﴿۞ قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَیۡرࣲ مِّن ذَ ٰلِكُمۡۖ لِلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّـٰتࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا وَأَزۡوَ ٰجࣱ مُّطَهَّرَةࣱ وَرِضۡوَ ٰنࣱ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِیرُۢ بِٱلۡعِبَادِ ١٥ ٱلَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ إِنَّنَاۤ ءَامَنَّا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ١٦ ٱلصَّـٰبِرِینَ وَٱلصَّـٰدِقِینَ وَٱلۡقَـٰنِتِینَ وَٱلۡمُنفِقِینَ وَٱلۡمُسۡتَغۡفِرِینَ بِٱلۡأَسۡحَارِ ١٧ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَأُو۟لُوا۟ ٱلۡعِلۡمِ قَاۤىِٕمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ ١٨ إِنَّ ٱلدِّینَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَـٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۗ وَمَن یَكۡفُرۡ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ ١٩﴾ [آل عمران ١٥-١٩]
قال الله تعالى:
﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ أولًا في القراءات: فيها
﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ﴾ بتحقيق الهمزتين بدون مد؛ وفيها قراءة ثانية:
﴿آؤنبئكم﴾ أي بتحقيق الهمزتين بالمد.
وقوله:
﴿قُلْ﴾ سبق لها نظائر، وذكرنا أن الآيات المصدرة بـ (قل) تشير إلى الاهتمام بها والعناية بها؛ لأن الله أمر نبيه ﷺ أمرا خاصا أن يبلغها للناس، والأمر العام لكل القرآن.
وقوله:
﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ﴾ الاستفهام هنا للتشويق؛ لَما ذكر متع الحياة الدنيا السبعة الأنواع السابقة قال:
﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ﴾ يشوقنا إلى ما هو خير من ذلك،
﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ﴾ أي أخبركم بخير من ذلك؛ والإنباء هو الخبر عن أمر هام، ولا يكون النبأ غالبا إلا في الأمور الهامة كما في قوله تعالى:
﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ [النبأ ١، ٢].
قال:
﴿بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ المشار إليه ما سبق من متع الحياة الدنيا بأنواعها السبعة؛ ولكن قد يقول قائل: لماذا أشار إليه بلفظ المفرد المذكر؟
نقول: لأجل طي ذكره بشيء واحد؛ كأنه قال: بخير من ذلكم المذكور؛ حتى لا يشار إلى التفصيل فيه؛ لأن الدنيا كلها، كلها في الواقع ينبغي أن يزهد فيها الإنسان ولا يحتسبها شيئًا، ألم تر إلى قوله ﷺ:
«فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»(١)، ولم يذكرها تحقيرا لها.
وقوله:
﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ هذا كما قلت استفهام، الجواب: هو مضمون قوله:
﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ..﴾ إلى آخره، هذا الخير
﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي﴾.
وقوله:
﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ لا يخفى علينا جميعا أنه خبر مقدم و
﴿جَنَّاتٌ﴾ مبتدأ مؤخر. وتقديم الخبر يفيد الحصر؛ لأن من القواعد المعروفة في البلاغة أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر.
﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾. اتقوا ماذا؟ اتقوا الله عز وجل،
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة ٢٧٨].
وأحيانًا نؤمر باتقاء اليوم؛ يوم القيامة، كما في قوله:
﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة ٢٨١].
وأحيانًا نؤمر بتقوى النار:
﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران ١٣١].
ولكن المعاني وإن اتفقت في أصل الوقاية لكنها تختلف؛ لأن تقوى الله عز وجل تستلزم الخوف منه وتعظيمه، أما النار فإن تقواها تستلزم الخوف منها فقط لكنها ليست تقوى عبادة وإنابة وتعلق بها، بل تقوى فرارا منها. وكذلك تقوى اليوم الذي نرجع فيه إلى الله وهو يوم القيامة.
المهم أن قوله:
﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ ينبغي أن نحملها على أعلى أنواع التقوى وأفضلها، وهي تقوى الله عز وجل، لا تقوى اليوم الآخر ولا تقوى النار؛ لأن تقوى الله يحمل على تقوى اليوم الآخر وعلى تقوى النار. فما هي تقوى الله؟
قال بعض العلماء في تقوى الله: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله على نور من الله، تخشى عقاب الله.
وهذا يتضمن الإخلاص والعلم؛ العلم قوله: على نور من الله؛ والإخلاص: ترجو ثواب الله وتخشى عقاب الله. يعني لا يحملك على هذا حب الدنيا، أو الجاه، أو الرئاسة، أو ما أشبه ذلك.
وقال بعض العلماء: إن تقوى الله: أن يخلي الإنسان جميع الذنوب؛ صغيرها وكبيرها.
وعلى هذا قول الشاعر:
خَـــــلِّ الذُّنُـــــــوبَ صَغِيرَهَـــــــــا ∗∗∗ وَكَبِيرَهَــــــــــــــا ذَاكَ التُّقَــــــــــــــــــــى؎وَاعْمَــــــــلْ كَمَـــــــاشٍ فَـــــــوْقَ ∗∗∗ أَرْضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى؎لا تَحْقِـــــــــــــــرَنَّصَغِيــــــــــــــــــــرَةً ∗∗∗ إِنَّ الْجِبَــــــالَ مِــــــنَالْحَصَـــــــــى
وقال بعض العلماء: تقوى الله عز وجل: اتخاذ وقاية من عذابه، بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
وهذا أجمع ما قيل في التقوى؛ إن اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
ثم اعلم أن التقوى أحيانًا تُقرن بالبر، وأحيانا تُفرد؛ فإن قُرنت بالبر صار معناها اجتناب المعاصي، والبر فعل الطاعات، وإن أُفردت عنه صارت شاملة لفعل الأوامر واجتناب النواهي.
ولهذا الاستعمال في الكلمات شواهد كثيرة، أو نظائر كثيرة على الأصح؛ كالفقير والمسكين. الفقير والمسكين إن ذُكرا جميعا صار لكل واحد منهما معنى، وإن أُفرد أحدهما صارا بمعنى واحد. كذلك الإيمان والإسلام؛ عند الإفراد يدخل أحدهما في الآخر، وعند الجمع يكون لكل واحد منهما معنى غير الآخر.
قوله:
﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ إذن اتقوا الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ العندية هنا تفيد فضلا عظيمًا؛ لأنها هي القرب من الله عز وجل
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾؛ كما قال الله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف ٢٠٦]، كما قال تعالى:
﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء ١٩، ٢٠]. ثواب المتقين عند الله، والعندية تفيد القرب، ولا أقرب من شيء يكون سقفه عرش الله عز وجل؛ كالفردوس الأعلى، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها.
هذه العندية تفيد القرب
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)﴾ [القمر ٥٤، ٥٥].
وقوله:
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ الرب كما سبق هو الخالق المالك المدبر. وسبق أيضًا قريبًا أن ربوبية الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى عامة وخاصة. والربوبية هنا
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ربوبية خاصة؛ لأن الله تعالى وفقهم لما حرمه كثيرا من عباده.
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ جنات كثيرة متنوعة، ذكر الله تعالى في سورة الرحمن أن أنواعها أربع، فقال:
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن ٤٦]، ثم قال:
﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن ٦٢]، وأخبر النبي ﷺ أَنَّ جَنَّتَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ وَجَنَّتَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ
(٢)؛ وهذا باعتبار الجنس، أما الأنواع فكثيرة؛ لأن لكل أمة ما يختص بها من الثواب، ولكل فرد من الأمة ما يختص به من الثواب.
ونحن نعرف الآن أن الفواكه في الدنيا اسمها واحد ولكن تختلف، فالرمان مثلا في هذا البستان يكون جيدًا، وفي البستان الثاني يكون رديئًا، وكذلك بقية الفواكه، كذلك الجنة تختلف؛ حتى وإن اشتركت في أن كلها رمان، كلها فواكه، وما أشبه ذلك، تختلف من شخص لآخر؛ كما قال الله تعالى:
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الأنعام ١٣٢] وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَصْحَابَ الْغُرَفِ الْعَالِيَةِ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ
(٣). فهي درجات عظيمة.
فهنا قال:
﴿جَنَّاتٌ﴾ بالجمع؛ لتعدد أجناسها، وأنواعها، وأفرادها.
والجنة في الأصل البستان الكثير الأشجار، ولكن المراد بالجنات التي وعد الله بها المتقين هي دار النعيم المقيم التي فيها:
«مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»(٤).
يقول:
﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ تجري من تحتها، ليس من تحت أرضها، بل فوق أرضها، لكن من تحت أشجارها وقصورها، أنهار مطردة، وأنهار مختلفة الأنواع، أربعة أنواع:
﴿أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد ١٥].
هذا الماء لم يخرج من الآبار، ولم يذب من الجليد، وهذا العسل لم يخرج من نحل، وهذا اللبن لم يخرج من بهيمة، ولكن الذي خلق هذا في الدنيا من هذه الأشياء المعلومة؛ قادر على أن يخلقه عز وجل في الآخرة ابتداء. لبن مخلوق، نهر يجري، عسل كذلك، خمر لذة للشاربين كذلك، فهذه الأنواع الأربعة تجري من تحت هذه القصور الفخمة والأشجار اليانعة تبهج الناظرين، تسر الناظرين؛ تسر القلب، لا يتصور الإنسان ما فيها من النعيم.
يقول:
﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾، هذا أيضا من كمال النعيم؛ الخلد
﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ﴾ [الدخان ٥٦]، بل يقال لهم:
«خُلُودٌ وَلا مَوْتَ»(٥) فيُسَرُّون، بل يقال لهم:
«إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا، وَأَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَأَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَأَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا»(٦) كل الآفات التي في الدنيا المنغصة للنعيم كلها تنفى عنهم. ولهذا قال:
﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾.
﴿وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ معطوفة على
﴿جَنَّاتٌ﴾ جنات وأزواج؛ وعطفها عليها لاختلاف نوع التلذذ؛ فالتلذذ بالجنات تلذذ شهوة بطن، والتلذذ بالأزواج تلذذ آخر، من نوع آخر؛ ولهذا قال:
﴿أَزْوَاجٌ﴾ من الحور العين ومن نساء الدنيا.
والإنسان الذي له زوجة في الدنيا تبقى زوجة له في الآخرة، وإذا كانت ذات زوجين فإنها تُخير بينهما، وإذا لم يكن للإنسان زوجة في الدنيا فإن في الجنة من ليس لهن أزواج في الدنيا، يُزوج هذا من هذه، وهناك أيضا أزواج من نوع آخر وهن الحور العين، والحور العين أيضا داخلة في قوله:
﴿وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾.
وقوله تعالى:
﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ من أي شيء؟ من كل رجس حسي أو معنوي، مطهرة من كل رجس حسي أو معنوي؛ فالحسي مثل البول والغائط والحيض والعرق المنتن والمخاط، وما أشبه ذلك، والمعنوي: الغل والحقد والفجور وكراهة الزوج، وما أشبه ذلك.
المهم أن الله أطلق قال:
﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ ولم يقل: من كذا وكذا؛ من أجل إفادة العموم؛ لأن من القواعد المعروفة أن حذف المعمول يؤذن بعموم العامل، قاعدة معروفة عندهم؛ أن حذف المعمول يؤذن بعموم العامل.
ولهذا أمثلة كثيرة، مثلا: قوله تعالى للرسول ﷺ:
﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى ٦ - ٨] قال:
﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا﴾ لم يقل: فآواك،
﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾، ولم يقل: فهداك، مع أن الخطاب له،
﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا﴾ ولم يقل: فأغناك، بل حذف المفعول ليؤذن على عموم العامل.
فالرسول عليه الصلاة والسلام وجده ربه يتيمًا فآواه، لكن ما آواه وحده، آواه وأوى به، حتى جعله فئة لكل مؤمن؛ ضالا فهداه، أو هداه وهدى به؟ هداه وهدى به. عائلا فأغناه وأغنى به، من أين للعرب هذه الغنائم العظيمة التي ما فكروا أن يغنموها، كيف يغنم العرب رعاء الشاء والإبل أرض فارس والروم إلا بأيش؟ إلا بالنبي ﷺ وبدينه.
المهم أن هذه قاعدة معروفة مقررة، وهو أن حذف المعمول يؤذن بعموم العامل.
طيب إذن
﴿أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ لم يذكر المعمول، فيدل على أنها مطهرات من كل رجس حسي أو معنوي.
وقوله:
﴿أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ لم يقل: مطهرات، لماذا؟
لأن نعت الجمع يجوز أن يكون مجموعًا وأن يكون مفردًا، إلا جمع المؤنث السالم فإنه يكون مجموعًا؛ فتقول مثلا: مررت بنساء مؤمنة، ونساء مؤمنات، وتقول: مررت بمسلمات صالحات، ولا تقل: بمسلمات صالح. وهنا أزواج جمع، جمع مؤنث سالم ولَّا جمع تكسير؟ جمع تكسير، فيجوز في وصفه الإفراد والجمع، يجوز: أزواج مطهرات، وأزواج مطهرة.
قال ابن مالك:
واللهُ يَقْضِـــــــي بِهِبَــــــاتٍوَافِــــــــــــرَةْ ∗∗∗ .........................
ولو قال: (وافرات) لصح.
﴿وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾ الله أكبر، هذا أعظم شيء،
﴿رِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾ أن الله سبحانه وتعالى يحل عليهم رضاه فلا يسخط عليهم بعده أبدًا، ما يسخط عليهم، وهذا أعظم ما يكون كما قال الله تعالى لما أعدد نعيم أهل الجنة قال:
﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة ٧٢] أكبر من هذا كله؛ لأنه إذا رضي عليك محبوبك الذي تسعى إلى الوصول إليه منذ عرفت ومنذ ميزت، فإن هذا أعظم مقصود للإنسان أن ينال رضا الله عز وجل. وأعظم من ذلك النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى؛ كما قال الله تعالى:
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس ٢٦] ولا ألذ وأمتع وأحسن لأهل الجنة من النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى.
فأعلى الشيء النظر إلى وجه الله، الرضوان يليه، المتع الجسدية في الجنة تلي هذا، ولهذا قال:
﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾ فأفرده بالذكر؛ لأنه نعيم قلب؛ وما سبقه نعيم أيش؟ نعيم بدن وجسد، أما هذا فنعيم قلب، ولهذا يقول الله عز وجل:
«إِنِّي أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا»(٧).
قال:
﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ سبحانه وتعالى، الله بصير بالعباد الذين يريدون الدنيا والذين يريدون الآخرة، فهو بصير بهم؛ بصر نظر أو بصر علم؟ يشمل هذا وهذا، فهو بصير بالعباد بصر نظر، لا يغيب عن نظره شيء، بصير بهم بصر علم
﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ﴾ [سبأ ٣]. وقوله:
﴿بِالْعِبَادِ﴾ المراد بهم أي أنواع العبادة؟ العام ولّا الخاص؟
العام، إذن العبودية العامة هنا.
بصير بكل العباد؛ مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، متقيهم وعاصيهم، كل العباد فالله تعالى بصير بهم.
وهو سبحانه وتعالى بصير بمن يستحق أن يكون من المتقين ومن يستحق أن يكون من العاصين؛ فالمعصية بحكمته، والطاعة بفضله؛ المعصية بحكمته وعدله، والطاعة برحمته وفضله.
ثم قال عز وجل، قال:
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾، هذه بيان
﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾، لا للعباد؛ لأن العباد كلهم لا يتصفون بهذه الصفات؛ لكن المتقين منهم هم الذين يتصفون بهذه الصفات
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾.
قوله:
﴿يَقُولُونَ﴾ يريد بذلك القول باللسان والاعتقاد بالجنان؛ لأن الله تعالى إذا أطلق القول بالإيمان ولم يتعقبه، كان المراد به القول باللسان والعقد بالجنان؛ ودليل ذلك قوله تعالى:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة ٨]، لما كان المراد بهذا القول القول باللسان فقط قال:
﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾. أما إذا أطلق الله قول الإنسان: آمنت، فإنه يريد به القول باللسان والعقد بالجنان.
ولهذا قال عز وجل:
﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة ١٣٦]، لا يريد منا أن نقول ذلك بألسنتنا فقط، بل بألسنتنا وقلوبنا،
﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [آل عمران ٨٤] لا يريد أن نقول ذلك باللسان فقط، بل باللسان والجنان. إذن
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾ بماذا؟ بألسنتهم فقط؟ لا، بألسنتهم نطقًا، وبقلوبهم عقدًا، يعني اعتقادًا.
وقوله:
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا﴾ شوف كيف توسلوا إلى الله بربوبيته للإخبار بحالهم في لإيمان به، كأنهم يقولون: ربنا آمنا ولكننا لم نصل إلى الإيمان إلا بربوبيتك لنا، تلك الربوبية الخاصة المقتضية للعناية التامة، يقولون:
﴿رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾ انتبه، قال: (الذين يقولون: آمنا) استقام الكلام بلاشك، لكن إذا قالوا:
﴿رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾، فهذا كالإشعار بأنهم لم يصلوا إلى الإيمان إلا بمقتضى هذه الربوبية الخاصة المقتضية للعناية التامة.
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾،
﴿إِنَّنَا آمَنَّا﴾ الجملة هنا مؤكدة بكم مؤكد؟
* طالب: واحد.
* الشيخ: واحد، وهو (إننا)؛ لأن (نا) الثانية ضمير، ﴿إِنَّنَا آمَنَّا﴾، فيؤكدون إيمانهم ﴿إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا﴾.طيب، آمنا بماذا؟ بكل ما يجب الإيمان به.
وقد سأل جبريل النبي ﷺ: ما الإيمانُ؟ قال:
«أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»(٨)، وقال الله تعالى:
﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة ٢٨٥].
فالإيمان هنا يشمل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به، وهو ستة أنواع: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
طيب، الإيمان ليس هو مجرد التصديق، ليس مجرد التصديق؛ لأن مجرد التصديق ليس بإيمان. ولهذا يقال: آمنا به، ويقال: آمنا له، وبينهما فرق، ويقال: صدقه، وبينهما فرق أيضًا.
الإيمان لا بد أن يكون مقرونًا بقبول وإذعان؛ يعني يصدق ثم يقبل ثم يذعن. هذا الإيمان، ولهذا يقال: آمنت به؛ ولا يقال: آمنته.
الإيمان لا بد أن يكون مقرونًا بقبول وإذعان، يعني يصدق ثم يقبل ثم يُذعن، هذا الإيمان، ولهذا يقال: آمنت به، ولا يقال: آمنته، ولو كان الإيمان مرادفًا للتصديق لصح أن يقال: آمنته، كما يقال: صدّقته، إذن الإيمان يتضمن معنى زائدًا على مجرد التصديق، بل هو تصديق متضمن لأيش؟ لقبول وإذعان، ولهذا كلنا يعلم حسب ما جاء به التاريخ أن أبا طالب مصدِّق لرسول الله ﷺ، مصدق له، ويرى أن ما أخبر به مثل الشمس حتى إنه ليقر بذلك في قصائده، يقول:
لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٌ ∗∗∗ لَدَيْنَا وَلَا يُعْنَى بِقَوْلِالْأَبَاطِلِ
يقول: ليس مكذَّبًا ولا يُعْنَى بقول الأباطل، إذن يكون عنده مصدّق، ويقول:
وَلــَقَــدْ عَــلــِمْــتُ بِــأَنَّ دِيــنَمُحَمَّــدٍ ∗∗∗ مِــنْ خَــيْــرِ أَدْيَــانِ الْــبَــرِيَّــةِدِيــنَــا؎لَــــوْلَا الْــمَلَامَــةُ أَوْ حِــذَارُمــَسَـبَّــةٍ ∗∗∗ لَرَأَيْتَنِــي سَــمْــحًــا بِــذَاكَمُــبِيــنًــا
إذن هو مصدِّق لكن لم يكن تصديقه هذا متضمنًا للقبول والإذعان، ما قَبِل ولا أذعن، فهل نقول: إنه مؤمن؟ لا، إذن لا بد في الإيمان من القبول والإذعان.
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ [آل عمران ١٦] الفاء هنا للسببية، أي: فبسبب إيماننا اغفر لنا؛ لأن الإيمان لا شك أنه وسيلة للمغفرة، وكلما قوي الإيمان قويت أسباب المغفرة، حتى إنه إذا أخلص الإنسان إيمانه صارت حسناته تُذهب سيئاته، طيب، ولهذا قال:
﴿فَاغْفِرْ لَنَا﴾ أي: بسبب الإيمان اغفر لنا، وهذا من باب التوسل بالطاعة لقبول الدعاء.
وقال:
﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾،
﴿اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾، (اغفر) فعل دعاء وليس فعل أمر، لماذا؟
* طالب: لأنه موجه لله عز وجل.
* الشيخ: ﴿اغْفِرْ لَنَا﴾ ما نقول: هذا فعل أمر؛ لأن الله ما يُؤمَر، العبد لا يأمر الله لكنه يدعوه، إذن كل فعل بصيغة الأمر موجه إلى الله فهو دعاء يسمى فعل دعاء، ولا يسمى فعل أمر، والمغفرة مأخوذة من الغَفْر وهو الستر مع الوقاية، ومنه الْمِغْفَر الذي يلبسه المقاتل في رأسه ليستر الرأس ويقيه السهام، فليست المغفرة مجرد الستر بل هي ستر ووقاية، ولهذا نقول: مغفرة الذنوب سترها عن الناس والعفو عن عقوباتها، ويدل لهذا أن الله سبحانه وتعالى يخلو يوم القيامة بعبده المؤمن ويقرره بذنوبه، يقول: عملت كذا وعملت كذا وعملت كذا، حتى يقر، فيقول الله عز وجل: «قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ»(٩)، يعني: لا أجازيك عليها، والحمد لله رب العالمين أن الله عز وجل يستر الذنوب على عباده، والله لولا هذا لافتضح كثير من الناس، يقال: إن بني إسرائيل كان الواحد منهم إذا أذنب ذنبًا أصبح وذنبه مكتوب على بابه(١٠) -والعياذ بالله- فضيحة، أما هذه الأمة فستر الله عليها ولله الحمد، ولكن فتح لها أبواب التوبة على مصراعيه كما يقولون، ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر ٥٣]، فالله عز وجل يمهل للإنسان، يمهل له ويحلم عليه، وإذا وُفِّق اتعظ من نفسه بنفسه، هو نفسه يفكر ماذا عملت، وأيش أنا فعلت، فيستحيي من الله عز وجل ويخشى أن يفضحه الله؛ لأن الإنسان إذا تجرأ على ربه في السر فربما يفضحه في العلانية إذا لم يتب، إذا لم يتب إلى الله عز وجل، فإن تاب تاب الله عليه وأبدل سيئاته حسنات. ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ الذنوب هي المعاصي، وهي إما قبائح وإما دون ذلك، وكلها تحتاج إلى مغفرة، كلها يستغفر الإنسان منها، ولا تظن أن الصغائر إذا كُفِّرت بالحسنات لا تظن أنها كما لو كُفِّرت بالتوبة؛ لأن بينهما فرقًا عظيمًا، إذا كُفِّرت بالتوبة أُبدلت السيئات بالحسنات، إذا كُفرت بالطاعات فإنها تُمحى فقط لكن ما تُبدل بحسنات، الله يقول:
﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود ١١٤] ويقول:
﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان ٧٠]، وفرق بين الأمرين، فرق بين أن تذهب السيئة بالحسنة وبين أن تُبدل السيئة حسنة، أليس كذلك؟ إذن لا تعتمد على تكفير الحسنات للسيئات فتقول: إن سيئاتي مكفَّرة بحسناتي، لا، ثم إننا في الحقيقة حسناتنا نرجو أن تُبْرِئَ ذممنا، يعني لا تقوى على أن تكفر، لا تظن أن أي صلاة تكفِّر، لا، قد تكون صلاة لا تبرأ بها الذمة إلا كما يقولون: بالدَّف؛ لأنها صلاة يفعلها الإنسان عادة ثم إذا دخل فيها بدأ يضارب بماله إن كان تاجرًا، وبدأ يقلّب دفاتره إن كان طالبًا، وبدأ ينظر إلى قدّومه ومنشاره إذا كان نجارًا، وهكذا، ولا تكثر الوساوس إلا إذا دخل في الصلاة وإذا سلّم طارت الوساوس هذه، وصار قلبه حاضرًا للذكر الذي بعد الصلاة، أما الصلاة نفسها فهو يتجول في كل مكان، وإذا سد بابًا وإذا بالشيطان يفتح بابًا بعيدًا ما كان يطرأ على باله أبدًا، فإذا حاول سده وإذا باب آخر مفتوح، وهكذا، من أجل أن يحول الشيطان بين الإنسان وبين ربه؛ لأن الشيطان يعلم أن هذه الصلة التي بين الله وبين العبد وهي صلته بالله في الصلاة لها شأن عظيم ودور كبير في إصلاح العبد، قال الله تعالى:
﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت ٤٥]، أتريدون أعظم من هذا؟ أن يكون في نفسك رادع ينهاك عن الفحشاء والمنكر، هذا هو الذي يغيظ الشيطان، فيريد الشيطان أن يحول بينك وبين هذا بإلقاء الوساوس في صلاتك حتى تخرج من صلاتك بقلب يابس جاف كما دخلت كذلك في صلاتك، ولهذا أسأل الله أن يعينني وإياكم على إصلاح هذه العبادة العظيمة؛ لأنها إذا صلحت صلحت العبادات كلها، كل العبادات، ولكن إذا كانت جافة فمن أين تُسقى شجرات العمل، لا تسقى إلا بماء.
* طالب: الإنسان يعني يعمل الذنوب ولا يتذكرها كيف التوبة؟ ذنوب كثيرة.
* الشيخ: إي نعم، إذا تاب توبة عامة يكفي.
* الطالب: يعني ينفع إذا قال: أستغفر الله العظيم؟
* الشيخ: إي نعم، وإذا قال أيضًا الاستغفار المعروف: اللهم إني أستغفرك لما لا أعلم، هذا أيضًا طيب.
* طالب: يعني يكفّر هذا..؟
* الشيخ: يكفّر هذا، نعم، إذا كان إبراء المدين من حق الآدمي المبهم المجهول جائزًا ويبرأ به فما بالك بحق الله؟
* طالب: لكن ما يتذكره.
* الشيخ: لا، هو ما يتذكر، لكن أستغفر الله من كل ذنب، تستغفر الله من كل ذنب يكفي.
* طالب: هل الإنسان الذي يأتيه الشيطان في الصلاة ويوسوس له، هل يكون مخالفًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر ٤٢، الإسراء ٦٥]؟
* الشيخ: لا، هذا السلطان نوعان: سلطان يضلهم به ولا يهتدون، هذا لا يمكن أن يكون على عباد الله المخلَصين، وسلطان يتسلط عليه من الشيطان لكن يمن الله عليه بالتوبة فيمحو ويهدم كلما بناه الشيطان، يكون سلطانه هذا بالحقيقة زيادة غم عليه، على الشيطان، ولهذا لا يُرى الشيطان أحقر ولا أصغر من يوم عرفة؛ لما يرى من تنزّل الرحمة، الشيطان قد يتسلط على الإنسان لكن إذا استغفر وغُفِر له زاد غمه.
* طالب: شيخ، قوله: ﴿وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [آل عمران ١٥] يعم نساء الدنيا أيضًا؟
* الشيخ: إي نعم، حتى نساء الدنيا في الجنة مطهرات من هذا.
* طالب: ينفع نقول الآية ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ هذه لكل (...) العباد، أعني الكفار والمؤمنين؟
* الشيخ: إي نعم، كل من تاب إلى الله فإن الله يغفر ذنبه، وهذه الآية نزلت في التائبين، أما قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء ١١٦] فهذه نزلت في غير التائبين ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ هذه في غير التائبين، أما ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ فهذه في التائبين.
* طالب: هل تُقبل التوبة من ذنب دون ذنب آخر؟
* الشيخ: هذه تحتاج إلى أن نسأل عن شروط التوبة، تعرف شيء منها؟
* الطالب: أن يقلع عن الذنب، أن يعزم ألا يعود.
* الشيخ: أولًا أن نخلص لله، الإخلاص لله.
* طالب: الإخلاص لله.
* الشيخ: الندم.
* طالب: الندم على ما فعلت، الإقلاع عن الذنب، العزم على أن لا يعود، وإن كان في حق آدمي تحلل منه.
* الشيخ: الخامس.
* الطالب: أن يتحلل منه إن كان حقًّا لآدمي.
* الشيخ: لا، هذه إنك تقول: هذا داخل في قوله: الإقلاع.
* طالب: أن تكون في الوقت.
* الشيخ: نعم أن تكون في الوقت الذي تُقبل فيه، خمسة شروط، إذا وُجدت هذه الشروط صحت التوبة، وليس في هذه الشروط أن لا يكون مصرًّا على ذنب آخر، ولهذا الصحيح أن التوبة تصح من ذنب مع الإقرار على غيره، لكن الذي فيه الإشكال هل تصح التوبة من ذنب مع الإقرار على جنسه، هذا هو اللي محل نظر، أما إذا كان من غير الجنس فلا شك أنها تُقبل؛ لأن هذا هو مقتضى العدل، لكن الإنسان يتوب إلى الله عز وجل من النظر للنساء المحرم ولكنه يقبّل النساء، هل نقول: إنها تُقبل توبته من النظر ويعاقب على التقبيل فقط، أو لا تصح؟
* طالب: هذا نوع وهذا نوع.
* الشيخ: فيها خلاف، الجنس واحد، هذه محل اشتباه عندنا.
* طالب: ما يمكن التقبيل أعظم من النظر؟
* الشيخ: هو أعظم لكن إذا تاب من النظر هل يعاقب على النظر والتقبيل أو على التقبيل فقط؟ نقول هذه محل نظر، وابن القيم رحمه الله في كتاب مدارج السالكين لما بحث هذا قال: هذه المسألة لها غور بعيد، يعني لأنه قد يُنظر هل إن توبته هذه صلاح قلب؟ فإذا كانت توبته صلاح قلب فلا بد أن يتجنب التقبيل؛ لأن اللي يتوب من النظر كيف يقبّل؟!
* طالب: هو ما يقبّل إلا بعد النظر.
* الشيخ: لا أبدًا، هو ما بكل حال، قد لا يتتبع النساء بالنظر لكن إذا حصل امرأة قبّلها.
* طالب: يستلزم يا شيخ، امرأة يقبّلها ينظر إليها.
* الشيخ: الله يهدينا وإياكم، لكن ما هو ينظر لغيرها، هنا في ناس همهم النظر للنساء، يتلذذ بالنظر لها ولا يقبّل ولا يفكر بالتقبيل، وفيه إنسان همه أن يجد امرأة كاشفة لوجهها ليقبّلها.
* طالب: شيخ ما هي علامات قبول التوبة؟
* الشيخ: علامات قبول التوبة أن الإنسان يجد راحة وطمأنينة وكراهة للذنب وإقبالًا إلى الله عز وجل.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (١٧) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)﴾ [آل عمران ١٦ - ١٨].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [آل عمران ١٥] إلى آخره، المراد بالاستفهام هنا في قوله: ﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ﴾ ما المراد بالاستفهام؟
* طالب: التشويق.
* الشيخ: التشويق، هل له نظير؟ لأننا نريد مثال آخر تأتي بمثال آخر من القرآن؟
* الطالب: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الصف ١٠]
* الشيخ: أحسنت، قوله: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ما موقع الجملة مما قبلها في المعنى؟
* طالب: بيان.
* الشيخ: بيان لأيش؟
* الطالب: للخير الذي أخير من السابق.
* الشيخ: أحسنت، بيان لمن يستحق هذا الخير الذي هو أفضل مما سبق، قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ماذا تفيده هذه العندية؟
* طالب: تفيد التعظيم.
* الشيخ: التعظيم وأيش؟ التشريف؛ لأن اللي عند الله ما في شك إنه مقرب إليه فيكون في ذلك شرف له، المراد بالربوبية هنا؟
* طالب: هذه ربوبية خاصة.
* الشيخ: الخاصة، إذن تنقسم الربوبية إلى قسمين.
* طالب: ربوبية عامة تشمل جميع العباد، وربوبية خاصة؛ خاصة بالمؤمنين، وأخص وهي التي تخص الأنبياء والمرسلين.
* الشيخ: أحسنت، طيب، هل لك أن تأتينا بمثال يجمع بين المعنيين؟
* طالب: قوله تعالى حكاية عن فرعون وموسى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)﴾ [الشعراء ٢٣، ٢٤]
* الشيخ: هذه؟
* الطالب: ربوبية عامة.
* الشيخ: نعم.
* الطالب: الربوبية الخاصة مثل هذه الآية.
* طالب: نعم يجمعهما قوله تعالى: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢)﴾ [الأعراف ١٢١، ١٢٢]
* الشيخ: نعم تمام، قوله عز وجل: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [آل عمران ١٥] ما معنى قوله: ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؟
* طالب: تجري على سطحها ومن بين أشجارها.
* الشيخ: كيف على سطحها وهو يقول: ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؟
* طالب: تجري من تحت أشجارها.
* الشيخ: أشجارها وقصورها، طيب، ما هذه الأنهار التي تجري، ما أنواعها؟
* الطالب: أنواع أربع، من ماء غير آسن.
* الشيخ: أتدري ما الآسن؟
* الطالب: يعني غير متغير يعني.
* الشيخ: أتدري ما الآسن؟
* الطالب: الآسن هو المتغير.
* الشيخ: إذن غير آسن، طيب.
* الطالب: وأنهار من لبن لذة للشاربين.
* الشيخ: لا، لم يتغير طعمه، والثالث؟
* الطالب: وأنهار من خمرة لذة للشاربين.
* الشيخ: من خمر لذة للشاربين.
* الطالب: وأنهار من عسل مصفى.
* الشيخ : أحسنت، هذه أربعة، طيب، ﴿أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾، مطهرة من أيش؟
* طالب: مطهرة من نجاسة الظاهر ونجاسة الباطن.
* الشيخ: الرجس الحسي والمعنوي، الحسي مثل أيش؟
* الطالب: الحيض والعرق والمخاط.
* الشيخ: والبول والغائط، طيب، والباطني؟
* الطالب: مثل الحقد والغل والحسد.
* الشيخ: طيب، هل يشمل هذا أزواج الدنيا؟
* الطالب: نعم يشمل.
* الشيخ: يشمل.
* الطالب: (...).
* الشيخ: نعم، يعني الأزواج من أهل الدنيا تكون مطهرة يوم القيامة، قوله: ﴿رِضْوَانٌ﴾ فيها قراءتان؟
* طالب: كسر الراء وضمها.
* الشيخ: فيه كسر الراء وضمها ﴿رِضْوَانٌ﴾ و ﴿رُضْوَانٌ﴾ ، طيب، أيما أعظم هذا النعيم المعدد أو الرضوان؟
* طالب: الرضوان أفضل بلا شك، رضا الله سبحانه وتعالى عن المؤمنين أفضل.
* الشيخ: ما هو الدليل؟
* الطالب: قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث: «أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ»(١١).
* الشيخ: ما فيه شيء من القرآن؟
* الطالب: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [البينة ٨].
* الشيخ: لا، أيش تقول؟
* طالب: قوله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة ٧٢].
* الشيخ: قوله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾، أحسنت، ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾، ﴿يَقُولُونَ﴾ بالقلب أو باللسان؟
* طالب: كلاهما، قلوبهم وألسنتهم.
* الشيخ: طيب، هل يكفي اللسان؟
* الطالب: ما يكفي.
* الشيخ: الدليل؟
* الطالب: قلنا أبا طالب..
* الشيخ: الدليل؟
* الطالب: الدليل يعني من القرآن؟
* الشيخ: من القرآن نعم.
* الطالب: الذين يقولون ربنا آمنا.
* طالب: قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة ٨].
* الشيخ: إذن ليس المراد بقولهم: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾ ليس المراد به القول باللسان، إنما المراد القول باللسان والقلب.
* طالب: ما في أصرح من هذه الآية؟
* الشيخ: ما أدري ما نعرفها؟
* طالب: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [آل عمران ١٦٧].
* الشيخ: إي، وهذه أيضًا تفيد لكن آيتي أصرح، يقول: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ طيب، قوله: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾؟
* طالب: الفاء للسببية (...) مغفرة مع إقالة الذنوب.
* الشيخ: ما هي المغفرة؟
* الطالب: المغفرة هي جاي من الوقوع في الستر.
* الشيخ: الستر؟
* الطالب: الستر مع المغفرة.
* الشيخ: هي نسأل المغفرة الآن، ما يمكن نقول: المغفرة هي الستر مع المغفرة، نسأل الآن عن المغفرة؟
* طالب: ستر الذنب والتجاوز عنه.
* الشيخ: يعني إذن ستر ووقاية، ما الذي يدل على أن المغفرة تشمل المعنيين جميعًا الستر والوقاية، من اللغة؟
* طالب: المغفرة معناها..
* الشيخ: عرفنا معناها ستر الذنب والوقاية منه بالتجاوز.
* الطالب: تأتي منها المغفر الذي يرتديه المحارب.
* الشيخ: مأخوذة من المغفر الذي يغطي به المحارب رأسه، طيب، الفوائد من قوله: ﴿قِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى:
﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾،
﴿قِنَا﴾ القاف فعل دعاء، صح؟
* الطلبة: صح.
* الشيخ: القاف فعل دعاء، خطأ، نقول: (قِ) فعل دعاء، ما نقول: القاف، طيب، المال لزيد، ماذا نقول؟ نقول: (لِ) حرف جر، ولّا: اللام حرف جر؟ اللام حرف جر، ما الفرق بين (لزيد) وبين (قِ)؟
* طالب: (قِ) فعل أمر.
* الشيخ: طيب.
* طالب: تلك من حرف واحد وده من حرفين.
* الشيخ: قِ حرف واحد، أيش لونه؟ أصله من ثلاثة أحرف، نقول: لأن اللام حرف، و(قِ) فعل، ولهذا لو كتبت (ق) حرف هجائي لقلت: قاف، إذن (قِ) فعل أمر، زنته الصرفية؟
* طالب: (فِ).
* الشيخ: لا.
* الطالب: (عِ).
* الشيخ: (عِ)، زنته الصرفية (عِ)؛ لأنه حُذفت فاؤه ولامه؛ إذ إن أصله من (وقا) واو قاف ألف، فإذا حُذفت الفاء واللام وأيش يبقى؟ تبقى العين، فيكون (قِ) على وزن (عِ)، مُرْ شخصًا من وعى؟
* الطلبة: (عِ).
* الشيخ: (عِ)، وزنها الصرفي؟
* الطلبة: (عِ).
* الشيخ: (عِ)، من وفى؟
* الطلبة: (فِ).
* الشيخ: (فِ)، وزنها الصرفي؟
* الطلبة: (عِ).
* الشيخ: (عِ)، وَشَى؟
* الطلبة: (شِ).
* الشيخ: (شِ)، وقد ذكر الخضري على شرح ابن عقيل أظن حوالي عشرين فعلًا من هذا النوع، يعني فعل أمر مما حُذفت فاؤه ولامه وصار على وزن (عِ). قوله تعالى:
﴿قِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ من الوقاية، يعني: قِنَا إياه، وهل المراد: قِنَا العذاب عند استحقاقنا له، أو قنا العذاب حتى لا نعمل العمل الذي يوصلنا إلى العذاب، أو الأمرين جميعًا؟ الظاهر أن المراد الأمران جميعًا، فيكون هؤلاء السادة قد دَعَوْا بأن يقيهم الله تعالى عذاب أهل النار، ودعوا بأن الله سبحانه وتعالى يقيهم النار إذا هم عملوا عمل أهلها، ولكن كيف يقيهم عمل أهل النار إذا هم عملوا عمل أهلها؟ يقيهم ذلك بأمور متعددة، وقد ذكر العلماء أسباب مغفرة الذنب فبلغت نحو عشرة أسباب، منها: أن يوفَّق الإنسان للتوبة، فإذا تاب الإنسان من الذنب وقاه الله تعالى عقاب ذلك الذنب،
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر ٥٣].
ومنها: الأعمال الصالحة، والصدقة، ودعاء المؤمنين، وغير ذلك، المهم أنهم ذكروها نحو عشرة أسباب كلها من أسباب وقاية عذاب النار، فيكون دعاؤهم للوقاية من عذاب النار يشمل معنيين: المعنى الأول أن يقيهم أعمال أهل النار، والثاني: أن يقيهم العذاب بعد فعلِ موجِب العذاب، بعد فعل الموجب، بأن يُيَسِّر لهم أسباب التوبة ومحو هذه الذنوب ولو بمشيئته عز وجل، فـ
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء ٤٨].
وقوله:
﴿عَذَابَ النَّارِ﴾ هذا مجمل لكنه مفصل في آيات كثيرة قد بيّن الله سبحانه وتعالى عذاب أهل النار وأنه عذاب تتفطر منه الأكباد وتتفجر منه القلوب،
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق ٣٧]، ثم وصف الله تعالى هؤلاء السادة بقوله:
﴿الصَّابِرِينَ﴾، وهذه نعت لقوله:
﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ لـ
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾، لـ
﴿الصَّابِرِينَ﴾ إلى آخره، والصابر اسم فاعل من الصبر، وهو في الأصل الحبس، والمراد به شرعًا: حبس النفس عن محارم الله، وأنواعه ثلاثة: صبر على أقدار الله المؤلمة، وصبر عن معاصي الله، وصبر على طاعة الله عز وجل، ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، أما الصبر على الطاعة فإن الإنسان يجد منه معاناة عظيمة؛ لأنه عندما يهم بالطاعة تجد نفسه الأمارة بالسوء والشيطان يحاولان أن يصداه عن طاعة الله، وتجده في عراك مع نفسه الأمارة بالسوء حتى إذا أعانه الله عز وجل على ذلك تغلب على هذين العدوين؛ الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وفعل ما أوجب الله، أو ما أمر الله به، في المعصية لا سيما مع وجود الأسباب المقتضية لها تجد الإنسان في عراك شديد مع نفسه لا سيما مع قوة الداعي لها وعدم المعارض، فإنه إذا قوي الداعي للمعصية وعُدِم المعارض لا ينجو منها إلا من عصمه الله، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في جملة مَن يظلّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال:
«رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ»(١٢)، هذا الرجل صبر هذا الصبر العظيم عن محارم الله مع قوة الداعي وعدم أيش؟ المعارض، لم يقل هذا الرجل: والله ما بي شهوة، لا، الرجل فيه الشهوة، لم تكن المرأة قبيحة لا تُشْتَهى بل هي ذات جمال، لم تكن المرأة من السوقة الذين ليس فيهم خير بل هي ذات منصب وشرف، ودعته، لم يكن المكان فيه أحد يعارض الوصول إلى المقصود؛ لأنه لم يقل: حولنا أحد نخشى منه، لكن فيه شيء واحد وهو: الخوف من الله عز وجل، وهذا صبر عن أيش؟ عن معصية الله، صبر عن معصية الله، ولا شك أن في هذا مشقة عظيمة، شاب، في مكان خالي، عنده شهوة، دعته امرأة ذات منصب وجمال، هي دعته لنفسها، وكثير من الناس لا يملك نفسه إذا حدثته المرأة الشابة الجميلة فكيف وهي تدعوه؟ ومع ذلك يقول: إني أخاف الله، هذا صبر عظيم، ومنه صبر يوسف عليه الصلاة والسلام عندما دعته امرأة العزيز وهي سيدته، ولا شك أنها تجمّلت له، وأنها فعلت جميع أسباب المغريات، أو جميع المغريات لتصل إلى مقصودها، ولكنه عليه الصلاة والسلام رأى برهان ربه، وإلا فإن الأمر قد تم،
﴿هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف ٢٤]، فعند آخر لحظة عصمه الله عز وجل، وهذا أشد ما يكون من العفة وأقوى ما يكون من العفة، ألم ترَ إلى الرجل الإسرائيلي الذي كان
«يراود ابنة عمه عن نفسها وتأبى عليه، فلما ألَمّت بها سَنَة جاءت إليه ومكّنته من نفسها، فلما جلس منها مجلس الرجل من امرأته في أشد ما يكون من التهيؤ قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، وما الذي حصل؟ قام منها وهي أحب الناس إليه »(١٣)، ما كرهها، لم تزل نفسه تطلبها، لكن لما ذكّرته بالله عز وجل اتقى الله، فأقول: هذا من الصبر عن معصية الله عز وجل.
الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة، وهذا كثير، ومن ذلك أيوب عليه الصلاة والسلام فإنه صبر صبرًا عظيمًا، قال الله تعالى:
﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص ٤٤]، فقد صبر على ما ألَمّ به من الضر صبرًا عظيمًا، والصبر أيضًا على أقدار الله المؤلمة المترتبة على طاعة الله أعظم أجرًا، فصبر الرسل على أذية الناس من أجل الدعوة إلى الله؛ لأن هؤلاء صبروا على الأقدار المؤذية المترتبة على أيش؟ على فعل اختياري منهم وهو طاعة الله بتبليغ رسالته، ونضرب مثلًا لصبر سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، محمد عليه الصلاة والسلام، حيث صبر صبرًا عظيمًا لا يصبر عليه أحد مع الحلم والأناة والعفو والتسامح، لما خرج إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الله، يدعوهم إلى توحيد الله، يدعوهم إلى الجنة، ينقذهم من النار ماذا حصل؟ اصطفوا صفين، صفّوا سفهاءهم صفين وقالوا: اضربوا محمدًا بالأحجار، فجعلوا يضربونه بالأحجار حتى أدموا عقبه، فلم يفق إلا بقرن الثعالب، عليه الصلاة والسلام، فجاءه ملك الجبال في هذه الحال التي يمكنه أن ينتقم من أعدائه وقال له: إن الله أرسلني إليك وأمرني أن أطبق عليهم الأخشبين إن شئت، بإمكانه أن يقول: أطبقها عليهم؛ لأن الذي أرسله هو الذي يقول للشيء: كن، فيكون، سبحانه وتعالى، لكنه قال:
«لَا، أَسْتَأْنِي بِهِمْ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»(١٤)، الله أكبر، وأظهر الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا، من نصر الله بهم الإسلام وفتح بهم مشارق الأرض ومغاربها، فانظر كيف كان عاقبة الصبر والحلم والأناة، وكان ذات يوم عليه الصلاة والسلام يصلي تحت بيت الله في آمَن مكان على وجه الأرض ساجدًا لله عز وجل، فجاء سفهاء قومه فأرسلوا واحدًا منهم إلى جذور بني فلان فجاء بسلاها فرثها دمها فوضعه على ظهر النبي ﷺ وهو ساجد، ساجد لله في آمن مكان، في المكان الذي يأمن فيه المشرك الكافر، يأمن من شر قريش، ومحمد رسول الله ﷺ لم يأمن من أذاهم حتى جاءت ابنته فاطمة الصبية فأزالت الأذى عن ظهره
(١٥)، ومع ذلك صبر وصابر ولم يخرج من مكة إلا بعد أن أذن الله له، هاجر قومه ولكنه هو أبى، لم يهاجر حتى أُذِنَ له عليه الصلاة والسلام، فكان عبدًا لله في الإقامة وعبدًا لله في الهجرة عليه الصلاة والسلام.
المهم أن الصبر درجة عظيمة، يمتدح الله الصابرين، ويبين أنه يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب، وهو درجة عالية لا تُنال إلا بأمر يُصبر عليه، لا تظن أن الصبر درجة بسيطة، لا بد من شيء تصبر عليه، ولهذا على أهل العلم من المسؤولية التي يجب أن يصبروا على أذى الناس فيها ما ليس على غيرهم، كل من حمّله الله علمًا فإن تحميله ذلك العلم عهد وميثاق بينه وبين ربه أن يبلغه إلى الناس، وأن يدعو به الناس، قال الله تعالى:
﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران ١٨٧]، بماذا أخذ؟ هل أحد منكم أنتم الآن أعطاكم الله الكتاب هل أحد منكم شعر بأن الله أخذ عليه العهد والميثاق؟
* طالب: لا
* الشيخ: لا، لكن تعليم الله لكم هو عهد وميثاق، اختصكم الله بالعلم من بين سائر الجهلاء، هذا هو العهد والميثاق، يعني ما هو مبايعة حسية يشهدها الناس في المساجد أو في الفلوات، ولكنه نعمة ينعم الله بها على الإنسان، فمتى أنعم الله بالعلم على إنسان فهذا هو العهد والميثاق الذي أخذه الله، ولو أن طلبة العلم الآن الموجودين بثوا شيئًا من علمهم ليس كل علمهم لوجدت العلم منتشرًا بين الناس كثيرًا، ولكن أكثر الناس، أكثر طلبة العلم أو كثير من طلبة العلم نُسَخ الكتب أنفع للناس منهم؛ لأن علمهم لا يتجاوز صدورهم، بل إنهم قد يُعَنْوِنُون أحيانًا بأفعالهم وأقوالهم عن جهلهم وكأنه لا علم عندهم، من التقصير في العبادة، والتقصير في المعاملة، وسوء الخلق، وعدم القيام بحقوق الناس، فتجد طالب العلم تجد معاملة الجاهل العامي خيرًا منه، فهل نقول: إن هذا الرجل صبر؟ لا ما صبر؛ لأنه متى ينعى بالصبر؟ أن يبث العلم حتى يؤذى فيه، ولو تأملتم الآن لرأيتم أكثر الناس علمًا وإمامة في الدين هم الذين اشتد إيذاء الناس لهم، الإمام أحمد رحمه الله ماذا فُعل به؟ يُجر بالبغلة في الأسواق ويُضرب بالسياط حتى يفيق، إمام أهل السنة، حتى يفيق، ومع ذلك لم تثنِ هذه الأذية عزمه على أن يقول الحق، لم يُطلب منه شيء كثير، طُلب منه أن يقول: القرآن مخلوق، بس، ومع ذلك أبى، قال: القرآن مُنَزَّل غير مخلوق، (...). قال السحرة:
﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه ٧٢]، الإمام أحمد قال: لا أبالي ولْأَمُت في الجهاد في نشر العقيدة السليمة، لو أن الإمام أحمد رحمه الله قال - ولو بالتأويل -: إن القرآن مخلوق، لضل أمم، لكنه كما قال بعض العلماء: نصر الله به الإسلام يوم المحنة كما نصر الإسلام بأبي بكر يوم الردة، شيخ الإسلام ابن تيمية ما الذي حصل له؟ أوذي، حُبس عدة مرات، مات في السجن، كان يكتب وهو في السجن، ينشر العلم في السجن فمنعوا عنه الدواة والقرطاس، فجعل يكتب العلم على جدران السجن، يكتب ما يفتح الله عليه، وذكر عن نفسه أن الله فتح عليه علمًا عظيمًا؛ لأنه انقطع إلى الله عز وجل، يأتي إليه أصحابه ويأخذون ما كتبه، ماذا فعل أعداؤه؟ منعوا أصحابه عنه، قالوا: لا تدخلون على هذا الرجل تأخذون علمه، ومع ذلك صبر وانقطع إلى تلاوة القرآن وكان معه أخوه يدارسه القرآن حتى ختم قوله تعالى:
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر ٥٤، ٥٥] ففاضت نفسه رحمه الله، الله أكبر، ختام، ختام حسن، نسأل الله أن يلحقنا وإياكم وإياه بالصالحين، المهم أن الصبر درجة عالية، وأنتم بما منّ الله عليكم من العلم، والحمد لله، وفضلكم به على كثير من عباده المؤمنين يجب عليكم أن تبثوا العلم وأن تصبروا على الأذى فيه، فلذلك نقول: الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، فأي الأنواع أفضل؟ أفضلها الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عن معصية الله، ثم الصبر على أقدار الله، هذا من حيث الأصل، لكن قد يعاني الإنسان من الصبر على الأقدار أكثر مما يعاني من الصبر على الأوامر، فيؤجر من هذه الناحية من حيث المشقة، وقد يعاني من الصبر عن محارم الله أكثر مما يعاني من الصبر على طاعة الله، فيكون من هذه الناحية أكثر أجرًا بسبب المشقة، أعرفتم؟ لكن من حيث هي هي الأقسام من حيث هي هي أفضلها بلا شك الصبر على طاعة الله؛ لأن الصبر على طاعة الله جامع بين أمرين: بين حمل النفس الباطنة على هذا العمل وبين حمل الجسد الظاهر على هذا العمل؛ لأن الطاعة فعل والفعل يحتاج أولًا: عزمًا، وثانيًا: فعلًا، ففيه أمران، لكن الصبر عن المعصية فيه عمل باطن فقط وهو حبس النفس عن الفعل، ما فيه تعب بدني، لا فيه لا ركوع ولا سجود ولا قيام ولا قعود ولا بذل مال ولا شيء، كفّ فقط، ففيه معاناة باطنة فقط، ولهذا صار أقل درجة، الصبر على الأقدار ما فيه لا هذا ولا هذا؛ لأنه ليس باختيارك، أصيب الإنسان بحادث فانكسرت رجله أو يده هل هو باختياره؟ هذا ليس باختياره، فهو إما أن يصبر صبر الكرام، وإما أن يسلو سُلُوّ البهائم، ما فيه، ولهذا صار أقل درجة من القسمين الأولين؛ لأن القسمين الأولين من فعل الإنسان واختياره.
﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ﴾ الصدق هو المطابقة للواقع، المطابقة للواقع تسمى صدقًا، فالصادق هو الذي يكون خبره مطابقًا للواقع، والكاذب؟ خلاف ذلك، الصدق يكون بالقول، ويكون بالفعل، ويكون مع الله، ويكون مع عباد الله، كم الأقسام؟ أربعة: يكون بالقول، ويكون بالفعل، ويكون مع الله، ويكون مع عباد الله، أما الصدق بالقول فهو مطابقة القول للواقع، فإذا قال لك: جاء زيد، وكان قد جاء، فهو مطابق للواقع فيكون صدقًا، والصدق من صفات المؤمنين، والكذب من صفات المنافقين، وقد حث النبي عليه الصلاة والسلام على الصدق وقال:
«عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا»(١٦)، والصديقية ليست مرتبة دنيّة، بل هي التي تلي مرتبة النبيين، ولهذا كانت الصديقية في المرتبة الثانية من
﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء ٦٩]، هذا صدق القول، صدق الفعل أن يكون مطابقًا للقلب، هذا صدق الفعل، أن يكون مطابقًا للقلب، فرجل يظهر لك المودة وقلبه يبغضك، هذا صادق؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: رجل يظهر أنه مؤمن ويصلي ويتصدق ويحضر مجالس العلم لكن قلبه منطوٍ على الكفر -والعياذ بالله- هذا صادق؟ لا، هذا كاذب كذبًا فعليًّا، أظهر خلاف ما يبطن، المثالان الآن واحد مع العباد وواحد مع الله، فالمنافق كاذب مع الله، والذي يظهر لك التودد وهو يكرهك هذا كاذب مع الناس لم يصدق معك، إذن في قوله: ﴿الصَّادِقِينَ﴾ يشمل هذا وهذا؛ الصدقَ في القول والفعل مع الله ومع عباد الله، وقد أمر الله عز وجل بالصدق في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة ١١٩]، والنبي ﷺ حث عليه حثًّا عظيمًا يطلق عليه علماء النحو أيش؟ الإغراء، وهو الطلب بحث وإزعاج، قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ».وعاقبة الصادقين لا تخفى عليكم، ولو لم يكن منها إلا ذلك المثال الفذ فيما نعلم الذي جرى من كعب بن مالك رضي الله عنه وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع، حيث تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر، فلما جاء الرسول ﷺ إلى المدينة راجعًا جاء المنافقون السطحيون يعتذرون إلى الرسول ﷺ فيعذرهم؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه لا يعلم الغيب ولا يأخذ الناس إلا بالظاهر، يعذرهم ويستغفر لهم ويولّون ويظنون أنهم كسبوا، يظنون أنهم هم الأذكياء الذين جمعوا بين تهدئة النبي عليه الصلاة والسلام وتهدئة الكفار، فصاروا إخوانًا للمسلمين في الظاهر وإخوانًا للكافرين في الباطن،
﴿إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة ١٤] ما قالوا: إنا كفرنا، قالوا:
﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ [البقرة ١٤] يعني: كفر وزيادة، يعني إنهم كافرون ويعينون الكفار.
أما كعب بن مالك رضي الله عنه فكان قد أوتي جدلًا وخصومة وجيدًا في ذلك، لكنه أمام من؟ ليس أمام بشر يستطيع أن يتخلص منه بحيلة، لكنه بين يدي علام الغيوب عز وجل الذي لو كذب اليوم لفضحه غدًا، كما وقع في المنافقين قال الله عز وجل:
﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [التوبة ٩٥]، أتريدون أشد من هذا الذم وأشد من هذا العقاب؟
﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾ هذا الذم والتقبيح، العقاب:
﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، لكنه رضي الله عنه قال: لن أتخلص بحيلة اليوم وبعذر فيفضحني الله عز وجل غدًا، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بالحق بالصدق، فجاء التوفيق من الله عز وجل بامتحان هؤلاء الثلاثة هجرهم النبي عليه الصلاة والسلام وأمر بهجرهم، وبعد أن مضى أربعون ليلة أمرهم أن يعتزلوا نساءهم، حتى قال كعب رضي الله عنه لما جاءه رسول رسول الله ﷺ يأمره باعتزال أهله قال: أأطلقها؟ قال: لا، لكن اعتزلها، فهل قال: والله هذه زوجتي من أنام عنده الليلة؟ أو قال: الحقي بأهلك؟ الحقي بأهلك، قال: سمعًا وطاعة، فصبروا هذا الصبر العظيم؛ أولًا على الصدق، وثانيًا على هذا الهجر الذي يقول كعب رضي الله عنه: كنت أسلِّم على النبي ﷺ فلا أدري أحرك شفتيه برد السلام أم لا؟ الله أكبر، النبي عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خُلقًا وأعظم الناس بشاشة وأحسن الناس ردًّا يسلّم عليه كعب ولا يدري هل رد السلام أم لا، ويسلم على أبي قتادة ابن عمه وهو أحب الناس إليه، يسلم عليه ولا يرد عليه، أبو قتادة، مع أنك لو جئت اليوم في عصبية هل يترك ابن عمه لمثل هذه الأمور؟ أبدًا، والعلم عند الله، ما يترك، لكن أبو قتادة رضي الله عنه يسلّم عليه كعب ما يرد عليه السلام، يقول: فقلت له أنشدك الله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فقال بعد أن سكت هنيهة قال: الله أعلم، ما أتى بخطاب، ما قال: نعم، ولا: لا، قال: الله أعلم، والعلم عند الله أن أبا قتادة ما أراد بذلك جواب كعب، إنما أراد الخبر أن الله سبحانه وتعالى أعلم من كل أحد، ولكن بعد هذا الصبر العظيم وأيش النتيجة؟ النتيجة نزول آيات تتلى في شأنهم إلى يوم القيامة، لن يُنسى ذكرهم أبدًا، يمكن يُنسى من هو أفضل منهم من الصحابة ولكن هؤلاء لا يُنسى ذكرهم وأيش بنا نطابق الجزاء العظيم على هذا الصبر،
﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ [التوبة ١١٨] يعني: وتاب على الثلاثة الذين خُلِّفوا،
﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة ١١٨] ثم أمر المؤمنين بمثله بأن يكونوا مثلهم، فقال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، والمهم أن الصدق خلق عظيم عال رفيع لا يناله إلا مَن وُفِّق حتى يكون في الدرجة الثانية ممن أنعم الله عليهم
«لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا»(١٧).
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (١٧) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران ١٧ - ١٩]
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى في وصف الذين اتقوا عند ربهم والذين لهم ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران ١٥]. قال الله تعالى:
﴿الصَّابِرِينَ﴾ في بقية أوصافهم
﴿الصَّابِرِينَ﴾ وسبق الكلام على الصبر معناه لغة وشرعًا، وأنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، ثم قال:
﴿وَالْقَانِتِينَ﴾ القانتين اسم فاعل من القنوت،
﴿وَالصَّادِقِينَ﴾ وسبق الكلام أيضًا على الصدق وبيّنّا أنه صدق في المقال والفِعَال والعقيدة، وبيّنّا أنه صدق مع الله وصدق مع عباد الله، ثم قال:
﴿وَالْقَانِتِينَ﴾ هذا أيضًا من صفاتهم القنوت، والقنوت يطلق على عدة معانٍ، وأنسبها لهذه الآية أن المراد بالقنوت دوام الطاعة مع الخشوع والخضوع لله عز وجل، بحيث يكون الإنسان مديمًا لطاعة الله مقبلًا على الله سبحانه وتعالى في طاعته، قال الله تعالى:
﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة ٢٣٨]، أي: خاشعين، ولهذا لما نزلت هذه الآية أُمِرُوا بالسكوت ونُهُوا عن الكلام، فالقانت إذن المديم لطاعة الله مع خشوع القلب وحضوره والتزامه للإقبال على الله عز وجل،
﴿وَالْمُنْفِقِينَ﴾ المنفقين من (أنفق) أي: بذل النفقة، والنفقة هي إخراج المال، وأطلق الله سبحانه وتعالى هنا الإنفاق ولم يبيّنه لكنه سبحانه وتعالى ذكر في آيات أخرى الميزان للإنفاق، وذكر ما ينفَق عليه أو ما ينفَق له، فقال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان ٦٧]، وقال سبحانه وتعالى:
﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء ٢٩]، فهذا هو الميزان في الإنفاق أن لا يكون الإنسان مقترًا ولا مسرفًا، وإذا جعلنا هذا هو الميزان صار هذا الميزان يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والبلدان، فقد يكون الإنفاق إسرافًا بالنسبة للشخص وليس بإسراف بالنسبة لآخر، فإنفاق الفقير ليس كإنفاق الغني، ولهذا قال الله تعالى:
﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ [الطلاق ٧]، وإنفاق المتوسط بينهما، كذلك أيضًا يختلف باختلاف الزمان، فقد يكون الزمان زمان رخاء عام في هذا المجتمع، فيكون الإسراف في مجتمع دونه في الرخاء غير إسراف في حق هذا المجتمع، ويختلف كذلك باختلاف الأزمان، ففي بعض الأحيان تكون الأموال كثيرة متوفرة، فيكون الإنفاق الكثير فيها غير إسراف، وأحيانًا يكون الأمر بالعكس، على كل حال أطلق الله هنا في الآية الإنفاق وذكر ميزانه في عدة آيات، منها في سورة الفرقان:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾، أما ما الذي يُنفَق فيه أو يُنفَق له؟ قال الله سبحانه وتعالى:
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [البقرة ٢١٥]، فجهات الصرف كل جهة محتاجة أو يحتاج المسلمون إليها، إما أن تكون هي محتاجة، وإما أن يكون المسلمون محتاجين إليها، فالإنفاق في سبيل الله لحاجة من؟ لحاجة المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله؛ لأن في الجهاد في سبيل الله إعلاء كلمة الله عز وجل وحفظ شريعته، والإنفاق على الفقير لحاجة من؟ لحاجة الفقير ليس لحاجة المسلمين، بل هي لحاجة الفقير، فأنت ترى دائمًا الإنفاق إما لدفع حاجة محتاج، وإما لدفع حاجة المسلمين عمومًا، يعني في المصالح العامة، المهم أن هؤلاء منفقون، هؤلاء الذين هم من أهل الجنة منفقون، لكن إنفاقهم منضبط بضوابط شرعية.
﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ ﴿الْمُسْتَغْفِرِينَ﴾: السائلين لمغفرة الله، والمغفرة هي: ستر الذنب والتجاوز عنه، مأخوذة من الغَفْر وهو الستر بوقاية، ومنه الْمِغْفَر الذي يُجعل على الرأس عند الحرب فإنه جامع بين الستر والوقاية، أي: يسألون المغفرة.
وقوله:
﴿بِالْأَسْحَارِ﴾ الباء هنا للظرفية، أي: فيها، والأسحار جمع سَحَر وهو آخر الليل، أي: يسألون المغفرة في هذا الوقت من الزمن في آخر الليل، لماذا؟ أولًا: لأنه وقت نزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا،
«فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»(١٨)، والثاني أنه وقت فراغهم من التهجد من العمل، والإنسان مطلوب منه إذا فرغ من العبادة أن يستغفر الله، ولهذا يُشْرَع لنا أن نستغفر الله تعالى ثلاثًا بعد الصلاة، وأمر الله سبحانه وتعالى أن نستغفر في الحج، متى؟
* طالب: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾.
* الشيخ: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة ١٩٩] كذلك أيضا في آخر الليل بعد التهجد يسأل اللَّهَ المتهجدُ المغفرة، وهذا - أي سؤال المغفرة- بعد الانتهاء من العبادة فيه كمال الذل لله عز وجل، وأن الإنسان لا يعجب بعمله بل يخشى من التقصير فيه، فلهذا يستغفر عما يكون منه من نقصان وتقصير في هذه العبادة، ثم قال الله عز وجل: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران ١٨]، ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾ الشهادة قد تكون بالقول وقد تكون بالفعل، وشهادة الله سبحانه وتعالى لنفسه بانفراده بالألوهية كشهادته لرسوله ﷺ بأنه أنزل عليه الكتاب، فهنا قال: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، وقال تعالى: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ [النساء ١٦٦] وهنا قال: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ﴾، فشهادته لنفسه بالوحدانية وشهادته لنبيه ﷺ بالرسالة هو والملائكة، والشهادة كما قلت قولية كما في هذه الآية، وكما في آية النساء: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾، وفعلية وهي - أي الشهادة- ما يظهره الله سبحانه تعالى من آياته، فإن ما يظهره من آياته شهادة له بالوحدانية، كل الكائنات تشهد لله عز وجل بالوحدانية إما بلسان المقال وإما بلسان الحال، كذلك تأييده النبي ﷺ بالنصر وجعل العاقبة له شهادة له بأنه رسول الله حقًّا، فشهادة الله لنفسه بالوحدانية أقول إنها تكون بالقول وتكون بالفعل، في الآية الكريمة الشهادة بالقول ولّا بالفعل؟ بالقول ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾ يعني: أخبر عن نفسه بأنه يشهد أنه لا إله إلا هو، سبحانه وتعالى، ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ مرّت علينا هذه كثيرًا، ويجب على كل مسلم أن يعرف معناها، وأن يعرف مقتضاها أيضًا، معناها: أنه لا معبود حقٌّ إلا الله، هذا معنى الآية، كل ما عُبد من دون الله فهو باطل، وإن سُمِّي إلهًا فإن ألوهيته مجرد تسمية، لكن هو لا يستحق الألوهية وإن كان هؤلاء عبدوه واتخذوه إلهًا لكن هو نفسه أي المعبود من دون الله ليس بإله، قال الله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [يوسف ٤٠]، وليست مسميات وكيف تكون مسميات مطابقة للواقع وهي آلهة باطلة؟ هذا لا يمكن، إذن ﴿لَا إِلَهَ﴾ أي: لا معبود حق إلا الله، وأما المعبود باطل فهو موجود، كما سمى الله تعالى الأصنام آلهة في قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [يس ٧٤]، وقال: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [هود ١٠١]، وقال: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء ٩٨]، والآيات في هذا كثيرة، وقال: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء ٢١٣] ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص ٨٨]، كل هذه المعبودات تسمى آلهة لكن هل هذا الاسم مطابق للواقع؟ لا، فمعنى (لا إله إلا الله) أي: لا معبود حق إلا الله عز وجل، ويلزم من كونه المعبود أن يكون هو الرب، كما يلزم من كونه الرب أن يُعبد وحده، فتوحيده بالألوهية متضمن لتوحيده بالربوبية، ولهذا بنى الله توحيد الألوهية على توحيد الربوبية في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة ٢١]. وقوله:
﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ معطوفة على اسم الجلالة على (الله)، يعني: وشهدت الملائكة أنه لا إله إلا الله، والثالث:
﴿وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ أصحاب العلم الذين رزقهم الله سبحانه وتعالى العلم يشهدون أيضا بأنه لا إله إلا الله، ولا أحد أشد يقينًا وأقوى إيمانًا من أهل العلم، ولهذا كانوا هم أهل الخشية كما قال تعالى:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر ٢٨]، والمراد بأولو العلم هنا ليس هو العلم الدنيوي أو علم طبائع الأشياء أو علم أسرار الكون، بل المراد بالعلم العلم بالله عز وجل، أولو العلم بالله الذين عرفوا الله عز وجل بآياته الكونية والشرعية هم الذين شهدوا له بالوحدانية.
﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾،
﴿قَائِمًا﴾ حال من
﴿اللَّهُ﴾ يعني: حال كونه قائمًا بالقسط، أي: بالعدل، بالعدل في أحكامه التكليفية، والعدل في أحكامه القضائية والجزائية، فهو عدل في أحكامه التكليفية، ليس في أحكام الله تعالى التكليفية جور، كلها عدل، بل إنها مع كونها عدلًا تتضمن الفضل والعفو والإحسان، ولهذا قال الله عز وجل:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة ٢٨٦]، وقال عز وجل:
﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [المؤمنون ٦١، ٦٢]، هذا أمر زائد على العدل؛ لأنه متضمن للعفو والتسامح، كذلك في الجزاء، عدل في جزائه لا يظلم أحدًا أبدًا، بل هو ذو فضل في جزائه أيضًا؛ فإنه يجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بمثلها أو يعفو، إلا من كان كافرًا ليس أهلًا للعفو فلا يُعفى عنه، إذن
﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ في أحكامه التكليفية وفي قضائه، كذلك هو قائم بالقسط بالفصل بين عباده، فإن الله سبحانه وتعالى يقضي للمظلوم من الظالم، إما بإجابة دعوة المظلوم إن دعا على ظالمه في الدنيا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل وقد بعثه لليمن:
«إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»(١٩)، وإما بالأخذ منه من حسناته يوم القيامة، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام:
«مَنْ تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ؟»، قالوا: من لا درهم عنده ولا متاع، أو قالوا: ولا دينار، قال:
«الْمُفْلِسُ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَأْتِي وَقَدْ ظَلَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا وَشَتَمَ هَذَا وَأَخَذَ مَالَ هَذَا، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ وَإِلَّا أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ وَطُرِحَ فِي النَّارِ»(٢٠)، فلا بد من العدل بين العباد، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن الحقوق التي بين العباد من الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا، فلا بد أن يقتص للمظلوم من الظالم. فإن قال قائل: أليس الناس يصابون بالنكبات من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات؟ فالجواب: بلى، فإن قالوا: ألا يكون هذا ظلمًا؟ فالجواب: كلا ليس بظلم؛ لأن هذا بما كسبت أيدي الناس
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم ٤١]، إذن فهذه المصائب فضل؛ لأن المقصود بها تأديب الخلق وردعهم حتى يرجعوا إلى الله عز وجل، فليس هذا من باب الظلم في شيء، بل هو من باب الجزاء بالعمل لغاية حميدة وهي رجوع الناس عن ظلمهم، وقد قال الله تعالى:
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [فاطر ٤٥].
مر علينا الفرق بين القسط والإقساط، وقلنا: إن (قَسَطَ) بمعنى: جَارَ، و(أَقْسَطَ) بمعنى: عدل، وهنا قال:
﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾؛ لأن القسط نفسه هو العدل لكن (قَسَطَ) الفعل بمعنى جار، و(أقسط) بمعنى عدل، يعني: أحل القسط، كما قال تعالى:
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأنبياء ٤٧].
﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ هذا حكم بعد الشهادة، فشهد الله لنفسه بأن لا إله إلا هو، وحكم لنفسه أيضًا بأن لا إله إلا هو، فاجتمع في كلامه عز وجل الشهادة والحكم، فكان شاهدًا لنفسه حاكمًا لها في الألوهية، فهذه الجملة
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ حكم وتصديق؛ لأن المعروف في المحاكمات والمرافعات أن تؤدى الشهادة أولًا ثم يُحكم، فالله تعالى شهد أولًا وأخبر بمن شهد معه، وثانيًا حكم فقال:
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، وسبق أن المتكلمين يفسرون هذه الجملة العظيمة بأن المراد بها أيش؟ القادر على الاختراع، ففسروها بما يقر به المشركون ولم يكونوا موحِّدين، فالمشركون يقرون بأن الله هو القادر على كل شيء، وأن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبر للأمر، ومع ذلك فهل هم موحِّدون؟ لا، بل هم مشركون قاتلهم الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم لم يحققوا معنى (لا إله إلا الله)، وتعجب أن يكون هؤلاء المشركون أفهم من هؤلاء المتكلمين بمعنى (لا إله إلا الله)، هؤلاء المتكلمون كثير من المتأخرين أيضًا إذا قرأت كتبهم وجدت كلامه في الألوهية يدور على تحقيق الربوبية فقط، وهذا نقص عظيم، الربوبية يقر بها المشركون، ولم يجعلهم الرسول عليه الصلاة والسلام موحدين، ولم يجعل إقرارهم هذا مُخْرِجًا لهم من الكفر، ولا عاصمًا لدمائهم وأموالهم، ولا منجيًا لهم من النار، بل قاتلهم واستباح دماءهم وأموالهم وسبي نسائهم وذرياتهم وهم يقولون: ربنا الله، وإذا سُئلوا من خلق السماوات والأرض قالوا: الله، وإذا سُئلوا من خلقهم، قالوا: الله، وإذا سُئلوا من يحيي ويميت قالوا: الله، وإذا سُئلوا من يدبر الأمر قالوا: الله، ومع ذلك لم ينفعهم هذا الإيمان، ما يكفي الإقرار بأن الله خالق الكون ومدبره والمتصرف فيه لا يكفي في التوحيد أبدًا، ومن مات على ذلك دون أن يؤمن بأنه لا معبود حقٌّ إلا الله فإنه لم يمت على التوحيد.
وقوله:
﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾،
﴿الْعَزِيزُ﴾ أي: ذو العزة، والعزة تفسَّر بثلاثة معانٍ: عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الامتناع؛ أما عزة القدر فمعناها أن الله تعالى ذو القدر العظيم والسيادة والشرف والعظمة، إلى غير ذلك من معاني القدر والرفعة، والثاني: عزة الامتناع، يعني أنه يمتنع أن يناله السوء، ومن هذا قولهم في الأرض الشديدة الصلبة: أرض عزازٌ، يعني: قوية وصلبة لا ينالها شيء، والثالث: عزة القهر، أي أنه الغالب لكل شيء، ومنه قوله تعالى:
﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص ٢٣]، يعني: غلبني، هذه الأنواع الثلاثة كاملة لله عز وجل من جميع الوجوه؛ فهو ذو القدر العظيم، وهو ذو الامتناع الذي يمتنع عليه النقص بوجه من الوجوه، وهو الغالب الذي لا يغلبه شيء، يقول الشاعر الجاهلي:
أَيْـــــنَ الْمَفَـــــرُّ وَالْإِلَـــــهُالطَّالِــــبُ ∗∗∗ وَالْأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ لَيْسَالْغَالِبُ
فالله عز وجل غالب لكل شيء، أما
﴿الْحَكِيمُ﴾ فإنه مأخوذ من الحُكم ومن الإحكام، فهو ذو الحكم وذو الإحكام؛ أما الحكم فإنه ينقسم إلى كوني وشرعي، والإحكام بمعنى الإتقان، والإتقان يستلزم الحكمة وهي وضع الأشياء في مواضعها، تنقسم أيضًا الحكمة إلى قسمين: حكمة صورية، بمعنى أن الشيء على هذه الصورة موافق للحكمة، وإن شئنا قلنا بدل صورية لئلا يُفهم منها معنى فاسد: حكمة حالية وحكمة غائية، فالحكمة الحالية: ما عليه الشيء في الحال، والحكمة الغائية: ما ينتهي إليه الشيء، كذلك أيضًا تكون الحكمة في الأحكام الكونية وفي الأحكام الشرعية، وعلى هذا فإذا ضربت اثنين في اثنين بنسبة للحكمة بلغت أربعة، حكمة حالية في الحكم الكوني، حكمة حالية في الحكم الشرعي، حكمة غائية في الحكم الكوني، وحكمة غائية في الحكم الشرعي، كذا؟ كم قلنا؟
* طالب: الحكمة الحالية في الحكم الشرعي وفي الحكم الكوني.
* الشيخ: هذا ثنتين.
* الطالب: والحكمة الغائية في الحكم الشرعي وفي الحكم الكوني.
* الشيخ: صح، هذه أربعة، طيب، ﴿الْحَكِيمُ﴾ إذن من الحكم والإحكام، والحكم ذكرنا أنه كوني وشرعي، وبما أن هذا الأمر أو أن هذا التقسيم قد مر علينا لم يبق الآن إلا أن نتذكره فنأتي أو نطلب مثالًا للحكم الكوني، آية فيها ذكر الحكم الكوني؟
* طالب: قوله تعالى: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ [الأنعام ١٤٨].
* الشيخ: لا.
* طالب: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ [يوسف ٨٠].
* الشيخ: نعم، ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾، طيب الشرعي؟
* طالب: قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الممتحنة ١٠].
* الشيخ: وأين هو فيه؟
* طالب: في سورة المهاجرات.
* الشيخ: لما ذكر حكم المهاجرات وما يتعلق بهن قال: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، طيب، ذكرنا أن الحكم الشرعي فيه حكمة حالية وحكمة غائية؟
* طالب: الشرعي فيه حكمة حالية وحكمة غائية مثل الصلاة، والحكمة الحالية هي الركوع والسجود.
* الشيخ: يعني كونها على هذه الصفة المعينة.
* طالب: كونها على هذه الصفة المعينة التي طلبها الشرع، الحكمة الغائية هي الابتعاد عن المنكرات، والابتعاد عن الأشياء التي..
* الشيخ: يعني ما يترتب عليها من الآثار الحميدة والثواب الجزيل كذا؟ طيب، في الأمور الكونية الحكمة الحالية؟
* طالب: مثل المطر له حكمة حالية وحكمة غائية، نزول المطر بهذه الطريقة ينزل بهذه الصفة هذه حكمة صورية أو حالية، وما ينتج عنه من نبات الأرض، ومن إحياء الأرض هو حكمة غائية.
* الشيخ: سمعتم؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: ما سمعتم، يقول: المطر نزوله على هذا الوجه قطرات لا تؤثر على الناس ولا على مواشيهم ولا على بنائهم ومن علو من فوق التي تشمل المرتفع في الأرض والنازل، هذه حكمة أيش؟ حالية، الحكمة الغائية ما ينتج عن هذا المطر (...) العظيمة فهي حكمة غائية، فالحاصل أن الله حكيم بهذه الوجوه، يقول: ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ الجمع بينهما له فائدة إن شاء الله تذكر في الفوائد.نأخذ الفوائد، قال الله تعالى:
﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ إلى آخره، من فوائد هذه الآية: أهمية هذا النبأ، وذلك من وجهين، هما: تصديره بـ(قُل)، والثاني: إتيانه بصيغة الاستفهام الدالة على أيش؟ التشويق، أما الأول فقد قلنا: إن كل شيء يصدّره الله بـ(قُل) فهو أمر بتبليغه على وجه الخصوص، وهذا يدل على العناية به، وإلا فكل القرآن قد أُمِر النبي ﷺ أن يقوله للأمة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن النبي ﷺ عبد يُؤمر ويُنهى؛ لقول الله تعالى: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ﴾، وليس له حق في الربوبية أبدًا، فهو لا يحيي ولا يميت ولا يرزق ولا يدفع الضر عن نفسه ولا عن غيره ولا يعلم..عبد يُؤمر ويُنهى؛ لقول الله تعالى:
﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ﴾، وليس له حق في الربوبية أبدًا، فهو لا يحيي ولا يميت، ولا يرزق، ولا يدفع الضر عن نفسه ولا عن غيره، ولا يعلم الغيب، يمتاز عن الناس بماذا؟
* الطلبة: بالرسالة.
* الشيخ: بالرسالة ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف ١١٠].هذه الميزة ونِعمت الميزة هذه، وهو أيضًا عليه الصلاة والسلام نفسه شخصيًّا هو عنده من الاستعداد لتحمل أعباء الرسالة ما ليس عند غيره، كما قال الله تعالى:
﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام ١٢٤].
* ومن فوائد الآية الكريمة: عناية الله سبحانه وتعالى بخلقه، فإنه لما ذكر ما زُين لهم من الشهوات في الأمور السبعة يُخشى أن ينصرف الناس إلى هذه الشهوات، فمن عناية الله بهم أن أمر رسوله ﷺ أن ينبئهم بما هو خير من ذلك.
* ومن فوائد الآية الكريمة: حسن أسلوب التعليم والدعوة، وأنه ينبغي للإنسان في مقام الدعوة أن يأتي بالألفاظ التي توجب الانتباه؛ لأن الإنسان إذا قيل له: ألا أنبئك بكذا وكذا؟ سوف يتشوق وينتبه، ما هذا الذي تريد أن تنبئني فيه؟ بخلاف ما لو جاء الكلام مرسلًا لم يكن له هذا الوطأ.
* ومن فوائد الآية الكريمة: جواز المفاضلة بين شيئين بينهما فرق عظيم؛ لقوله: ﴿بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾، ومعلوم أن كل ما ذُكر من الشهوات السبع لا يساوي شيئًا أبدًا بالنسبة لثواب الآخرة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»(٢١)، وهل جاء مثل هذه الصيغة في القرآن؛ تفاضل بين شيئين بينهما فرق عظيم؟
* طالب: قوله تعالى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان ٢٤].
* الشيخ: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾، كذا؟ بل إن الله قال -تنزلًا مع الخصم أو موافقة الخصم في دعواه- قال: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُون﴾ [النمل ٥٩].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذا الخير الذي شوَّق الله العباد إليه ثابت للمتقين؛ لقوله: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ وسبق معنى التقوى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذا الخير لهؤلاء المؤمنين في أكرم جوار وهو جوار رب العالمين؛ لقوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ﴾، فأقرب الناس إلى الله هم أصحاب الجنة؛ ولهذا جعلهم الله عنده كما في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف ٢٠٦].
* ومن فوائد الآية الكريمة: عظم هذه الجنات لكونها عند الله في جواره سبحانه وتعالى.
* ومن فوائدها: أن جزاء هؤلاء المتقين هذه الدار العظيمة المشتملة على النعيم الذي لا نظير له؛ لقوله: ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، والأنهار سبق لنا أنواعها.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الحث على تقوى الله بأن ذكر ثواب المتقين يتضمن الحث على التقوى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: عناية الله سبحانه وتعالى بهؤلاء القوم؛ لقوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ والربوبية هنا؟
* الطلبة: خاصة.
* الشيخ: خاصة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء السادة يتنعمون في ثواب الله بكل أنواع النعيم بالأكل والشرب والنكاح، الأكل والشرب في قوله: ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ فمن الجنات يأكلون، ومن الأنهار يشربون، أما النكاح فقال: ﴿وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾، وهذه أصول لذائذ البدن: الأكل والشرب والنكاح.
* ومن فوائد الآية الكريمة: فضيلة الأزواج في الجنة بكونهن مطهَّرات ﴿وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾، وسبق لنا معنى التطهير أنه حسي ومعنوي.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن تمام نعيم هؤلاء برضوان الله؛ لقوله: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾، وقد بين الله تعالى في سورة التوبة أن هذا الرضوان أكبر النعيم فقال: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة ٧٢].
* ومن فوائدها: إثبات صفة الرضا لله؛ لقوله: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾، والرضا من الصفات الذاتية أو الفعلية؟
* الطلبة: الفعلية.
* الشيخ: الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته، متى وجد سبب الرضا وجد الرضا، وكل صفة تكون معلقة بسبب فإنها من الصفات؟
* الطلبة: الفعلية.
* الشيخ: الفعلية.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إحاطة الله سبحانه وتعالى بالعباد علمًا ورؤية؛ لقوله: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بيان حكمة الله عز وجل حيث قسم الناس إلى قسمين: متقين، وعصاة، من أين أخذنا ذلك؟ من قوله: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ بعد قوله: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾، فدل هذا على أن الناس قسمان: قسم متقي، وقسم غير متقي عاصي.
* ومن فوائدها: أن الله سبحانه وتعالى حكيم حيث جعل التقوى في أهلها؛ لقوله: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾، فمن بصره بعباده أن جعل هؤلاء متقين والآخرين عصاة، وهؤلاء ثوابهم الجنة، وأولئك ثوابهم النار، ولا شك أن هذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، فإن الله كما هو أعلم حيث يجعل رسالته فهو أعلم حيث يجعل ميراث رسالته، وميراث رسالته هو العلم، العلم المتضمن للدعوة والعبادة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن كل الخلق عباد لله، نأخذها من أين؟
* طالب: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾.
* الشيخ: وجه الدلالة؟
* الطالب: أن الله سبحانه وتعالى بصير بعباده.
* الشيخ: وجه الدلالة أنه عام.
* طالب: لأنه قال: ﴿بِالْعِبَادِ﴾.
* الشيخ: طيب، مع قوله: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ﴾، فدل هذا على أنه بصير بجميع العباد: المتقي وغير المتقي.
* ومن فوائدها: التحذير من مخالفة أمره؛ لأنه متى علم الإنسان أن الله بصير به فسوف يرتدع، أو فسوف يردع نفسه عن مخالفة ربه؛ لأنه إذا خالف ربه فالله بصير به وسوف يجازيه بحسب مخالفته.
(٢٢)
(١) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٥٠٧٠)، ومسلم (١٩٠٧ / ١٥٥) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ لمسلم.
(٢) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٤٨٧٨)، ومسلم (١٨٠ / ٢٩٦) من حديث عبد الله بن قيس.
(٣) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٣٢٥٦)، ومسلم (٢٨٣١ / ١١) من حديث أبي سعيد الخدري.
(٤) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٣٢٤٤)، ومسلم (٢٨٢٤ / ٢) من حديث أبي هريرة.
(٥) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٦٥٤٥) من حديث أبي هريرة، ومسلم (٢٨٤٩ / ٤٠) من حديث أبي سعيد الخدري.
(٦) أخرجه مسلم (٢٨٣٧ / ٢٢) من حديث أبي هريرة.
(٧) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٦٥٤٩)، ومسلم (٢٨٢٩ / ٩) من حديث أبي سعيد الخدري بدون كلمة «إني».
(٨) أخرجه مسلم (٨ / ١)، من حديث عمر بن الخطاب.
(٩) حديث متفق عليه؛ البخاري (٢٤٤١)، ومسلم (٢٧٦٨ / ٥٢) من حديث عبد الله بن عمر.
(١٠) الجامع لمعمر بن راشد (١١/١٨٢) من حديث ابن مسعود، موقوفًا عليه.
(١١) حديث متفق عليه؛ البخاري (٦٥٤٩)، ومسلم (١٨٣ / ٣٠٢) من حديث أبي سعيد الخدري.
(١٢) حديث متفق عليه؛ البخاري (١٤٢٣)، ومسلم (١٠٣١ / ٩١) من حديث أبي هريرة.
(١٣) حديث متفق عليه؛ البخاري (٣٤٦٥)، ومسلم (٢٧٤٣ / ٩٩) من حديث عبد الله بن عمر.
(١٤) حديث متفق عليه؛ البخاري (٣٢٣١)، ومسلم (١٧٩٥ / ١١١) من حديث عائشة.
(١٥) حديث متفق عليه؛ البخاري (٢٤٠)، ومسلم (١٧٩٤ / ١٠٧) من حديث عبد الله بن مسعود.
(١٦) حديث متفق عليه؛ البخاري (٦٠٩٤)، ومسلم (٢٦٠٧ / ١٠٥) من حديث عبد الله بن مسعود.
(١٧) حديث متفق عليه؛ البخاري (٦٠٩٤)، ومسلم (٢٦٠٧ / ١٠٥) من حديث عبد الله بن مسعود.
(١٨) حديث متفق عليه؛ البخاري (١١٤٥)، ومسلم (٧٥٨ / ١٦٨) من حديث أبي هريرة.
(١٩) حديث متفق عليه؛ البخاري (١٤٩٦)، ومسلم (١٩ / ٢٩) من حديث ابن عباس.
(٢٠) أخرجه مسلم (٢٥٨١ / ٥٩) من حديث أبي هريرة بلفظ «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟».
(٢١) أخرجه البخاري (٣٢٥٠) من حديث سهل بن سعد.
(٢٢) اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله