمْعُ في (لا يَسْتَوُونَ) والتَّقْسِيمُ بَعْدَهُ، حُمِلَ عَلى مَعْنى ”مَن“ . وقِيلَ: (لا يَسْتَوُونَ) لِاثْنَيْنِ، وهو المُؤْمِنُ والفاسِقُ، والتَّثْنِيَةُ جَمْعٌ. وقالَ الزَّجّاجُ: ونُزُولُ الآيَةِ في عَلِيٍّ والوَلِيدِ، ثُمَّ بَيَّنَ انْتِفاءَ الِاسْتِواءِ بِمَقَرِّ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما بِالإفْرادِ. والجُمْهُورُ: (جَنّاتُ) بِالجَمْعِ. وقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: يَأْوِي إلَيْها أرْواحُ الشُّهَداءِ. وقِيلَ: هي عَنْ يَمِينِ العَرْشِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (نُزُلًا) بِضَمِّ الزّايِ؛ وأبُو حَيْوَةَ: بِإسْكانِها. والنُّزُلُ: عَطاءُ النّازِلِ، ثُمَّ صارَ عامًّا فِيما يُعَدُّ لِلضَّيْفِ.
﴿وأمّا الَّذِينَ فَسَقُوا﴾ أيْ: بِالكُفْرِ ﴿فَمَأْواهُمُ النّارُ﴾ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ: فَجَنَّةُ مَأْواهُمُ النّارُ، أيِ: النّارُ لَهم مَكانُ جَنَّةِ المَأْوى لِلْمُؤْمِنِينَ، كَقَوْلِهِ: (فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ) . انْتَهى وهَذا فِيهِ بُعْدٌ. وإنَّما يُذْهَبُ إلى مِثْلِ (فَبَشِّرْهم) إذا كانَ مُصَرَّحًا بِهِ فَيَقُولُ: قامَ مَقامَ التَّبْشِيرِ العَذابُ، وكَذَلِكَ قامَ مَقامَ التَّحِيَّةِ ضَرْبٌ وجِيعٌ. أمّا أنْ تُضْمِرَ شَيْئًا لِكَلامٍ مُسْتَغْنًى عَنْهُ جارٍ عَلى أحْسَنِ وُجُوهِ الفَصاحَةِ حَتّى يُحْمَلَ الكَلامُ عَلى إضْمارٍ، فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ.
و﴿العَذابِ الأدْنى﴾ قالَ أُبَيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ، والضَّحّاكُ، وابْنُ زَيْدٍ: مَصائِبُ الدُّنْيا في الأنْفُسِ والأمْوالِ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، والحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: هو القَتْلُ بِالسَّيْفِ، نَحْوَ يَوْمِ بَدْرٍ. وقالَ مُجاهِدٌ: القَتْلُ والجُوعُ لِقُرَيْشٍ، وعَنْهُ: إنَّهُ عَذابُ القَبْرِ. وقالَ النَّخَعِيُّ، ومُقاتِلٌ: هو السُّنُونُ الَّتِي أجاعَهُمُ اللَّهُ فِيها. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: هو الحُدُودُ. وقالَ أُبَيٌّ أيْضًا: هو البَطْشَةُ واللِّزامُ والدُّخانُ. و(العَذابِ الأكْبَرِ) قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لا خِلافَ أنَّهُ عَذابُ الآخِرَةِ. وفي التَّحْرِيرِ وأكْثَرُهم عَلى أنَّ العَذابَ الأكْبَرَ عَذابُ يَوْمِ القِيامَةِ في النّارِ. وقِيلَ: هو القَتْلُ والسَّبْيُ والأسْرُ. وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أنَّهُ خُرُوجُ المَهْدِيِّ بِالسَّيْفِ. (لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ) قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَعَلَّ مَن بَقِيَ مِنهم يَتُوبُ. وقالَ أبُو العالِيَةِ: لَعَلَّهم يَتُوبُونَ. وقالَ مُقاتِلٌ: يَرْجِعُونَ عَنِ الكُفْرِ إلى الإيمانِ. وقِيلَ لَعَلَّهم يُرِيدُونَ الرُّجُوعَ ويَطْلُبُونَهُ لِقَوْلِهِ: ﴿فارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا﴾ [السجدة: ١٢] . وسُمِّيَتْ إرادَةُ الرُّجُوعِ رُجُوعًا، كَما سُمِّيَتْ إرادَةُ القِيامِ قِيامًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا﴾ [المائدة: ٦] . انْتَهى. ويُقابِلُ الأدْنى: الأبْعَدُ، والأكْبَرَ: الأصْغَرُ. لَكِنَّ الأدْنى يَتَضَمَّنُ الأصْغَرَ؛ لِأنَّهُ مُنْقَضٍ بِمَوْتِ المُعَذَّبِ والتَّخْوِيفِ، إنَّما يَصْلُحُ بِما هو قَرِيبٌ، وهو العَذابُ العاجِلُ. والأكْبَرُ يَتَضَمَّنُ الأبْعَدَ؛ لِأنَّهُ واقِعٌ في الآخِرَةِ، (p-٢٠٤)والتَّخْوِيفُ بِالبَعِيدِ إنَّما يَصْلُحُ بِذِكْرِ عِظَمِهِ وشِدَّتِهِ، فَحَصَلَتِ المُقابَلَةُ مِن حَيْثُ التَّضَمُّنِ، وخَرَجَ في كُلٍّ مِنهُما بِما هو آكَدُ في التَّخْوِيفِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: مِن أيْنَ صَحَّ تَفْسِيرُ الرُّجُوعِ بِالتَّوْبَةِ ؟ ولَعَلَّ مِنَ اللَّهِ إرادَةً، وإذا أرادَ اللَّهُ شَيْئًا كانَ ولَمْ يَمْتَنِعْ، وتَوْبَتُهم مِمّا لا يَكُونُ، ألا تَرى أنَّها لَوْ كانَتْ مِمّا يَكُونُ لَمْ يَكُونُوا ذائِقِينَ العَذابَ الأكْبَرَ ؟ قُلْتُ: إرادَةُ اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِأفْعالِهِ وأفْعالِ عِبادِهِ، فَإذا أرادَ شَيْئًا مِن أفْعالِهِ كانَ، ولَمْ يَمْنَعْ لِلِاقْتِدارِ وخُلُوصِ الدّاعِي؛ وأمّا أفْعالُ عِبادِهِ، فَإمّا أنْ يُرِيدَها وهم مُخْتارُونَ لَها ومُضْطَرُّونَ إلَيْها بِقَسْرِهِ وإلْجائِهِ، فَإنْ أرادَها وقَدَّرَها فَحُكْمُها حُكْمُ أفْعالِهِ، وإنْ أرادَها عَلى أنْ يَخْتارُوها وهو عالِمٌ أنَّهم لا يَخْتارُونَها لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ في اقْتِدارِهِ، كَما لا يَقْدَحُ في اقْتِدارِكَ إرادَتُكَ أنْ يَخْتارَ عَبْدُكَ طاعَتَكَ، وهو لا يَخْتارُها؛ لِأنَّ اخْتِيارَهُ لا يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتِكَ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ دالًّا عَلى عَجْزِكَ. انْتَهى، وهو عَلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ، وقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ أهْلُ السُّنَّةِ، وذَلِكَ مُقَرَّرٌ في عِلْمِ الكَلامِ.
﴿مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْها﴾ بِخِلافِ المُؤْمِنِينَ، إذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّدًا.
﴿ثُمَّ أعْرَضَ عَنْها﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ لِلِاسْتِبْعادِ، والمَعْنى: أنَّ الإعْراضَ عَنْ مِثْلِ آياتِ اللَّهِ في وُضُوحِها وإنارَتِها وإرْشادِها إلى سَواءِ السَّبِيلِ، والفَوْزَ بِالسَّعادَةِ العُظْمى بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِها مُسْتَبْعَدٌ في العَقْلِ؛ والعادَةِ، كَما تَقُولُ لِصاحِبِكَ: وجَدْتَ مِثْلَ تِلْكَ الفُرْصَةِ، ثُمَّ لَمْ تَنْتَهِزْها اسْتِبْعادًا لِتَرْكِهِ الِانْتِهازَ، ومِنهُ ”ثُمَّ“ في بَيْتِ الشّاعِرِ:
؎ولا يَكْشِفُ الغَمّاءَ إلّا ابْنُ حُرَّةٍ ∗∗∗ يَرى غَمَراتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُها
اسْتَبْعَدَ أنْ يَزُورَ غَمَراتِ المَوْتِ بَعْدَ أنْ رَآها واسْتَيْقَنَها واطَّلَعَ عَلى شِدَّتِها. انْتَهى. (مِنَ المُجْرِمِينَ) عامٌّ في كُلِّ مَن أجْرَمَ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ بِجِهَةِ الأوْلَوِيَّةِ مَن كانَ أظْلَمَ ظالِمٍ؛ والإجْرامُ هُنا: هو: الكُفْرُ. وقالَ يَزِيدُ بْنُ رُفَيْعٍ: هي في أهْلِ القَدَرِ، وقَرَأ: (إنَّ المُجْرِمِينَ) إلى قَوْلِهِ: (بِقَدَرٍ) . وفي الحَدِيثِ: «ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ فَقَدْ أجْرَمَ: مَن عَقَدَ لِواءً في غَيْرِ حَقٍّ، ومَن عَقَّ والِدَيْهِ، ومَن نَصَرَ ظالِمًا» .
{"ayahs_start":13,"ayahs":["وَلَوۡ شِئۡنَا لَـَٔاتَیۡنَا كُلَّ نَفۡسٍ هُدَىٰهَا وَلَـٰكِنۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ مِنِّی لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِینَ","فَذُوقُوا۟ بِمَا نَسِیتُمۡ لِقَاۤءَ یَوۡمِكُمۡ هَـٰذَاۤ إِنَّا نَسِینَـٰكُمۡۖ وَذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلۡخُلۡدِ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ","إِنَّمَا یُؤۡمِنُ بِـَٔایَـٰتِنَا ٱلَّذِینَ إِذَا ذُكِّرُوا۟ بِهَا خَرُّوا۟ سُجَّدࣰا وَسَبَّحُوا۟ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَهُمۡ لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ ۩","تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ یَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفࣰا وَطَمَعࣰا وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ","فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسࣱ مَّاۤ أُخۡفِیَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡیُنࣲ جَزَاۤءَۢ بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ","أَفَمَن كَانَ مُؤۡمِنࣰا كَمَن كَانَ فَاسِقࣰاۚ لَّا یَسۡتَوُۥنَ","أَمَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَلَهُمۡ جَنَّـٰتُ ٱلۡمَأۡوَىٰ نُزُلَۢا بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ","وَأَمَّا ٱلَّذِینَ فَسَقُوا۟ فَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ كُلَّمَاۤ أَرَادُوۤا۟ أَن یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَاۤ أُعِیدُوا۟ فِیهَا وَقِیلَ لَهُمۡ ذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِی كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ","وَلَنُذِیقَنَّهُم مِّنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَدۡنَىٰ دُونَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَكۡبَرِ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ","وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِۦ ثُمَّ أَعۡرَضَ عَنۡهَاۤۚ إِنَّا مِنَ ٱلۡمُجۡرِمِینَ مُنتَقِمُونَ"],"ayah":"فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسࣱ مَّاۤ أُخۡفِیَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡیُنࣲ جَزَاۤءَۢ بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ"}