الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والخَيْلَ والبِغالَ والحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها﴾ رَوى هِشامُ الدَّسْتُوائِيُّ عَنْ يَحْيى بْنِ أبِي كَثِيرٍ عَنْ نافِعٍ عَنْ عَلْقَمَةَ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ كانَ يَكْرَهُ لُحُومَ الخَيْلِ والبِغالِ والحَمِيرِ، وكانَ يَقُولُ في ﴿والأنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ﴾ [النحل: ٥] إنَّ هَذِهِ لِلْأكْلِ وهَذِهِ لِلرُّكُوبِ ﴿والخَيْلَ والبِغالَ والحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها﴾ ورَوى أبُو حَنِيفَةَ عَنِ الهَيْثَمِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كَرِهَ لُحُومَ الخَيْلِ وتَأوَّلَ: ﴿والخَيْلَ والبِغالَ والحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وزِينَةً﴾ قالَ أبُو بَكْرٍ: فَهَذا دَلِيلٌ ظاهِرٌ عَلى حَظْرِ لُحُومِها وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ الأنْعامَ وعَظَّمَ مَنافِعَها، فَذَكَرَ مِنها الأكْلَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والأنْعامَ خَلَقَها لَكم فِيها دِفْءٌ ومَنافِعُ ومِنها تَأْكُلُونَ﴾ [النحل: ٥] ثُمَّ ذَكَرَ الخَيْلَ والبِغالَ والحَمِيرَ وذَكَرَ مَنافِعَها الرُّكُوبَ والزِّينَةَ، فَلَوْ كانَ الأكْلُ مِن مَنافِعِها وهو مِن أعْظَمِ المَنافِعِ لَذَكَرَهُ كَما ذَكَرَهُ مِن مَنافِعِ الأنْعامِ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِ أخْبارٌ مُتَضادَّةٌ في الإباحَةِ والحَظْرِ، فَرَوى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ عَنْ يَحْيى بْنِ أبِي كَثِيرٍ عَنْ أبِي سَلَمَةَ عَنْ جابِرٍ قالَ: «لَمّا كانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أصابَ النّاسَ مَجاعَةٌ، فَذَبَحُوها، فَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لُحُومَ الحُمُرِ الإنْسِيَّةِ ولُحُومَ الخَيْلِ والبِغالِ وكُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ وكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وحَرَّمَ الخِلْسَةَ والنُّهْبَةَ». ورَوى سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «أطْعَمَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لُحُومَ الخَيْلِ ونَهانا عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ»، ولَمْ يَسْمَعْ عَمْرُو بْنُ دِينارٍ هَذا الحَدِيثَ مِن جابِرٍ وذَلِكَ لِأنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ رَواهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ جابِرٍ، وجابِرٌ لَمْ يَشْهَدْ خَيْبَرَ لِأنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إسْحاقَ رَوى عَنْ سَلامِ بْنِ كَرْكَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ عَنْ جابِرٍ، ولَمْ يَشْهَدْ جابِرٌ خَيْبَرَ وأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهى عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ وأذِنَ لَهم في لُحُومِ الخَيْلِ فَوَرَدَتْ أخْبارُ جابِرٍ في ذَلِكَ مُتَعارِضَةً، فَجائِزٌ حِينَئِذٍ أنْ يُقالَ فِيها وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ إذا ورَدَ (p-٣)خَبَرانِ أحَدُهُما حاظِرٌ والآخَرُ مُبِيحٌ فالحَظْرُ أوْلى، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ الشّارِعُ أباحَهُ في وقْتٍ ثُمَّ حَظَرَهُ وذَلِكَ لِأنَّ الأصْلَ كانَ الإباحَةَ والحَظْرَ طارِئٌ عَلَيْها لا مَحالَةَ، ولا نَعْلَمُ إباحَةً بَعْدَ الحَظْرِ، فَحُكْمُ الحَظْرِ ثابِتٌ لا مَحالَةَ؛ إذْ لَمْ تَثْبُتْ إباحَةٌ بَعْدَ الحَظْرِ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ جَماعَةٍ مِن السَّلَفِ هَذا المَعْنى وذَلِكَ لِأنَّ ابْنَ وهْبٍ رَوى عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ بَعْدَ العَصْرِ ونَحْنُ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ ومِائَةٍ، وبِها يَوْمَئِذٍ رِجالٌ مِن أهْلِ العِلْمِ كَثِيرٌ مِنهُمُ ابْنُ شِهابٍ وأبُو بَكْرِ بْنُ حَزْمٍ وقَتادَةُ وعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، قالَ: فَقُمْنا قِيامًا بَعْدَ العَصْرِ نَدْعُو اللَّهَ، فَقُلْتُ لِأيُّوبَ بْنِ مُوسى القُرَشِيِّ: ما لَهم لا يُصَلُّونَ وقَدْ صَلّى النَّبِيُّ ﷺ قالَ: النَّهْيُ قَدْ جاءَ في الصَّلاةِ بَعْدَ العَصْرِ أنْ لا تُصَلِّيَ، فَلِذَلِكَ لا يُصَلُّونَ، وإنَّ النَّهْيَ يَقْطَعُ الأمْرَ فَهَذا أحَدُ الوَجْهَيْنِ في حَدِيثِ جابِرٍ. والوَجْهُ الآخَرُ: أنْ يَتَعارَضَ خَبَرا جابِرٍ فَيَسْقُطا كَأنَّهُما لَمْ يَرِدا، وقَدْ رَوى إسْرائِيلُ بْنُ يُونُسَ عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ الجَزَرِيِّ عَنْ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ عَنْ جابِرٍ قالَ: كُنّا نَأْكُلُ لُحُومَ الخَيْلِ، قالَ عَطاءٌ: فَقُلْتَ لَهُ: فالبِغالُ ؟ قالَ: أمّا البِغالُ فَلا. ورَوى هِشامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ فاطِمَةَ بِنْتِ المُنْذِرِ عَنْ أسْماءَ ابْنَةِ أبِي بَكْرٍ قالَتْ: " نَحَرْنا فَرَسًا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأكَلْناهُ " . وهَذا لا حُجَّةَ فِيهِ لِلْمُخالِفِ لِأنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلِمَ بِهِ وأقَرَّهم عَلَيْهِ، ولَوْ ثَبَتَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلِمَ بِهِ وأقَرَّهم عَلَيْهِ كانَ مَحْمُولًا عَلى أنَّهُ كانَ قَبْلَ الحَظْرِ. وقَدْ رَوى بَقِيَّةُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ صالِحِ بْنِ يَحْيى بْنِ المِقْدامِ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «نَهى عَنْ لُحُومِ الخَيْلِ» . وقالَ الزُّهْرِيُّ: ما عَلِمْنا الخَيْلَ أُكِلَتْ إلّا في حِصارٍ. وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ والشّافِعِيُّ: " لا بَأْسَ بِلُحُومِ الخَيْلِ " ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الأسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ والحَسَنِ البَصْرِيِّ وشُرَيْحٍ. وأبُو حَنِيفَةَ لا يُطْلِقُ فِيهِ التَّحْرِيمَ ولَيْسَ هو عِنْدَهُ كَلَحْمِ الحِمارِ الأهْلِيِّ وإنَّما يَكْرَهُهُ لِتَعارُضِ الأخْبارِ الحاظِرَةِ والمُبِيحَةِ فِيهِ، ويَحْتَجُّ لَهُ مِن طَرِيقِ النَّظَرِ أنَّهُ ذُو حافِرٍ أهْلِيٍّ فَأشْبَهَ الحِمارَ والبَغْلَ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّ لَحْمَ البَغْلِ لا يُؤْكَلُ، وهو مِنَ الفَرَسِ فَلَوْ كانَتْ أُمُّهُ حَلالًا لَكانَ حُكْمُهُ حُكْمَ أُمِّهِ؛ لِأنَّ حُكْمَ الوَلَدِ حُكْمُ الأُمِّ؛ إذْ هو كَبَعْضِها، ألا تَرى أنَّ حِمارَةً أهْلِيَّةً لَوْ ولَدَتْ مِن حِمارٍ وحْشِيٍّ لَمْ يُؤْكَلْ ولَدُها، ولَوْ ولَدَتْ حِمارَةٌ وحْشِيَّةٌ مِن حِمارٍ أهْلِيٍّ أُكِلَ ولَدُها ؟ فَكانَ الوَلَدُ تابِعًا لِأُمِّهِ دُونَ أبِيهِ، فَلَمّا كانَ لَحْمُ البَغْلِ غَيْرَ مَأْكُولٍ وإنْ كانَتْ أُمُّهُ فَرَسًا دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الخَيْلَ غَيْرُ مَأْكُولَةٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب