الباحث القرآني

وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ... الآية نزلت بسبب القاذفين، وذكر تعالى في الآية: قَذْفَ النساءِ من حيث هو أَهَمُّ وأبشعُ، وقذفُ الرجال داخلٌ في حكم الآية بالمعنى والإجماع على ذلك، والْمُحْصَناتِ هنا: العفائف، وشَدَّدَ تعالى على القاذف بأربعة شهداء رحمةً بعباده، وستراً لهم، وحكم شهادة الأربعة أنْ تكونَ على معاينة مبالغة كالمِرْوَدِ في المَكْحَلَةِ في موطنٍ واحد، فإنِ اضطرب منهم واحد جُلِدَ الثلاثة، والجلد: الضرب، ثم أمر تعالى: ألّا تقبل للقذفة المحدودين شهادة أبدا [[القاذف هو من يرمي محصنا أو محصنة بالزنى ولم يأت بأربعة شهداء يشهدون على صدق قوله، ولا خلاف بين العلماء في شهادة القاذف إذا شهد قبل إقامة الحدّ وبعد التوبة، أو بعد إقامة الحدّ وقبل التوبة فإنه في الصورة الأولى، تقبل شهادته إجماعا، وفي الثانية لا تقبل إجماعا إنّما الخلاف في شهادته بعد الحد وبعد التوبة. فذهب الإمام الشافعيّ، ومالك، وأحمد، والبتيّ وإسحاق، وأبو عبيدة وابن المنذر إلى قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب، وروي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه وشريح والحسن والنّخعيّ وسعيد بن جبير والثوريّ إلى ردّ شهادة المحدود في القذف وإن تاب. وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. ومنشأ هذا الاختلاف هو: اختلافهم في فهم الآية الكريمة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. اختلفوا في الاستثناء: هل هو راجع إلى الكل أو إلى الأخيرة فقط؟ وهذه مسألة أصولية، وسنذكر فيما يلي خلاصة القول فيها: إنّ الاستثناء إذا وقع بعد جمل متعاطفة بالواو، ونحوها أمكن رده للجميع، وإلى الأخيرة خاصة بلا خلاف، وإنما الخلاف فيما هو ظاهر فيه، فالشافعية يقولون ظاهر في الكل، ولا يرجع للأخيرة فقط إلّا بقرينة. والحنفية يقولون: ظاهر في الأخيرة، ولا يرجع للكل إلا بدليل. وأبو الحسين كالشافعية إلّا أنه فصل في القرينة فقال: إن قامت قرينة على الإضراب عن الأول فهو للأخير. وظهور الإضراب يكون باختلاف الجملتين نوعا: بأن تكون إحداهما خبرا والأخرى إنشاءا نحو العلماء مكرمون ولا تكرم الجهال إلّا خالدا. أو تكون إحداهما أمرا والأخرى نهيا نحو: أكرم العلماء ولا تكرم الجهال إلّا من دخل الدار فالاستثناء من الأخير. أو باختلافهما حكما: بأن يكون مضمون إحداهما غير مضمون الأخرى نحو: الرجال قائمون، والعلماء جالسون إلّا محمدا. أو باختلافهما اسما بأن يكون الاسم في الأولى غير صالح لتعلق الاستثناء به نحو: أكرم الرجال وأعطف على النساء إلّا هندا. ففي هذا كلّه يرجع الاستثناء إلى الأخير، ظهور الإضراب. لكن محل هذا ما لم يكن الاسم في الجملة الثانية ضمير الاسم في الأولى أو اتفقا في الغرض وإلّا كان الاستثناء راجعا للكل مطلقا وإن اختلفا نوعا أو حكما. وأما الاختلاف في الاسم فلا يمكن معه رجوع الاستثناء للكل، لعدم صلاحيته للتعلق بالكل. مثال الأول: أكرم بني تميم وهم مكرمون إلّا بكرا، فهما مختلفان نوعا لكن الاسم في الثانية ضمير الأول فيرجع للكل. ومثال الثاني قوله تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فقد اتحدا في الغرض وهو الإهانة والانتقام وإن اختلفا نوعا فيرجع للكل. وقال القاضي والغزاليّ: «بالوقف» . وقال المرتضى: مشترك بين الكل والأخير، ويرجع مذهب الوقف والاشتراك إلى قول الحنفية، لأنّ مذهب الوقف معناه أنّ الاستثناء لا يعلم أهو موضوع للإخراج من الكل أو من الأخير؟ ومذهب المرتضى أنّه مشترك بين الإخراج من الكل ومن الأخير. فيلزم الرجوع للأخير عليهما لأنه إن كان موضوعا للأخير فظاهر، وإن كان للكل ففي ضمنه الأخير. قال الشافعي: توبة القاذف إكذابه نفسه. وفسره الإصطخري (من أصحاب الشافعي) : بأن يقول: كذبت- فيما قلت، فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحاق المروزي (من أصحاب الشافعي) لا يقول كذبت، لأنه ربما يكون صادقا، فيكون قوله: «كذبت» كذبا، والكذب معصية. والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على ما فعلت، ورجعت عنه، ولا أعود إليه. وظاهر كلام أحمد والخرقي أن توبة القاذف (كما قال الشافعي) إكذاب نفسه، فيقول: كذبت فيما قلت. وقال بعض العلماء: توبة القاذف كتوبة غيره، أمر بينه وبين ربه، ومرجعها إلى الندم على ما قال، والعزم على ألا يعود. والسر في أن الشافعية ومن وافقهم أدخلوا في معنى التوبة التلفظ باللسان مع أن التوبة من عمل القلب أن يترتب عليها حكم شرعي، وهو قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب، فلا بد أن يعلم الحاكم توبته حتى تقبل شهادته.]] ، وهذا يقتضي مُدَّةَ أعمارهم، ثم حكم بفسقهم، ثم استثنى تعالى مَنْ تاب وأصلح من بعد القذف، فالاستثناء غيرُ عامل في جلده بإجماع، وعامل في فسقه بإجماع، واخْتُلِفَ في عمله في رَدِّ الشهادة، والجمهور أَنَّه عامل في رَدِّ الشهادة، فإذا تاب القاذف قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، ثم اختلفوا في صورة توبته، فقيل بأن يُكَذِّبَ نَفْسَه، وإلاَّ لم تُقْبَلُ، وقالت فرقةٌ منها مالك: توبته أن يَصْلُحَ وتَحْسُنَ حالُه [[في ج: وتحسن حالته.]] . وإنْ لم يرجع عن قوله بتكذيب واختلف فقهاءُ المالكيَّةِ متى تسقط شهادة القاذفِ فقال ابن الماجشون: بنفس قَذَفِهِ، وقال ابن القاسم وغيره: لا تَسْقُطُ حتى يُجْلَدَ، فإن مَنَعَ من جلده مانع عفو أو غيره لم تُرَدَّ شهادَتُه، قال اللَّخْمِيَّ: شهادته في مدة الأجل للإثبات موقوفة، وتابُوا معناه: رجعوا، وقد رَجَّحَ الطبريُّ [[ينظر: «الطبريّ» (9/ 265) .]] وغيرُهُ قولَ مالك، واخْتُلِفَ أَيضاً على القول بجواز شهادته، فقال مالك: تجوزُ في كل شيء بإطلاق، وكذلك كُلُّ مَنْ حُدَّ في شيء. وقال سحنون: مَنْ حُدَّ في شيء فلا تجوز شهادته في مثل ما حُدَّ فيه، واتفقوا فيما أحفظ على ولد الزنا أَنَّ شهادته لا تجوز في الزنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب