الباحث القرآني
لَمَّا أَمَرَ [اللَّهُ] [[زيادة من أ.]] تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ، الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَالشَّهَادَةِ بِالْعَدْلِ، وَذَكَّرَهُمْ نعَمَه عَلَيْهِمُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ، فِيمَا هَدَاهُمْ لَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى، شَرْعٌ يُبَيِّنُ لَهُمْ كَيْفَ أَخَذَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَلَمَّا نَقَضُوا عُهُودَهُ وَمَوَاثِيقَهُ أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ لَعْنًا مِنْهُ لَهُمْ، وَطَرْدًا عَنْ بَابِهِ وَجَنَابِهِ، وَحِجَابًا لِقُلُوبِهِمْ [[في ر": "لعيوبهم".]] عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ يَعْنِي: عُرَفاء عَلَى قَبَائِلِهِمْ بِالْمُبَايَعَةِ وَالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هَذَا كَانَ لَمَّا تَوَجَّهَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِقِتَالِ الْجَبَابِرَةِ، فَأُمِرَ بِأَنْ يُقِيمَ النُّقَبَاءَ، مِنْ كُلِّ سِبْطٍ نَقِيبٌ -قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَ مِنْ سِبْطِ رُوبَيْلَ: "شَامُونُ بْنُ زَكَورَ [[في ر: "زكون".]] ، وَمِنْ سِبْطِ شَمْعُونَ: "شَافَاطُ بْنُ حُرّي"، وَمِنْ سِبْطِ يَهُوذَا: "كَالِبُ بْنُ يُوفِنَا"، وَمِنْ سِبْطِ أَبِينَ: "فِيخَائِيلُ بْنُ يُوسُفَ"، وَمِنْ سِبْطِ يُوسُفَ، وَهُوَ سَبْطُ أَفْرَايْمَ: "يُوشَعُ بْنُ نُونٍ"، وَمِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ: "فَلَطْمَى بْنُ رَفَوْنَ"، وَمِنْ سِبْطِ زَبْلُونَ [[في ر: "زايكون"، وفي أ: "زيالون".]] جَدِّي بْنِ سَوْدَى"، وَمِنْ سِبْطِ يُوسُفَ وَهُوَ مَنْشَا بْنُ يُوسُفَ: "جَدِيُّ بْنُ سَوْسَى"، وَمِنْ سِبْطِ دَانٍ: "حَمْلَائِيلُ بْنُ جُمَلٍ"، وَمِنْ سِبْطِ أَسِيرٍ: "سَاطُورُ بْنُ مُلْكِيلَ"، وَمِنْ سِبْطِ نَفْتَالِي [[في ر: "ثقال".]] نَحَّى بْنُ وَفْسَى"، وَمِنْ سِبْطِ جَادٍ: "جَوْلَايِلُ بْنُ مَيْكِي". [[في ر: "مليدن".]] وَقَدْ رَأَيْتُ فِي السِّفْرِ الرَّابِعِ مِنَ التَّوْرَاةِ تَعْدَادَ النُّقَبَاءِ عَلَى أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَسْمَاءً مُخَالِفَةً لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ فِيهَا: فَعَلَى بَنِي رُوبِيلَ: "الصَّوْنِيُّ بْنُ سَادُونَ"، وَعَلَى بَنِي شَمْعُونَ: "شَمْوَالُ بْنُ صَورْشكي"، وعلى بني يهوذا: "يحشون بن عمبيا ذاب [[في ر: "عمينا ذاب".]] وَعَلَى بَنِي يسَاخرَ: "شَالُ بْنُ صَاعُونَ"، وَعَلَى بَنِي زبلونَ: "اليابُ بْنُ حالوبَ [[في ر: "جالوت".]] ، وَعَلَى بَنِي يُوسُفَ إِفْرَايِمُ: "منشا [[في ر: "ومنشا".]] بْنُ عمنهودَ"، وَعَلَى بَنِي مَنَشا: "حمليائيلُ بْنُ يرصونَ"، وَعَلَى بَنِي بِنْيَامِينَ: "أبيدنُ بْنُ جَدْعُونَ"، وَعَلَى بَنِي دَانٍ: "جَعَيْذَرُ بْنُ عميشذي"، وَعَلَى بَنِي أَسِيرٍ: "نَحَايِلُ بْنُ عَجْرَانَ"، وَعَلَى بَنِي حَازَ: "السَّيْفُ بْنُ دَعْوَايِيلَ"، وَعَلَى بَنِي نَفْتَالِي: "أَجْزَعُ بْنُ عَمْينَانَ".
وَهَكَذَا لَمَّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْأَنْصَارَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، كَانَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ نَقِيبًا، ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ وَهُمْ: أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْر، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَة، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ -وَيُقَالُ بَدَلُهُ: أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَتِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَهُمْ: أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارة، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ العَجْلان [[في أ: "عجلان".]] وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرور، وَعِبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادة، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرو بْنِ حَرَامٍ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرو بْنِ خُنَيس، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي شِعْرٍ لَهُ، كَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. [[انظر: السيرة النبوية لابن هشام (١/٤٤٣) .]]
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا عَرْفَاءَ عَلَى قَوْمِهِمْ لَيْلَتَئِذٍ عَنْ أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَهُمُ الَّذِينَ وُلُّوا الْمُبَايَعَةَ وَالْمُعَاقَدَةَ عَنْ قَوْمِهِمْ لِلنَّبِيِّ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُجالد، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هَلْ سَأَلْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: كَمْ يَمْلِكُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ خَلِيفَةٍ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ قدمتُ الْعِرَاقَ قَبْلَكَ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ وَلَقَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "اثْنَا عَشَرَ كَعِدَّةِ نُقَبَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ".
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ [[المسند (١/٣٩٨) وقال الهيثمي في المجمع (٥/١٩٠) : "فيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات".]] وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ [[في أ: "عن".]] حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرة قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: "لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا". ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ بِكَلِمَةٍ خَفِيَتْ عَلَيّ، فَسَأَلْتُ أَبِي: مَاذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ؟ قَالَ: "كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ".
وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ [[صحيح مسلم برقم (١٨٢٢) .]] وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ الْبِشَارَةُ بِوُجُودِ اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً صَالِحًا [[في ر: "صالح".]] يُقِيمُ الْحَقَّ وَيَعْدِلُ فِيهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَوَالِيهِمْ [[في ر: "تتاليهم".]] وَتَتَابُعُ أَيَّامِهِمْ، بَلْ قَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ عَلَى نَسَق، وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِلَا شَكٍّ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، وَبَعْضُ بَنِي الْعَبَّاسِ. وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أن مِنْهُمُ الْمَهْدِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِذِكْرِهِ: أَنَّهُ يُواطئُ اسمُه اسْمَ النَّبِيِّ ﷺ، وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِيهِ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عدْلا وقِسْطًا، كَمَا مُلِئَتْ جَوْرا وظُلْمًا، وَلَيْسَ هَذَا بِالْمُنْتَظَرِ الَّذِي يَتَوَهَّمُ الرَّافِضَةُ وُجُودَهُ ثُمَّ ظُهُورَهُ مِنْ سِرْدَابِ "سَامرّاء". فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا وُجُودٌ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ هُوَ مِنْ هَوَسِ الْعُقُولِ السَّخِيفَةِ، وَتَوَهُّم الْخَيَالَاتِ الضَّعِيفَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الْأَئِمَّةَ [الِاثْنَيْ عَشَرَ] [[زيادة من ر، أ.]] الَّذِينَ يَعْتَقِدُ فِيهِمُ الِاثْنَا عَشْرِيَّةَ مِنَ الرَّوَافِضِ، لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ. وَفِي التَّوْرَاةِ الْبِشَارَةُ بِإِسْمَاعِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ يُقِيمُ مِنْ صُلْبِه اثْنَيْ عَشَرَ عَظِيمًا، وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ الِاثْنَا عَشَرَ الْمَذْكُورُونَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرة، وَبَعْضِ الْجَهَلَةِ مِمَّنْ أَسْلَمَ [[في ر: "يسلم".]] مِنَ الْيَهُودِ إِذَا اقْتَرَنَ بِهِمْ بَعْضُ الشِّيعَةِ يُوهِمُونَهُمْ أَنَّهُمُ الْأَئِمَّةُ الِاثْنَا عَشَرَ، فَيَتَشَيَّعُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ جَهْلًا وسَفَها، لِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعِلْمِ مَنْ لَقَّنَهُمْ ذَلِكَ بِالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
* * *
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ﴾ أَيْ: بِحِفْظِي وكَلاءتي وَنَصْرِي ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾ أَيْ: صَدَقْتُمُوهُمْ فِيمَا يَجِيئُونَكُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ أَيْ: نَصَرْتُمُوهُمْ وَآزَرْتُمُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ ﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ وَهُوَ: الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ ﴿لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أَيْ: ذُنُوبَكُمْ أَمْحُوهَا وَأَسْتُرُهَا، وَلَا أُؤَاخِذُكُمْ بِهَا ﴿وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ﴾ أَيْ: أَدْفَعُ عَنْكُمُ الْمَحْذُورَ، وَأُحَصِّلُ لَكُمُ الْمَقْصُودَ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ أَيْ: فَمَنْ خَالَفَ هَذَا الْمِيثَاقَ بَعْدَ عَقْده وَتَوْكِيدِهِ وشدَه، وَجَحَدَهُ وَعَامَلَهُ مُعَامَلَةَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ الْحَقَّ، وَعَدَلَ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّا أَحَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ عِنْدَ مُخَالَفَتِهِمْ مِيثَاقَهُ وَنَقْضِهِمْ عَهْدَهُ، فَقَالَ: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ﴾ أَيْ: فَبِسَبَبِ نَقْضِهِمُ الميثاقَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ لَعَنَّاهُمْ، أَيْ أَبْعَدْنَاهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَطَرَدْنَاهُمْ عَنِ الْهُدَى، ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ أَيْ: فَلَا يَتَّعِظُونَ [[في أ: "فلا تنتفع".]] بِمَوْعِظَةٍ لِغِلَظِهَا وَقَسَاوَتِهَا، ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ أَيْ: فَسَدَتْ [[في ر: "وفسدت".]] فُهومهم، وَسَاءَ تَصَرُّفُهُمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَتَأَوَّلُوا كِتَابَهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَهُ، وَحَمَلُوهُ عَلَى غَيْرِ مُرَادِهِ، وَقَالُوا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، ﴿وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ أَيْ: وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ رَغْبَةً عَنْهُ.
قَالَ الْحَسَنُ: تَرَكُوا عُرَى دِينِهِمْ وَوَظَائِفَ اللَّهِ الَّتِي لَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ إِلَّا بِهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: تَرَكُوا الْعَمَلَ فَصَارُوا إِلَى حَالَةٍ رَدِيئَةٍ، فَلَا قُلُوبَ سَلِيمَةٌ، وَلَا فِطَرَ مُسْتَقِيمَةٌ، وَلَا أَعْمَالَ قَوِيمَةٌ.
﴿وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ﴾ يَعْنِي: مَكْرُهُمْ وغَدْرهم لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي بِذَلِكَ تَمَالُؤَهُمْ عَلَى الْفَتْكِ بِالنَّبِيِّ، ﷺ.
﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السلف: ما عاملت من عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ. وَبِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تَأْلِيفٌ وَجَمْعٌ عَلَى الْحَقِّ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ يَعْنِي بِهِ: الصَّفْحَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر [وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] ﴾ [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]] [التَّوْبَةِ: ٢٩]
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾ أَيْ: وَمِنَ الَّذِينَ ادَّعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ نَصَارَى يُتَابِعُونَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسُوا كَذَلِكَ، أَخَذْنَا عَلَيْهِمُ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ عَلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَمُنَاصَرَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ وَاقْتِفَاءِ آثَارِهِ، وَالْإِيمَانِ بِكُلِّ نَبِيٍّ يُرْسِلُهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، أَيْ: فَفَعَلُوا كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ، خَالَفُوا الْمَوَاثِيقَ وَنَقَضُوا الْعُهُودَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أَيْ: فَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالتَّبَاغُضَ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ إِلَى [[في أ: "إلى يوم القيامة وهو".]] قِيَامِ السَّاعَةِ. وَكَذَلِكَ طَوَائِفُ النَّصَارَى عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ لَا يَزَالُونَ مُتَبَاغِضِينَ مُتَعَادِينَ، يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ فَكُلُّ فِرْقَةٍ تُحَرم الْأُخْرَى وَلَا تَدَعُهَا تَلجُ مَعْبَدَهَا، فَالْمَلَكِيَّةُ تُكَفِّرُ الْيَعْقُوبِيَّةَ، وَكَذَلِكَ الْآخَرُونَ، وَكَذَلِكَ النُّسْطُورِيَّةُ وَالْأَرْيُوسِيَّةُ، كُلُّ طَائِفَةٍ تُكَفِّرُ [[في أ: "تلعن".]] الْأُخْرَى فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِلنَّصَارَى عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَمَا نَسَبُوهُ إِلَى الرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ، وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا، مِنْ جَعْلِهِمْ لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، تَعَالَى الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفوًا أَحَدٌ.
{"ayahs_start":12,"ayahs":["۞ وَلَقَدۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ وَبَعَثۡنَا مِنۡهُمُ ٱثۡنَیۡ عَشَرَ نَقِیبࣰاۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّی مَعَكُمۡۖ لَىِٕنۡ أَقَمۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَیۡتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِی وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ وَأَقۡرَضۡتُمُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمۡ سَیِّـَٔاتِكُمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّكُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۚ فَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَاۤءَ ٱلسَّبِیلِ","فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّیثَـٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَـٰسِیَةࣰۖ یُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُوا۟ حَظࣰّا مِّمَّا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَاۤىِٕنَةࣲ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِیلࣰا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ","وَمِنَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّا نَصَـٰرَىٰۤ أَخَذۡنَا مِیثَـٰقَهُمۡ فَنَسُوا۟ حَظࣰّا مِّمَّا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ فَأَغۡرَیۡنَا بَیۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ وَسَوۡفَ یُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُوا۟ یَصۡنَعُونَ"],"ayah":"فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّیثَـٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَـٰسِیَةࣰۖ یُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُوا۟ حَظࣰّا مِّمَّا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَاۤىِٕنَةࣲ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِیلࣰا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق