هَذَا صِنْفٌ آخَرُ مِمَّا خَلَقَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ، يَمْتَنُّ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ: الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ، الَّتِي جَعَلَهَا لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ بِهَا، وَذَلِكَ أَكْبَرُ الْمَقَاصِدِ مِنْهَا، وَلَمَّا فَصَلها مِنَ الْأَنْعَامِ وَأَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ اسْتَدَلَّ مَنِ اسْتَدَلَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ -مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى تَحْرِيمِ لُحُومِ الْخَيْلِ -بِذَلِكَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِيهَا، كَالْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ [[في ف، أ: "رحمة الله عليه".]] وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ [[في ت: "العلماء".]] ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَهَا بِالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَهِيَ حَرَامٌ، كَمَا ثَبَتَتْ بِهِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة، أَنْبَأَنَا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مَوْلَى نَافِعِ بْنِ عَلْقَمَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَكْرَهُ لُحُومَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَكَانَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ: ﴿وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ فَهَذِهِ لِلْأَكْلِ، ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا﴾ فَهَذِهِ لِلرُّكُوبِ [[تفسير الطبري (١٤/٥٧) .]] .
وَكَذَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَير وَغَيْرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِمِثْلِهِ. وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ [[في ت، ف، أ: "عيينة".]] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [[في ت: "رحمه الله".]] أَيْضًا، وَاسْتَأْنَسُوا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حَدَّثَنَا بَقِيَّة بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ --وَفِيهِ كَلَامٌ -بِهِ [[المسند (٤/٨٩) وسنن أبي داود برقم (٣٧٩٠) وسنن النسائي (٧/٢٠٢) وسنن ابن ماجة برقم (٣١٩٨) .]] .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا وَأَدَلَّ مِنْهُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ، عَنْ جَدِّهِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الصَّائِفَةَ، فقَرِم [[في ت: "فغرم".]] أَصْحَابُنَا إِلَى اللَّحْمِ، فَسَأَلُونِي رَمَكة، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِمْ فَحبَلوها وَقُلْتُ [[في أ: "فقلت".]] : مَكَانَكُمْ حَتَّى آتِيَ خَالِدًا فَأَسْأَلَهُ. فَأَتَيْتُهُ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ غَزْوَةَ خَيْبَرَ، فَأَسْرَعَ النَّاسُ فِي حَظَائِرِ يَهُودَ، فَأَمَرَنِي أَنْ أُنَادِيَ: "الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُسْلِمٌ" ثُمَّ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ قَدْ أَسْرَعْتُمْ فِي حَظَائِرِ يَهُودَ، أَلَا لَا تَحِلُّ [[في ف: "لا يحل".]] أَمْوَالُ الْمُعَاهَدِينَ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحَرَامٌ عَلَيْكُمْ لُحُومُ الْأُتُنِ [[في ت، ف: "الحمر".]] الْأَهْلِيَّةِ وَخَيْلِهَا وَبِغَالِهَا، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ" [[المسند (٤/٨٩) .]] .
وَالرَّمَكَةُ: هِيَ الحِجْرَة. وَقَوْلُهُ: حَبَلوها، أَيْ: أَوْثَقُوهَا فِي الْحَبْلِ لِيَذْبَحُوهَا. وَالْحَظَائِرُ: الْبَسَاتِينُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْعُمْرَانِ.
وَكَأَنَّ هَذَا الصَّنِيعَ وَقَعَ بَعْدَ إِعْطَائِهِمُ الْعَهْدَ وَمُعَامَلَتِهِمْ عَلَى الشَّطْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ لَكَانَ نصًّا فِي تَحْرِيمِ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَلَكِنْ لَا يقاوِمُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ لُحُومٍ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ [[صحيح البخاري برقم (٤٢١٩، ٥٥٢٤) . وصحيح مسلم برقم (١٩٤١) .]] .
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادَيْنِ، كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: ذَبَحْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنِ الْخَيْلِ [[المسند (٣/٣٥٦) وسنن أبي داود برقم (٣٧٨٩) .]] .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ [[صحيح مسلم برقم (١٩٤٢) .]] .
فَهَذِهِ أَدَلُّ وَأَقْوَى وَأَثْبَتُ، وَإِلَى ذَلِكَ صَارَ جمهورُ الْعُلَمَاءِ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُهُمْ، وَأَكْثَرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْج، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْخَيْلُ وَحْشِيَّةً، فَذَلَّلَهَا اللَّهُ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فِي إِسْرَائِيلِيَّاتِهِ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَيْلَ مِنْ رِيحِ الْجَنُوبِ، وَاللَّهُ [[في ت: "فالله".]] أَعْلَمُ.
فَقَدْ دَلَّ النَّصُّ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ هَذِهِ الدَّوَابِّ، وَمِنْهَا الْبِغَالُ. وَقَدْ أُهْدَيَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَغْلَةٌ، فَكَانَ يَرْكَبُهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْ إِنْزِاءِ الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ النَّسْلُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ مِنْ آلِ حُذَيْفَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ دَحْية الْكَلْبِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَحْمِلُ لَكَ حِمَارًا عَلَى فَرَسٍ، فَتُنْتِجَ لَكَ بَغْلًا فَتَرْكَبَهَا؟ قَالَ: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون" [[المسند (٤/٣١١) .]] .
{"ayah":"وَٱلۡخَیۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِیرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِینَةࣰۚ وَیَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ"}