الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبَدًا وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ إلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأَصْلَحُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: ٤ ـ ٥].
قذفُ المُحصَناتِ مِن أكبرِ الكبائرِ، وهو مِن المُوبِقاتِ المُهلِكاتِ لصاحِبِها، وذلك لِما يَلحَقُ المؤمِنينَ مِن أذًى، وأعظَمُ الأذى القذفُ في العِرْضِ، وما يَتْبَعُهُ مِن طعنٍ في النَّسَبِ، وزُهْدِ الناسِ في القُرْبِ مِن المقذوفِ، وتَعدِّي ذلك إلى أهلِهِ وولدِهِ ومَنِ اتصَلَ به بسببٍ ونَسَبٍ، ولهذا قدَّرَ اللهُ على بعضِ نِساءِ الأنبياءِ الكُفْرَ، ولكنَّه لم يُقدِّرْ على واحدةٍ منهنَّ العَهْرَ، لأنّ العَهْرَ يتعدّى إلى عِرْضِ الزوجِ، والكفرُ لازمٌ لمَن كفَرَ لا يتعدّى إلى أهلِهِ، ولذا عَدَّ النبيُّ ﷺ قَذْفَ المُحصَناتِ مِن المُوبِقاتِ، كما في «الصحيحَيْنِ»، من حديثِ أبي هريرة، قال ﷺ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ)، قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، وما هُنَّ؟ قالَ: (الشِّرْكُ بِاللهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلاَّ بِالحَقِّ، وأَكْلُ الرِّبا، وأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ الغافِلاتِ)[[أخرجه البخاري (٢٧٦٦)، ومسلم (٨٩).]].
والحِكْمةُ في عدمِ ذِكْرِ النبيِّ ﷺ (الزِّنى) مِن السَّبْعِ المُوبِقاتِ في حديثِ أبي هريرةَ: أنّه ذكَر قَذْفَ المُحصَناتِ به، للدَّلالةِ على بشاعتِه، فإنّ مجرَّدَ القذفِ به مُوبِقٌ ومُهلِكٌ، فكيف بالوقوعِ فيه؟! فاتِّهامُ بريءٍ به مِن السَّبْعِ المُوبِقاتِ، فكيف لو زَنى القاذفُ نفسُه؟! وهذا نظيرُ اتهامِ أحدٍ بالكفرِ وهو بريءٌ منه، فهو عظيمٌ، ووقوعُ القاذفِ في الكفرِ أعظَمُ مِن ذلك.
القذفُ الصَّرِيحُ والكنايةُ:
لا يختلِفُ الفقهاءُ على أنّ القذفَ الصريحَ يُقامُ فيه الحَدُّ كالرميِ بالزِّنى، وإنّما اختلَفُوا في إقامتِهِ على القذفِ غيرِ الصريحِ، وذلك لاختلافِ الناسِ في مُرادِ المتكلِّمِ وفهمِ السامعِ له، فإنّ ألفاظَ الكنايةِ تختلِفُ في قُرْبِها مِن الصريحِ، فليستْ متطابِقةً في مُرادِ السامعِ ولا في مُرادِ المتكلِّمِ، ويختلِفُ الناسُ فيها مِن بلدٍ إلى بلدٍ، كالوصفِ بالعَهْرِ وعدمِ الشرَفِ ونحوِ ذلك ممّا يَحتمِلُ معانيَ، منها الزِّنى، وقد اختلَفوا في ذلك على قولَيْنِ، هما روايتانِ عن أحمدَ:
فرأى بعضُهم إقامةَ الحدِّ، وهو قولُ مالكٍ، وبه قَضى عمرُ.
وذهَبَ أبو حنيفةَ والشافعيُّ: إلى عدمِ إقامةِ الحدِّ، وهؤلاء الذين يُسقِطونَ الحدَّ لا يُسقِطونَ التعزِيرَ بغيرِ الحدِّ بحسَبِ ما يَراهُ الحاكمُ مِن زجرٍ وتأديبٍ.
والأظهَرُ: أنّ الحاكمَ يُقِيمُ حدَّ القذفِ في قذفِ الكنايةِ إنْ غلَبَ استعمالُهُ بينَ الناسِ على الزِّنى، ما لم يكنْ في سياقِ القولِ قرينةٌ تَصرِفُهُ عن الغالبِ، كمَن يتَّهِمُ غيرَهُ بعدَمِ الشرَفِ في سياقِ الحديثِ عن الرِّشْوةِ في الحقوقِ ونحوِ ذلك.
قذفُ الحُرَّةِ والأَمَةِ والكافِرةِ:
وحدُّ الحُرِّ في القذفِ ثمانونَ بلا خلافٍ، سواءٌ كان ذَكَرًا أو أُنثى.
ولا خلافَ أنّ حدَّ القذفِ حقٌّ للمقذوفِ، وإنّما يَختلِفونَ في إقامتِهِ لحقِّ اللهِ عندَ عفوِ صاحبِ الحقِّ:
والجمهورُ: أنّه لا يُقامُ حتى يُطالِبَ المقذوفُ بحقِّه، لأنّه حقٌّ له، تَلحَقُهُ مَعَرَّتُهُ، وله إسقاطُه، وبهذا قال الشافعيُّ وأحمدُ.
ولا خلافَ أنّ الحدَّ لا يسقُطُ بتوبةِ القاذفِ قبلَ طلبِ المقذوفِ.
وقيَّد اللهُ الحدَّ على قاذفِ المُحصَناتِ، وليس على مَن قذَفَ غيرَهُنَّ، وقد تقدَّم الكلامُ على مَعاني الإحصانِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلاَّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]، وذكَرْنا أنّه يُطلَقُ على الإسلامِ والعَفافِ والحريَّةِ والنِّكاحِ، والمرادُ به هنا هو العِفَّةُ بلا خلافٍ، وإنّما اختُلِفَ في إرادةِ بعضِ مَعاني الإحصانِ الأُخرى ـ كالإسلامِ والحريَّةِ ـ في آيةِ حدِّ القذفِ للمُحصَناتِ ـ على قولَيْنِ:
القولُ الأولُ: أنّ الحريَّةَ والإسلامَ مقصودانِ في هذه الآيةِ، وبهذا قال جمهورُ العلماءِ، وقد قَيَّدَ اللهُ القذفَ بالإيمانِ في قولِهِ تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ﴾ [النور: ٢٣]، فذِكْرُهُ للإيمانِ للدَّلالةِ على الإسلامِ، وذِكرُهُ للغَفْلةِ للدَّلالةِ على العفافِ، ودَلَّ ذلك على أنّه أرادَ بالإحصانِ في قولِه: ﴿المُحْصَناتِ﴾ الحريَّةَ، وقد رَوى عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عبّاسٍ، أنّه فسَّر المُحصَناتِ في الآيةِ بالحرائرِ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٨ /٢٥٢٨).]].
ويُروى في الحديثِ: (مَن أشْرَكَ بِاللهِ، فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ)، رواهُ الدارقطنيُّ، مِن حديثِ ابنِ عمرَ[[أخرجه الدارقطني في «سننه» (٣ /١٤٧).]]، وهو متكلَّمٌ في رفعِه.
القولُ الثاني: أنّ الحريَّةَ والإسلامَ غيرُ مُرادَيْنِ، وبهذا قال مالكٌ.
وعلى هذَيْنِ القولَيْنِ يتفرَّعُ عندَ أصحابِهما القولُ بحدِّ قاذفِ الأَمَةِ والكافرةِ.
والعبدُ والأَمَةُ يُجلَدانِ في القذفِ نِصْفَ حدِّ الحُرِّ والحُرَّةِ، وعلى هذا الأئمَّةُ الأربعةُ، خلافًا للأوزاعيِّ وأبي ثورٍ وأهلِ الظاهرِ.
قولُه تعالى: ﴿ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبَدًا﴾: فيه زجرٌ للقاذفِ وردعٌ له، حينَما وقَعَ في أعظَمِ ما يختَصُّ بعِرْضِ الإنسانِ وشَرَفِه، ولا يختلِفُ العلماءُ في أنّ شهادتَهُ مردودةٌ قبلَ توبتِه، لأنّه أسقَطَ عدالتَهُ بقَذْفِه.
شهادةُ القاذفِ بعد توبتِهِ:
ويختلِفُ العلماءُ في قَبُولِ شهادتِهِ بعدَ توبتِه، والجمهورُ على قَبُولِها بعدَ توبتِه، خلافًا لأبي حنيفةَ، حيثُ أسقَطَها مطلَقًا، لظاهرِ قولِه: ﴿أبَدًا﴾، ولكنَّ هذا الإطلاقَ قُيِّدَ بعدَهُ بقولِه: ﴿إلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأَصْلَحُوا﴾، والاستثناءُ عائدٌ على الشهادةِ والفسقِ جميعًا.
ويُشترَطُ للتوبةِ إظهارُها بعملٍ صالحٍ، وأمّا حديثُ: (لا تَجُوزُ شَهادَةُ خائِنٍ، ولا مَحْدُودٍ فِي الإسْلامِ، ولا ذِي غِمْرٍ عَلى أخِيهِ)، فقد رواهُ أحمدُ وغيرُهُ، مِن حديثِ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه[[أخرجه أحمد (٢ /٢٠٨)، وابن ماجه (٢٣٦٦).]]، ولا يصحُّ، والرُّواةُ عن عمرٍو متكلَّمٌ فيهم، ولو صحَّ فهو كعمومِ الآيةِ يُقيَّدُ بزوالِ العلةِ، وهي عدمُ التوبةِ.
وبقَبُولِ شهادتِهِ بعدَ توبتِه أخَذَ عمرُ بنُ الخطّابِ وابنُ عبّاسٍ وابنُ المسيَّبِ وعطاءٌ وطاوُسٌ ومجاهدٌ والشَّعْبيُّ وقتادةُ.
وذهَب إلى عدمِ قَبُولِها مِن السلفِ ما دام حيًّا وإنْ تابَ: سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ والحسَنُ ومكحولٌ والنخَعيُّ.
ومَن لم يَقبَلْ شهادةَ القاذفِ أبدًا، جعَلَ الاستثناءَ في الآيةِ عائدًا على الفسقِ فقطْ.
{"ayahs_start":4,"ayahs":["وَٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمۡ یَأۡتُوا۟ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَاۤءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَـٰنِینَ جَلۡدَةࣰ وَلَا تَقۡبَلُوا۟ لَهُمۡ شَهَـٰدَةً أَبَدࣰاۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ","إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُوا۟ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ وَأَصۡلَحُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُوا۟ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ وَأَصۡلَحُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق