الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٧-٨] ﴿وتَحْمِلُ أثْقالَكم إلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إلا بِشِقِّ الأنْفُسِ إنَّ رَبَّكم لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿والخَيْلَ والبِغالَ والحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وزِينَةً ويَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٨] . ﴿وتَحْمِلُ أثْقالَكُمْ﴾ أيْ: أحْمالَكم: ﴿إلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إلا بِشِقِّ الأنْفُسِ﴾ بِكَسْرِ اَلشِّينِ اَلْمُعْجَمَةِ وفَتْحِها، قِراءَتانِ، وهُما لُغَتانِ في مَعْنى (اَلْمَشَقَّةِ) أيْ: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ بِأنْفُسِكم إلّا بِجُهْدٍ ومَشَقَّةٍ، فَضْلًا عَنْ أنْ تَحْمِلُوا عَلى ظُهُورِكم أثْقالَكم: ﴿إنَّ رَبَّكم لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ أيْ: حَيْثُ سَخَّرَها لِمَنافِعِكم. ثُمَّ أشارَ إلى ما هو أتَمُّ في دَفْعِ اَلْمَشَقَّةِ وإفادَةِ اَلزِّينَةِ، فَقالَ: ﴿والخَيْلَ والبِغالَ والحَمِيرَ﴾ [النحل: ٨] عَطَفَ عَلى (اَلْأنْعامَ): ﴿لِتَرْكَبُوها وزِينَةً﴾ [النحل: ٨] عَطْفَ مَحَلٍّ (لِتَرْكَبُوها) فَهي مَفْعُولٌ لَهُ، أوْ مَصْدَرٌ لِمَحْذُوفٍ. أيْ: وتَتَزَيَّنُوا بِها زِينَةً، أوْ مَصْدَرٌ واقِعٌ مَوْقِعَ اَلْحالِ مِن فاعِلِ (تَرْكَبُوها) أوْ مَفْعُولِهِ. أيْ: مُتَزَيِّنِينَ بِها، أوْ مُتَزَيِّنًا بِها. وسِرُّ اَلتَّصْرِيحِ بِاللّامِ في اَلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، دُونَ اَلْمَعْطُوفِ؛ هو اَلْإشارَةُ إلى أنَّ اَلْمَقْصُودَ اَلْمُعْتَبَرُ اَلْأصْلِيُّ في اَلْأصْنافِ؛ هو اَلرُّكُوبُ. وأمّا اَلتَّزَيُّنُ بِها فَأمْرٌ تابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ قَصْدَ اَلرُّكُوبِ. فاقْتَرَنَ اَلْمَقْصُودُ اَلْمُهِمُّ بِاللّامِ اَلْمُفِيدَةِ لِلتَّعْلِيلِ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ أهَمُّ اَلْغَرَضَيْنِ وأقْوى اَلسَّبَبَيْنِ. وتَجَرَّدَ اَلتَّزَيُّنُ مِنها تَنْبِيهًا عَلى تَبَعِيَّتِهِ أوْ قُصُورِهِ عَنِ اَلرُّكُوبِ. واَللَّهُ أعْلَمُ. كَذا في (اَلِانْتِصافِ) . تَنْبِيهٌ: اِسْتَدَلَّ بِهَذِهِ اَلْآيَةِ اَلْقائِلُونَ بِتَحْرِيمِ لُحُومِ اَلْخَيْلِ، قائِلِينَ بِأنَّ اَلتَّعْلِيلَ بِالرُّكُوبِ يَدُلُّ عَلى (p-٣٧٨١)أنَّها مَخْلُوقَةٌ لِهَذِهِ اَلْمَصْلَحَةِ دُونَ غَيْرِها. قالُوا: ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ إفْرادُ هَذِهِ اَلْأنْواعِ اَلثَّلاثَةِ بِالذِّكْرِ وإخْراجُها عَنِ اَلْأنْعامِ. فَيُفِيدُ ذَلِكَ اِتِّحادَ حُكْمِها في تَحْرِيمِ اَلْأكْلِ. قالُوا: ولَوْ كانَ أكْلُ اَلْخَيْلِ جائِزًا؛ لَكانَ ذِكْرُهُ والِامْتِنانُ بِهِ أوْلى مِن ذِكْرِ اَلرُّكُوبِ؛ لِأنَّهُ أعْظَمُ فائِدَةً مِنهُ. وأجابَ اَلْمُجَوِّزُونَ لِأكْلِها، بِأنَّهُ لا حُجَّةَ في اَلتَّعْلِيلِ بِالرُّكُوبِ؛ لِأنَّ ذِكْرَ ما هو اَلْأغْلَبُ مِن مَنافِعِها لا يُنافِي غُيْرَهُ. ولا نُسَلِّمُ أنَّ اَلْأكْلَ أكْثَرُ فائِدَةٍ مِنَ اَلرُّكُوبِ حَتّى يُذْكَرَ ويَكُونَ ذِكْرُهُ أقْدَمَ مِن ذِكْرِ اَلرُّكُوبِ. وأيْضًا لَوْ كانَتْ هَذِهِ اَلْآيَةُ تَدُلُّ عَلى تَحْرِيمِ اَلْخَيْلِ؛ لَدَلَّتْ عَلى تَحْرِيمِ اَلْحُمُرِ اَلْأهْلِيَّةِ، وحِينَئِذٍ لا يَكُونُ ثَمَّ حاجَةٌ لِتَجْدِيدِ اَلتَّحْرِيمِ لَها عامَ خَيْبَرَ. وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ هَذِهِ اَلسُّورَةَ مَكِّيَّةٌ. والحاصِلُ: أنَّ اَلْأدِلَّةَ اَلصَّحِيحَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلى حِلِّ أكْلِ لُحُومِ اَلْخَيْلِ. فَلَوْ سَلَّمْنا أنَّ هَذِهِ اَلْآيَةَ مُتَمَسَّكًا لِلْقائِلِينَ بِالتَّحْرِيمِ؛ لَكانَتِ اَلسُّنَّةُ اَلْمُطَهَّرَةُ اَلثّابِتَةُ رافِعَةً لِهَذا اَلِاحْتِمالِ، ودافِعَةً لِهَذا اَلِاسْتِدْلالِ. وقَدْ ورَدَ في حِلِّ أكْلِ لُحُومِ اَلْخَيْلِ، أحادِيثُ مِنها ما في اَلصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما مِن حَدِيثِ أسْماءَ قالَتْ: «نَحَرْنا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَرَسًا، فَأكَلْناهُ» . وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ واَلتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، والنَّسائِيُّ وغَيْرُهم عَنْ جابِرٍ قالَ: «أطْعَمْنا رَسُولَ اَللَّهِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لُحُومَ اَلْخَيْلِ، ونَهانا عَنْ لُحُومِ اَلْحُمُرِ اَلْأهْلِيَّةِ» . وأخْرَجَ أبُو داوُدَ (p-٣٧٨٢)نَحْوَهُ. وثَبَتَ أيْضًا في اَلصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ جابِرٍ قالَ: «نَهى رَسُولُ اَللَّهِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ اَلْحُمُرِ اَلْأهْلِيَّةِ، وأذِنَ في اَلْخَيْلِ» . وأمّا ما أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ وغَيْرُهُما مِن حَدِيثِ خالِدِ بْنِ اَلْوَلِيدِ قالَ: «نَهى رَسُولُ اَللَّهِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ أكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ اَلسِّباعِ، وعَنْ لُحُومِ اَلْخَيْلِ والبِغالِ والحَمِيرِ». فَفي إسْنادِهِ صالِحُ بْنُ يَحْيى، فِيهِ مَقالٌ. ولَوْ فُرِضَ صِحَّتُهُ لَمْ يَقْوَ عَلى مُعارَضَةِ أحادِيثِ اَلْحَلِّ. عَلى أنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلى يَوْمِ خَيْبَرَ، فَيَكُونُ مَنسُوخًا. كَذا في " فَتْحِ اَلْبَيانِ " . وفِي (اَلْإكْلِيلِ): أخَذَ اَلْمالِكِيَّةُ، مِنَ اَلِاقْتِرانِ اَلْمَذْكُورِ، رَدًّا عَلى اَلْحَنَفِيَّةِ في قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ اَلزَّكاةِ فِيها. أيِ: اَلْخَيْلِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٨] أيْ: مِنَ اَلْمَخْلُوقاتِ في اَلْقِفارِ والبِحارِ، وصِيغَةُ اَلِاسْتِقْبالِ لِلدَّلالَةِ عَلى اَلتَّجَدُّدِ والِاسْتِمْرارِ. أوْ لِاسْتِحْضارِ اَلصُّورَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب