الباحث القرآني
﴿فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ﴾ لها ﴿أَهَكَذَا عَرْشُكِ﴾ أي: أمثل هذا عرشك؟ ﴿قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ أي: فعرفته.
﴿فَلَمَّا جَاءَتْ﴾ يعني: إلى سليمان، ونظرت إلى العرش قيل لها: ﴿أَهَكَذَا عَرْشُكِ﴾، والقائل إما سليمان أو أحد جنوده، ولم يبيَّن؛ لأن المقصود معنى هذا القول دون قائله.
وقوله: ﴿أَهَكَذَا عَرْشُك﴾ الاستفهام هنا على حقيقته، والمراد به: الاستخبار، و (الهاء) للتنبيه، و (الكاف) حرف جر حالت بين هاء التنبيه واسم الإشارة، مع أن هاء التنبيه تقترن باسم الإشارة، لكن الكاف تحول بينها وبين اسم الإشارة لمباشرة حرف الجر للمجرور ﴿أَهَكَذَا عَرْشُكِ﴾، ولكن أيضًا هو خاصٌّ بالكاف، لو أنك أتيت بحرف جر سوى الكاف ما جاز أن تفصل بينه وبين اسم الإشارة؛ لو قلت مثلًا: ألهذا حضرت؟ ما يصح تقول: أهلذا حضرت، ما يصلح، يعني: ما يفصل بين اسم الإشارة وبين هاء التنبيه بأي حرف من حروف الجر إلا بالكاف فقط.
إذن نقول: ﴿أَهَكَذَا عَرْشُكِ﴾ الجار والمجرور خبر مقدم، و﴿عَرْشُكِ﴾: مبتدأ مؤخر، وتقديم الخبر هنا جائز ولّا واجب؟ واجب لأجل الاستفهام؛ لأن له الصدارة.
وهنا ما قالوا: أهذا عرشك، بل قالوا: أهكذا عرشكِ؟ يعني: هل عرشكِ مثل هذا؟ هي أجابت بمثل ما سئلت عنه، فقالت: ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ و(كأن) للتشبيه، ولم تقل: إنه هو، ولم تنف؛ السبب أنه مشابه لعرشها من حيث الأصل ومخالف له من حيث الصفة لأنه غُيِّر، وهذا أيضًا من ذكائها أنها لما وقع في نفسها أنه عرشها لكن تغيرت صفته قالت: كأنه هو، والجواب مطابق للسؤال.
والمؤلف سلك في هذا مسلكًا غريبًا، قال: (أي: فعرفته وشبهت عليهم كما شبهوا عليها؛ إذ لم يقل: أهذا عرشكِ، ولو قيل هذا قالت: نعم).
ما ندري هل تقول: نعم أو تقول كأنه هو، إنما جوابها مطابق للسؤال ومطابق لمقتضى الحال؛ أما مطابقته للسؤال فلأنه قيل لها: أهكذا؟ يعني: أهو مثل هذا، فكان الجواب: كأنه هو، وأما مطابقته لمقتضى الحال فلأن المرأة رأت أن العرش قد غُيِّر، فلم تجزم بنفيه ولم تجزم بإثباته، إن نُظِر إلى أصل الكرسي أو العرش فهو هو، وإن نُظِر إلى صفته فليس إياه، لذلك كان جوابها جيدًا جدًّا وليس فيه تشبيه كما قال المؤلف، هذا ما فيه تشبيه.
ولو قالوا: أهذا عرشك؟ ما ندري هل تقول: نعم أو تقول: كأنه هو، وجزم المؤلف بأنها تقول: نعم ليس بصحيح، لأن المرأة ذكية جدًّا، والإنسان إذا حصل له مثل هذه الحال هل يجزم بأن ما شاهده هو ما كان يعرفه من قبل؟ ما يجزم، بل إن مقتضى الحزم والتحرز أن يقول؟ ويش كان يقول؟
* طالب: كأنه.
* الشيخ: ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾، هذا مقتضى الحزم، لا سيما مع القرائن التي تبعد أن يكون إياه كما في هذه القصة، فإنه عرش محوط محروس من مكان بعيد، فيبعُد أن يمثل أمامها في هذه الحال.
المهم يا جماعة الآن أننا نأخذ من جوابها هذا نأخذ منه ذكاءها من وجهين:
أولًا: أنها أجابت بجواب مطابق للسؤال، هذا واحد.
وثانيًا: أنها أجابت بجواب مطابق لمقتضى الحال؛ إذ الجزم بهذا تسرُّع، ونفيه تباطؤ أيضًا، واحتمال أن يكون إياه.
﴿قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ كأن للتشبيه.
* طالب: ليس في كلامها تشبيه؟
* الشيخ: لا، هو يقول: شبَّهت عليهم؛ يعني: لبست عليهم، ما قال: شبهته.
ثم قال: (قال سليمان لما رأى لها معرفة وعلمًا: ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ ).
وجه ارتباط هذا الجملة بما سبق أنه أراد أن يتحدث سليمان بما أنعم الله به عليهم من العلم، العلم يشمل العلم الشرعي، ويشمل العلم بقواعد الملك ومثبتاته، وما أشبه ذلك؛ يعني: كأنهم أو كأن الملأ من قومه لما رأوا ما رأوا من ذكائها ومعرفتها وتحرزها وتثبُّتها رأوا أمرًا عظيمًا، فأراد سليمان ﷺ أن يذكِّرهم بما هو أعظم من ذلك، وهو ما آتاهم الله تعالى من العلم السابق والإسلام: ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾.
ويرى بعض المفسرين أن قوله: ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا﴾ من قول المرأة، يعني: كأنه هو وأوتينا العلم، وأن المسألة متصلة، يصير ﴿مِنْ قَبْلِهَا﴾ أي: مِن قبل هذه القضية، أي: أننا عندنا علمًا من قبل هذه القضية فلا تعجب من علمنا بهذا فإن لنا علمًا سابقًا، ولكن هذا الاحتمال -وإن ذُكر- ضعيف، والصواب: أن هذا من قول سليمان عليه الصلاة والسلام؛ يتحدث فيه بنعمة الله سبحانه وتعالى عليه وعلى قومه السابق لمعرفة هذه المرأة.
* طالب: لا بد (...) فعل القول (...).
* الشيخ: وين؟
* الطالب: من ﴿قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ﴾؟
* الشيخ: (...) لا، ما يتعين، من قوله: ﴿وَأُوتِينَا﴾ لأنه قد يقولها أحد جنوده، ثم هو يتكلم بعد ذلك بعدما تحصل المشاهدة هذه يقول: ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا﴾.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: يجوز (...) عليها (...).
قال: ﴿وَصَدَّهَا﴾ عن عبادة الله ﴿مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ إذن ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ إعرابها أنها فاعل، يعني: صدها الذي كانت تعبد من دون الله، ويحتمل أن تكون (ما) مصدرية، أي: وصدها كونها تعبد من دون الله، لكنه وإن كان سائغًا لغة لكنه ليس له محل هنا، فـ (ما) هذه اسم موصول.
وقوله: ﴿مَا كَانَتْ تَعْبُدُ﴾ ما هو الذي تعبد من دون الله؟
* طالب: الشمس.
* الشيخ: الشمس، والعائد على (ما) الموصولة محذوف، التقدير: ما كانت تعبده من دون الله.
و(صد): بمعنى صرف، ومناسبة هذا لما سبق، أنه يقال: إذا كانت هذه المرأة بهذا الذكاء وهذه المعرفة فلماذا لم تعبد الله مع ظهور أن العبادة لله وحده؟
بيَّن أن الذي صدَّها عن عبادة الله أنها اشتغلت من أول أمرها بعبادة غير الله، لأنها كانت من قوم كافرين، فنشأت في بيئة كافرة واشتغلت بعبادة المخلوق عن عبادة الخالق، فكأن هذه المرأة مع كونها ذكية وفاهمة وعندها احتراز وتحفظ كأنها مع ذلك إنما عدلت عن عبادة الله مع ظهورها ووضوحها بسبب انشغالها بالباطل، والنفس لا بد أن تكون مشغولة إما بالحق وإما بالباطل، ولا بد أن تكون كاسبة: إما كاسبة حرامًا أو حلالًا؛ إن أخذت ما لا حق لها فيه فهي كاسبة حرامًا، وإن أخذت ما لها حق فيه فهي كاسبة حلالًا.
فهنا نقول: مناسبة قولها لقوله: ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أنه كالجواب عن سؤال مقدَّر، وأيش السؤال المقدر؟ لماذا لم تعبد الله؟ فقال: إنه صدها عن عبادة الله ما كانت تعبد من دون الله وكانت من قوم كافرين، فقد نشأت من أول أمرها في بيئة كافرة، وقد أخبر النبي ﷺ أن «كُلّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٣٨٥)، ومسلم (٢٦٥٨ / ٢٢) من حديث أبي هريرة.]].
﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ وقيل: إن (صدها) الفاعل يعود على سليمان؛ أي: أن سليمان منعها ما كانت تعبد من دون الله، أي: منعها عما كانت تعبد من دون الله بسبب ما رأت من الملك العظيم الذي لسليمان عليه الصلاة والسلام، ولكن الأول أولى بالسياق: أن ﴿مَا كَانَتْ تَعْبُدُ﴾ فاعل، لكن هنا لا بأس أن نذكر الاحتمال؛ لأنه ربما يكون عند التأمل يظهر أن هذا الاحتمال صحيح.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ يعني: بيئتها منذ نشأت وهم كافرون بالله سبحانه وتعالى يعبدون الشمس، فلهذا اشتغلت بعبادة غير الله عن عبادة الله.
وسيأتي إن شاء الله ما في هذه الجملة من الفوائد.
(﴿قِيلَ لَهَا﴾ أيضًا، ﴿ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾ ) والقائل -كما قلنا- مبهم؛ إما سليمان أو غيره.
وهذا الصرح يقول المؤلف: (هو سطح من زجاج أبيض شفاف تحته ماء عذب جار، فيه سمك اصطنعه سليمان لما قيل له: إن ساقيها وقدميها كقدمي الحمار).
أما قوله: إنه (سطح من زجاج أبيض) هذا صحيح، سطح من زجاج أبيض، والأصل في الصرح أنه البناء العالي، كما قال فرعون لهامان: ﴿ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾ [غافر ٣٦] لكنه يُطلَق على السطح وإن لم يكن عاليًا، وهذا عبارة عن سطح من زجاج وتحته ماء.
يقول المؤلف: (إنه جارٍ)، وأخذ كونه جاريًا من قوله: ﴿حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾؛ لأن اللُّجَّة هي أمواج البحر المترددة، لأن كل شيء متردد يُسمى لَجَّة، ومنه اللَّجَّة تردد الأصوات وارتفاعها، فالظاهر أن المؤلف أخذ الجريان -وإلا ما في الآية ما يدل على أنه جريان- أخذه من قوله: ﴿حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾.
وقوله: (فيه سمك) هذا ما هو بشرط، ليس فيه شرط أن يكون فيه سمك؛ لأن اللجة قد تكون فيها سمك وقد لا تكون، وقد يكون فيها سمك بعيد لا يُرى.
وكذلك أيضا قوله: (إنه ماء عذب) ما في دليل على أنه عذب ولا أنه ملح، فلا ندري، المهم أنه ماء، بدليل ما يأتي.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا، لأن العذب قد يبقى فيه السمك ما شاء الله.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: صحيح.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا، ويبقى فيه حتى هذا، بس أنه ما يعيش العيشة الكاملة، اللهم إلا كان فيه مثلما قال الإخوان: فيه أسماك خاصة في الملح، ما يكفي.
المهم على كل حال، كل هذا لا داعي له، حتى لو قال قائل: إنه ليس تحته ماء.
لو قال قائل: وأن الزجاج هذا يعطي كأنه ماء، بسبب مثلًا أضلاع فيه ولّا شيء، لو قيل بهذا لم يكن بعيدًا، لأنه ما يتعين أن يكون تحته ماء، ما هو متعين، على كل حال، ما هو متعين، لكن نحن إن تنازلنا وقلنا: إن قوله: ﴿حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾ خله زجاج شفاف وتظنه بحرًا.
وأما قوله: (لما قيل له: إن ساقيها وقدميها كقدمي الحمار) يقولون: إن الجن لما أنَّ سليمان أعجبته هذه المرأة هَمَّ أن يتزوجها فحسدوها على ذلك، فقالوا له: إن قدميها وساقيها قدما دابة وساقا دابة، وحطوها بعد حمار؛ لأنه أقبح وهذا ليس بصحيح.
وإنما المقصود من هذا الصرح اختبار المرأة أيضًا، لأنه لما قيل: ﴿ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾ هي في الحقيقة إذا كانت تحسبه لُجَّة، إذا كانت جبانة تدخل ولّا ما تدخل؟ ما تدخل أصلًا، وإذا كانت مغفلة دخلت وثيابها نازلة، وإذا كانت حازمة وشجاعة دخلت ورفعت عن ساقيها، دخلت هذا ورفعت عن ساقيها.
ثم هي أيضًا من ذكائها: أنها تعلم أنها ما أُكرمت وقيل لها: ادخلي الصرح وهي ستُدخل في بحر لُجِّيٍّ يغرقها، فعلمت أن هذا البحر أن غاية ما فيه أن يصل إلى ركبتها أو نحو ذلك، وأنه لا يمكن أن يكون بحرًا لجيًا عميقًا، لماذا؟ لأنها قيل لها على سبيل الإكرام: ﴿ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾.
فالمهم أن هذا أيضًا اختبار ثان لذكائها وحزمها وشجاعتها، وأما أن رجلها رجل حمار فهذا كذب بلا شك، والأصل فيها أنها امرأة مثل بنات آدم ليس فيها شيء من هذا.
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: ما ندري عن شريعة مَنْ سبق (...).
قال: (﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾ من الماء ﴿وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا﴾ ) وهذا لا شك أنه يدل على حزمها وقوتها وشجاعتها، لأن الإنسان الغريب إذا حصل له مثل هذا الأمر قد يقول: ما أدري، يمكن يخدعونني ربما أطب في هذا وأموت، لكنها قويَّةً وحازمة أيضًا، أقدمت على الدخول لكن مع الاحتراز عن الأذِيَّة؛ حيث رفعت عن ساقيها.
والرفع عن الساقين (إبراهيم) يقول: يؤخذ منه جواز إظهار المرأة للساقين، ونحن نقول: أولًا: لا يؤخذ منه ذلك، لأنه هنا فعلته للحاجة، وكشف المرأة ساقيها للحاجة لا بأس به حتى في شريعتنا، إذا احتاجت المرأة إلى كشف ساقيها في مثل هذه الحال فلا حرج فيه، لأن ما حُرِّم تحريم الوسائل تبيحه الحاجات كما هو مقرر في علم الأصول، المحرم تحريم وسائل تبيحه الحاجات؛ ولهذا يجوز النظر إلى العورة لأدنى حاجة، حتى إنهم قالوا: يجوز أن يحلق عانةَ مَنْ لا يُحْسِن حلْقَ عانته، وهذا بالضرورة سوف يكشف العانة لتُحْلق.
فالحاصل أننا نقول: إن كانت شريعة سليمان تبيح مثل ذلك فلا دلالة فيه، وإذا كانت لا تبيحه فإنه أيضًا لا يخالف شريعتنا، لأن الحاجة هنا تدعو إليه.
(﴿وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا﴾ لتخوضه، وكان سليمان على سريره في صدر الصرح فرأى ساقيها وقدميها حسانًا) اطمأن الآن الرجل، اطمأن، ولكنها ليست كما قال المؤلف، ما هو الغرض من هذا أن يَتَبَيَّن لسليمان هل رجلها رجل حمار ولّا رجل آدمية؟
لا، الغرض أن يعرف بهذا ذكاءها وفطنتها وشجاعتها، وكل ما تدل عليه هذه الصورة من معنىً يعود إلى المرأة فإنه يريده سليمان عليه الصلاة والسلام.
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: بيجي أكيد.
(﴿قَالَ﴾ لها ﴿إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ﴾ مملس ﴿مِنْ قَوَارِيرَ﴾ أي: زجاج).
هذه الجملة أيضًا تفيد أنه قُصِد به مع اختبارها وامتحانها إظهار عظمة ملك سليمان مثلما قُصِدَ بإحضار العرش هذا المقصد.
﴿قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ﴾ فتبين بذلك أمران؛ أحدهما: عظمة ملك سليمان؛ حيث إن الزجاج يصنع له حتى يكون كالبحر اللجي، وثانيًا: الإشارة إلى أن هذه المرأة وإن كانت ذكية وعاقلة وحازمة فإنها يَخْفَى عليها الأمر، ولّا لا؟ لأنها حسبت أن هذا الزجاج لُجَّة من الماء مع أنه ليس كذلك، ففيه نوع من إظهار ضعفها أيضًا؛ حيث إنه ظَنَّت الأمر على خلاف ما هو عليه.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في هذا من فوائد الآيات ما..
* الطالب: (...) صرح ممرد من قوارير أنه ليس به ماء؟
* الشيخ: (...) ما يستبعد؛ لأن وجود الماء تحتها مثل ما قلتُ ما هو بلازم.
﴿قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ﴾ حينئذٍ عرفت مكانها وعرفت مكانة سليمان.
وقوله: (ودعاها إلى الإسلام) ليس في الآية ما يدل عليه، بل إن الظاهر ألجأها ما شاهدته إلى أن تُسْلِم؛ لأنها شاهدت أمورًا؛ منها إتيان عرشها، ومنها: هذا الصرح العظيم الممرد من القوارير.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: هي ﴿قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾.
ومنها أيضًا: أن سليمان عليه الصلاة والسلام أخبرها بعظمته وقوته؛ حيث إن هذا صرح ممرد من القوارير وليس ماءً، حينئذٍ اعترفت (فقالت: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ بعبادة غيرك).
وعبادة غير الله من أعظم الظلم، قال الله تعالى عن لقمان لما قال لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان ١٣]؛ لأن أعظم الظلم أن تتسلط على من حقه أبين وأوضح، ولا أبين وأوضح من حق الله على العباد؛ لهذا كان الشرك أظلم الظلم.
عندما تخاصم إنسانًا وأنت تعرف أن الحق له لا لك تُعَدُّ ظالمًا، عندما يشتبه عليك الأمر بحيث ترجح ثمانين في المئة أنه له وعشرين في المئة أنه لك، يكون هذا الظلم أخف من الأول، عندما يكون خمسين في المئة لك وخمسين في المئة له يكون أخف من الثاني، عندما ترجح ثلاثين في المئة له وسبعون لك يكون أخف، وهكذا.
فالمهم أن الظلم يكون أقبح وأشنع بحسب ظهور الحق وبيانه، وأظهر الحقوق وأبينها: عبادة الله سبحانه وتعالى، فيكون أظلم الظلم الإشراك مع الله، أن تشرك مع الله أحدًا؛ ولهذا تقول: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾.
إذن: النفس عندك أمانة يجب عليك أن تسعى لها بما فيه خيرها، فأنت يجب أن تسعى لنفسك بما هو خير لها؛ فإن تجرأت على ما ليس لك فقد ظلمت نفسك، أو فرطت فيما يجب عليك فقد ظلمت نفسك، وإذا كنت لا تستطيع أن تتصرف في بدنك بما تريد فكيف تستطيع أن تتصرف في فعلك بما تريد؟!
لو أن إنسانًا قال لشخص: أنا بأعطيك إصبعي، اقطع إصبعي وحطه (...) اللي ناقص باصبعك بيجوز؟
* طالب: ما يجوز.
* الشيخ: ما يجوز، لو قال: بقلع عيني لك وحطها بعينك اللي ما تشوف يجوز؟
* الطالب: لا يجوز.
* الشيخ: لا يجوز، إذا كان هذا لا يمكن في جسم مآله إلى الفناء فكيف يكون ذلك في الأفعال التي عليها مدار سعادة العبد؟ فلا يجوز أن تتصرف في أفعالك فيما يعود على نفسك بالضرر، فإن فعلت فأنت ظالم.
قالت: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (﴿أَسْلَمْتُ﴾ كائنةً ﴿مَعَ سُلَيْمَانَ﴾ ).
أفاد المؤلف بتقدير كائنة أن الظرف في قوله: ﴿مَعَ سُلَيْمَانَ﴾ في موضع الحال، يعني: أسلمت حالة كوني مع سليمان، لمن؟ لله رب العالمين، هنا تعتبر مسلمة ولّا لا؟
* طالب: نعم (...).
* الشيخ: إي، إذا قال الرجل: أسلمت، لو ما قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فقد أسلم، ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات ١٤] فإذا عَبَّر الإنسان عن العمل بما يدل عليه من فعل؛ حُكِم عليه به، ولهذا لو قال قائل لإنسان: حلفت عليك أن تفعل كذا صار يمينًا، لو ما قال: والله، أو حلفت لا أفعل كذا، صار يمينًا وإن لم يقل بالله، لأن هذا هو الفعل.
إذا قال: أسلمت صار إسلامًا، وإن لم يقل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
* طالب: (...).
* الشيخ: يستعمل كثيرًا، إذن نقول: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فيها أنها أسلمت إسلامًا كاملًا؛ حيث أقرت بألوهية الله في قولها: ﴿لِلَّهِ﴾، وبربوبية العامة في قولها: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
قال المؤلف: (وأراد تزوجها فكره شعر ساقيها، فعملت له الشياطين النُّورَة فأزالته) والله الحقيقة أنها مشكلة هذه.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: (...) عملت له الشياطين النورة، والنورة تزيل الشعر، ويقال: إن أول من عملت له النُّورَة ساق بلقيس بأمر سليمان حيث إن الشياطين عملتها له، وكل هذا كذب.
ويجب أن يُنَزَّه كلام الله عن مثل هذه الأشياء، وموقفنا مع مثل هؤلاء العلماء أن نسأل الله لهم العفو، وأن الله يسامحهم؛ لأن كونهم يضعون في كلام الله مثل هذه الأمور هذا من الأشياء التي يتنقص بها الإنسان كلام الله عز وجل، وأكثر ما وردت هذه كما قال ابن كثير في هذا الموضع عن رجلين وهما: كعب الأحبار ووهب بن منبه، فإنهما أدخلا كثيرًا من الإسرائيليات في كلام الله وغيره مما ينقلون نسأل الله أن يعفو عنهم.
قال: (فأزالته فتزوجها وأحبَّها وأقرَّها على ملكها، وكان يزورها في كل شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام) إقامة المتزوج بالثيب (...).
ذكرنا في قوله: ﴿نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا﴾ فائدة الاختبار؛ اختبار الشخص لمعرفته وذكائه مثل هذا اللي حصل.
وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾.
* يستفاد منه: التورية في الكلام، وهو أن يُظْهِر الإنسان شيئًا غير ما يريد، فإن قولهم: ﴿أَهَكَذَا﴾ تورية؛ لأن حقيقة الأمر أن العرش الذي بين أيديهم هو عرشها، فكان مقتضى الاستفهام أن يقولوا: أهذا عرشك؟ لكن أتوا بصيغة التورية لإبعاد الأمر؛ لأن كونها عرشها قد تتسرع وتقول: لا؛ لأنها تستبعد أن يكون حضر في هذه المدة وعليه الحرس وعليه المغاليق، فقيل لها: أهكذا عرشكِ؟
وقولها: ﴿قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ فيه دليل على: أن الجواب ينبغي أن يكون مطابقًا للسؤال، لأنها قالت: ﴿كَأَنَّهُ﴾ بالتشبيه، ولم تقل: هو.
* وفيه دليل على: ذكاء هذه المرأة واحترازها مما يخشى أن يكون خطأً؛ لأنها لو قالت: لا، فقد يكون هو، ولو قالت: نعم، فقد يكون غيره؛ فقالت: ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ فاختارت هذا للسببين اللذين ذكرناهما في وقت التفسير.
* وفي هذا دليل على: أنه ينبغي للإنسان أن يتحدث بنعمة الله تبارك وتعالى عليه؛ لقوله: ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾؛ لأن الصحيح أن هذه الجملة من كلام مَن؟ من كلام سليمان، وإن كان بعضهم يطرح احتمال أنه من كلامها، لكن الصحيح أنه من كلام سليمان.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا، الله ما يصف نفسه بأنه مسلم، ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ﴾ ما قال: آتينا.
﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾.
* يستفاد من هذه الجملة: أن الإنسان لا بد أن يُشْغِل نفسه، أو لا؟ فلا بد أن تكون النفس مشغولة إما بحق وإما بباطل، فهذه المرأة اشتغلت بالباطل عن الحق، وقد قيل من الحِكَم: إن لم تشغل نفسك بالحق شغلتك بالباطل.
وقيل أيضًا: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وهذا صحيح، وفي الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: «كُلُّكُمْ حَارِثٌ، وَكُلُّكُمْ هَمَّامٌ»[[قال صاحب تمييز الطيب من الخبيث ص ١١٧: ليس بحديث، ويقرب منه: «أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ».]] فلا بد للإنسان أن يهمَّ ويعملَ، لكن إما بخير أو بغيره.
﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
* وفي هذا دليل على: أن البيئة لها تأثير؛ لقوله: ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ فهؤلاء القوم أَثَّروا عليها فصارت كافرة تعبد مع الله غيره.
* وفيه: التحذير من مصاحبة الأشرار؛ لقوله: ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ حتى لو كانوا من أقاربك فلا ينبغي أن تصاحبهم، وإذا كان لهم حق عليك بالقرابة فأعطهم حقهم الذي لهم، ولكن لا تكن مخالطًا لهم ومصاحبًا لهم؛ لأن النبي ﷺ قال فيما يروى عنه: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ» وهو حديث حسن «فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»[[أخرجه أبو داود (٤٨٣٣)، والترمذي (٢٣٧٨)، وأحمد (٨٠٢٨) واللفظ له من حديث أبي هريرة.]]، «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» وهذا شيء واقع يشهد له التاريخ السابق والحديث.
* الطالب: البيئة عذر للإنسان؟
* الشيخ: ما تعتبر عذرًا، الواجب على الإنسان أن يفارق هذه البيئة؛ ولهذا وجبت الهجرة على من استطاع أن يهاجر، ولكن الرسول لما يقول: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» يُخْبِر، والخبر لا يلزم منه الجواز، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٣٢٠)، ومسلم (٢٦٦٩ / ٦) من حديث أبي سعيد.]] وهذا خَبَر، هل معناه أنه يجوز أن نفعل؟ وأخبر قال: «وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تَقُومَ الظَّعِينَةُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ»[[أخرجه البخاري (٣٥٩٥) من حديث عدي بن حاتم بنحوه.]] فهل معنى ذلك أنه يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم؟ لا، فما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام مما يقع لا يلزم منه الجواز.
﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا﴾ إلى آخره.
* فيه دليل على: عظمة ملك سليمان وتسخير الله له، ففي ذلك الوقت حسب علمنا ليس هناك أفران تَصْهَر الزجاج ويفعل بها الإنسان كما يشاء، ولكن لا شك أن الزجاج موجود، قد يكون مستخرجًا من البحر تستخرجه الشياطين، وقد يكون هناك أيضًا مصاهر وأفران حسب حالهم، ولهذا قال الله عن الشياطين: إنهم ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ [سبأ ١٣] ﴿جِفَانٍ﴾ جمع جفنة وهي الصحفة.
﴿كَالْجَوَابِ﴾ ﴿الْجَوَاب﴾ ما هي؟
* طالب: الجابية.
* الشيخ: جمع جابية وهي البِركة، يعني كبيرة.
﴿وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ يعني: ما تُنْقَل لكبرها وعِظمها.
فالحاصل أنا نقول: إن هذا فيه دليل على عظمة ملك سليمان؛ حيث سُخِّر له الجن والإنس يعملون له ما يشاء.
* وفيه دليل على: جواز اختبار المرء كما سبق.
وهذه القصة فيها عدة اختبارات؛ لقوله: ﴿ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾ ليرى هل تهاب فلا تدخل، أو تغامر فتدخل بدون تحرُّز، أم ماذا تصنع؟ فالمرأة لذكائها دخلت ولكن مع التحفظ والاحتراز كشفت عن ساقيها، أي: رفعت ثوبها حتى بان الساقان.
* وفي هذا دليل على: أن المرأة من قديم الزمان زينتها التَّسَتُّر؛ لأن قوله: ﴿وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا﴾ دليل على أن الأصل أنها مستورة، وهو كذلك، بخلاف الرجل، فإن «إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ فَوْقَ نِصْفِ سَاقِهِ» أو قال: «نِصْفُ سَاقِهِ»[[أخرجه النسائي في الكبرى (٩٦٢٦) من حديث أبي هريرة بنحوه.]]، نسيت اللفظ، الآن أصبح الأمر بالعكس عند كثير من المسلمين مع الأسف، فأصبح الرجال ثيابهم مسبلة، والنساء ثيابهن قصيرة، وهذا خلاف الفطرة التي فطر الله عليها الخلق.
* وفي هذا دليل على: أن الرؤية قد تكذب، وأن ما يدرك بالحواس ليس على الأمر الواقع مئة بالمئة، لقوله: ﴿حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾ فإن هذا كما هو الواقع صرح ممرد من قوارير وتنظر إليه نظر العين ومع ذلك تحسبه لجة، فدل هذا على أن ما يُدرك بالحواس قد يقع فيه الخطأ، أليس كذلك؟ قد يرى الإنسان الشيء المتحرك ساكنًا والساكن متحركًا، والأبيض أسود، والرجل امرأة، بل قد يتخيل له في بصره شيء وليس له حقيقة، وكذلك بالنسبة للسمع، وبهذا نعلم أن الشهادات وروايات الأخبار وغيرها كلها يمكن أن يقع فيها الخطأ وليست معصومة مئة بالمئة، ولكن لا شك أنه كلما تواردت الأخبار وتكاثرت فإنه يدل على أن الأمر متأكد، ولكن نفي احتمال الخطأ مهما بلغ الرائي أو السامع من القوة والأمانة، فإن الخطأ عرضة فيما رأى أو فيما سمع، بل في الملمس الآن، قد تلمس الشيء فتظنه ليِّنًا أو أملس وبالعكس، الرجل الفلاح يلمس الشيء الخشن فيظنه أملس، والناعم يلمس الخشن البسيط جدًّا فيجده كالشوك.
فالحاصل أن المسألة حتى في الأمور الحسيَّة الخطأ يمكن أن يقع، فما بالك بالأمور العقلية؟ من باب أولى وأعظم، وبه نعرف ضعف الإنسان، وأنه بحاجة ماسَّة إلى علم الشرع والوحي، مهما بلغ فإنه بحاجة إلى هذا الأمر.
* طالب: (...) الحواس من القطعيات؟
* الشيخ: نعم.
* الطالب: (...) يصبح خطأ؟
* الشيخ: لا، ما هو به، هذا شك، هو من القطعيات، لكنها باعتبار الفكر واعتبار العقل صحيح في مثل هذا إنما الوهم قد يقع فيها.
* وفيه أيضًا في قوله: ﴿إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ﴾: دليل على أنه ينبغي تأكيد الكلام في موضعه، ما قال: هذا صرح، قال: إنه صرح، و(إِنَّ) للتوكيد، والتوكيد هنا في محله؛ لأنها هي وإن لم تكن منكرة لكن حالها حال المنكر؛ حيث ظنته لُجَّة وكشفت عن ساقيها.
* وفي هذا دليل؛ في قوله: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ دليل على أن الله تبارك وتعالى قد يَهَب المرء ما يوجب له أن يسلم، بل قد يُيَسِّر له الأسباب التي توجب إسلامه بكل سهولة، هذه المرأة حسب القصة ما وجدنا أنها دُعِيت وأُكِّد عليها وبُيِّن لها الخطأ إلا في قوله في أول القصة: ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ لكن لما شاهدت ما شاهدت من عظمة ملك سليمان وقوته عرفت أنه لا بد أن تسلم، فهكذا إذا يسَّر الله تعالى للعبد ما به الهداية فإنه يكون الأمر عليه يسيرًا، وإذا لم تُيَسَّر له أصبح كل مانع يمنعه من الاهتداء، وإن لم يكن مانعًا قويًا.
* وفي هذا دليل على: أن المرأة آمنت بسليمان، لم تُسْلِم إسلامًا مطلقًا؛ لأنه قال: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ﴾ فدل هذا على أنها آمنت به، لأن (مع) للمصاحبة، فكانت من أصحابه المؤمنين به.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: الأخير هذ ا؟ (...)لم تؤمن إيمانًا مطلقًا؛ يعني ما قالت: إني أسلمت لله فقط، بل صرَّحت بأنها تابعة لسليمان.
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: أقول هذا؛ لقولها: ﴿مَعَ سُلَيْمَانَ﴾ يعني مثلًا ما آمنت بنبيٍّ آخر أو بشريعة أخرى، آمنت بشريعة سليمان فكانت من قومه مع أنها كانت في سبأ في اليمن وسليمان في الشام.
وفي هذا دليل في قوله: ﴿إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ دليل على أن المعاصي ظلم للنفس، وسبق وجه ذلك، وأن الإنسان مؤتمن على نفسه من حيث السلوك والسير، مؤتمن على نفسه من حيث التصرف في ماله، مؤتمن على نفسه من حيث التصرف في بدنه؛ ولهذا نُهي عن إضاعة المال، ونهي عن قتل النفس: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء ٢٩]، ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة ١٩٥]، وأُمِر بالدواء: «تَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»[[أخرجه أبو داود (٣٨٧٤) من حديث أبي الدرداء.]]، وأُمِر بالأكل وبالشرب وباللباس وبالوقاية من الحر والوقاية من البرد، كل هذا من أجل حفظ النفس التي هي أمانة عنده، فالإنسان ليس حرًّا يتصرف كما يشاء في بدنه أو كما يشاء في سلوكه أو كما يشاء في ماله، لا، هو مقيَّد.
* الطالب: (...) هي الأمارة؟
* الشيخ: نعم.
* الطالب: وهنا نُسب الفاعل.
* الشيخ: إي نعم؛ لأن الإنسان فيه نفسان، وقيل: ثلاثة أنفس: أمارة، ومطمئنة، ولوَّامة، والصواب: أن اللوامة من صفات الثنتين، ولكن فيه أمارة وهي التي تأمر بالشر وتنهى عن الخير، وفيه مطمئنة وهي التي تأمر بالخير، إذا ظلمت نفسي التي يقوله المطمئن.
* وفي هذه الآية: إثبات عموم ربوبية الله؛ لقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ولا أحد له الربوبية العامة الشاملة سوى الله عز وجل، الإنسان قد يكون ربًّا لبيته، وقد يكون ربًّا لدابته، وقد يكون ربًّا لمملوكه، كما في الحديث الصحيح: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠)، ومسلم (٩ / ٥) من حديث أبي هريرة.]].
وتقدم لنا في التفسير أن ما ذكره المؤلف من هذه الإسرائيليات أنه لا يجب التصديق به، بل ما كان منها مخالفًا للقرآن أو لا يليق بحال النبي فإنه يجب تكذيبه، وما كان منها ليس مخالفًا ولا منافيًا لما يليق بالنبي فإنه لا يصدَّق ولا يكذَّب.
* الطالب: ولا يُكْتَب؟
* الشيخ: نعم؟ ولا يُكْتَب، ولا ينبغي أن يكتب في التفسير؛ لأنه إذا حسب في التفسير معناه أنه صُدِّق حيث جُعِلَ تفسيرًا لكلام الله.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ [النمل ٤٥].
* طالب: بالنسبة لبلقيس كيف أسلمت بهذه السرعة عندما رأت ماله؟
* الشيخ: رأت عظمة سليمان وجنوده؛ وهي تذكر كتابه الذي قال: ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِين﴾ تذكر أن هذا الرجل لا بد إما أن تسلم وإما أن يقضي عليك.
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: ولكنها أسلمت.
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: نرى هذا مشهورًا، لكن ما نختاره، الظاهر أنه من الأشياء التي لا تُصدَّق ولا تُكذَّب، لكنه لا بأس، لاشتهارها ما في مانع.
{"ayahs_start":41,"ayahs":["قَالَ نَكِّرُوا۟ لَهَا عَرۡشَهَا نَنظُرۡ أَتَهۡتَدِیۤ أَمۡ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِینَ لَا یَهۡتَدُونَ","فَلَمَّا جَاۤءَتۡ قِیلَ أَهَـٰكَذَا عَرۡشُكِۖ قَالَتۡ كَأَنَّهُۥ هُوَۚ وَأُوتِینَا ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهَا وَكُنَّا مُسۡلِمِینَ","وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعۡبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ إِنَّهَا كَانَتۡ مِن قَوۡمࣲ كَـٰفِرِینَ","قِیلَ لَهَا ٱدۡخُلِی ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةࣰ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَیۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحࣱ مُّمَرَّدࣱ مِّن قَوَارِیرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّی ظَلَمۡتُ نَفۡسِی وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَیۡمَـٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"],"ayah":"وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعۡبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ إِنَّهَا كَانَتۡ مِن قَوۡمࣲ كَـٰفِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق