الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصْلَحُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ في القاذِفِينَ، قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كانَ سَبَبُها ما قِيلَ في عائِشَةَ أُمُ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنها، وقِيلَ: بَلْ نَزَلَتْ بِسَبَبِ القَذْفِ عامَّةً لا في تِلْكَ النازِلَةِ. وذَكَرَ اللهُ تَعالى في الآيَةِ قَذْفَ النِساءِ مِن حَيْثُ هو أهَمُّ، ورَمْيُهُنَّ بِالفاحِشَةِ أبْشَعُ وأنْكى لِلنُّفُوسِ، وقَذْفُ الرِجالِ داخِلٌ في حُكْمِ الآيَةِ بِالمَعْنى وإجْماعِ الأُمَّةِ عَلى ذَلِكَ، وهَذا نَحْوَ نَصِّهِ تَعالى عَلى لَحْمِ الخِنْزِيرِ ودُخُولُ شَحْمِهِ وغَضارِيفِهِ ونَحْوَ ذَلِكَ بِالمَعْنى وبِالإجْماعِ، وحَكى الزَهْراوِيُّ أنَّ المَعْنى: الأنْفُسُ المُحْصَناتُ، فَهي تَعُمْ بِلَفْظِها الرِجالَ والنِساءَ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِساءِ﴾ [النساء: ٢٤]، والجُمْهُورُ عَلى فَتْحِ الصادِ مِنَ "المُحْصَناتِ"، وكَسَرَها يَحْيى بْنُ وثّابٍ. و"المُحْصَناتُ" العَفائِفُ في هَذا المَوْضِعِ؛ لَأنَّ هَذا هو الَّذِي يَجِبُ بِهِ جَلْدُ القاذِفِ، والعِفَّةُ أعْلى مَعانِي الإحْصانِ، وفي طَيِّهِ الإسْلامُ، وفي هَذِهِ النازِلَةِ الحُرِّيَّةُ، ومِنهُ قَوْلُ حَسّانٍ:(p-٣٤٠) ؎ حَصانٌ رَزانٌ......................................... ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها﴾ [الأنبياء: ٩١] [الأنْبِياءُ: ٩١]. وذَكَرَ اللهُ تَعالى مِن صِفاتِ النِساءِ المُنافِيَةِ لِلرَّمْيِ بِالزِنى، ولِتَخْرُجَ مِن ذَلِكَ مِن ثَبَتَ عَلَيْها الزِنى وغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ تَبْلُغُ الوَطْءَ مِنَ النِساءِ حَسْبَ الخِلافِ في ذَلِكَ. وعَبَّرَ عَنِ القَذْفِ بِالرَمْيِ مِن حَيْثُ مُعْتادُ الرَمْيِ أنَّهُ مُؤْذٍ كالرَمْيِ بِالحَجَرِ والسَهْمِ، فَلَمّا كانَ قَوْلُ القاذِفِ مُؤْذِيًا جُعِلَ رَمْيًا، وهَذا كَما قالَ: ؎ ........................... ∗∗∗ وجُرْحُ اللِسانِ كَجُرْحِ اليَدِ والقَذْفُ والرَمْيُ مَعْنى واحِدِ. وشَدَّدَ اللهُ تَعالى عَلى القاذِفِ في أرْبَعَةِ شُهَداءَ رَحْمَةً بِعِبادِهِ وسِتْرًا لَهم. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ" عَلى إضافَةِ الأرْبَعَةِ إلى الشُهَداءِ، وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ (p-٢٤١)يَسارٍ، وأبُو زَرْعَةَ بْنُ جَرِيرٍ: "بِأرْبَعَةٍ" بِالتَنْوِينِ، و"شُهَداءَ" عَلى هَذا إمّا بَدَلٌ وإمّا صِفَةٌ لِلْأرْبَعَةِ وإمّا حالٌ وإمّا تَمْيِيزٌ، وفي هَذَيْنَ نَظَرٌ؛ إذِ الحالُ مِن نَكِرَةٍ والتَمْيِيزُ مَجْمُوعٌ، وسِيبَوَيْهِ يَرى أنَّ تَنْوِينَ العَدَدِ وتَرْكَ إضافَتِهِ إنَّما يَجُوزُ في الشِعْرِ، وقَدْ حَسَّنَ أبُو الفَتْحِ هَذِهِ القِراءَةَ ورَجَّحَها عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ. وحُكْمُ شَهادَةِ الأرْبَعَةِ أنْ تَكُونَ عَلى مُعايَنَةٍ كالمِرْوَدِ والمُكْحُلَةِ في مَوْطِنٍ واحِدٍ، فَإنِ اضْطَرَبَ مِنهم واحِدٌ جُلِدَ الثَلاثَةُ والقاذِفُ، كَما فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنهُ في أمْرِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وذَلِكَ أنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالزِنى أبُو بَكَرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الحارِثِ وأخُوهُ نافِعٌ -وَقالَ الزَهْراوِيُّ: عَبْدُ اللهِ بْنِ الحارِثِ - وزِيادٌ أخُوهُما لِأُمْ -وَهُوَ مُسْتَلْحَقُ مُعاوِيَةَ - وشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ الجَبَلِيُّ، فَلَمّا جاؤُوا لِأداءِ الشَهادَةِ تَوَقَّفَ زِيادٌ ولَمْ يُؤَدِّها كامِلَةً، فَجَلَدَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ الثَلاثَةَ المَذْكُورِينَ. والجَلْدُ: الضَرْبُ، والمُجادَلَةُ: المُضارَبَةُ في الجُلُودِ أو بِالجُلُودِ، ثُمُ اسْتُعِيرَ الجَلْدُ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِن سَيْفٍ وغَيْرِهِ، ومِنهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الخَطِيمِ: ؎ أُجالِدُهم يَوْمَ الحَدِيقَةِ حاسِرًا ∗∗∗ كَأنْ يَدَيَّ بِالسَيْفِ مِخْراقُ لاعِبِ (p-٣٤٢)وَنُصِبَ "ثَمانِينَ" عَلى المَصْدَرِ، و"جَلْدَةً" عَلى التَمْيِيزِ. ثُمْ أمَرَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى ألّا نَقْبَلَ لِلْقَذَفَةِ المَحْدُودِينَ شَهادَةً أبَدًا، وهَذا يَقْتَضِي مُدَّةَ أعْمارِهِمْ، ثُمْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم فاسِقُونَ، أيْ خارِجُونَ عن طاعَةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. ثُمُ اسْتَثْنى جَلَّ وعَزَّ مَن تابَ وأصْلُحُ بَعْدَ القَذْفِ، فَإنَّهُ وعَدَهم بِالرَحْمَةِ والمَغْفِرَةِ، فَتَضَمَّنَتِ الآيَةُ ثَلاثَةَ أحْكامٍ في القاذِفِ: جَلْدُهُ، ورَدُّ شَهادَتِهِ أبَدًا، وفِسْقُهُ، فالِاسْتِثْناءُ غَيْرُ عامِلٍ في جِلْدِهِ بِإجْماعٍ، وعامِلٌ في فِسْقِهِ بِإجْماعٍ، واخْتَلَفَ الناسُ في عَمَلِهِ في رَدِّ الشَهادَةِ، فَقالَ شُرَيْحٌ القاضِي، وإبْراهِيمُ النَخْعِيُّ، والحَسَنُ، والثَوْرِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ: لا يَعْمَلُ الِاسْتِثْناءُ في رَدِّ شَهادَتِهِ، وإنَّما يَزُولُ فِسْقُهُ عِنْدَ اللهِ تَعالى، وأمّا شَهادَةُ القاذِفِ فَلا تُقْبَلُ البَتَّةَ ولَوْ تابَ وأكْذَبَ نَفْسَهُ ولا بِحالٍ مِنَ الأحْوالِ. وقالَ جُمْهُورُ الناسِ: الِاسْتِثْناءُ عامِلٌ في رَدِّ الشَهادَةِ، فَإذا تابَ القاذِفُ قُبِلَتْ شَهادَتُهُ، ثُمُ اخْتَلَفُوا في صُورَةِ تَوْبَتِهِ فَمَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، والشَعْبِيِّ وغَيْرِهِ أنَّ تَوْبَتَهُ لا تَكُونُ إلّا بِأنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ في ذَلِكَ القَذْفِ الَّذِي حُدَّ فِيهِ، وهَكَذا فَعَلَ شِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، ونافِعٌ، تابا عَنِ القَوْلِ في المُغِيرَةِ، وأكْذَبا أنْفُسَهُما فَقَبْلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ شَهادَتَهُما، وأبى أبُو بَكَرَةَ نُفَيْعٌ مِن إكْذابِ نَفْسِهِ فَرَدَّ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ شَهادَتَهُ حَتّى ماتَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنها مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ، وغَيْرُهُ-: تَوْبَتُهُ أنْ يَصْلُحَ وتَحْسُنَ حالُهُ وإنْ لَمْ يَرْجِعْ عن قَوْلِهِ بِتَكْذِيبٍ. واخْتَلَفَ فُقَهاءُ المالِكِيِّينَ، مَتى تَسْقُطُ شَهادَةُ القاذِفِ؟ فَقالَ ابْنُ الماجَشُونِ: بِنَفْسِ قَذْفِهِ، وقالَ ابْنُ القاسِمْ، وأشْهَبُ، وسَحْنُونٌ: لا تُسْقُطُ حَتّى يُجْلَدَ، فَإنَّ مَنَعَ مِن جِلْدِهِ (p-٣٤٣)مانِعٌ -عَفْوٌ أو غَيْرُهُ- لَمْ تُرَدَّ شَهادَتُهُ. قالَ الشَيْخُ أبُو الحَسَنِ اللَخْمِيِّ: شَهادَتُهُ في مُدَّةِ الأجَلِ في الإثْباتِ مَوْقُوفَةٌ، ورَجَّحَ القَوْلَ بِأنَّ التَوْبَةَ إمّا أنْ تَكُونَ بِالتَكْذِيبِ في القَذْفِ وإلّا فَأيُّ رُجُوعٍ لِعَدْلٍ إنْ قَذْفَ وحُدَّ وبَقِيَ عَلى عَدالَتِهِ، و"تابُوا" مَعْناهُ: رَجَعُوا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا تَرْجِيحٌ، وقَدْ رَجَّحَ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ قَوْلَ مالِكٍ. واخْتَلَفَ أيْضًا -عَلى القَوْلِ بِجَوازِ شَهادَتِهِ بَعْدَ التَوْبَةِ- في أيِّ شَيْءٍ تَجُوزُ شَهادَتُهُ؟ فَقالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: تَجُوزُ في كُلِّ شَيْءٍ بِإطْلاقٍ، وكَذَلِكَ كُلُّ مِن حُدَّ في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ. وقالَ سَحْنُونٌ رَحِمَهُ اللهُ: مِن حُدَّ في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ فَلا تَجُوزُ شَهادَتُهُ في مِثْلِ ما حُدَّ فِيهِ. وقالَ مُطَرِّفٌ، وابْنُ الماجَشُونِ: مِن حُدَّ في قَذْفٍ أو زِنى فَلا تَجُوزُ شَهادَتُهُ في شَيْءٍ مِن وُجُوهِ الزِنى ولا في قَذْفٍ ولا في لِعانٍ وإنَّ كانَ عَدْلًا، رَوَيا هَذا القَوْلَ عن مالِكٍ، واتَّفَقُوا -فِيما أحْفَظُهُ- عَلى ولَدِ الزِنا أنَّ شَهادَتَهُ لا تَجُوزُ في الزِنى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب