الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾
اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ: هَلْ هو كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ، أوْ داخِلٌ في مَضْمُونِ هَذِهِ الشَّهادَةِ؟ فَهو بَعْضُ المَشْهُودِ بِهِ.
وَهَذا الِاخْتِلافُ مَبْنِيٌّ عَلى القِراءَتَيْنِ في كَسْرِ " إنَّ " وفَتْحِها، فالأكْثَرُونَ عَلى كَسْرِها عَلى الِاسْتِئْنافِ، وفَتَحَها الكِسائِيُّ وحْدَهُ، والوَجْهُ: هو الكَسْرُ؛ لِأنَّ الكَلامَ الَّذِي قَبْلَهُ قَدْ تَمَّ، فالجُمْلَةُ الثّانِيَةُ مُقَرِّرَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَها، وهَذا أبْلَغُ في التَّقْرِيرِ، وأذْهَبُ في المَدْحِ والثَّناءِ، ولِهَذا كانَ كَسْرُ ﴿إنّا كُنّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إنَّهُ هو البَرُّ الرَّحِيمُ﴾ [الطور: ٢٨] أحْسَنَ مِنَ الفَتْحِ، وكانَ الكَسْرُ في قَوْلِ المُلَبِّي " لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ " أحْسَنَ مِنَ الفَتْحِ.
وَقَدْ ذَكَرَ في تَوْجِيهِ قِراءَةِ الكِسائِيِّ ثَلاثَةَ أوْجُهٍ:
أحَدُها: أنْ تَكُونَ الشَّهادَةُ واقِعَةً عَلى الجُمْلَتَيْنِ، فَهي واقِعَةٌ عَلى ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩] وهو المَشْهُودُ بِهِ، ويَكُونُ فَتْحُ " أنَّهُ " مِن قَوْلِهِ ﴿أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨] عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ بِأنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ، وهَذا تَوْجِيهُ الفَرّاءِ، وهو ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإنَّ المَعْنى عَلى خِلافِهِ، وأنَّ المَشْهُودَ بِهِ هو نَفْسُ قَوْلِهِ " أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو " فالمَشْهُودُ بِهِ " أنَّ " وما في حَيِّزِها، والعِنايَةُ إلى هَذا صُرِفَتْ، وبِهِ حَصَلَتْ، ولَكِنْ لِهَذا القَوْلِ - مَعَ ضَعْفِهِ - وجْهٌ، وهُوَ: أنْ يَكُونَ المَعْنى: شَهِدَ اللَّهُ بِتَوْحِيدِهِ، أنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ، والإسْلامُ: هو تَوْحِيدُهُ سُبْحانَهُ، فَتَضَمَّنَتِ الشَّهادَةُ تَوْحِيدَهُ، وتَحْقِيقَ دِينِهِ: أنَّهُ الإسْلامُ لا غَيْرُهُ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنْ تَكُونَ الشَّهادَةُ واقِعَةً عَلى الجُمْلَتَيْنِ مَعًا، كِلاهُما مَشْهُودٌ بِهِ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ الواوِ وإرادَتِها، والتَّقْدِيرُ: وأنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ، فَتَكُونُ جُمْلَةً اسْتَغْنى فِيها عَنْ حَرْفِ العَطْفِ بِما تَضَمَّنَتْ مِن ذِكْرِ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَما وقَعَ الِاسْتِغْناءُ عَنْها في قَوْلِهِ ﴿ثَلاثَةٌ رابِعُهم كَلْبُهم ويَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهم كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢] فَيَحْسُنُ ذِكْرُ الواوِ وحَذْفُها، كَما حُذِفَتْ هُنا، وذُكِرَتْ في قَوْلِهِ ﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وثامِنُهم كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢].
الوَجْهُ الثّالِثُ - وهو مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ -: أنْ يَجْعَلَ " أنَّ " الثّانِيَةَ بَدَلًا مِن
الأُولى، والتَّقْدِيرُ: شَهِدَ اللَّهُ أنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ، وقَوْلُهُ ﴿أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨] تَوْطِئَةٌ لِلثّانِيَةِ وتَمْهِيدٌ، ويَكُونُ هَذا مِنَ البَدَلِ الَّذِي الثّانِي فِيهِ نَفْسُ الأوَّلِ، فَإنَّ الدِّينَ الَّذِي هو نَفْسُ الإسْلامِ عِنْدَ اللَّهِ هو شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ والقِيامُ بِحَقِّها، ولَكَ أنْ تَجْعَلَهُ عَلى هَذا الوَجْهِ مِن بابِ بَدَلِ الِاشْتِمالِ؛ لِأنَّ الإسْلامَ يَشْتَمِلُ عَلى التَّوْحِيدِ.
فَإنْ قِيلَ: فَكانَ يَنْبَغِي عَلى هَذِهِ القِراءَةِ أنْ يَقُولَ: إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ؛ لِأنَّ المَعْنى: شَهِدَ اللَّهُ أنَّ الدِّينَ عِنْدَهُ الإسْلامُ، فَلِمَ عَدَلَ إلى لَفْظِ الظّاهِرِ؟
قِيلَ: هَذا يُرَجِّحُ قِراءَةَ الجُمْهُورِ، وأنَّها أفْصَحُ وأحْسَنُ، ولَكِنْ يَجُوزُ إقامَةُ الظّاهِرِ مَقامَ المُضْمَرِ، وقَدْ ورَدَ في القُرْآنِ وكَلامِ العَرَبِ كَثِيرًا، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ [البقرة: ١٩٦]
وَقالَ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٩]
وَقالَ تَعالى ﴿والَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالكِتابِ وأقامُوا الصَّلاةَ إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ المُصْلِحِينَ﴾ [الأعراف: ١٧٠]
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: افْتَخَرَ المُشْرِكُونَ بِآبائِهِمْ، فَقالَ كُلُّ فَرِيقٍ: لا دِينَ إلّا دِينُ آبائِنا، وما كانُوا عَلَيْهِ، فَأكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعالى فَقالَ ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩] يَعْنِي الَّذِي جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، وهو دِينُ الأنْبِياءِ مِن أوَّلِهِمْ إلى آخِرِهِمْ، لَيْسَ لِلَّهِ دِينٌ سِواهُ ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ وهو في الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [آل عمران: ٨٥].
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ عَلى أنَّهُ دِينُ جَمِيعِ أنْبِيائِهِ ورُسُلِهِ وأتْباعِهِ مِن أوَّلِهِمْ إلى آخِرِهِمْ، وأنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ قَطُّ ولا يَكُونُ لَهُ دِينٌ سِواهُ، قالَ أوَّلُ الرُّسُلِ نُوحٌ ﴿فَإنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَألْتُكم مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٧٢] وقالَ إبْراهِيمُ وإسْماعِيلُ ﴿رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ومِن ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ - ووَصّى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يابَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٢٨-١٣٢]
وَقالَ يَعْقُوبُ لِبَنِيهِ عِنْدَ المَوْتِ ﴿ما تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ﴾ [البقرة: ١٣٣]- إلى قَوْلِهِ - ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٣]
وَقالَ مُوسى لِقَوْمِهِ ﴿إنْ كُنْتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٨٤]
وَقالَ تَعالى ﴿فَلَمّا أحَسَّ عِيسى مِنهُمُ الكُفْرَ قالَ مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ قالَ الحَوارِيُّونَ نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ آمَنّا بِاللَّهِ واشْهَدْ بِأنّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٥٢]
وَقالَتْ مَلِكَةُ سَبَأٍ ﴿رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [النمل: ٤٤].
فالإسْلامُ دِينُ أهْلِ السَّماواتِ، ودِينُ أهْلِ التَّوْحِيدِ مِن أهْلِ الأرْضِ، لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِن أحَدٍ دِينًا سِواهُ، فَأدْيانُ أهْلِ الأرْضِ سِتَّةٌ: واحِدٌ لِلرَّحْمَنِ، وخَمْسَةٌ لِلشَّيْطانِ، فَدِيْنُ الرَّحْمَنِ: هو الإسْلامُ، والَّتِي لِلشَّيْطانِ: اليَهُودِيَّةُ، والنَّصْرانِيَّةُ، والمَجُوسِيَّةُ، والصّابِئَةُ، ودِينُ المُشْرِكِينَ.
فَهَذا بَعْضُ ما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ العَظِيمَةُ مِن أسْرارِ التَّوْحِيدِ والمَعارِفِ، ولا تَسْتَطِلِ الكَلامَ فِيها، فَإنَّهُ أهَمُّ مِنَ الكَلامِ عَلى كَلامِ صاحِبِ المَنازِلِ.
((الجزء الرابع))
{"ayah":"إِنَّ ٱلدِّینَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَـٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۗ وَمَن یَكۡفُرۡ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق