الباحث القرآني

(p-٧٥)﴿قالَ ياأيُّها المَلَأُ أيُّكم يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ ﴿قالَ عِفْريتٌ مِنَ الجِنِّ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِن مَقامِكَ وإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أمِينٌ﴾ ﴿قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ ومَن شَكَرَ فَإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ومَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ ﴿قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أتَهْتَدِي أمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ﴾ ﴿فَلَمّا جاءَتْ قِيلَ أهَكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأنَّهُ هو وأُوتِينا العِلْمَ مِن قَبْلِها وكُنّا مُسْلِمِينَ﴾ ﴿وصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إنَّها كانَتْ مِن قَوْمٍ كافِرِينَ﴾ ﴿قِيلَ لَها ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمّا رَأتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِن قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ . فِي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَرَجَعَ المُرْسَلُ إلَيْها بِالهَدِيَّةِ، وأخْبَرَها بِما أقْسَمَ عَلَيْهِ سُلَيْمانُ، فَتَجَهَّزَتْ لِلْمَسِيرِ إلَيْهِ، إذْ عَلِمَتْ (p-٧٦)أنَّهُ نَبِيٌّ ولا طاقَةَ لَها بِقِتالِ نَبِيٍّ. فَرُوِيَ أنَّها أمَرَتْ عِنْدَ خُرُوجِها إلى سُلَيْمانَ، فَجَعَلَ عَرْشَها في آخِرِ سَبْعَةِ أبْياتٍ، بَعْضُها في جَوْفِ بَعْضٍ، في آخِرِ قَصْرٍ مِن قُصُورِها، وغَلَّقَتِ الأبْوابَ ووَكَّلَتْ بِهِ حُرّاسًا يَحْفَظُونَهُ، وتَوَجَّهَتْ إلى سُلَيْمانَ في أفْيالِها وأتْباعِهِمْ. قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدّادٍ: فَلَمّا كانَتْ عَلى فَرْسَخٍ مِن سُلَيْمانَ، قالَ: ﴿أيُّكم يَأْتِينِي بِعَرْشِها﴾ ؟ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ سُلَيْمانُ مَهِيبًا، لا يُبْتَدَأُ بِشَيْءٍ حَتّى يَكُونَ هو الَّذِي يَسْألُ عَنْهُ. فَنَظَرَ ذاتَ يَوْمٍ رَهْجًا قَرِيبًا مِنهُ فَقالَ: ما هَذا ؟ فَقالُوا: بِلْقِيسُ، فَقالَ ذَلِكَ. واخْتَلَفُوا في قَصْدِ سُلَيْمانَ اسْتِدْعاءَ عَرْشِها. فَقالَ قَتادَةُ، وابْنُ جُرَيْجٍ: لَمّا وُصِفَ لَهُ عِظَمُ عَرْشِها وجَوْدَتُهُ، أرادَ أخْذَهُ قَبْلَ أنْ يَعْصِمُها وقَوْمَها الإسْلامُ ويَمْنَعُ أخْذَ أمْوالِهِمْ، والإسْلامُ عَلى هَذا الدِّينِ، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ أنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِن نَبِيٍّ أُوتِيَ مُلْكًا لَمْ يُؤْتَهُ غَيْرُهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ زَيْدٍ: اسْتَدْعاهُ لِيُرِيَها القُدْرَةَ الَّتِي هي مِن عِنْدِ اللَّهِ، ولِيُغْرِبَ عَلَيْها سُلَيْمانُ والإسْلامُ عَلى هَذا الِاسْتِسْلامِ. وأشارَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِقَوْلٍ، فَقالَ: ولَعَلَّهُ أُوحِيَ إلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِاسْتِيثاقِها مِن عَرْشِها، فَأرادَ أنْ يُغْرِبَ عَلَيْها ويُرِيَها بِذَلِكَ بَعْضَ ما خَصَّهُ بِهِ مِن إجْراءِ العَجائِبِ عَلى يَدِهِ، مَعَ اطِّلاعِها عَلى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، وعَلى ما يَشْهَدُ لِنُبُوَّةِ سُلَيْمانَ ويُصَدِّقُها. انْتَهى. وقالَ الطَّبَرِيُّ: أرادَ أنْ يَخْتَبِرَ صِدْقَ الهُدْهُدِ في قَوْلِهِ: ﴿ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ.﴾ [النمل: ٢٣] وهَذا فِيهِ بُعْدٌ، لِأنَّهُ قَدْ ظَهَرَ صِدْقُهُ في حَمْلِ الكِتابِ، وما تَرَتَّبَ عَلى حَمْلِهِ مِن مَشُورَةِ بِلْقِيسَ قَوْمَها وبَعْثِها بِالهَدِيَّةِ. وقِيلَ: أرادَ أنْ يُؤْتى بِهِ، فَيُنَكَّرَ ويُغَيَّرَ، ثُمَّ يَنْظُرَ أتُثْبِتُهُ أمْ تُنْكِرُهُ، اخْتِبارًا لِعَقْلِها. والظّاهِرُ تَرْتِيبُ هَذِهِ الأخْبارِ عَلى حَسْبِ ما وقَعَتْ في الوُجُودِ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: ﴿أيُّكم يَأْتِينِي بِعَرْشِها﴾ ؟ حِينَ ابْتَدَأ النَّظَرَ في صِدْقِ الهُدْهُدِ مِن كَذِبِهِ لِما قالَ: ﴿ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ [النمل: ٢٣] . فَفي تَرْتِيبِ القَصَصِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، وفي قَوْلِهِ: ﴿أيُّكم يَأْتِينِي بِعَرْشِها﴾ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ الِاسْتِعانَةِ بِبَعْضِ الأتْباعِ في مَقاصِدِ المُلُوكِ، ودَلِيلٌ عَلى أنَّهُ قَدْ يُخَصُّ بَعْضُ أتْباعِ الأنْبِياءِ بِشَيْءٍ لا يَكُونُ لِغَيْرِهِمْ، ودَلِيلٌ عَلى مُبادَرَةِ مَن طَلَبَ مِنهُ المُلُوكُ قَضاءَ حاجَةٍ، وبَداءَةِ الشَّياطِينِ في التَّسْخِيرِ عَلى الإنْسِ، وقُدْرَتِهِمْ بِأقْدارِ اللَّهِ عَلى ما يَبْعُدُ فِعْلُهُ مِنَ الإنْسِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: عِفْرِيتٌ، وأبُو حَيْوَةَ: بِفَتْحِ العَيْنِ. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ، وأبُو السَّمّاكِ، وعِيسى، ورُوِيَتْ عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: عِفْرِيَةٌ، بِكَسْرِ العَيْنِ، وسُكُونِ الفاءِ، وكَسْرِ الرّاءِ، بَعْدَها ياءٌ مَفْتُوحَةٌ، بَعْدَها تاءُ التَّأْنِيثِ. وقالَ ذُو الرُّمَّةِ: ؎كَأنَّهُ كَوْكَبٌ في إثْرِ عِفْرِيَةٍ مُصَوَّبٌ في سَوادِ اللَّيْلِ مُقْتَضِبُ وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: عِفْرٌ، بِلا ياءٍ ولا تاءٍ، ويُقالُ في لُغَةِ طَيْـئٍ وتَمِيمٍ: عِفْراةٌ بِالألِفِ وتاءِ التَّأْنِيثِ، وفِيهِ لُغَةٌ سادِسَةٌ عُفارِيَةٌ، ويُوصَفُ بِها الرَّجُلُ، ولَمّا كانَ قَدْ يُوصَفُ بِهِ الإنْسُ خُصَّ بِقَوْلِهِ مِنَ الجِنِّ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: اسْمُهُ صَخْرٌ. وقِيلَ: كُورى. وقِيلَ: ذَكْرانُ. و﴿آتِيكَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُضارِعًا واسْمَ فاعِلٍ. وقالَ قَتادَةُ، ومُجاهِدٌ، ووَهْبٌ: ﴿مِن مَقامِكَ﴾ أيْ مِن مَجْلِسِ الحُكْمِ، وكانَ يَجْلِسُ مِنَ الصُّبْحِ إلى الظَّهْرِ في كُلِّ يَوْمٍ. وقِيلَ: قَبْلَ أنْ تَسْتَوِيَ مِن جُلُوسِكَ قائِمًا. ﴿وإنِّي عَلَيْهِ﴾ أيْ عَلى الإتْيانِ بِهِ ”لَقَوِيٌّ“ عَلى حَمْلِهِ؛ ”أمِينٌ“: لا أخْتَلِسُ مِنهُ شَيْئًا. قالَ الحَسَنُ: كانَ كافِرًا، لَكِنَّهُ كانَ مُسَخَّرًا، والعِفْرِيتُ لا يَكُونُ إلّا كافِرًا. ﴿قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عَلَمٌ مِنَ الكِتابِ﴾ قِيلَ: هو مِنَ المَلائِكَةِ، وهو جِبْرِيلُ، قالَهُ النَّخَعِيُّ. والكِتابُ: اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، أوْ كِتابُ سُلَيْمانَ إلى بِلْقِيسَ. وقِيلَ: مَلَكٌ أيَّدَ اللَّهُ بِهِ سُلَيْمانَ. وقِيلَ: هو رَجُلٌ مِنَ الإنْسِ، واسْمُهُ آصَفُ بْنُ بَرْخِيا، كاتِبُ سُلَيْمانَ، وكانَ صِدِّيقًا عالِمًا قالَهُ الجُمْهُورُ. أوْ أسْطُوامُ، أوْ هُودٌ، أوْ مَلِيخا، قالَهُ قَتادَةُ. أوْ أسْطُورُسُ، أوِ الخَضِرُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَهُ ابْنُ لَهِيعَةَ. وقالَتْ جَماعَةٌ: هو ضَبَّةُ بْنُ أُدٍّ جَدُّ بَنِي ضَبَّةَ، مِنَ العَرَبِ، وكانَ فاضِلًا يَخْدُمُ سُلَيْمانَ، كانَ عَلى قِطْعَةٍ مِن خَيْلِهِ، وهَذِهِ أقْوالٌ مُضْطَرِبَةٌ، وقَدْ أبْهَمَ اللَّهُ اسْمَهُ، فَكانَ يَنْبَغِي أنْ لا يُذْكَرَ اسْمُهُ حَتّى يُخْبِرَ بِهِ نَبِيٌّ. ومِن أغْرَبِ الأقْوالِ أنَّهُ سُلَيْمانُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَأنَّهُ يَقُولُ (p-٧٧)لِنَفْسِهِ: ﴿أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ أوْ يَكُونُ خاطَبَ بِذَلِكَ العِفْرِيتَ، حَكى هَذا القَوْلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ، كَأنَّهُ اسْتَبْطَأ ما قالَ العِفْرِيتَ، فَقالَ لَهُ سُلَيْمانُ ذَلِكَ عَلى تَحْقِيرِ العِفْرِيتِ. والكِتابُ: هو المَنَزَّلُ مِن عِنْدِ اللَّهِ، أوِ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، قَوْلانِ. والعِلْمُ الَّذِي أُوتِيَهُ، قِيلَ: اسْمُ اللَّهِ الأعْظَمِ وهو: يا حَيُّ يا قَيُّومُ. وقِيلَ: يا ذا الجَلالِ والإكْرامِ. وقِيلَ بِالعِبْرانِيَّةِ: أهيا شراهيا. وقالَ الحَسَنُ: اللَّهُ ثُمَّ الرَّحْمَنُ. والظّاهِرُ أنَّ ارْتِدادَ الطَّرْفِ حَقِيقَةٌ، وأنَّهُ أقْصَرُ في المُدَّةِ مِن مُدَّةِ العِفْرِيتِ، ولِذَلِكَ رُوِيَ أنَّ سُلَيْمانَ قالَ: أُرِيدُ أسْرَعَ مِن ذَلِكَ حِينَ أجابَهُ العِفْرِيتُ، ولَمّا كانَ النّاظِرُ مَوْصُوفًا بِإرْسالِ البَصَرِ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎وكُنْتَ مَتى أرْسَلْتَ طَرْفَكَ رائِدًا ∗∗∗ لِقَلْبِكَ يَوْمًا أتْعَبَتْكَ المَناظِرُ وُصِفَ بِرَدِّ الطَّرْفِ، ووُصِفَ الطَّرْفُ بِالِارْتِدادِ. فالمَعْنى أنَّكَ تُرْسِلُ طَرْفَكَ، فَقَبْلَ أنْ تَرُدَّهُ أتَيْتُكَ بِهِ، وصارَ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَرُوِيَ أنَّ آصَفَ قالَ لِسُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: مُدَّ عَيْنَيْكَ حَتّى يَنْتَهِيَ طَرْفُكَ، فَمَدَّ طَرْفَهُ فَنَظَرَ نَحْوَ اليَمَنِ، فَدَعا آصَفُ فَغابَ العَرْشُ في مَكانِهِ بِمَأْرِبَ، ثُمَّ نَبَعَ عِنْدَ مَجْلِسِ سُلَيْمانَ بِالشّامِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، قَبْلَ أنْ يَرُدَّ طَرْفَهُ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ: قَبْلَ أنْ يَصِلَ إلَيْكَ مَن يَقَعُ طَرْفُكَ عَلَيْهِ في أبْعَدِ ما تَرى. وقالَ مُجاهِدٌ: قَبْلَ أنْ تَحْتاجَ إلى التَّغْمِيضِ، أيْ مُدَّةَ ما يُمْكِنُكَ أنْ تَمُدَّ بَصَرَكَ دُونَ تَغْمِيضٍ، وذَلِكَ ارْتِدادُهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذانِ القَوْلانِ يُقابِلانِ قَوْلَ مَن قالَ: إنَّ القِيامَ هو مِن مَجْلِسِ الحُكْمِ، ومَن قالَ: إنَّ القِيامَ هو مِنَ الجُلُوسِ، فَيَقُولُ في ارْتِدادِ الطَّرْفِ هو أنْ تَطْرِفَ، أيْ قَبْلَ أنْ تُغْمِضَ عَيْنَيْكَ وتَفْتَحَهُما، وذَلِكَ أنَّ الثّانِيَ يُعْطِي الأقْصَرَ في المُدَّةِ ولا بُدَّ. انْتَهى. وقِيلَ: طَرْفُكَ مَطْرُوفُكَ، أيْ قَبْلَ أنْ يَرْجِعَ إلَيْكَ مَن تَنْظُرُ إلَيْهِ مِن مُنْتَهى بَصَرِكَ، وهَذا هو قَوْلُ ابْنِ جُبَيْرٍ وقَتادَةَ المُتَقَدِّمُ، لِأنَّ مَن يَقَعُ طَرْفُكَ عَلَيْهِ هو مَطْرُوفُكَ. وقالَ الماوَرْدِيُّ: قَبْلَ أنْ يَنْقَبِضَ إلَيْكَ طَرْفُكَ بِالمَوْتِ، فَخَبَّرَهُ أنَّهُ سَيَأْتِيهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وهَذا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، بَلِ المَعْنى آتِيكَ بِهِ سَرِيعًا. وقِيلَ: ارْتِدادُ الطَّرْفِ مَجازٌ هُنا، وهو مِن بابِ مُجازِ التَّمْثِيلِ، والمُرادُ اسْتِقْصارُ مُدَّةِ الإتْيانِ بِهِ، كَما تَقُولُ لِصاحِبِكَ: افْعَلْ كَذا في لَحْظَةٍ، وفي رَدَّةِ طَرْفٍ، وفي طَرْفَةِ عَيْنٍ، تُرِيدُ بِهِ السُّرْعَةَ، أيْ آتِيكَ بِهِ في مُدَّةٍ أسْرَعَ مِن مُدَّةِ العِفْرِيتِ. ﴿فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا﴾ عِنْدَهُ: في الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَدَعا اللَّهَ فَأتاهُ بِهِ، فَلَمّا رَآهُ: أيْ عَرْشَ بِلْقِيسَ. قِيلَ: نَزَلَ عَلى سُلَيْمانَ مِنَ الهَواءِ. وقِيلَ: نَبَعَ مِنَ الأرْضِ. وقِيلَ: مِن تَحْتِ عَرْشِ سُلَيْمانَ. وانْتَصَبَ ”مُسْتَقِرًّا“ عَلى الحالِ، و”عِنْدَهُ“ مَعْمُولٌ لَهُ. والظَّرْفُ إذا وقَعَ في مَوْضِعِ الحالِ، كانَ العامِلُ فِيهِ واجِبَ الحَذْفِ. فَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وظَهَرَ العامِلُ في الظَّرْفِ مِن قَوْلِهِ: ﴿مُسْتَقِرًّا﴾ وهَذا هو المُقَدَّرُ أبَدًا في كُلِّ ظَرْفٍ وقَعَ في مَوْضِعِ الحالِ. وقالَ أبُو البَقاءِ: ومُسْتَقِرًّا، أيْ ثابِتًا غَيْرَ مُتَقَلْقِلٍ، ولَيْسَ بِمَعْنى الحُضُورِ المُطْلَقِ، إذْ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ. انْتَهى. فَأخَذَ في مُسْتَقِرًّا أمْرًا زائِدًا عَلى الِاسْتِقْرارِ المُطْلَقِ، وهو كَوْنُهُ غَيْرَ مُتَقَلْقِلٍ، حَتّى يَكُونَ مَدْلُولُهُ غَيْرَ مَدْلُولِ العِنْدِيَّةِ، وهو تَوْجِيهٌ حَسَنٌ لِذِكْرِ العامِلِ في الظَّرْفِ الواقِعِ حالًا؛ وقَدْ قُدِّرَ ذِكْرُ العامِلِ في ما وقَعَ خَبَرًا مِنَ الجارِّ والمَجْرُورِ التّامِّ في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎لَكَ العِزُّ إنْ مَوْلاكَ عَزَّ وإنْ يَهُنْ ∗∗∗ فَأنْتَ لَدى بُحْبُوحَةِ الهُونِ كائِنُ ﴿قالَ هَذا مِن فَضْلِ رَبِّي﴾ أيْ هَذا الإتْيانُ بِعَرْشِها، وتَحْصِيلُ ما أرَدْتُ مِن ذَلِكَ، هو مِن فَضْلِ رَبِّي عَلَيَّ وإحْسانِهِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ﴾ . قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المَعْنى أأشْكُرُ عَلى السَّرِيرِ وسَوْقِهِ أمْ أكْفُرُ ؟ إذْ رَأيْتُ مَن هو دُونِي في الدُّنْيا أعْلَمُ مِنِّي. انْتَهى. وتَلَقِّي سُلَيْمانُ النِّعْمَةَ وفَضْلَ اللَّهِ بِالشُّكْرِ، إذْ ذاكَ نِعْمَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ، والشُّكْرُ قَيْدٌ لِلنِّعَمِ. و”أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ“ في مَوْضِعِ نَصْبٍ ”لِيَبْلُوَنِي“، وهو (p-٧٨)مُعَلَّقٌ، لِأنَّهُ في مَعْنى التَّمْيِيزِ، والتَّمْيِيزُ في مَعْنى العِلْمِ، وكَثِيرٌ التَّعْلِيقُ في هَذا الفِعْلِ إجْراءً لَهُ مَجْرى العِلْمِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مُرادِفًا لَهُ؛ لِأنَّ مَدْلُولَهُ الحَقِيقِيَّ هو الِاخْتِبارُ. ﴿ومَن شَكَرَ فَإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ أيْ ذَلِكَ الشُّكْرُ عائِدٌ ثَوابُهُ إلَيْهِ؛ إذْ كانَ قَدْ صانَ نَفْسَهُ عَنْ كُفْرانِ النِّعْمَةِ، وفَعَلَ ما هو واجِبٌ عَلَيْهِ مِن شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ. ﴿ومَن كَفَرَ﴾ أيْ فَضْلَ اللَّهِ ونِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِهِ، لا يَعُودُ مَنفَعَتُها إلى اللَّهِ؛ لِأنَّهُ هو الغَنِيُّ المُطْلَقُ الكَرِيمُ بِالإنْعامِ عَلى مَن كَفَرَ نِعْمَتَهُ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإنَّ رَبِّي غَنِيُّ كَرِيمٌ﴾ هو جَوابُ الشَّرْطِ، ولِذَلِكَ أُضْمِرَ فاءٌ في قَوْلِهِ: ﴿غَنِيٌّ﴾ أيْ عَنْ شُكْرِهِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الجَوابُ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ مِن قَسِيمِهِ، أيْ ومَن كَفَرَ فَلِنَفْسِهِ، أيْ ذَلِكَ الكُفْرُ عائِدٌ عِقابُهُ إلَيْهِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ”ما“ مَوْصُولَةً، ودَخَلَتِ الفاءُ في الخَبَرِ لِتَضَمُّنِها مَعْنى الشَّرْطِ. ﴿قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها﴾ . رُوِيَ أنَّ الجِنَّ أحَسَّتْ مِن سُلَيْمانَ، أوْ ظَنَّتْ بِهِ أنَّهُ رُبَّما تَزَوَّجَ بِلْقِيسَ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ ورَمَوْها عِنْدَهُ بِأنَّها غَيْرُ عاقِلَةٍ ولا مُمَيَّزَةٍ، وأنَّ رِجْلَها كَحافِرِ دابَّةٍ، فَجَرَّبَ عَقْلَها ومَيَّزَها بِتَنْكِيرِ العَرْشِ، ورِجْلَها بِالصَّرْحِ؛ لِتَكْشِفَ عَنْ ساقَيْها عِنْدَهُ. وتَنْكِيرُ عَرْشِها، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ والضَّحّاكُ: بِأنَّ زِيدَ فِيهِ ونُقِصَ مِنهُ. وقِيلَ: بِنَزْعِ ما عَلَيْهِ مِنَ الفُصُوصِ والجَواهِرِ. وقِيلَ: بِجَعْلِ أسْفَلِهِ أعْلاهُ ومُقَدَّمِهِ مُؤَخَّرَهُ. والتَّنْكِيرُ: جَعْلُهُ مُتَنَكِّرًا مُتَغَيِّرًا عَنْ شَكْلِهِ وهَيْئَتِهِ، كَما يَتَنَكَّرُ الرَّجُلُ لِلنّاسِ حَتّى لا يَعْرِفُوهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”نَنْظُرْ“: بِالجَزْمِ عَلى جَوابِ الأمْرِ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: بِالرَّفْعِ عَلى الِاسْتِئْنافِ. أمْرٌ بِالتَّنْكِيرِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الإخْبارَ عَنْ نَفْسِهِ بِأنَّهُ يَنْظُرُ، ومُتَعَلِّقُ ”أتَهْتَدِي“ مَحْذُوفٌ. والظّاهِرُ أنَّهُ أتَهْتَدِي لِمَعْرِفَةِ عَرْشِها ولا يُجْعَلُ تَنْكِيرُهُ قادِحًا في مَعْرِفَتِها لَهُ فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ فَرْطُ عَقْلِها وأنَّها لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ حالُ عَرْشِها وإنْ كانُوا قَدْ رامُوا الإخْفاءَ، أوْ أتَهْتَدِي لِلْجَوابِ المُصِيبِ إذا سُئِلَتْ عَنْهُ، أوْ أتَهْتَدِي لِلْإيمانِ بِنُبُوَّةِ سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - إذا رَأتْ هَذا المُعْجِزَ مِن نَقْلِ عَرْشِها مِنَ المَكانِ الَّذِي تَرَكَتْهُ فِيهِ وغَلَّقَتِ الأبْوابَ عَلَيْهِ وجَعَلَتْ لَهُ حُرّاسًا. ”فَلَمّا جاءَتْ“: في الكَلامِ حَذْفٌ، أيْ فَنَكَّرُوا عَرْشَها ونَظَرُوا ما جَوابُها إذا سُئِلَتْ عَنْهُ. فَلَمّا جاءَتْ قِيلَ أهَكَذا عَرْشُكِ: أيْ مِثْلُ هَذا العَرْشِ الَّذِي أنْتِ رَأيْتِيهِ عَرْشُكِ الَّذِي تَرَكْتِيهِ بِبِلادِكِ ؟ ولَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ: أهَذا عَرْشُكِ ؟ جاءَ بِأداةِ التَّشْبِيهِ، لِئَلّا يَكُونَ ذَلِكَ تَلْقِينًا لَها. ولَمّا رَأتْهُ عَلى هَيْئَةٍ لا تَعْرِفُها فِيهِ، وتَمَيَّزَتْ فِيهِ أشْياءَ مِن عَرْشِها، لَمْ تَجْزِمْ بِأنَّهُ هو، ولا نَفَتْهُ النَّفْيَ البالِغَ، بَلْ أبْرَزَتْ ذَلِكَ في صُورَةٍ تَشْبِيهِيَّةٍ فَقالَتْ: ”كَأنَّهُ هو“، وذَلِكَ مِن جَوْدَةِ ذِهْنِها؛ حَيْثُ لَمْ تَجْزِمْ في الصُّورَةِ المُحْتَمَلَةِ بِأحَدِ الجائِزَيْنِ مِن كَوْنِهِ إيّاهُ أوْ مِن كَوْنِهِ لَيْسَ إيّاهُ، وقابَلَتْ تَشْبِيهَهم بِتَشْبِيهِها. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: وأُوتِينا العِلْمَ إلى قَوْلِهِ: ﴿مِن قَوْمٍ كافِرِينَ﴾ لَيْسَ مِن كَلامِ بِلْقِيسَ، وإنْ كانَ مُتَّصِلًا بِكَلامِها. فَقِيلَ: مِن كَلامِ سُلَيْمانَ. وقِيلَ: مِن كَلامِ قَوْمِ سُلَيْمانَ وأتْباعِهِ. فَإنْ كانَ مِن قَوْلِ سُلَيْمانَ فَقِيلَ: العِلْمُ هُنا مَخْصُوصٌ، أيْ وأُوتِينا العِلْمَ بِإسْلامِها ومَجِيئِها طائِعَةً. مِن قَبْلِها أيْ مِن قَبْلِ مَجِيئِها. وكُنّا مُسْلِمِينَ: مُوَحِّدِينَ خاضِعِينَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ كَأنَّهُ هو، وقالَ سُلَيْمانُ عِنْدَ ذَلِكَ: ”﴿وأُوتِينا العِلْمَ مِن قَبْلِها﴾“ . الآيَةَ، قالَ ذَلِكَ عَلى جِهَةِ تَعْدِيدِ نِعَمِ اللَّهِ تَعالى، وإنَّما قالَ ذَلِكَ بِما عَلِمَتْ هي وفَهِمَتْ، ذَكَرَ هو نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وعَلى آبائِهِ. انْتَهى مُلَخَّصًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ”وأُوتِينا العِلْمَ“ مِن كَلامِ سُلَيْمانَ ومَلَئِهِ (فَإنْ قُلْتَ): عَلامَ عَطَفَ هَذا الكَلامَ وبِما اتَّصَلَ ؟ (قُلْتُ): لَمّا كانَ المَقامُ الَّذِي سُئِلَتْ فِيهِ عَنْ عَرْشِها - وأجابَتْ بِما أجابَتْ بِهِ - مَقامًا أجْرى فِيهِ سُلَيْمانُ ومَلَأُهُ ما يُناسِبُ قَوْلَهم: وأُوتِينا العِلْمَ، نَحْوَ أنْ يَقُولُوا عِنْدَ قَوْلِها: كَأنَّهُ هو، قَدْ أصابَتْ في جَوابِها، فَطَبَّقَتِ المُفَصَّلَ، وهي عاقِلَةٌ لَبِيبَةٌ، وقَدْ رُزِقَتِ الإسْلامَ وعَلِمَتْ قُدْرَةَ اللَّهِ وصِحَّةَ النُّبُوَّةِ بِالآياتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ عِنْدَ وفْدَةِ المُنْذِرِ. وبِهَذِهِ الآيَةِ العَجِيبَةِ مِن أمْرِ عَرْشِها عَطَفُوا عَلى ذَلِكَ قَوْلَهم: (p-٧٩)وأُوتِينا نَحْنُ العِلْمَ بِاللَّهِ وبِقُدْرَتِهِ وبِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سُلَيْمانَ ما جاءَ مِن عِنْدِهِ قَبْلَ عِلْمِها، ولَمْ نَزَلْ نَحْنُ عَلى دِينِ الإسْلامِ، شَكَرُوا اللَّهَ عَلى فَضْلِهِمْ عَلَيْها وسَبْقِهِمْ إلى العِلْمِ بِاللَّهِ والإسْلامِ قَبْلَها، وصَدَّها عَنِ التَّقَدُّمِ إلى الإسْلامِ عِبادَةُ الشَّمْسِ ونَشْؤُها بَيْنَ ظَهْرانَيْ الكَفَرَةِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ بِلْقِيسَ مَوْصُولًا بِقَوْلِها كَأنَّهُ هو، والمَعْنى: وأُوتِينا العِلْمَ بِاللَّهِ وبِقُدْرَتِهِ وبِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سُلَيْمانَ قَبْلَ هَذِهِ المُعْجِزَةِ، أوْ قَبْلَ هَذِهِ الحالَةِ، يَعْنِي ما تَبَيَّنْتَ مِنَ الآياتِ عِنْدَ وفْدَةِ المُنْذِرِ ودَخَلْنا في الإسْلامِ. ثُمَّ قالَ اللَّهُ - تَعالى - وصَدَّها قَبْلَ ذَلِكَ عَمّا دَخَلَتْ فِيهِ ضَلالُها عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ. وقِيلَ: وصَدَّها اللَّهُ أوْ سُلَيْمانُ عَمّا كانَتْ تَعْبُدُ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الجارِّ واتِّصالِ الفِعْلِ. انْتَهى. أمّا قَوْلُهُ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ بِلْقِيسَ، فَهو قَوْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ إلَيْهِ عَلى سَبِيلِ التَّعْيِينِ لا الجَوازِ. قِيلَ: والمَعْنى وأُوتِينا العِلْمَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ بِالآياتِ المُتَقَدِّمَةِ مِن أمْرِ الهُدْهُدِ والرُّسُلِ مِن قَبْلِ هَذِهِ المُعْجِزَةِ، يَعْنِي إحْضارَ العَرْشِ. وكُنّا مُسْلِمِينَ مُطِيعِينَ لِأمْرِكَ مُنْقادِينَ لَكَ. والظّاهِرُ أنَّ الفاعِلَ بِصَدِّها هو قَوْلُهُ: ”ما كانَتْ تَعْبُدُ“، وكَوْنُهُ اللَّهَ أوْ سُلَيْمانَ، و”ما“ مَفْعُولُ صَدَّها عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، قالَهُ الطَّبَرِيُّ، وهو ضَعِيفٌ لا يَجُوزُ إلّا في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: تَمُـرُّونَ الدِّيَـارَ ولَـمْ تَعُوجُوا: أيْ عَنِ الدِّيارِ، ولَيْسَ مِن مَواضِعِ حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ. وإذا كانَ الفاعِلُ هو ما كانَتْ بِالمَصْدُودِ عَنْهُ، الظّاهِرُ أنَّهُ الإسْلامُ. وقالَ الرُّمّانِيُّ: التَّقْدِيرُ التَّفَطُّنُ لِلْعَرْشِ؛ لِأنَّ المُؤْمِنَ يَقِظٌ والكافِرَ خَبِيثٌ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ”وصَدَّها“ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ”وأُوتِينا“، إذا كانَ مِن كَلامِ سُلَيْمانَ، وإنْ كانَ يَحْتَمِلُ ابْتِداءَ إخْبارٍ مِنَ اللَّهِ - تَعالى - لِمُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ ولِأُمَّتِهِ. وإنْ كانَ ”وأُوتِينا“ مِن كَلامِ بِلْقِيسَ، فالظّاهِرُ أنَّهُ يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ مِن قَوْلِ اللَّهِ تَعالى وقَوْلِ مَن قالَ إنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: أتَهْتَدِي أمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ. والواوُ في ”وصَدَّها“ لِلْحالِ، وقَدْ مُضْمَرَةٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ لِطُولِ الفَصْلِ بَيْنَهُما، ولِأنَّ التَّقْدِيمَ والتَّأْخِيرَ لا يُذْهَبُ إلَيْهِ إلّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”إنَّها“ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِها، فَإمّا عَلى تَقْدِيرِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ لِأنَّها، وإمّا عَلى أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الفاعِلِ الَّذِي هو ما كانَتْ تَعْبُدُ. قالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ وغَيْرُهُ: لَمّا وصَلَتْ بِلْقِيسُ، أمَرَ سُلَيْمانُ الجِنَّ فَصَنَعَتْ لَهُ صَرْحًا، وهو السَّطْحُ في الصَّحْنِ مِن غَيْرِ سَقْفٍ، وجَعَلَتْهُ مَبْنِيًّا كالصِّهْرِيجِ ومُلِئَ ماءً، وبُثَّ فِيهِ السَّمَكُ والضَّفادِعُ، وجُعِلَ لِسُلَيْمانَ في وسَطِهِ كُرْسِيٌّ. فَلَمّا وصَلَتْهُ بِلْقِيسُ، قِيلَ لَها: ادْخُلِي إلى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَرَأتِ اللُّجَّةَ وفَزِعَتْ، ولَمْ يَكُنْ لَها بُدٌّ مِنَ امْتِثالِ الأمْرِ، فَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها، فَرَأى سُلَيْمانُ ساقَيْها سَلِيمَتَيْنِ مِمّا قالَتِ الجِنُّ. فَلَمّا بَلَغَتْ هَذا الحَدَّ، قالَ لَها سُلَيْمانُ: إنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِن قَوارِيرَ، وعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَسْلَمَتْ بِلْقِيسُ وأذْعَنَتْ وأسْلَمَتْ وأقَرَّتْ عَلى نَفْسِها بِالظُّلْمِ. وفي هَذِهِ الحِكايَةِ زِيادَةٌ، وهو أنَّهُ وضَعَ سَرِيرَهُ في صَدْرِهِ وجَلَسَ عَلَيْهِ، وعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ والجِنُّ والإنْسُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنَّما فَعَلَ ذَلِكَ لِيَزِيدَها اسْتِعْظامًا لِأمْرِهِ وتَحَقُّقًا لِنُبُوَّتِهِ وثَباتًا عَلى الدِّينِ. انْتَهى. والصَّرْحُ: كُلُّ بِناءٍ عالٍ، ومِنهُ: ”ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أبْلُغَ الأسْبابَ“، وهو مِنَ التَّصْرِيحِ، وهو الإعْلانُ البالِغُ. وقالَ مُجاهِدٌ: الصَّرْحُ هُنا: البِرْكَةُ. وقالَ ابْنُ عِيسى: الصَّحْنُ، وصَرْحَةُ الدّارِ: ساحَتُها. وقِيلَ: الصَّرْحُ هُنا: القَصْرُ مِنَ الزُّجاجِ؛ وفي الكَلامِ حَذْفٌ، أيْ فَدَخَلَتْهُ امْتِثالًا لِلْأمْرِ. واللُّجَّةُ: الماءُ الكَثِيرُ. وكَشْفُ ساقَيْها عادَةُ مَن كانَ لابِسًا وأرادَ أنْ يَخُوضَ الماءَ إلى مَقْصِدٍ لَهُ، ولَمْ يَكُنِ المَقْصُودُ مِنَ الصَّرْحِ إلّا تَهْوِيلَ الأمْرِ، وحَصَلَ كَشْفُ السّاقِ عَلى سَبِيلِ التَّبَعِ، إلّا أنْ يَصِحَّ ما رُوِيَ عَنِ الجِنِّ أنَّ ساقَها ساقُ دابَّةٍ بِحافِرٍ، فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ اسْتِعْلامُ ذَلِكَ مَقْصُودًا. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: قِيلَ في رِوايَةِ الإخْرِيطِ وهْبِ بْنِ واضِحٍ عَنْ ”سَأْقِيها“ بِالهَمْزِ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: وهي ضَعِيفَةٌ، وكَذَلِكَ في قِراءَةِ قُنْبُلٍ: يُكْشَفُ عَنْ سَأْقٍ، وأمّا هَمْزُ السُّؤْقِ وعَلى سُؤْقِهِ فَلُغَةٌ (p-٨٠)مَشْهُورَةٌ في هَمْزِ الواوِ الَّتِي قَبْلَها ضَمَّةٌ. حَكى أبُو عَلِيٍّ أنَّ أبا حَيَّةَ النُّمَيْرِيَّ كانَ يَهْمِزُ كُلَّ واوٍ قَبْلَها ضَمَّةٌ، وأنْشَدَ: ؎أحَبُّ المُؤْقِدِيـنَ إلَيَّ مُوسى والظّاهِرُ أنَّ الفاعِلَ يُقالُ هو سُلَيْمانُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ هو الَّذِي أمَرَها بِدُخُولِ الصَّرْحِ. وظُلْمُها نَفْسَها، قِيلَ: بِالكُفْرِ، وقِيلَ: بِحُسْبانِها أنَّ سُلَيْمانَ أرادَ أنْ يَعْرِفَها. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومَعَ، ظَرْفٌ بُنِيَ عَلى الفَتْحِ، وأمّا إذا أُسْكِنَتِ العَيْنُ فَلا خِلافَ أنَّهُ حَرْفٌ جاءَ لِمَعْنًى. انْتَهى، والصَّحِيحُ أنَّها ظَرْفٌ، فُتِحْتِ العَيْنُ أوْ سُكِّنَتْ، ولَيْسَ التَّسْكِينُ مَخْصُوصًا بِالشِّعْرِ، كَما زَعَمَ بَعْضُهم، بَلْ ذَلِكَ لُغَةٌ لِبَعْضِ العَرَبِ، والظَّرْفِيَّةُ فِيها مُجازٌ، وإنَّما هو اسْمٌ يَدُلُّ عَلى مَعْنى الصُّحْبَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب