الباحث القرآني

الحُكْمُ الثّالِثُ: القَذْفُ، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصْلَحُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ اعْلَمْ أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ لا يَدُلُّ عَلى الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ رَمَوُا المُحْصَناتِ، وذِكْرُ الرَّمْيِ لا يَدُلُّ عَلى الزِّنا، إذْ قَدْ يَرْمِيها بِسَرِقَةٍ وشُرْبِ خَمْرٍ وكُفْرٍ، بَلْ لا بُدَّ مِن قَرِينَةٍ دالَّةٍ عَلى التَّعْيِينِ، وقَدْ أجْمَعَ العُلَماءُ عَلى أنَّ المُرادَ الرَّمْيُ بِالزِّنا وفي الآيَةِ أقْوالٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ: أحَدُها: تَقَدُّمُ ذِكْرِ الزِّنا. وثانِيها: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ المُحْصَناتِ وهُنَّ العَفائِفُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المُرادَ بِالرَّمْيِ رَمْيُهُنَّ بِضِدِّ العَفافِ. وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ يَعْنِي عَلى صِحَّةِ ما رَمَوْهُنَّ بِهِ، ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا العَدَدَ مِنَ الشُّهُودِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ إلّا في الزِّنا. ورابِعُها: انْعِقادُ الإجْماعِ عَلى أنَّهُ لا يَجِبُ الجَلْدُ بِالرَّمْيِ بِغَيْرِ الزِّنا فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ هو الرَّمْيُ بِالزِّنا، إذا عَرَفْتَ هَذا فالكَلامُ في هَذِهِ الآيَةِ يَتَعَلَّقُ بِالرَّمْيِ والرّامِي والمَرْمِيِّ. * * * البَحْثُ الأوَّلُ: في الرَّمْيِ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: ألْفاظُ القَذْفِ تَنْقَسِمُ إلى صَرِيحٍ وكِنايَةٍ وتَعْرِيضٍ، فالصَّرِيحُ أنْ يَقُولَ يا زانِيَةُ أوْ زَنَيْتِ أوْ زَنى قُبُلُكِ أوْ دُبُرُكِ، ولَوْ قالَ زَنى بَدَنُكِ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُها: أنَّهُ كِنايَةٌ كَقَوْلِهِ: زَنى يَدُكِ، لِأنَّ حَقِيقَةَ الزِّنا مِنَ الفَرْجِ فَلا يَكُونُ مِن سائِرِ البَدَنِ إلّا المَعُونَةُ. والثّانِي: وهو الأصَحُّ أنَّهُ صَرِيحٌ، لِأنَّ الفِعْلَ إنَّما يَصْدُرُ مِن جُمْلَةِ البَدَنِ. والفَرْجُ آلَةٌ في الفِعْلِ. أمّا الكِناياتُ فَمِثْلُ أنْ يَقُولَ يا فاسِقَةُ، يا فاجِرَةُ، يا خَبِيثَةُ، يا مُؤاجَرَةُ، يا ابْنَةَ الحَرامِ، أوِ امْرَأتِي لا تَرُدُّ يَدَ لامِسٍ، وبِالعَكْسِ فَهَذا لا يَكُونُ قَذْفًا إلّا أنْ يُرِيدَهُ، وكَذَلِكَ لَوْ قالَ لِعَرَبِيٍّ يا نَبَطِيُّ، فَهَذا لا يَكُونُ قَذْفًا إلّا أنْ يُرِيدَهُ، فَإنْ أرادَ بِهِ القَذْفَ فَهو قَذْفٌ لِأُمِّ المَقُولِ لَهُ وإلّا فَلا، فَإنْ قالَ عَنَيْتُ بِهِ نَبَطِيَّ الدّارِ واللِّسانِ، وادَّعَتْ أُمُّ المَقُولِ لَهُ أنَّهُ أرادَ القَذْفَ، فالقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. أمّا التَّعْرِيضُ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ وإنْ أرادَهُ، وذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: يا ابْنَ الحَلالِ، أمّا أنا فَما زَنَيْتُ ولَيْسَتْ أُمِّي زانِيَةً، وهَذا قَوْلُ الشّافِعِيِّ وأبِي حَنِيفَةَ وأبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ وزُفَرَ وابْنِ شُبْرُمَةَ والثَّوْرِيِّ والحَسَنِ بْنِ صالِحٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وقالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ الحَدُّ فِيهِ، وقالَ أحْمَدُ وإسْحَقُ: هو قَذْفٌ في حالِ الغَضَبِ دُونَ حالِ الرِّضا، لَنا، أنَّ التَّعْرِيضَ بِالقَذْفِ مُحْتَمَلٌ لِلْقَذْفِ ولِغَيْرِهِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجِبَ الحَدُّ، لِأنَّ الأصْلَ بَراءَةُ الذِّمَّةِ فَلا يَرْجِعُ عَنْهُ بِالشَّكِّ، وأيْضًا فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «ادْرَؤُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهاتِ» ولِأنَّ الحُدُودَ شُرِّعَتْ عَلى خِلافِ النَّصِّ النّافِي لِلضَّرَرِ. والإيذاءُ الحاصِلُ بِالتَّصْرِيحِ فَوْقَ الحاصِلِ بِالتَّعْرِيضِ، واحْتَجَّ المُخالِفُ بِما رَوى الأوْزاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: كانَ عُمَرُ يَضْرِبُ الحَدَّ في التَّعْرِيضِ. ورُوِيَ أيْضًا أنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبّا في زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقالَ أحَدُهُما لِلْآخَرِ: واللَّهِ ما أنا بِزانٍ ولا أُمِّي بِزانِيَةٍ، فاسْتَشارَ عُمَرُ النّاسَ في ذَلِكَ، فَقالَ قائِلٌ: مَدَحَ أباهُ وأُمَّهُ، وقالَ آخَرُونَ: قَدْ كانَ لِأبِيهِ وأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذا، فَجَلَدَهُ عُمَرُ ثَمانِينَ جَلْدَةً (p-١٣٤)، والجَوابُ: أنَّ في مُشاوَرَةِ عُمَرَ الصَّحابَةَ في حُكْمِ التَّعْرِيضِ دَلالَةً عَلى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهم فِيهِ تَوْقِيفٌ، وأنَّهم قالُوا رَأْيًا واجْتِهادًا. * * * المسألة الثّانِيَةُ: في تَعَدُّدِ القَذْفِ؛ اعْلَمْ أنَّهُ إمّا أنْ يَقْذِفَ شَخْصًا واحِدًا مِرارًا أوْ يَقْذِفَ جَماعَةً، فَإنْ قَذَفَ واحِدًا مِرارًا نُظِرَ إنْ كانَ أرادَ بِالكُلِّ زانِيَةً واحِدَةً بِأنْ قالَ: زَنَيْتِ بِعَمْرٍو قالَهُ مِرارًا لا يَجِبُ إلّا حَدٌّ واحِدٌ، ولَوْ أنْشَأ الثّانِيَ بَعْدَما حُدَّ لِلْأوَّلِ عُزِّرَ لِلثّانِي، وإنْ قَذَفَها بِزَنَياتٍ مُخْتَلِفَةٍ بِأنْ قالَ زَنَيْتِ بِزَيْدٍ، ثم قال زَنَيْتِ بِعَمْرٍو، فَهَلْ يَتَعَدَّدُ الحَدُّ أمْ لا ؟ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: يَتَعَدَّدُ اعْتِبارًا بِاللَّفْظِ ولِأنَّهُ مِن حُقُوقِ العِبادِ فَلا يَقَعُ فِيهِ التَّداخُلُ كالدُّيُونِ والثّانِي: وهو الأصَحُّ يَتَداخَلُ فَلا يَجِبُ فِيهِ إلّا حَدٌّ واحِدٌ لِأنَّهُما حَدّانِ مِن جِنْسٍ واحِدٍ لِمُسْتَحِقٍّ واحِدٍ فَوَجَبَ أنْ يَتَداخَلَ كَحُدُودِ الزِّنا، ولَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ مِرارًا، فالأصَحُّ أنَّهُ يَكْتَفِي بِلِعانٍ واحِدٍ سَواءٌ قُلْنا يَتَعَدَّدُ الحَدُّ أوْ لا يَتَعَدَّدُ. أمّا إذا قَذَفَ جَماعَةً مَعْدُودِينَ نُظِرَ، إنْ قَذَفَ كُلَّ واحِدٍ بِكَلِمَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ حَدٌّ كامِلٌ، وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا يَجِبُ عَلَيْهِ إلّا حَدٌّ واحِدٌ. واحْتَجَّ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ عَلى قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ بِالقُرْآنِ والسُّنَّةِ والقِياسِ. أمّا القُرْآنُ فَهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ والمَعْنى أنَّ كُلَّ أحَدٍ يَرْمِي المُحْصَناتِ وجَبَ عَلَيْهِ الجَلْدُ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ قاذِفَ جَماعَةٍ مِنَ المُحْصَناتِ لا يُجْلَدُ أكْثَرَ مِن ثَمانِينَ فَمَن أوْجَبَ عَلى قاذِفِ جَماعَةِ المُحْصَناتِ أكْثَرَ مِن حَدٍّ واحِدٍ فَقَدْ خالَفَ الآيَةَ. وأمّا السُّنَّةُ: فَما رَوى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْماءَ، فَقالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”لا، البَيِّنَةُ أوْ حَدٌّ في ظَهْرِكَ“» فَلَمْ يُوجِبِ النَّبِيُّ ﷺ عَلى هِلالٍ إلّا حَدًّا واحِدًا مَعَ قَذْفِهِ لِامْرَأتِهِ ولِشَرِيكِ بْنِ سَحْماءَ، إلى أنْ نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعانِ فَأُقِيمَ اللِّعانُ في الزَّوْجاتِ مَقامَ الحَدِّ في الأجْنَبِيّاتِ. وأمّا القِياسُ: فَهو أنَّ سائِرَ ما يُوجِبُ الحَدَّ إذا وُجِدَ مِنهُ مِرارًا لَمْ يَجِبْ إلّا حَدٌّ واحِدٌ كَمَن زَنى مِرارًا أوْ شَرِبَ مِرارًا أوْ سَرَقَ مِرارًا فَكَذا هاهُنا، والمَعْنى الجامِعُ دَفْعُ مَزِيدِ الضَّرَرِ، والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿والَّذِينَ﴾ صِيغَةُ جَمْعٍ، وقَوْلَهُ: ﴿المُحْصَناتِ﴾ صِيغَةُ جَمْعِ، والجَمْعُ إذا قُوبِلَ بِالجَمْعِ يُقابَلُ الفَرْدُ بِالفَرْدِ فَيَصِيرُ المَعْنى: كُلُّ مَن رَمى مُحْصَنًا واحِدًا وجَبَ عَلَيْهِ الحَدُّ، وعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ وجْهُ تَمَسُّكِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالآيَةِ، ولِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهُمْ﴾ [النور: ٤] يَدُلُّ عَلى تَرْتِيبِ الجَلْدِ عَلى رَمْيِ المُحْصَناتِ وتَرْتِيبِ الحُكْمِ عَلى الوَصْفِ، لا سِيَّما إذا كانَ مُناسِبًا فَإنَّهُ مُشْعِرٌ بِالعِلِّيَّةِ، فَدَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ رَمْيَ المُحْصَنِ مِن حَيْثُ إنَّهُ هَذا المُسَمّى يُوجِبُ الجَلْدَ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إذا قَذَفَ واحِدًا صارَ ذَلِكَ القَذْفُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، فَإذا قَذَفَ الثّانِيَ وجَبَ أنْ يَكُونَ القَذْفُ الثّانِي مُوجِبًا لِلْحَدِّ أيْضًا، ثُمَّ مُوجِبُ القَذْفِ الثّانِي لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هو الحَدُّ الأوَّلُ لِأنَّ ذَلِكَ قَدْ وجَبَ بِالقَذْفِ الأوَّلِ وإيجابُ الواجِبِ مُحالٌ، فَوَجَبَ أنْ يُحَدَّ بِالقَذْفِ الثّانِي حَدًّا ثانِيًا، أقْصى ما في البابِ أنْ يُورَدَ عَلى هَذِهِ الدَّلالَةِ حُدُودُ الزِّنا. لَكِنّا نَقُولُ تُرِكَ العَمَلُ هُناكَ بِهَذا الدَّلِيلِ لِأنَّ حَدَّ الزِّنا أغْلَظُ مِن حَدِّ القَذْفِ، وعِنْدَ ظُهُورِ الفارِقِ يَتَعَذَّرُ الجَمْعُ. وأمّا السُّنَّةُ فَلا دَلالَةَ فِيها عَلى هَذِهِ المسألة لِأنَّ قَذْفَهُما بِلَفْظٍ واحِدٍ، ولَنا في هَذِهِ المسألة تَفْصِيلٌ سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ. (p-١٣٥)وأمّا القِياسُ فَفاسِدٌ لِأنَّ حَدَّ القَذْفِ حَقُّ الآدَمِيِّ. بِدَلِيلِ أنَّهُ لا يُحَدُّ إلّا بِمُطالَبَةِ المَقْذُوفِ وحُقُوقُ الآدَمِيِّ لا تَتَداخَلُ بِخِلافِ حَدِّ الزِّنا، فَإنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعالى. هَذا كُلُّهُ إذا قَذَفَ جَماعَةً كُلَّ واحِدٍ مِنهم بِكَلِمَةٍ عَلى حِدَةٍ. أمّا إذا قَذَفَهم بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ فَقالَ أنْتُمْ زُناةٌ أوْ زَنَيْتُمْ، فَفِيهِ قَوْلانِ أصَحُّهُما وهو قَوْلُهُ في ”الجَدِيدِ“: يَجِبُ لِكُلِّ واحِدٍ حَدٌّ كامِلٌ لِأنَّهُ مِن حُقُوقِ العِبادِ فَلا يَتَداخَلُ، ولِأنَّهُ أدْخَلَ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهم مَعَرَّةً فَصارَ كَما لَوْ قَذَفَهم بِكَلِماتٍ. وفي ”القَدِيمِ“ لا يَجِبُ لِلْكُلِّ إلّا حَدٌّ واحِدٌ اعْتِبارًا بِاللَّفْظِ، فَإنَّ اللَّفْظَ واحِدٌ والأوَّلُ أصَحُّ لِأنَّهُ أوْفَقُ لِمَفْهُومِ الآيَةِ. فَعَلى هَذا لَوْ قالَ لِرَجُلٍ يا ابْنَ الزّانِيَيْنِ يَكُونُ قَذْفًا لِأبَوَيْهِ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ فَعَلَيْهِ حَدّانِ. * * * المسألة الثّالِثَةُ: فِيما يُبِيحُ القَذْفَ: القَذْفُ يَنْقَسِمُ إلى مَحْظُورٍ ومُباحٍ وواجِبٍ، وجُمْلَةُ الكَلامِ أنَّهُ إذا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ ولَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ فَلا يَجِبُ، وهَلْ يُباحُ أمْ لا ؟ يُنْظَرُ إنْ رَآها بِعَيْنِهِ تَزْنِي أوْ أقَرَّتْ هي عَلى نَفْسِها ووَقَعَ في قَلْبِهِ صِدْقُها أوْ سَمِعَ مِمَّنْ يَثِقُ بِقَوْلِهِ أوْ لَمْ يَسْمَعْ، لَكِنَّهُ اسْتَفاضَ فِيما بَيْنَ النّاسِ أنَّ فُلانًا يَزْنِي بِفُلانَةٍ، وقَدْ رَآهُ الزَّوْجُ يَخْرُجُ مِن بَيْتِها أوْ رَآهُ مَعَها في بَيْتٍ، فَإنَّهُ يُباحُ لَهُ القَذْفُ لِتَأكُّدِ التُّهْمَةِ، ويَجُوزُ أنْ يُمْسِكَها ويَسْتُرَ عَلَيْها. لِما رُوِيَ ”«أنَّ رَجُلًا قالَ يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي امْرَأةً لا تَرُدُّ يَدَ لامِسٍ، قالَ طَلِّقْها. قالَ إنِّي أُحِبُّها، قالَ فَأمْسِكْها» “ أمّا إذا سَمِعَهُ مِمَّنْ لا يُوثَقُ بِقَوْلِهِ أوِ اسْتَفاضَ مِن بَيْنِ النّاسِ، ولَكِنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَرَهُ مَعَها، أوْ بِالعَكْسِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ قَذْفُها، لِأنَّهُ قَدْ يَذْكُرُهُ مَن لا يَكُونُ ثِقَةً، فَيَنْتَشِرُ ويَدْخُلُ بَيْتَها خَوْفًا مِن قاصِدٍ أوْ لِسَرِقَةٍ أوْ لِطَلَبِ فُجُورٍ فَتَأْبى المَرْأةُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ جاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنكُمْ﴾ [النور: ١١] أمّا إذا كانَ ثَمَّ ولَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، نُظِرَ فَإنْ تَيَقَّنَ أنَّهُ لَيْسَ مِنهُ بِأنْ لَمْ يَكُنْ وطِئَها الزَّوْجُ أوْ وطِئَها لَكِنَّها أتَتْ بِهِ لِأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ مِن وقْتِ الوَطْءِ أوْ لِأكْثَرِ مِن أرْبَعِ سِنِينَ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفْيُهُ بِاللِّعانِ؛ لِأنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنِ اسْتِلْحاقِ نَسَبِ الغَيْرِ كَما هو مَمْنُوعٌ مِن نَفْيِ نَسَبِهِ، لِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«أيُّما امْرَأةٍ أدْخَلَتْ عَلى قَوْمٍ مَن لَيْسَ مِنهم فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ في شَيْءٍ ولَمْ يُدْخِلْها اللَّهُ جَنَّتَهُ» “ فَلَمّا حَرُمَ عَلى المَرْأةِ أنْ تُدْخِلَ عَلى قَوْمٍ مَن لَيْسَ مِنهم كانَ الرَّجُلُ أيْضًا كَذَلِكَ، أمّا إنِ احْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مِنهُ بِأنْ أتَتْ بِهِ لِأكْثَرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ مِن وقْتِ الوَطْءِ ولِدُونِ أرْبَعِ سِنِينَ، نُظِرَ إنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اسْتَبْرَأها بِحَيْضَةٍ، أوِ اسْتَبْرَأها وأتَتْ بِهِ لِدُونِ سِتَّةِ أشْهُرٍ مِن وقْتِ الِاسْتِبْراءِ، لا يَحِلُّ لَهُ القَذْفُ والنَّفْيُ وإنِ اتَّهَمَها بِالزِّنا. قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”«أيُّما رَجُلٍ جَحَدَ ولَدَهُ وهو يَنْظُرُ إلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ مِنهُ يَوْمَ القِيامَةِ وفَضَحَهُ عَلى رُؤُوسِ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ» “ فَإنِ اسْتَبْرَأها وأتَتْ بِهِ لِأكْثَرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ مِن وقْتِ الِاسْتِبْراءِ يُباحُ لَهُ القَذْفُ والنَّفْيُ. والأوْلى أنْ لا يَفْعَلَ لِأنَّها قَدْ تَرى الدَّمَ عَلى الحَبَلِ وإنْ أتَتِ امْرَأتُهُ بِوَلَدٍ لا يُشْبِهُهُ بِأنْ كانا أبْيَضَيْنِ فَأتَتْ بِهِ أسْوَدَ، نُظِرَ إنْ لَمْ يَكُنْ يَتَّهِمُها بِالزِّنا فَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ، لِما رَوى أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ”«أنَّ رَجُلًا قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ إنَّ امْرَأتِي ولَدَتْ غُلامًا أسْوَدَ، فَقالَ هَلْ لَكَ مِن إبِلٍ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ ما ألْوانُها ؟ قالَ حُمْرٌ، قالَ فَهَلْ فِيها أوْرَقُ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ فَكَيْفَ ذاكَ ؟ قالَ نَزَعَهُ عِرْقٌ قالَ فَلَعَلَّ هَذا نَزَعَهُ عِرْقٌ» “ وإنْ كانَ يَتَّهِمُها بِزِنًا أوْ يَتَّهِمُها بِرَجُلٍ فَأتَتْ بِوَلَدٍ يُشْبِهُهُ هَلْ يُباحُ لَهُ نَفْيُهُ ؟ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: لا لِأنَّ العِرْقَ يَنْزِعُ. والثّانِي: لَهُ ذَلِكَ لِأنَّ التُّهْمَةَ قَدْ تَأكَّدَتْ بِالشُّبْهَةِ. * * * البَحْثُ الثّانِي: في الرّامِي وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: إذا قَذَفَ الصَّبِيُّ أوِ المَجْنُونُ امْرَأتَهُ أوْ أجْنَبِيًّا فَلا حَدَّ عَلَيْهِما ولا لِعانَ، لا في الحالِ (p-١٣٦)ولا بَعْدَ البُلُوغِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ» ولَكِنْ يُعَزَّرانِ لِلتَّأْدِيبِ إنْ كانَ لَهُما تَمْيِيزٌ، فَلَوْ لَمْ تَتَّفِقْ إقامَةُ التَّعْزِيرِ عَلى الصَّبِيِّ حَتّى بَلَغَ، قالَ القَفّالُ يَسْقُطُ التَّعْزِيرُ، لِأنَّهُ كانَ لِلزَّجْرِ عَنْ إساءَةِ الأدَبِ وقَدْ حَدَثَ زاجِرٌ أقْوى وهو البُلُوغُ. * * * المسألة الثّانِيَةُ: الأخْرَسُ إذا كانَتْ لَهُ إشارَةٌ مَفْهُومَةٌ، أوْ كِتابَةٌ مَعْلُومَةٌ، وقَذَفَ بِالإشارَةِ، أوْ بِالكِنايَةِ، لَزِمَهُ الحَدُّ، وكَذَلِكَ يَصِحُّ لِعانُهُ بِالإشارَةِ والكِنايَةِ، وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لا يَصِحُّ قَذْفُ الأخْرَسِ ولا لِعانُهُ. وقَوْلُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أقْرَبُ إلى ظاهِرِ الآيَةِ؛ لِأنَّ مَن كَتَبَ أوْ أشارَ إلى القَذْفِ فَقَدْ رَمى المُحْصَنَةَ وألْحَقَ العارَ بِها فَوَجَبَ انْدِراجُهُ تَحْتَ الظّاهِرِ، ولِأنّا نَقِيسُ قَذْفَهُ ولِعانَهُ عَلى سائِرِ الأحْكامِ. * * * المسألة الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِيما إذا قَذَفَ العَبْدُ حُرًّا، فَقالَ الشّافِعِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ ومالِكٌ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ وعُثْمانُ القِنُّ عَلَيْهِ أرْبَعُونَ جَلْدَةً، رَوى الثَّوْرِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أبِيهِ أنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”يُجْلَدُ العَبْدُ في القَذْفِ أرْبَعِينَ“ وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: ”أدْرَكْتُ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ ومَن بَعْدَهم مِنَ الخُلَفاءِ وكُلُّهم يَضْرِبُونَ المَمْلُوكَ في القَذْفِ أرْبَعِينَ“ وقالَ الأوْزاعِيُّ يُجْلَدُ ثَمانِينَ وهو مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ورُوِيَ أنَّهُ جَلَدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ العَبْدَ في الفِرْيَةِ ثَمانِينَ. ومَدارُ المسألة عَلى حَرْفٍ واحِدٍ وهو أنَّ هَذِهِ الآيَةَ صَرِيحَةٌ في إيجابِ الثَّمانِينَ فَمَن رَدَّ هَذا الحَدَّ إلى أرْبَعِينَ فَطَرِيقُهُ أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿فَإذا أُحْصِنَّ فَإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذابِ﴾ [النساء: ٢٥] فَنَصَّ عَلى أنَّ حَدَّ الأمَةِ في الزِّنا نِصْفُ حَدِّ الحُرَّةِ، ثُمَّ قاسُوا العَبْدَ عَلى الأمَةِ في تَنْصِيفِ حَدِّ الزِّنا، ثُمَّ قاسُوا تَنْصِيفَ حَدِّ قَذْفِ العَبْدِ عَلى تَنْصِيفِ حَدِّ الزِّنا في حَقِّهِ، فَرَجَعَ حاصِلُ الأمْرِ إلى تَخْصِيصِ عُمُومِ الكِتابِ بِهَذا القِياسِ. * * * المسألة الرّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلى دُخُولِ الكافِرِ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ لِأنَّ الِاسْمَ يَتَناوَلُهُ ولا مانِعَ، فاليَهُودِيُّ إذا قَذَفَ المُسْلِمَ يُجْلَدُ ثَمانِينَ واللَّهُ أعْلَمُ. * * * البَحْثُ الثّالِثُ: في المَرْمِيِّ وهي المُحَصَنَةُ، قالَ أبُو مُسْلِمٍ: اسْمُ الإحْصانِ يَقَعُ عَلى المُتَزَوِّجَةِ وعَلى العَفِيفَةِ وإنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ، لِقَوْلِهِ تَعالى في مَرْيَمَ: ﴿والَّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها﴾ [الأنبياء: ٩١] وهو مَأْخُوذٌ مِن مَنعِ الفَرْجِ، فَإذا تَزَوَّجَتْ مَنَعَتْهُ إلّا مِن زَوْجِها، وغَيْرُ المُتَزَوِّجَةِ تَمْنَعُهُ كُلَّ أحَدٍ، ويَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: ظاهِرُ الآيَةِ يَتَناوَلُ جَمِيعَ العَفائِفِ سَواءٌ كانَتْ مَسْلِمَةً أوْ كافِرَةً وسَواءٌ كانَتْ حُرَّةً أوْ رَقِيقَةً، إلّا أنَّ الفُقَهاءَ قالُوا: شَرائِطُ الإحْصانِ خَمْسَةٌ: الإسْلامُ والعَقْلُ والبُلُوغُ والحُرِّيَّةُ والعِفَّةُ مِنَ الزِّنا، وإنَّما اعْتَبَرْنا الإسْلامَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «مَن أشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» وإنَّما اعْتَبَرْنا العَقْلَ والبُلُوغَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ» وإنَّما اعْتَبَرْنا الحَرِيَّةَ لِأنَّ العَبْدَ ناقِصُ الدَّرَجَةِ فَلا يَعْظُمُ عَلَيْهِ التَّعْيِيرُ بِالزِّنا، وإنَّما اعْتَبَرْنا العِفَّةَ عَنِ الزِّنا لِأنَّ الحَدَّ مَشْرُوعٌ لِتَكْذِيبِ القاذِفِ، فَإذا كانَ المَقْذُوفُ زانِيًا فالقاذِفُ صادِقٌ في القَذْفِ. وكَذَلِكَ إذا كانَ المَقْذُوفُ وطِئَ امْرَأةً بِشُبْهَةٍ أوْ نِكاحٍ فاسِدٍ، لِأنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الزِّنا كَما فِيهِ شُبْهَةُ الحِلِّ، فَكَما أنَّ إحْدى الشُّبْهَتَيْنِ أسْقَطَتِ الحَدَّ عَنِ الواطِئِ، فَكَذا الأُخْرى تُسْقِطُهُ عَنْ قاذِفِهِ أيْضًا، ثُمَّ نَقُولُ: مَن قَذَفَ كافِرًا أوْ مَجْنُونًا أوْ صَبِيًّا أوْ مَمْلُوكًا، أوْ مَن قَدْ رَمى امْرَأةً، فَلا حَدَّ عَلَيْهِ، بَلْ يُعَزَّرُ لِلْأذى، حَتّى لَوْ زَنى في عُنْفُوانِ شَبابِهِ مَرَّةً، ثُمَّ تابَ وحَسُنَ حالُهُ وشاخَ في الصَّلاحِ لا يُحَدُّ قاذِفُهُ، وكَذَلِكَ لَوْ زَنى كافِرٌ أوْ رَقِيقٌ ثُمَّ أسْلَمَ وعُتِقَ وصَلُحَ حالُهُ فَقَذَفَهُ قاذِفٌ لا حَدَّ عَلَيْهِ، بِخِلافِ ما لَوْ زَنى في حالِ صِغَرِهِ أوْ جُنُونِهِ ثُمَّ بَلَغَ أوْ أفاقَ فَقَذَفَهُ (p-١٣٧)قاذِفٌ يُحَدُّ، لِأنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ لا يَكُونُ زِنًا، ولَوْ قَذَفَ مُحْصَنًا فَقَبْلَ أنْ يُحَدَّ القاذِفُ زَنا المَقْذُوفُ سَقَطَ الحَدُّ عَنْ قاذِفِهِ؛ لِأنَّ صُدُورَ الزِّنا يُورِثُ رِيبَةً في حالِهِ فِيما مَضى لِأنَّ اللَّهَ تَعالى كَرِيمٌ لا يَهْتِكُ سِتْرَ عَبْدِهِ في أوَّلِ ما يَرْتَكِبُ المَعْصِيَةَ، فَبِظُهُورِهِ يُعْلَمُ أنَّهُ كانَ مُتَّصِفًا بِهِ مِن قَبْلُ، رُوِيَ أنَّ رَجُلًا زَنى في عَهْدِ عُمَرَ، فَقالَ واللَّهِ ما زَنَيْتُ إلّا هَذِهِ، فَقالَ عُمَرُ كَذَبْتَ إنَّ اللَّهَ لا يَفْضَحُ عَبْدَهُ في أوَّلِ مَرَّةٍ، وقالَ المُزَنِيُّ وأبُو ثَوْرٍ: الزِّنا الطّارِئُ لا يُسْقِطُ الحَدَّ عَنِ القاذِفِ. * * * المسألة الثّانِيَةُ: قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ يَقَعُ عَلى الرِّجالِ والنِّساءِ، وسائِرُ العُلَماءِ أنْكَرُوا ذَلِكَ لِأنَّ لَفْظَ المُحْصَناتِ جَمْعٌ لِمُؤَنَّثٍ فَلا يَتَناوَلُ الرِّجالَ، بَلِ الإجْماعُ دَلَّ عَلى أنَّهُ لا فَرْقَ في هَذا البابِ بَيْنَ المُحْصَنِينَ والمُحْصَناتِ. المسألة الثّالِثَةُ: رَمْيُ غَيْرِ المُحْصَناتِ لا يُوجِبُ الحَدَّ بَلْ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ إلّا أنْ يَكُونَ المَقْذُوفُ مَعْرُوفًا بِما قُذِفَ بِهِ فَلا حَدَّ هُناكَ ولا تَعْزِيرَ، فَهَذا مَجْمُوعُ الكَلامِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ . * * * أمّا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ فَفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى حَكَمَ في القاذِفِ إذا لَمْ يَأْتِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ بِثَلاثَةِ أحْكامٍ أحَدُها: جَلْدُ ثَمانِينَ. وثانِيها: بُطْلانُ الشَّهادَةِ. وثالِثُها: الحُكْمُ بِفِسْقِهِ إلى أنْ يَتُوبَ، واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِ هَذِهِ الأحْكامِ، بَعْدَ اتِّفاقِهِمْ عَلى وُجُوبِ الحَدِّ عَلَيْهِ بِنَفْسِ القَذْفِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إقامَةِ البَيِّنَةِ عَلى الزِّنا. فَقالَ قائِلُونَ قَدْ بَطَلَتْ شَهادَتُهُ ولَزِمَهُ سِمَةُ الفِسْقِ قَبْلَ إقامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِ وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ واللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ ومالِكٌ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ: شَهادَتُهُ مَقْبُولَةٌ ما لَمْ يُحَدَّ. قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ وهَذا مُقْتَضى قَوْلِهِمْ إنَّهُ غَيْرُ مَوْسُومٍ بِسِمَةِ الفِسْقِ ما لَمْ يَقَعْ بِهِ الحَدُّ. لِأنَّهُ لَوْ لَزِمَتْهُ سِمَةُ الفِسْقِ لَما جازَتْ شَهادَتُهُ إذْ كانَتْ سِمَةُ الفِسْقِ مُبْطِلَةً لِشَهادَةِ مَن وُسِمَ بِها، ثُمَّ احْتَجَّ أبُو بَكْرٍ عَلى صِحَّةِ قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأُمُورٍ: أحَدُها: قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ ظاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي تَرَتُّبَ وُجُوبِ الحَدِّ عَلى مَجْمُوعِ القَذْفِ والعَجْزِ عَنْ إقامَةِ الشَّهادَةِ، فَلَوْ عَلَّقْنا هَذا الحُكْمَ عَلى القَذْفِ وحْدَهُ قَدَحَ ذَلِكَ في كَوْنِهِ مُعَلَّقًا عَلى الأمْرَيْنِ وذَلِكَ بِخِلافِ الآيَةِ، وأيْضًا فَوُجُوبُ الجَلْدِ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلى مَجْمُوعِ أمْرَيْنِ فَوَجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ أحَدِهِما، كَما لَوْ قالَ لِامْرَأتِهِ إنْ دَخَلْتِ الدّارَ وكَلَّمْتِ فُلانًا فَأنْتِ طالِقٌ، فَأتَتْ بِأحَدِ الأمْرَيْنِ دُونَ الآخَرِ لَمْ يُوجَدِ الجَزاءُ، فَكَذا هاهُنا. وثانِيها: أنَّ القاذِفَ لا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالكَذِبِ بِمُجَرَّدِ قَذْفِهِ وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ لا تُرَدَّ شَهادَتُهُ بِمُجَرَّدِ القَذْفِ. بَيانُ الأوَّلِ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّ مُجَرَّدَ قَذْفِهِ لَوْ أوْجَبَ كَوْنَهُ كاذِبًا لَوَجَبَ أنْ لا تُقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَتُهُ عَلى الزِّنا إذْ قَدْ وقَعَ الحُكْمُ بِكَذِبِهِ، والحُكْمُ بِكَذِبِهِ في قَذْفِهِ حُكْمٌ بِبُطْلانِ شَهادَةِ مَن شَهِدَ بِصِدْقِهِ في كَوْنِ المَقْذُوفِ زانِيًا، ولَمّا أجْمَعُوا عَلى قَبُولِ بَيِّنَتِهِ ثَبَتَ أنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالكَذِبِ بِمُجَرَّدِ قَذْفِهِ. الثّانِي: أنَّ قاذِفَ امْرَأتِهِ بِالزِّنا لا يُحْكَمُ بِكَذِبِهِ بِنَفْسِ قَذْفِهِ، وإلّا لَما جازَ إيجابُ اللِّعانِ بَيْنَهُ وبَيْنَ امْرَأتِهِ، ولَما أُمِرَ بِأنْ يَشْهَدَ بِاللَّهِ أنَّهُ لَصادِقٌ فِيما رَماها بِهِ مِنَ الزِّنا مَعَ الحُكْمِ بِكَذِبِهِ. ولَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَما لاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ”«اللَّهُ يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُما كاذِبٌ، فَهَلْ مِنكُما تائِبٌ» “ فَأخْبَرَ أنَّ أحَدَهُما بِغَيْرِ تَعْيِينٍ هو الكاذِبُ ولَمْ يَحْكم بِكَذِبِ القاذِفِ، وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ (p-١٣٨)نَفْسَ القَذْفِ لا يُوجِبُ كَوْنَهُ كاذِبًا. الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْلا جاءُوا عَلَيْهِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكاذِبُونَ﴾ [النور: ١٣] فَلَمْ يَحْكم بِكَذِبِهِمْ بِنَفْسِ القَذْفِ فَقَطْ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّ القاذِفَ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ كاذِبًا بِمُجَرَّدِ القَذْفِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ لا تَبْطُلَ شَهادَتُهُ بِمُجَرَّدِ القَذْفِ لِأنَّهُ كانَ عَدْلًا ثِقَةً والصّادِرُ عَنْهُ غَيْرُ مُعارَضٍ، ولَمّا كانَ يَجِبُ أنْ يَبْقى عَلى عَدالَتِهِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَقْبُولَ الشَّهادَةِ. وثالِثُها: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«المُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ إلّا مَحْدُودًا في قَذْفٍ» “ أخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِبَقاءِ عَدالَةِ القاذِفِ ما لَمْ يُحَدَّ. ورابِعُها: ما رَوى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في قِصَّةِ «هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ لَمّا قَذَفَ امْرَأتَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ: ”يُجْلَدُ هِلالٌ وتَبْطُلُ شَهادَتُهُ في المُسْلِمِينَ“» فَأخْبَرَ أنَّ بُطْلانَ شَهادَتِهِ مُتَعَلِّقٌ بِوُقُوعِ الجَلْدِ بِهِ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ مُجَرَّدَ القَذْفِ لا يُبْطِلُ الشَّهادَةَ. وخامِسُها: أنَّ الشّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ زَعَمَ أنَّ شُهُودَ القَذْفِ إذا جاءُوا مُتَفَرِّقِينَ قُبِلَتْ شَهادَتُهم، فَإنْ كانَ القَذْفُ قَدْ أبْطَلَ شَهادَتَهُ فَواجِبٌ أنْ لا يَقْبَلَها بَعْدَ ذَلِكَ، وإنْ شَهِدَ مَعَهُ ثَلاثَةٌ لِأنَّهُ قَدْ فَسَقَ بِقَذْفِهِ ووَجَبَ الحُكْمُ بِكَذِبِهِ، وفي قَبُولِ شَهادَتِهِمْ إذا جاءُوا مُتَفَرِّقِينَ ما يَلْزَمُهُ أنْ لا تَبْطُلَ شَهادَتُهم بِنَفْسِ القَذْفِ، وأمّا وجْهُ قَوْلِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهو أنَّ اللَّهَ تَعالى رَتَّبَ عَلى القَذْفِ مَعَ عَدَمِ الإتْيانِ بِالشُّهَداءِ الأرْبَعَةِ أُمُورًا ثَلاثَةً مَعْطُوفًا بَعْضُها عَلى بَعْضٍ بِحَرْفِ الواوِ، وحَرْفُ الواوِ لا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ. فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ بَعْضُها مُرَتَّبًا عَلى البَعْضِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ رَدُّ الشَّهادَةِ مُرَتَّبًا عَلى إقامَةِ الحَدِّ، بَلْ يَجِبُ أنْ يَثْبُتَ رَدُّ الشَّهادَةِ سَواءٌ أُقِيمَ الحَدُّ عَلَيْهِ أوْ ما أُقِيمَ واللَّهُ أعْلَمُ. * * * البَحْثُ الثّانِي: في كَيْفِيَّةِ الشَّهادَةِ عَلى الزِّنا قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿واللّاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن نِسائِكم فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكُمْ﴾ [النساء: ١٥] وقالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ «وقالَ سَعْدُ بْنُ عُبادَةَ: ”يا رَسُولَ اللَّهِ أرَأيْتَ إنْ وجَدْتُ مَعَ امْرَأتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتّى آتِيَ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ ؟ قالَ: نَعَمْ“» ثُمَّ هاهُنا مَسائِلُ: المسألة الأُولى: الإقْرارُ بِالزِّنا هَلْ يَثْبُتُ بِشَهادَةِ رَجُلَيْنِ ؟ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: لا يَثْبُتُ إلّا بِأرْبَعَةٍ كَفِعْلِ الزِّنا. والثّانِي: يَثْبُتُ بِخِلافِ فِعْلِ الزِّنا، لِأنَّ الفِعْلَ يُغْمَضُ الِاطِّلاعُ عَلَيْهِ فاحْتِيطَ فِيهِ بِاشْتِراطِ الأرْبَعِ، والإقْرارُ أمْرٌ ظاهِرٌ فَلا يُغْمَضُ الِاطِّلاعُ عَلَيْهِ. المسألة الثّانِيَةُ: إذا شَهِدُوا عَلى فِعْلِ الزِّنا يَجِبُ أنْ يَذْكُرُوا الزّانِيَ ومَن زَنى بِها، لِأنَّهُ قَدْ يَراهُ عَلى جارِيَةٍ لَهُ فَيَظُنُّ أنَّها أجْنَبِيَّةٌ، ويَجِبُ أنْ يَشْهَدُوا أنّا رَأيْنا ذَكَرَهُ يَدْخُلُ في فَرْجِها دُخُولَ المِيلِ في المُكْحُلَةِ، فَلَوْ شَهِدُوا مُطْلَقًا أنَّهُ زَنى لا يَثْبُتُ، لِأنَّهم رُبَّما يَرَوْنَ المُفاخَذَةَ زِنًا، بِخِلافِ ما لَوْ قَذَفَ إنْسانًا فَقالَ زَنَيْتَ يَجِبُ الحَدُّ ولا يُسْتَفْسَرُ، ولَوْ أقَرَّ عَلى نَفْسِهِ بِالزِّنا، هَلْ يُشْتَرَطُ أنْ يُسْتَفْسَرَ ؟ فِيهِ وجْهانِ. أحَدُهُما: نَعَمْ كالشُّهُودِ. والثّانِي: لا يَجِبُ كَما في القَذْفِ. المسألة الثّالِثَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ أنْ يَجِيءَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ أوْ مُجْتَمِعِينَ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذا شَهِدُوا مُتَفَرِّقِينَ لا يَثْبُتُ وعَلَيْهِمْ حَدُّ القَذْفِ، حُجَّةُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ الإتْيانَ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الإتْيانِ بِهِمْ مُجْتَمِعِينَ أوْ مُتَفَرِّقِينَ واللَّفْظُ الدّالُّ عَلى ما بِهِ الِاشْتِراكُ لا إشْعارَ لَهُ بِما بِهِ الِامْتِيازُ، فالآتِي بِهِمْ مُتَفَرِّقِينَ يَكُونُ عامِلًا بِالنَّصِّ فَوَجَبَ أنْ يَخْرُجَ عَنِ العُهْدَةِ. الثّانِي: كَلُّ (p-١٣٩)حُكْمٍ يَثْبُتُ بِشَهادَةِ الشُّهُودِ إذا جاءُوا مُجْتَمِعِينَ يَثْبُتُ إذا جاءُوا مُتَفَرِّقِينَ كَسائِرِ الأحْكامِ، بَلْ هَذا أوْلى لِأنَّهم إذا جاءُوا مُتَفَرِّقِينَ كانَ أبْعَدَ عَنِ التُّهْمَةِ، وعَنْ أنْ يَتَلَقَّنَ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ، فَلِذَلِكَ قُلْنا إذا وقَعَتْ رِيبَةٌ لِلْقاضِي في شَهادَةِ الشُّهُودِ فَرَّقَهم لِيَظْهَرَ عَلى عَوْرَةٍ إنْ كانَتْ في شَهادَتِهِمْ. الثّالِثُ: أنَّهُ لا يُشْتَرَطُ أنْ يَشْهَدُوا مَعًا في حالَةٍ واحِدَةٍ، بَلْ إذا اجْتَمَعُوا عِنْدَ القاضِي وكانَ يُقَدَّمُ واحِدٌ بَعْدَ آخَرَ ويَشْهَدُ فَإنَّهُ تُقْبَلُ شَهادَتُهم، فَكَذا إذا اجْتَمَعُوا عَلى بابِهِ. ثُمَّ كانَ يَدْخُلُ واحِدٌ بَعْدَ واحِدٍ، حُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الشّاهِدَ الواحِدَ لَمّا شَهِدَ فَقَدْ قَذَفَهُ ولَمْ يَأْتِ بِأرْبَعَةٍ مِنَ الشُّهَداءِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الحَدُّ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ أقْصى ما في البابِ أنَّهم عَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ القَذْفِ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ، وذَلِكَ لا عِبْرَةَ بِهِ لِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى إسْقاطِ حَدِّ القَذْفِ رَأْسًا، لِأنَّ كُلَّ قاذِفٍ لا يُعْجِزُهُ لَفْظُ الشَّهادَةِ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ وسِيلَةً إلى إسْقاطِ الحَدِّ عَنْ نَفْسِهِ، ويَحْصُلُ مَقْصُودُهُ مِنَ القَذْفِ. الثّانِي: ما رُوِيَ ”أنَّ المُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أرْبَعَةٌ: أبُو بَكْرَةَ ونافِعٌ ونُفَيْعٌ وقالَ زِيادٌ - وكانَ رابِعَهم - رَأيْتُ إسْتًا تَنْبُو ونَفَسًا يَعْلُو ورِجْلاها عَلى عاتِقِهِ كَأُذُنَيْ حِمارٍ، ولا أدْرِي ما وراءَ ذَلِكَ، فَجَلَدَ عُمَرُ الثَّلاثَةَ ولَمْ يَسْألْ هَلْ مَعَهم شاهِدٌ آخَرُ“ فَلَوْ قُبِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهادَةُ غَيْرِهِمْ لَتَوَقَّفَ، لِأنَّ الحُدُودَ مِمّا يُتَوَقَّفُ فِيها ويُحْتاطُ. المسألة الرّابِعَةُ: لَوْ شَهِدَ عَلى الزِّنا أقَلُّ مِن أرْبَعَةٍ لا يَثْبُتُ الزِّنا، وهَلْ يَجِبُ حَدُّ القَذْفِ عَلى الشُّهُودِ ؟ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: لا يَجِبُ لِأنَّهم جاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ، ولِأنّا لَوْ حَدَدْنا لانْسَدَّ بابُ الشَّهادَةِ عَلى الزِّنا، لَأنَّ كُلَّ واحِدٍ لا يَأْمَنُ أنْ لا يُوافِقَهُ صاحِبُهُ فَيَلْزَمُهُ الحَدُّ. والقَوْلُ الثّانِي: وهو الأصَحُّ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ عَلَيْهِمُ الحَدُّ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ الوَجْهانِ اللَّذانِ ذَكَرْناهُما في المسألة الثّالِثَةِ. المسألة الخامِسَةُ: إذا قَذَفَ رَجُلٌ رَجُلًا فَجاءَ بِأرْبَعَةِ فُسّاقٍ فَشَهِدُوا عَلى المَقْذُوفِ بِالزِّنا، قالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَسْقُطُ الحَدُّ عَنِ القاذِفِ ولا يَجِبُ الحَدُّ عَلى الشُّهُودِ. وقالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في أحَدِ قَوْلَيْهِ: يُحَدُّونَ، وجْهُ قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ وهَذا قَدْ أتى بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فَلا يَلْزَمُهُ الحَدُّ. ولِأنَّ الفاسِقَ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ وقَدْ وجَدْتُ شَرائِطَ شَهادَةِ الزِّنا مِنَ اجْتِماعِهِمْ عِنْدَ القاضِي، إلّا أنَّهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهادَتُهم لِأجْلِ التُّهْمَةِ، فَكَما اعْتَبَرْنا التُّهْمَةَ في نَفْيِ الحَدِّ عَنِ المَشْهُودِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ وجَبَ اعْتِبارُها في نَفْيِ الحَدِّ عَنْهم، ووَجْهُ قَوْلِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّهم غَيْرُ مَوْصُوفِينَ بِالشَّرائِطِ المُعْتَبَرَةِ في قَبُولِ الشَّهادَةِ فَخَرَجُوا عَنْ أنْ يَكُونُوا شاهِدِينَ، فَبَقُوا مَحْضَ القاذِفِينَ، وهاهُنا آخِرُ الكَلامِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ . * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: المُخاطَبُ بِقَوْلِهِ: ﴿فاجْلِدُوهُمْ﴾ هو الإمامُ عَلى ما بَيَّنّاهُ في آيَةِ الزِّنا، أوِ المالِكُ عَلى مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ، أوْ رَجُلٌ صالِحٌ يُنَصِّبُهُ النّاسُ عِنْدَ فَقْدِ الإمامِ. المسألة الثّانِيَةُ: خُصَّ مِن عُمُومِ هَذِهِ الآيَةِ صُوَرٌ. أحَدُها: الوالِدُ يَقْذِفُ ولَدَهُ أوْ أحَدًا مِن نَوافِلِهِ، فَلا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَدُّ، كَما لا يَجِبُ عَلَيْهِ القِصاصُ بِقَتْلِهِ. الثّانِيَةُ: القاذِفُ إذا كانَ عَبْدًا فالواجِبُ جَلْدُ أرْبَعِينَ، وكَذا المُكاتَبُ وأُمُّ الوَلَدِ، ومَن بَعْضُهُ حُرٌّ وبَعْضُهُ رَقِيقٌ فَحَدُّهم حَدُّ العَبِيدِ. الثّالِثَةُ: مَن قَذَفَ رَقِيقَةً عَفِيفَةً أوْ مَن زَنَتْ في قَدِيمِ الأيّامِ ثُمَّ تابَتْ فَهي بِمُوجَبِ اللُّغَةِ مُحْصَنَةٌ، ومَعَ ذَلِكَ لا يَجِبُ الحَدُّ بِقَذْفِها. (p-١٤٠)المسألة الثّالِثَةُ: قالُوا: أشَدُّ الضَّرْبِ في الحُدُودِ ضَرْبُ الزِّنا، ثُمَّ ضَرْبُ شُرْبِ الخَمْرِ، ثُمَّ ضَرْبُ القاذِفِ، لِأنَّ سَبَبَ عُقُوبَتِهِ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ والكَذِبِ، إلّا أنَّهُ عُوقِبَ صِيانَةً لِلْأعْراضِ وزَجْرًا عَنْ هَتْكِها. المسألة الرّابِعَةُ: قالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ: حَدُّ القَذْفِ يُوَرَّثُ، فَإذا ماتَ المَقْذُوفُ قَبْلَ اسْتِيفاءِ الحَدِّ وقَبْلَ العَفْوِ يَثْبُتُ لِوارِثِهِ حَدُّ القَذْفِ، وكَذَلِكَ إذا كانَ الواجِبُ بِقَذْفِهِ التَّعْزِيرَ، فَإنَّهُ يُوَرَّثُ عَنْهُ، وكَذا لَوْ أنْشَأ القَذْفَ بَعْدَ مَوْتِ المَقْذُوفِ ثَبَتَ لِوارِثِهِ طَلَبُ الحَدِّ. وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدُّ القَذْفِ لا يُوَرَّثُ ويَسْقُطُ بِالمَوْتِ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أنَّ حَدَّ القَذْفِ هو حَقُّ الآدَمِيِّ لِأنَّهُ يَسْقُطُ بِعَفْوِهِ ولا يُسْتَوْفى إلّا بِطَلَبِهِ ويَحْلِفُ فِيهِ المُدَّعى عَلَيْهِ إذا أنْكَرَ، وإذا كانَ حَقَّ الآدَمِيِّ وجَبَ أنْ يُوَرَّثَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«ومَن تَرَكَ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ» “ حُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّهُ لَوْ كانَ مَوْرُوثًا لَكانَ لِلزَّوْجِ أوِ الزَّوْجَةِ فِيهِ نَصِيبٌ، ولِأنَّهُ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ مَعْنى المالِ والوَثِيقَةِ فَلا يُوَرَّثُ كالوَكالَةِ والمُضارَبَةِ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ الأصَحَّ عِنْدَ الشّافِعِيَّةِ أنَّهُ يَرِثُهُ جَمِيعُ الوَرَثَةِ كالمالِ، وفِيهِ وجْهٌ ثانٍ أنَّهُ يَرِثُهُ كُلُّهم إلّا الزَّوْجَ والزَّوْجَةَ، لِأنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَرْتَفِعُ بِالمَوْتِ، ولِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ الحَدِّ دَفْعُ العارِ عَنِ النَّسَبِ، وذَلِكَ لا يَلْحَقُ الزَّوْجَ والزَّوْجَةَ. المسألة الخامِسَةُ: إذا قَذَفَ إنْسانٌ إنْسانًا بَيْنَ يَدَيِ الحاكِمِ، أوْ قَذَفَ امْرَأتَهُ بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ والرَّجُلُ غائِبٌ، فَعَلى الحاكِمِ أنْ يَبْعَثَ إلى المَقْذُوفِ ويُخْبِرَهُ بِأنَّ فُلانًا قَذَفَكَ وثَبَتَ لَكَ حَدُّ القَذْفِ عَلَيْهِ، كَما لَوْ ثَبَتَ لَهُ مالٌ عَلى آخَرَ وهو لا يَعْلَمُهُ يَلْزَمُهُ إعْلامُهُ، وعَلى هَذا المَعْنى ”«بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ أُنَيْسًا لِيُخْبِرَها بِأنَّ فُلانًا قَذَفَها بِابْنِهِ ولَمْ يَبْعَثْهُ لِيَتَفَحَّصَ عَنْ زِناها» “ قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ولَيْسَ لِلْإمامِ إذا رَمى رَجُلٌ بِزِنًا أنْ يَبْعَثَ إلَيْهِ فَيَسْألَهُ عَنْ ذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿ولا تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات: ١٢] وأرادَ بِهِ إذا لَمْ يَكُنِ القاذِفُ مُعَيَّنًا، مِثْلَ إنْ قالَ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيِ الحاكِمِ: النّاسُ يَقُولُونَ إنَّ فَلانًا زَنى فَلا يَبْعَثُ الحاكِمُ إلَيْهِ فَيَسْألُهُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا﴾ فاخْتَلَفَ الفُقَهاءُ فِيهِ، فَقالَ أكْثَرُ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ إنَّهُ إذا تابَ قُبِلَتْ شَهادَتُهُ وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ والثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لا تُقْبَلُ شَهادَةُ المَحْدُودِ في القَذْفِ إذا تابَ، وهَذِهِ المسألة مَبْنِيَّةٌ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا﴾ هَلْ عادَ إلى جَمِيعِ الأحْكامِ المَذْكُورَةِ أوِ اخْتُصَّ بِالجُمْلَةِ الأخِيرَةِ، فَعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِثْناءُ المَذْكُورُ عَقِيبَ الجُمَلِ الكَثِيرَةِ مُخْتَصٌّ بِالجُمْلَةِ الأخِيرَةِ، وعِنْدَ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْجِعُ إلى الكُلِّ، وهَذِهِ المسألة قَدْ لَخَّصْناها في أُصُولِ الفِقْهِ، ونَذْكُرُ هاهُنا ما يَلِيقُ بِهَذا المَوْضِعِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، احْتَجَّ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلى أنَّ شَهادَتَهُ مَقْبُولَةٌ بِوُجُوهٍ: أحَدُها: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«التّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَن لا ذَنْبَ لَهُ» “ ومَن لا ذَنْبَ لَهُ مَقْبُولُ الشَّهادَةِ، فالتّائِبُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ أيْضًا مَقْبُولَ الشَّهادَةِ. وثانِيها: أنَّ الكافِرَ يَقْذِفُ فَيَتُوبُ عَنِ الكُفْرِ فَتُقْبَلُ شَهادَتُهُ بِالإجْماعِ، فالقاذِفُ المُسْلِمُ إذا تابَ عَنِ القَذْفِ وجَبَ أنْ تُقْبَلَ شَهادَتُهُ، لِأنَّ القَذْفَ مَعَ الإسْلامِ أهْوَنُ حالًا مِنَ القَذْفِ مَعَ الكُفْرِ، فَإنْ قِيلَ المُسْلِمُونَ لا يَأْلَمُونَ بِسَبِّ الكُفّارِ، لِأنَّهم شُهِرُوا بِعَداوَتِهِمْ والطَّعْنِ فِيهِمْ بِالباطِلِ، فَلا يَلْحَقُ المَقْذُوفَ بِقَذْفِ الكافِرِ مِنَ الشَّيْنِ والشَّنَآنِ ما يَلْحَقُهُ بِقَذْفِ مُسْلِمٍ مِثْلِهِ، فَشُدِّدَ عَلى القاذِفِ مِنَ المُسْلِمِينَ زَجْرًا عَنْ إلْحاقِ العارِ والشَّنَآنِ، وأيْضًا فالتّائِبُ مِنَ الكُفْرِ لا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَدُّ والتّائِبُ مِنَ القَذْفِ لا يَسْقُطُ عَنْهُ الحَدُّ، قُلْنا هَذا الفَرْقُ مُلْغًى بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«أنْبِئْهم أنَّ لَهم ما لِلْمُسْلِمِينَ وعَلَيْهِمْ ما عَلى (p-١٤١)المُسْلِمِينَ» “ . وثالِثُها: أجْمَعْنا عَلى أنَّ التّائِبَ عَنِ الكُفْرِ والقَتْلِ والزِّنا مَقْبُولُ الشَّهادَةِ فَكَذا التّائِبُ عَنِ القَذْفِ؛ لِأنَّ هَذِهِ الكَبِيرَةَ لَيْسَتْ أكْبَرَ مِن نَفْسِ الزِّنا. ورابِعُها: أنَّ أبا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْبَلُ شَهادَتَهُ إذا تابَ قَبْلَ الحَدِّ مَعَ أنَّ الحَدَّ حَقُّ المَقْذُوفِ فَلا يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ. فَلَأنْ تُقْبَلَ شَهادَتُهُ إذا تابَ بَعْدَ إقامَةِ الحَدِّ وقَدْ حَسُنَتْ حالَتُهُ وزالَ اسْمُ الفِسْقِ عَنْهُ كانَ أوْلى. وخامِسُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا﴾ اسْتِثْناءٌ مَذْكُورٌ عَقِيبَ جُمَلٍ فَوَجَبَ عَوْدُهُ إلَيْها بِأسْرِها ويَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أحَدُها: أجْمَعْنا عَلى أنَّهُ لَوْ قالَ عَبْدُهُ حُرٌّ وامْرَأتُهُ طالِقٌ إنْ شاءَ اللَّهُ، فَإنَّهُ يَرْجِعُ الِاسْتِثْناءُ إلى الجَمِيعِ فَكَذا فِيما نَحْنُ فِيهِ، فَإنْ قِيلَ الفَرْقُ أنَّ قَوْلَهُ: إنْ شاءَ اللَّهُ يَدْخُلُ لِرَفْعِ حُكْمِ الكَلامِ حَتّى لا يَثْبُتَ فِيهِ شَيْءٌ، والِاسْتِثْناءُ المَذْكُورُ بِحَرْفِ الِاسْتِثْناءِ لا يَجُوزُ دُخُولُهُ لِرَفْعِ حُكْمِ الكَلامِ رَأْسًا. ألا تَرى أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَقُولَ أنْتِ طالِقٌ إنْ شاءَ اللَّهُ فَلا يَقَعُ شَيْءٌ، ولَوْ قالَ أنْتِ طالِقٌ إلّا طَلاقًا كانَ الطَّلاقُ واقِعًا والِاسْتِثْناءُ باطِلًا لِاسْتِحالَةِ دُخُولِهِ لِرَفْعِ حُكْمِ الكَلامِ بِالكُلِّيَّةِ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن رُجُوعِ قَوْلِهِ: (إنْ شاءَ اللَّهُ) إلى جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ صِحَّةُ رُجُوعِ الِاسْتِثْناءِ بِحَرْفِهِ إلى جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ، قُلْنا هَذا فَرْقٌ في غَيْرِ مَحَلِّ الجَمْعِ، لِأنَّ إنْ شاءَ اللَّهُ جازَ دُخُولُهُ لِرَفْعِ حُكْمِ الكَلامِ بِالكُلِّيَّةِ، فَلا جَرَمَ جازَ رُجُوعُهُ إلى جَمِيعِ الجُمَلِ المَذْكُورَةِ وإلّا جازَ دُخُولُهُ لِرَفْعِ بَعْضِ الكَلامِ فَوَجَبَ جَوازُ رُجُوعِهِ إلى جَمِيعِ الجُمَلِ عَلى هَذا الوجه، حَتّى يَقْتَضِيَ أنْ يَخْرُجَ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنَ الجُمَلِ المَذْكُورَةِ بَعْضُهُ. وثانِيها: أنَّ الواوَ لِلْجَمْعِ المُطْلَقِ فَقَوْلُهُ: ﴿فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ صارَ الجَمْعُ كَأنَّهُ ذُكِرَ مَعًا لا تَقَدُّمَ لِلْبَعْضِ عَلى البَعْضِ. فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ رُجُوعُ الِاسْتِثْناءِ إلى بَعْضِها أوْلى مِن رُجُوعِهِ إلى الباقِي إذْ لَمْ يَكُنْ لِبَعْضِها عَلى بَعْضٍ تَقَدُّمٌ في المَعْنى البَتَّةَ فَوَجَبَ رُجُوعُهُ إلى الكُلِّ، ونَظِيرُهُ عَلى قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] فَإنَّ فاءَ التَّعْقِيبِ ما دَخَلَتْ عَلى غَسْلِ الوجه بَلْ عَلى مَجْمُوعِ هَذِهِ الأُمُورِ مِن حَيْثُ إنَّ الواوَ لا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ. فَكَذا هاهُنا كَلِمَةُ إلّا ما دَخَلَتْ عَلى واحِدٍ بِعَيْنِهِ لِأنَّ حَرْفَ الواوِ لا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ بَلْ دَخَلَتْ عَلى المَجْمُوعِ، فَإنْ قِيلَ الواوُ قَدْ تَكُونُ لِلْجَمْعِ عَلى ما ذَكَرْتَ وقَدْ تَكُونُ لِلِاسْتِئْنافِ وهي في قَوْلِهِ: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ لِأنَّها إنَّما تَكُونُ لِلْجَمْعِ فِيما لا يَخْتَلِفُ مَعْناهُ ونَظْمُهُ جُمْلَةً واحِدَةً، فَيَصِيرُ الكُلُّ كالمَذْكُورِ مَعًا مِثْلَ آيَةِ الوُضُوءِ فَإنَّ الكُلَّ أمْرٌ واحِدٌ كَأنَّهُ قالَ: فاغْسِلُوا هَذِهِ الأعْضاءَ فَإنَّ الكُلَّ قَدْ تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الأمْرِ. وأمّا آيَةُ القَذْفِ فَإنَّ ابْتِداءَها أمْرٌ وآخِرَها خَبَرٌ فَلا يَجُوزُ أنْ يَنْظِمَهُما جُمْلَةً واحِدَةً، وكانَ الواوُ لِلِاسْتِئْنافِ فَيَخْتَصُّ الِاسْتِثْناءُ بِهِ، قُلْنا لِمَ لا يَجُوزُ أنْ نَجْعَلَ الجُمَلَ الثَّلاثَ بِمَجْمُوعِهِنَّ جَزاءَ الشَّرْطِ كَأنَّهُ قِيلَ ومَن قَذَفَ المُحْصَناتِ فاجْلِدُوهم ورُدُّوا شَهادَتَهِمْ وفَسِّقُوهم، أيْ فاجْمَعُوا لَهُمُ الجَلْدَ والرَّدَّ والفِسْقَ، إلّا الَّذِينَ تابُوا عَنِ القَذْفِ وأصْلَحُوا فَإنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهم فَيَنْقَلِبُونَ غَيْرَ مَجْلُودِينَ ولا مَرْدُودِينَ ولا مُفَسَّقِينَ. وثالِثُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ عَقِيبَ قَوْلِهِ: ﴿ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ العِلَّةَ في عَدَمِ قَبُولِ تِلْكَ الشَّهادَةِ كَوْنُهُ فاسِقًا، لِأنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ عَلى الوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالعِلِّيَّةِ، لا سِيَّما إذا كانَ الوَصْفُ مُناسِبًا وكَوْنُهُ فاسِقًا يُناسِبُ أنْ لا يَكُونَ مَقْبُولَ الشَّهادَةِ، إذا ثَبَتَ أنَّ العِلَّةَ لِرَدِّ الشَّهادَةِ لَيْسَتْ إلّا كَوْنَهُ فاسِقًا، ودَلَّ الِاسْتِثْناءُ عَلى زَوالِ الفِسْقِ فَقَدْ زالَتِ العِلَّةُ فَوَجَبَ أنْ يَزُولَ الحُكْمُ لِزَوالِ العِلَّةِ. ورابِعُها: أنَّ مِثْلَ هَذا الِاسْتِثْناءِ مَوْجُودٌ في القُرْآنِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [المائدة: ٣٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا﴾ ولا خِلافَ أنَّ هَذا الِاسْتِثْناءَ راجِعٌ إلى ما تَقَدَّمَ مِن أوَّلِ الآيَةِ، وأنَّ التَّوْبَةَ حاصِلَةٌ لِهَؤُلاءِ جَمِيعًا وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (p-١٤٢)﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ [النساء: ٤٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [النساء: ٤٣] وصارَ التَّيَمُّمُ لِمَن وجَبَ عَلَيْهِ الِاغْتِسالُ، كَما أنَّهُ مَشْرُوعٌ لِمَن وجَبَ عَلَيْهِ الوُضُوءُ، وهَذا الوجه ذَكَرَهُ أبُو عُبَيْدٍ في إثْباتِ مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، واحْتَجَّ أصْحابُ أبِي حَنِيفَةَ عَلى أنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْناءِ مُخْتَصٌّ بِالجُمْلَةِ الأخِيرَةِ بِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ الِاسْتِثْناءَ مِنَ الِاسْتِثْناءِ يَخْتَصُّ بِالجُمْلَةِ الأخِيرَةِ، فَكَذا في جَمِيعِ الصُّوَرِ طَرْدًا لِلْبابِ. وثانِيها: أنَّ المُقْتَضِيَ لِعُمُومِ الجُمَلِ المُتَقَدِّمَةِ قائِمٌ والمُعارِضَ وهو الِاسْتِثْناءُ يَكْفِي في تَصْحِيحِهِ تَعْلِيقُهُ بِجُمْلَةٍ واحِدَةٍ، لِأنَّ بِهَذا القَدْرِ يَخْرُجُ الِاسْتِثْناءُ عَنْ أنْ يَكُونَ لَغْوًا فَوَجَبَ تَعْلِيقُهُ بِالجُمْلَةِ الواحِدَةِ فَقَطْ. وثالِثُها: أنَّ الِاسْتِثْناءَ لَوْ رَجَعَ إلى كُلِّ الجُمَلِ المُتَقَدِّمَةِ لَوَجَبَ أنَّهُ إذا تابَ أنْ لا يُجْلَدَ وهَذا باطِلٌ بِالإجْماعِ فَوَجَبَ أنْ يَخْتَصَّ الِاسْتِثْناءُ بِالجُمْلَةِ الأخِيرَةِ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ الِاسْتِثْناءَ مِنَ النَّفْيِ إثْباتٌ ومِنَ الإثْباتِ نَفْيٌ، فالِاسْتِثْناءُ عَقِيبَ الِاسْتِثْناءِ لَوْ رَجَعَ إلى الِاسْتِثْناءِ الأوَّلِ وإلى المُسْتَثْنى فَبِقَدْرِ ما نَفى مِن أحَدِهِما أثْبَتَ في الآخَرِ فَيَنْجَبِرُ النّاقِصُ بِالزّائِدِ ويَصِيرُ الِاسْتِثْناءُ الثّانِي عَدِيمَ الفائِدَةِ، فَلِهَذا السَّبَبِ قُلْنا في الِاسْتِثْناءِ مِنَ الِاسْتِثْناءِ إنَّهُ يَخْتَصُّ بِالجُمْلَةِ الأخِيرَةِ. والجَوابُ عَنِ الثّانِي: أنّا بَيَّنّا أنَّ واوَ العَطْفِ لا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فَلَمْ يَكُنْ بَعْضُ الجُمَلِ مُتَأخِّرًا في التَّقْدِيرِ عَنِ البَعْضِ، فَلَمْ يَكُنْ تَعْلِيقُهُ بِالبَعْضِ أوْلى مِن تَعْلِيقِهِ بِالباقِي، فَوَجَبَ تَعْلِيقُهُ بِالكُلِّ. والجَوابُ عَنِ الثّالِثِ: أنَّهُ تُرِكَ العَمَلُ بِهِ في حَقِّ البَعْضِ فَلَمْ يُتْرَكِ العَمَلُ بِهِ في حَقِّ الباقِي، واحْتَجَّ أصْحابُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في المسألة بِوُجُوهٍ مِنَ الأخْبارِ: أحَدُها: ما رَوى ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في قِصَّةِ «هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْماءَ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”يُجْلَدُ هِلالٌ وتَبْطُلُ شَهادَتُهُ في المُسْلِمِينَ“» فَأخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنَّ وُقُوعَ الجَلْدِ بِهِ يُبْطِلُ شَهادَتَهُ مِن غَيْرِ شَرْطِ التَّوْبَةِ في قَبُولِها. وثانِيها: أنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«المُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ إلّا مَحْدُودًا في قَذْفٍ» “ ولَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ وُجُودَ التَّوْبَةِ مِنهُ. وثالِثُها: ما رَوى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ: ”«لا تَجُوزُ شَهادَةُ مَحْدُودٍ في الإسْلامِ» “ قالَتِ الشّافِعِيَّةُ هَذا مُعارَضٌ بِوُجُوهٍ: أحَدُها: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إذا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فاشْهَدْ» “ والأمْرُ لِلْوُجُوبِ فَإذا عَلِمَ المَحْدُودُ وجَبَتْ عَلَيْهِ الشَّهادَةُ ولَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً لَما وجَبَتْ لِأنَّها تَكُونُ عَبَثًا. وثانِيها: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظّاهِرِ» “ وهاهُنا قَدْ حَصَلَ الظُّهُورُ لِأنَّ دِينَهُ وعَقْلَهُ وعِفَّتَهُ الحاصِلَةَ بِالتَّوْبَةِ تُفِيدُ ظَنَّ كَوْنِهِ صادِقًا. وثالِثُها: ما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ ”أنَّهُ ضَرَبَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وهم أبُو بَكْرَةَ ونافِعٌ ونُفَيْعٌ، ثم قال لَهم مَن أكْذَبَ نَفْسَهُ قُبِلَتْ شَهادَتُهُ ومَن لَمْ يَفْعَلْ لَمْ أُجِزْ شَهادَتَهُ فَأكْذَبَ نافِعٌ ونُفَيْعٌ أنْفُسَهُما وتابا وكانَ يَقْبَلُ شَهادَتَهُما. وأمّا أبُو بَكْرَةَ فَكانَ لا يَقْبَلُ شَهادَتَهُ“ وما أنْكَرَ عَلَيْهِ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ فِيهِ، فَهَذا تَمامُ الكَلامِ في هَذِهِ المسألة. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ يَدُلُّ عَلى أمْرَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ القَذْفَ مِن جُمْلَةِ الكَبائِرِ لِأنَّ اسْمَ الفِسْقِ لا يَقَعُ إلّا عَلى صاحِبِ الكَبِيرَةِ. الثّانِي: أنَّهُ اسْمٌ لِمَن يَسْتَحِقُّ العِقابَ لِأنَّهُ لَوْ كانَ مُشْتَقًّا مِن فِعْلِهِ لَكانَتِ التَّوْبَةُ لا تَمْنَعُ مِن دَوامِهِ كَما لا تَمْنَعُ مِن وصْفِهِ بِأنَّهُ ضارِبٌ وبِأنَّهُ رامٍ إلى غَيْرِ ذَلِكَ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا﴾ فاعْلَمْ أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في أنَّ التَّوْبَةَ عَنِ القَذْفِ كَيْفَ تَكُونُ، قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّوْبَةُ مِنهُ إكْذابُهُ نَفْسَهُ، واخْتَلَفَ أصْحابُهُ في مَعْناهُ فَقالَ الإصْطَخْرِيُّ: يَقُولُ: كَذَبْتُ فِيما قُلْتُ فَلا أعُودُ لِمِثْلِهِ، وقالَ أبُو إسْحاقَ: لا يَقُولُ كَذَبْتُ لِأنَّهُ رُبَّما يَكُونُ صادِقًا فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَذَبْتُ كَذِبًا والكَذِبُ (p-١٤٣)مَعْصِيَةٌ، والإتْيانُ بِالمَعْصِيَةِ لا يَكُونُ تَوْبَةً عَنْ مَعْصِيَةٍ أُخْرى، بَلْ يَقُولُ القاذِفُ باطِلًا: نَدِمْتُ عَلى ما قُلْتُ ورَجَعْتُ عَنْهُ ولا أعُودُ إلَيْهِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وأصْلَحُوا﴾ فَقالَ أصْحابُنا إنَّهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لا بُدَّ مِن مُضِيِّ مُدَّةٍ عَلَيْهِ في حُسْنِ الحالِ حَتّى تُقْبَلَ شَهادَتُهُ وتَعُودَ وِلايَتُهُ، ثُمَّ قَدَّرُوا تِلْكَ المُدَّةَ بِسَنَةٍ حَتّى تَمُرَّ عَلَيْهِ الفُصُولُ الأرْبَعُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ فِيها الأحْوالُ والطِّباعُ كَما يُضْرَبُ لِلْعِنِّينِ أجْلٌ سَنَةً، وقَدْ عَلَّقَ الشَّرْعُ أحْكامًا بِالسَّنَةِ مِنَ الزَّكاةِ والجِزْيَةِ وغَيْرِهِما. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فالمَعْنى أنَّهُ لِكَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ واجِبٍ عَقْلًا إذْ لَوْ كانَ واجِبًا لَما كانَ في قَبُولِهِ غَفُورًا رَحِيمًا، لِأنَّهُ إذا كانَ واجِبًا فَهو إنَّما يَقْبَلُهُ خَوْفًا وقَهْرًا لِعِلْمِهِ بِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ لَصارَ سَفِيهًا، ولَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الإلَهِيَّةِ. أمّا إذا لَمْ يَكُنْ واجِبًا فَقَبِلَهُ. فَهُناكَ تَتَحَقَّقُ الرَّحْمَةُ والإحْسانُ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب