الباحث القرآني
ولَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - ما أُخِذَ عَلى اليَهُودِ مِنَ المِيثاقِ؛ ووَعِيدِهِ لَهم إنْ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ؛ ذَكَرَ أنَّهم نَقَضُوا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ - كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ ”البَقَرَةِ“؛ وغَيْرِها كَثِيرٍ؛ مِنهُ عَنْ نَصِّ ما عِنْدَهم مِنَ التَّوْراةِ - فاسْتَحَقُّوا ما هم فِيهِ مِنَ الخِزْيِ؛ فَقالَ (تَعالى) - مُسَبِّبًا عَمّا مَضى؛ مُؤَكِّدًا بِـ ”ما“؛ النّافِيَةِ لِضِدِّ ما أثْبَتَهُ الكَلامُ -: ﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ﴾؛ أيْ: بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ الآتِينَ مِن بَعْدِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ وقَتْلِهِمُ الأنْبِياءَ؛ ونَبْذِهِمْ كِتابَ اللَّهِ وراءَ ظُهُورِهِمْ في كِتْمانِهِمْ أمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ؛ (p-٥٧)لا بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ كَما نَقَضَ بَنُو النَّضِيرِ؛ فَسَلَّطَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ بِما أشارَ إلَيْهِمْ في سُورَةِ ”الحَشْرِ“؛ ﴿لَعَنّاهُمْ﴾؛ أيْ: أبْعَدْناهم بَعْدَ أنْ وعَدْناهُمُ القُرْبَ بِالكَوْنِ مَعَهم إنْ وفَوْا.
ولَمّا كانَ البَعِيدُ قَدْ يَكُونُ رَقِيقَ القَلْبِ؛ مُتَأسِّفًا عَلى بُعْدِهِ؛ ساعِيًا في أسْبابِ قُرْبِهِ؛ باقِيًا عَلى عافِيَةِ رَبِّهِ؛ فَيُرْجى بِذَلِكَ لَهُ الغُفْرانُ لِذَنْبِهِ؛ أخْبَرَ أنَّهم عَلى غَيْرِ ذَلِكَ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْنا﴾؛ أيْ: بِعَظَمَتِنا؛ ﴿قُلُوبَهم قاسِيَةً﴾؛ أيْ: صُلْبَةً؛ عاسِيَةً بِالغِشِّ فَهي غَيْرُ قابِلَةٍ لِلنَّصِيحَةِ؛ لِأنَّ الذَّهَبَ الخالِصَ يَكُونُ لَيِّنًا؛ والمَغْشُوشَ يَكُونُ فِيهِ يَبَسٌ وصَلابَةٌ؛ وكُلُّ لَيِّنٍ قابِلٌ لِلصَّلاحِ بِسُهُولَةٍ؛ ثُمَّ بَيَّنَ قَساوَتَها بِما دَلَّ عَلى نَقْضِهِمْ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ﴾؛ أيْ: يُجَدِّدُونَ كُلَّ وقْتٍ تَحْرِيفَهُ؛ ﴿عَنْ مَواضِعِهِ﴾؛ فَإنَّهم كُلَّما وجَدُوا شَيْئًا مِن كَلامِ اللَّهِ يَشْهَدُ بِضَلالِهِمْ حَرَّفُوهُ إلى شَهَواتِهِمْ؛ وأوَّلُوهُ التَّأْوِيلَ الباطِلَ بِأهْوائِهِمْ؛ فَهم يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ ومَعانِيَها.
ولَمّا كانُوا قَدْ تَرَكُوا أصْلًا ورَأْسًا ما لا يَقْدِرُونَ لِصَراحَتِهِ عَلى تَحْرِيفِهِ؛ قالَ - مُعَبِّرًا بِالماضِي؛ إعْلامًا بِحَرْمِهِمُ بِالبَراءَةِ مِن ذَلِكَ -: ﴿ونَسُوا حَظًّا﴾؛ أيْ: نَصِيبًا نافِعًا؛ مُعْلِيًا لَهُمْ؛ ﴿مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾؛ أيْ: مِنَ التَّوْراةِ؛ عَلى ألْسِنَةِ أنْبِيائِهِمْ؛ عِيسى ومَن قَبْلَهُ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ -؛ تَرَكُوهُ تَرْكَ النّاسِي لِلشَّيْءِ؛ لِقِلَّةِ مُبالاتِهِ (p-٥٨)بِهِ؛ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهم رُجُوعٌ إلَيْهِ؛ وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ: قَدْ يَنْسى المَرْءُ بَعْضَ العِلْمِ بِالمَعْصِيَةِ؛ وتَلا هَذِهِ الآيَةَ.
ولَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - ما يَفْعَلُونَهُ في حَقِّهِ في كَلامِهِ؛ الَّذِي هو صِفَتُهُ؛ أتْبَعَهُ ما يَعُمُّ حَقَّهُ وحَقَّ نَبِيِّهِ ﷺ عَلى وجْهٍ مُعْلِمٍ أنَّ الخِيانَةَ دَيْدَنُهُمْ؛ تَسْلِيَةً لَهُ ﷺ فَقالَ: ﴿ولا تَزالُ﴾؛ أيْ: بِما نُطْلِعُكَ عَلَيْهِ يا أكْرَمَ الخَلْقِ؛ ﴿تَطَّلِعُ﴾؛ أيْ: تُظْهَرُ ظُهُورًا بَلِيغًا ﴿عَلى خائِنَةٍ﴾؛ أيْ: خِيانَةٍ عَظِيمَةٍ؛ تَسْتَحِقُّ أنْ تُسَمِّيَ فاعِلَها الخَؤُونَ؛ لِشِدَّتِها؛ و﴿مِنهُمْ﴾؛ أيْ: في حَقِّكَ؛ بِقَصْدِ الأذى؛ وفي حَقِّ اللَّهِ (تَعالى)؛ بِإخْفاءِ بَعْضِ ما شَرَعَهُ لَهُمْ؛ ﴿إلا قَلِيلا مِنهُمْ﴾؛ فَإنَّهم يَكُونُونَ عَلى نَهْجِ الِاسْتِقامَةِ؛ إمّا بِالإيمانِ؛ وإمّا بِالوَفاءِ؛ وهم مُتَمَسِّكُونَ بِالكُفْرِ؛ ثُمَّ سَبَّبَ عَنْ هَذا الَّذِي في حَقِّهِ ﷺ قَوْلَهُ: ﴿فاعْفُ عَنْهُمْ﴾؛ أيْ: امْحُ ذَنْبَهم ذَلِكَ الَّذِي اجْتَرَحُوهُ؛ وهو دُونَ النَّقْضِ والتَّحْرِيفِ؛ فَلا تُعاقِبْهم عَلَيْهِ.
ولَمّا كانَ العَفْوُ لا يَمْنَعُ المُعاتَبَةَ قالَ: ﴿واصْفَحْ﴾؛ أيْ: وأعْرِضْ عَنْ ذَلِكَ أصْلًا؛ ورَأْسًا؛ فَلا تُعاتِبْهم عَلَيْهِ؛ كَما لَمْ تُعاقِبْهُمْ؛ فَإنَّ ذَلِكَ إحْسانٌ مِنكَ؛ وإذا أحْسَنْتَ أحَبَّكَ اللَّهُ؛ ﴿إنَّ اللَّهَ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ؛ ﴿يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾؛ وذَلِكَ - كَما رَوى الشَّيْخانِ؛ وغَيْرُهُما؛ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْها - أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - سَحَرَهُ رَجُلٌ مِنَ (p-٥٩)اليَهُودِ؛ يُقالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأعْصَمِ؛ وفي رِوايَةٍ لِلْبُخارِيِّ: إنَّهُ رَجُلٌ مِن بَنِي زُرَيْقٍ؛ حَلِيفٌ لِيَهُودٍ؛ وكانَ مُنافِقًا - حَتّى كانَ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّهُ يَأْتِي النِّساءَ؛ ولا يَأْتِيهِنَّ؛ وذَلِكَ أشَدُّ السِّحْرِ؛ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ (تَعالى) شَفاهُ؛ وأعْلَمَهُ أنَّ السِّحْرَ في بِئْرِ ذَرْوانَ؛ فَقالَتْ لَهُ عائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: أفَلا أخْرَجْتَهُ؟ فَقالَ: ”لا.. أمّا أنا فَقَدْ عافانِي اللَّهُ؛ وكَرِهْتُ أنْ أثِيرَ عَلى النّاسِ شَرًّا“؛ فَأمَرَ بِها فَدُفِنَتْ؛ وهو في مُعْجَمِ الطَّبَرانِيِّ الكَبِيرِ - وهَذا لَفْظُهُ - ومُسْنَدِ أبِي يَعْلى المَوْصِلِيِّ؛ وسُنَنِ النِّسائِيِّ الكُبْرى؛ ومُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ؛ وأبِي بَكْرِ بْنِ أبِي شَيْبَةَ؛ وأحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ؛ عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - قالَ: «كانَ رَجُلٌ يَدْخُلُ عَلى النَّبِيِّ ﷺ فَعَقَدَ لَهُ عُقَدًا؛ فَجَعَلَهُ في بِئْرِ رَجُلٍ مِنَ الأنْصارِ؛ فَأتاهُ مَلَكانِ يَعُودانِهِ؛ فَقَعَدَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِهِ؛ والآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ؛ فَقالَ أحَدُهُما: أتَدْرِي ما وجَعَهُ؟ قالَ: فُلانٌ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَيْهِ؛ عَقَدَ لَهُ عُقَدًا؛ فَألْقاهُ في بِئْرِ فُلانٍ الأنْصارِيِّ؛ فَلَوْ أرْسَلَ إلَيْهِ رَجُلًا لَوَجَدَ الماءَ أصْفَرَ؛ فَبَعَثَ رَجُلًا فَأخَذَ العُقَدَ فَحَلَّها؛ فَبَرَأ؛ فَكانَ الرَّجُلُ بَعْدَ ذَلِكَ يَدْخُلُ عَلى النَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ شَيْئًا مِنهُ؛ ولَمْ يُعاتِبْهُ؛» ولِلشَّيْخَيْنِ «عَنْ أنَسٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - أنَّ (p-٦٠)امْرَأةً يَهُودِيَّةً أتَتِ النَّبِيَّ ﷺ بِشاةٍ مَسْمُومَةٍ؛ فَأكَلَ مِنها؛ فَجِيءَ بِها إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَألَها عَنْ ذَلِكَ؛ فَقالَتْ: أرَدْتُ لِأقْتُلَكَ؛ قالَ: ”ما كانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلى ذَلِكَ“؛ - أوْ قالَ: ”عَلَيَّ“ - قالُوا: فَلا تَقْتُلُها؟ قالَ: ”لا“؛ قالَ: فَما زِلْتُ أعْرِفُها في لَهَواتِ النَّبِيِّ ﷺ؛» وفي رِوايَةٍ: إنَّها كانَتْ سَبَبَ مَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ بِانْقِطاعِ أبْهَرِهِ الشَّرِيفِ مِنها بَعْدَ سِنِينَ؛ وفي سُنَنِ أبِي داوُدَ مِن وجْهٍ مُرْسَلٍ أنَّهُ قَتَلَ اليَهُودِيَّةَ؛ والأوَّلُ هو الصَّحِيحُ؛ وسَيَأْتِي لِهَذا الحَدِيثِ ذِكْرٌ في هَذِهِ السُّورَةِ؛ عِنْدَ ﴿واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧]؛ فَهَذا غايَةُ العَفْوِ والإحْسانِ؛ امْتِثالًا لِأمْرِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ.
{"ayah":"فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّیثَـٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَـٰسِیَةࣰۖ یُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُوا۟ حَظࣰّا مِّمَّا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَاۤىِٕنَةࣲ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِیلࣰا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق