الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهم مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ يَعْنِي مِمّا تَقَرُّ العَيْنُ عِنْدَهُ ولا تَلْتَفِتُ إلى غَيْرِهِ، يُقالُ: إنَّ هَذا لا يَدْخُلُ في عَيْنِي، يَعْنِي عَيْنِي تَطَلَّعُ إلى غَيْرِهِ، فَإذا لَمْ يَبْقَ تَطَلُّعٌ لِلْعَيْنِ إلى شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَبْقَ لِلْعَيْنٍ مَسْرَحٌ إلى غَيْرِهِ فَتَقَرُّ جَزاءً بِحُكْمِ الوَعْدِ، وهَذا فِيهِ لَطِيفَةٌ، وهي أنَّ مِنَ العَبْدِ شَيْئًا وهو العَمَلُ الصّالِحُ، ومِنَ اللَّهِ أشْياءُ سابِقَةٌ مِنَ الخَلْقِ والرِّزْقِ وغَيْرِهِما وأشْياءُ لاحِقَةٌ مِنَ الثَّوابِ والإكْرامِ، فَلِلَّهِ تَعالى أنْ يَقُولَ: جَزاءُ الإحْسانِ إحْسانٌ، وأنا أحْسَنْتُ أوَّلًا والعَبْدُ أحْسَنَ في مُقابَلَتِهِ، فالثَّوابُ تَفَضُّلٌ ومِنحَةٌ مِن غَيْرِ عِوَضٍ، ولَهُ أنْ يَقُولَ: جَعَلْتُ الأوَّلَ تَفَضُّلًا لا أطْلُبُ عَلَيْهِ جَزاءً، فَإذا أتى العَبْدُ بِالعَمَلِ الصّالِحِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأنِّي أبْرَأْتُهُ مِمّا عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ، فَكانَ هو آتِيًا بِالحَسَنَةِ ابْتِداءً، وجَزاءُ الإحْسانِ إحْسانٌ، فَأجْعَلُ الثَّوابَ جَزاءً، كِلاهُما جائِزٌ، لَكِنَّ غايَةَ الكَرَمِ أنْ يَجْعَلَ الأوَّلَ هِبَةً ويَجْعَلَ الثّانِيَ مُقابِلًا وعِوَضًا؛ لِأنَّ العَبْدَ ضَعِيفٌ لَوْ قِيلَ لَهُ بِأنَّ فِعْلَكَ جَزاءٌ فَلا تَسْتَحِقُّ جَزاءً، وإنَّما اللَّهُ يَتَفَضَّلُ، يَثِقُ ولَكِنْ لا يَطْمَئِنُ قَلْبُهُ. وإذا قِيلَ لَهُ: الأوَّلُ غَيْرُ مَحْسُوبٍ عَلَيْكَ والَّذِي أتَيْتَ بِهِ أنْتَ بِهِ بادٍ، ولَكَ عَلَيْهِ اسْتِحْقاقُ ثَوابٍ يَثِقُ ويَطْمَئِنُ، ثُمَّ إذا عَرَفَ أنَّ هَذا مِن فَضْلِ اللَّهِ فالواجِبُ مِن جانِبِ العَبْدِ أنْ يَقُولَ: فِعْلِي جَزاءُ نِعَمِ اللَّهِ السّابِقَةِ ولا أسْتَحِقُّ بِهِ جَزاءً، فَإذا أثابَهُ اللَّهُ تَعالى يَقُولُ: الَّذِي أتَيْتُ بِهِ كانَ جَزاءً، وهَذا ابْتِداءُ إحْسانٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى يَسْتَحِقُّ حَمْدًا وشُكْرًا فَيَأْتِي بِحَسَنَةٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ: إنِّي أحْسَنْتُ إلَيْهِ جَزاءَ فِعْلِهِ الأوَّلِ وما فَعَلْتُ أوَّلًا لا أطْلُبُ لَهُ جَزاءً فَيُجازِيهِ ثالِثًا فَيَشْكُرُ العَبْدَ ثالِثًا فَيُجازِيهِ رابِعًا، وعَلى هَذا لا تَنْقَطِعُ المُعامَلَةُ بَيْنَ العَبْدِ والرَّبِّ، ومِثْلُهُ في الشّاهِدِ اثْنانِ تَحابّا فَأهْدى أحَدُهُما إلى الآخَرِ هَدِيَّةً ونَسِيَها، والمُهْدى إلَيْهِ يَتَذَكَّرُها فَأهْدى إلى المُهْدِي عِوَضًا فَرَآهُ المُهْدِي الأوَّلُ ابْتِداءً لِنِسْيانِهِ ما أهْداهُ إلَيْهِ فَجازاهُ بِهَدِيَّةٍ فَقالَ المُحِبُّ الآخَرُ: ما أهْدَيْتُهُ كانَ جَزاءً لِهَدِيَّتِهِ السّابِقَةِ، وهَذِهِ هَدِيَّةٌ ما عَوَّضْتُها فَيُعَوِّضُ ويُعَوِّضُ عَنْهُ المُحِبُّ الآخَرُ، ويَتَسَلْسَلُ الأمْرُ بَيْنَهُما ولا يَنْقَطِعُ التَّهادِي والتَّحابُّ، بِخِلافِ مَن أرْسَلَ إلى واحِدٍ هَدِيَّةً وهو يَتَذَكَّرُها، فَإذا بَعَثَ إلَيْهِ المُهْدى إلَيْهِ عِوَضًا يَقُولُ المُهْدِي: هَذا عِوْضُ ما أهْدَيْتُ إلَيْهِ فَيَسْكُتُ ويَتْرُكُ الإهْداءَ فَيَنْقَطِعُ. واعْلَمْ أنَّ التَّكالِيفَ يَوْمَ القِيامَةِ وإنِ ارْتَفَعَتْ لَكِنَّ الذِّكْرَ والشُّكْرَ والعِبادَةَ لا تَرْتَفِعُ بَلِ العَبْدُ يَعْبُدُ رَبَّهُ في الجَنَّةِ أكْثَرَ مِمّا يَعْبُدُهُ في الدُّنْيا، وكَيْفَ لا وقَدْ صارَ حالُهُ مِثْلَ حالِ المَلائِكَةِ الَّذِينَ قالَ في حَقِّهِمْ: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٠] غايَةُ ما في البابِ أنَّ العِبادَةَ لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ بِتَكْلِيفٍ بَلْ هي بِمُقْتَضى الطَّبْعِ، ومِن جُمْلَةِ الأسْبابِ المُوجِبَةِ لِدَوامِ نَعِيمِ الجَنَّةِ هَذا، وكَيْفَ لا وخِدْمَةُ المُلُوكِ لَذَّةٌ وشَرَفٌ فَلا تُتْرَكُ، وإنْ قَرُبَ العَبْدُ مِنهُ بَلْ تَزْدادُ لَذَّتُها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب