الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿نَكِّرُوا لَها عَرْشَها﴾ التَّنْكِيرُ التَّغْيِيرُ، يَقُولُ غَيِّرُوا سَرِيرَها إلى حالٍ تُنْكِرُهُ إذا رَأتْهُ. قِيلَ: جَعَلَ أعْلاهُ أسْفَلَهُ وأسْفَلَهُ أعْلاهُ، وقِيلَ: غُيِّرَ بِزِيادَةٍ ونُقْصانٍ. قالَ الفَرّاءُ وغَيْرُهُ: إنَّما أمَرَ بِتَنْكِيرِهِ لِأنَّ الشَّياطِينَ قالُوا لَهُ إنَّ في عَقْلِها شَيْئًا، فَأرادَ أنْ يَمْتَحِنَها، وقِيلَ: خافَتِ الجِنُّ أنْ يَتَزَوَّجَ بِها سُلَيْمانُ، فَيُولَدُ لَهُ مِنها ولَدٌ فَيَبْقَوْنَ مُسَخَّرِينَ لِآلِ سُلَيْمانَ أبَدًا، فَقالُوا لِسُلَيْمانَ إنَّها ضَعِيفَةُ العَقْلِ ورِجْلُها كَرِجْلِ الحِمارِ، وقَوْلُهُ: نَنْظُرْ بِالجَزْمِ عَلى أنَّهُ جَوابُ الأمْرِ وبِالجَزْمِ قَرَأ الجُمْهُورُ، وقَرَأ أبُو حَيّانَ بِالرَّفْعِ عَلى الِاسْتِئْنافِ أتَهْتَدِي إلى مَعْرِفَتِهِ، أوْ إلى الإيمانِ بِاللَّهِ ﴿أمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ﴾ إلى ذَلِكَ. ﴿فَلَمّا جاءَتْ﴾ أيْ: بِلْقِيسُ إلى سُلَيْمانَ (p-١٠٨٢)قِيلَ لَها، والقائِلُ هو سُلَيْمانُ، أوْ غَيْرُهُ بِأمْرِهِ ﴿أهَكَذا عَرْشُكِ﴾ لَمْ يَقُلْ هَذا عَرْشُكِ لِئَلّا يَكُونَ ذَلِكَ تَلْقِينًا لَها فَلا يَتِمُّ الِاخْتِبارُ لِعَقْلِها ﴿قالَتْ كَأنَّهُ هُوَ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: جَعَلَتْ تَعْرِفُ وتُنْكِرُ وتَعْجَبُ مِن حُضُورِهِ عِنْدَ سُلَيْمانَ، فَقالَتْ: كَأنَّهُ هو. وقالَ مُقاتِلٌ: عَرَفَتْهُ ولَكِنَّها شَبَّهَتْ عَلَيْهِمْ كَما شَبَّهُوا عَلَيْها، ولَوْ قِيلَ لَها: أهَذا عَرْشُكِ ؟ لَقالَتْ: نَعَمْ. وقالَ عِكْرِمَةُ: كانَتْ حَكِيمَةً، قالَتْ: إنْ قَلْتُ هو هو خَشِيتُ أنْ أكْذِبَ، وإنْ قُلْتُ لا خَشِيتُ أنْ أكْذِبَ، فَقالَتْ: كَأنَّهُ هو وقِيلَ: أرادَ سُلَيْمانُ أنْ يُظْهِرَ لَها أنَّ الجِنَّ مُسَخَّرُونَ لَهُ ﴿وأُوتِينا العِلْمَ مِن قَبْلِها وكُنّا مُسْلِمِينَ﴾ قِيلَ: هو مِن كَلامِ بِلْقِيسَ أيْ: أُوتِينا العِلْمَ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سُلَيْمانَ مِن قَبْلِ هَذِهِ الآيَةِ في العَرْشِ وكُنّا مُسْلِمِينَ مُنْقادِينَ لِأمْرِهِ. وقِيلَ: هو مِن قَوْلِ سُلَيْمانَ أيْ: أُوتِينا العِلْمَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ مِن قَبْلِ بِلْقِيسَ، وقِيلَ: أُوتِينا العِلْمَ بِإسْلامِها ومَجِيئِها طائِعَةً مِن قَبْلِها أيْ: مِن قَبْلِ مَجِيئِها، وقِيلَ: هو مِن كَلامِ قَوْمِ سُلَيْمانَ. والقَوْلُ الثّانِي أرْجَحُ مِن سائِرِ الأقْوالِ. ﴿وصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ هَذا مِن كَلامِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - بَيانٌ لِما كانَ يَمْنَعُها مِن إظْهارِ ما ادَّعَتْهُ مِنَ الإسْلامِ، فَفاعِلُ صَدَّ هو ما كانَتْ تَعْبُدُ أيْ: مَنَعَها مِن إظْهارِ الإيمانِ ما كانَتْ تَعْبُدُهُ، وهي الشَّمْسُ. قالَ النَّحّاسُ أيْ: صَدَّها عِبادَتُها مِن دُونِ اللَّهِ، وقِيلَ: فاعِلُ صَدَّ هو اللَّهُ أيْ: مَنَعَها اللَّهُ ما كانَتْ تَعْبُدُ مِن دُونِهِ فَتَكُونُ ( ما ) في مَحَلِّ نَصْبٍ، وقِيلَ: الفاعِلُ سُلَيْمانُ أيْ: ومَنَعَها سُلَيْمانُ ما كانَتْ تَعْبُدُ، والأوَّلُ أوْلى، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْبَيانِ كَما ذَكَرْنا، وجُمْلَةُ ﴿إنَّها كانَتْ مِن قَوْمٍ كافِرِينَ﴾ تَعْلِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الأُولى أيْ: سَبَبُ تَأخُّرِها عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ، ومَنعِ ما كانَتْ تَعْبُدُهُ عَنْ ذَلِكَ أنَّها كانَتْ مِن قَوْمٍ مُتَّصِفِينَ بِالكُفْرِ. قَرَأ الجُمْهُورُ " إنَّها " بِالكَسْرِ وقَرَأ أبُو حَيّانَ بِالفَتْحِ وفي هَذِهِ القِراءَةِ وجْهانِ: أحَدُهُما أنَّ الجُمْلَةَ بَدَلٌ مِمّا كانَتْ تَعْبُدُ. والثّانِي أنَّ التَّقْدِيرَ: لِأنَّها كانَتْ تَعْبُدُ، فَسَقَطَ حَرْفُ التَّعْلِيلِ. ﴿قِيلَ لَها ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾ . قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الصَّرْحُ القَصْرُ. وقالَ الزَّجّاجُ: الصَّرْحُ الحِصْنُ. يُقالُ: هَذِهِ صَرْحَةُ الدّارِ وقاعَتُها. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الصَّرْحُ بَلاطٌ اتُّخِذَ لَها مِن قَوارِيرَ وجُعِلَ تَحْتَهُ ماءٌ وسَمَكٌ. وحَكى أبُو عُبَيْدٍ في الغَرِيبِ أنَّ الصَّرْحَ كُلُّ بِناءٍ عالٍ مُرْتَفِعٍ، وأنَّ المُمَرَّدَ الطَّوِيلُ ﴿فَلَمّا رَأتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها﴾ أيْ: فَلَمّا رَأتِ الصَّرْحَ بَيْنَ يَدَيْها حَسِبَتْ أنَّهُ لُجَّةٌ، واللُّجَّةُ مُعْظَمُ الماءِ، فَلِذَلِكَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لِتَخُوضَ الماءَ، فَلَمّا فَعَلَتْ ذَلِكَ قالَ سُلَيْمانُ ﴿إنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِن قَوارِيرَ﴾ المُمَرَّدُ المَحْكُوكُ المُمَلَّسُ، ومِنهُ الأمْرَدُ، وتَمَرَّدَ الرَّجُلُ إذا لَمْ تَخْرُجْ لِحْيَتُهُ، قالَهُ الفَرّاءُ. ومِنهُ الشَّجَرَةُ المَرْداءُ الَّتِي لا ورَقَ لَها. والمُمَرَّدُ أيْضًا المُطَوَّلُ، ومِنهُ قِيلَ: لِلْحِصْنِ مارِدٌ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎غَدَوْتُ صَباحًا باكِرًا فَوَجَدْتُهم قُبَيْلَ الضُّحى في السّابِرِيِّ المُمَرَّدِ أيِ: الدُّرُوعِ الواسِعَةِ الطَّوِيلَةِ، فَلَمّا سَمِعَتْ بِلْقِيسُ ذَلِكَ أذْعَنَتْ واسْتَسْلَمَتْ، و﴿قالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ أيْ: بِما كُنْتُ عَلَيْهِ مِن عِبادَةِ غَيْرِكَ، وقِيلَ: بِالظَّنِّ الَّذِي تَوَهَّمَتْهُ في سُلَيْمانَ، لِأنَّها تَوَهَّمَتْ أنَّهُ أرادَ تَغْرِيقَها في اللُّجَّةِ، والأوَّلُ أوْلى ﴿وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ﴾ مُتابِعَةً لَهُ داخِلَةً في دِينِهِ ﴿لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ التَفَتَتْ مِنَ الخِطابِ إلى الغَيْبَةِ، قِيلَ: لِإظْهارِ مَعْرِفَتِها بِاللَّهِ، والأوْلى أنَّها التَفَتَتْ لِما في هَذا الِاسْمِ الشَّرِيفِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى جَمِيعِ الأسْماءِ ولِكَوْنِهِ عَلَمًا لِلذّاتِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿نَكِّرُوا لَها عَرْشَها﴾ قالَ: زِيدَ فِيهِ ونُقِصَ لِ ﴿نَنْظُرْ أتَهْتَدِي﴾ قالَ: لِنَنْظُرْ إلى عَقْلِها فَوُجِدَتْ ثابِتَةُ العَقْلِ. وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وأُوتِينا العِلْمَ مِن قَبْلِها﴾ قالَ: مِن قَوْلِ سُلَيْمانَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا رَأتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾ قالَ: بَحْرًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ في أثَرٍ طَوِيلٍ أنَّ سُلَيْمانَ تَزَوَّجَها بَعْدَ ذَلِكَ. قالَ أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ: ما أحْسَنَهُ مِن حَدِيثٍ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ بَعْدَ حِكايَتِهِ لِقَوْلِ أبِي بَكْرِ بْنِ أبِي شَيْبَةَ: بَلْ هو مُنْكَرٌ جِدًّا، ولَعَلَّهُ مِن أوْهامِ عَطاءِ بْنِ السّائِبِ عَلى ابْنِ عَبّاسٍ، واللَّهُ أعْلَمُ. والأقْرَبُ في مِثْلِ هَذِهِ السِّياقاتِ أنَّها مُتَلَقّاةُ عَنْ أهْلِ الكِتابِ بِما يُوجَدُ في صُحُفِهِمْ كَرِواياتِ كَعْبٍ ووَهْبٍ سامَحَهُما اللَّهُ فِيما نَقَلا إلى هَذِهِ الأُمَّةِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ مِنَ الأوابِدِ والغَرائِبِ والعَجائِبِ مِمّا كانَ ومِمّا لَمْ يَكُنْ، ومِمّا حُرِّفَ وبُدِّلَ ونُسِخَ. انْتَهى. وكَلامُهُ هَذا هو شُعْبَةٌ مِمّا قَدْ كَرَّرْناهُ في هَذا التَّفْسِيرِ ونَبَّهْنا عَلَيْهِ في عِدَّةِ مَواضِعَ، وكُنْتُ أظُنُّ أنَّهُ لَمْ يُنَبِّهْ عَلى ذَلِكَ غَيْرِي. فالحَمْدُ لِلَّهِ عَلى المُوافَقَةِ لِمِثْلِ هَذا الحافِظِ المُنْصِفِ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ في تارِيخِهِ، والعُقَيْلِيُّ عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - «أوَّلُ مَن صُنِعَتْ لَهُ الحَمّاماتُ سُلَيْمانُ» ورُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا مِن طَرِيقٍ أُخْرى رَواها الطَّبَرانِيُّ وابْنُ عُدَيٍّ في الكامِلِ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ بِلَفْظِ «أوَّلُ مَن دَخَلَ الحَمّامَ سُلَيْمانُ فَلَمّا وجَدَ حَرَّهُ قالَ: أوَّهُ مِن عَذابِ اللَّهِ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب