الباحث القرآني

﴿إلا الَّذِينَ تابُوا﴾ أيْ رَجَعُوا عَمّا قالُوا ونَدِمُوا (p-98)عَلى ما تَكَلَّمُوا اسْتِثْناءً مِنَ الفاسِقِينَ كَما صَرَّحَ بِهِ أكْثَرُ الأصْحابِ، وقالَ بَعْضُهُمُ: المُسْتَثْنى مِنهُ في الحَقِيقَةِ ( أُولَئِكَ ) وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى ما يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، ومَحَلُّ المُسْتَثْنى النَّصْبُ لِأنَّهُ عَنْ مُوجَبٍ، وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ لِتَهْوِيلِ المَتُوبِ عَنْهُ أيْ مِن بَعْدِ ما اقْتَرَفُوا ذَلِكَ الذَّنْبَ العَظِيمَ الهائِلَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأصْلَحُوا﴾ عَلى مَعْنى وأصْلَحُوا أعْمالَهم بِالِاسْتِحْلالِ مِمَّنْ رَمَوْهُ. وهَذا ظاهِرٌ إنْ كانَ قَدْ بَقِيَ حَيًّا فَإنْ كانَ قَدْ ماتَ فَلَعَلَّ الِاسْتِغْفارَ لَهُ يَقُومُ مَقامَ الِاسْتِحْلالِ مِنهُ كَما قِيلَ في نَظِيرِ المَسْألَةِ. فَإنْ كانُوا قَدْ رَمَوْا أمْواتًا فالظّاهِرُ أنَّهم يَسْتَحِلُّونَ مِمَّنْ خاصَمَهم وطَلَبَ إقامَةَ الحَدِّ عَلَيْهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُغْنِيَ عَنْهُ الِاسْتِغْفارُ لِمَن رَمَوْهُ. والجَمْعُ بَيْنَ الِاسْتِحْلالِ مِن أُولَئِكَ المُخاصِمِينَ والِاسْتِغْفارِ لِلْمَرْمِيَّيْنِ أوْلى ولَمْ أرَ مَن تَعَرَّضَ لِذَلِكَ. وكَوْنُ الِاسْتِثْناءِ مِنَ الجُمْلَةِ الأخِيرَةِ مَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ فَعِنْدَهم لا تُقْبَلُ شَهادَةُ المَحْدُودِ في قَذْفٍ وإنْ تابَ وأصْلَحَ لَكِنْ قالُوا: إنَّ حَدَّ الكافِرِ ثُمَّ أسْلَمَ قُبِلَتْ شَهادَتُهُ وإنْ لَمْ تَكُنْ تُقْبَلُ قَبِلَ عَلى أهْلِ الذِّمَّةِ، ووَجَّهَهُ أنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ لِرَدِّ شَهادَتِهِ النّاشِئَةِ عَنْ أهْلِيَّتِهِ الثّابِتَةِ لَهُ عِنْدَ القَذْفِ ولِذا قِيلَ: ﴿ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً﴾ دُونَ ولا تَقْبَلُوا شَهادَتَهم أيْ ولا تَقْبَلُوا مِنهم شَهادَةً مِنَ الشَّهاداتِ حالَ كَوْنِها حاصِلَةً لَهم عِنْدَ الرَّمْيِ والشَّهادَةِ الَّتِي كانَتْ حاصِلَةً لِلْكافِرِ عِنْدَ الرَّمْيِ هي الشَّهادَةُ عَلى أبْناءِ جِنْسِهِ فَتَدْخُلُ تَحْتَ الرَّدِّ، وأمّا الشَّهادَةُ الَّتِي اعْتُبِرَتْ بَعْدَ الإسْلامِ فَغَيْرُ تِلْكَ الشَّهادَةِ ولِهَذا قَبِلَتْ عَلى أهْلِ الإسْلامِ وغَيْرِهِمْ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الرَّدِّ، وهَذا بِخِلافِ العَبْدِ إذا حَدَّ في قَذْفٍ ثُمَّ أعْتَقَ فَإنَّهُ لا تُقْبَلُ شَهادَتُهُ لِأنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ شَهادَةٌ مِن قَبْلُ لِلرِّقِّ فَلَزِمَ كَوْنُ تَتْمِيمِ حَدِّهِ بَرُّ شَهادَتِهِ الَّتِي تَجَدَّدَتْ لَهُ، وقَدْ طَلَبَ الفَرْقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَن زَنى في دارِ الحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ إلى دارِ الإسْلامِ فَإنَّهُ لا يَحُدُّ حَيْثُ تَوَقَّفَ حُكْمُ المُوجَبِ في العَبْدِ إلى أنْ أمْكَنَ ولَمْ يَتَوَقَّفْ في الزِّنا في دارِ الحَرْبِ إلى الإمْكانِ بِالخُرُوجِ إلى دارِ الإسْلامِ. وأُجِيبُ بِأنَّ الزِّنا في دارِ الحَرْبِ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أصْلًا لِعَدَمِ قُدْرَةِ الإمامِ فَلَمْ يَكُنِ الإمامُ مُخاطِبًا بِإقامَتِهِ أصْلًا لِأنَّ القُدْرَةَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ فَلَوْ حَدَّ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ آخَرَ كانَ بِلا مُوجَبٍ وغَيْرِ المُوجَبِ لا يَنْقَلِبُ مُوجَبًا بِنَفْسِهِ خُصُوصًا في الحَدِّ المَطْلُوبِ دَرْؤُهُ، وأمّا قَذْفُ العَبْدِ فَمُوجِبٌ حالَ صُدُورِهِ لِلْحَدِّ غَيْرَ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَمامُهُ في الحالِ فَتَوَقَّفَ تَتْمِيمُهُ عَلى حُدُوثِ ذَلِكَ بَعْدَ العِتْقِ كَذا قِيلَ، وقالَ في المَبْسُوطِ في الفَرْقِ بَيْنَ الكافِرِ إذا أسْلَمَ بَعْدَ الحَدِّ والعَبْدِ إذا أعْتَقَ بَعْدَهُ: إنَّ الكافِرَ اسْتَفادَ بِالإسْلامِ عَدالَةَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً لَهُ عِنْدَ إقامَةِ الحَدِّ وهَذِهِ العَدالَةُ لَمْ تَكُنْ مَجْرُوحَةً بِخِلافِ العَبْدِ فَإنَّهُ بِالعِتْقِ لا يَسْتَفِيدُ عَدالَةً لَمْ تَكُنْ مِن قَبْلُ وقَدْ صارَتْ عَدالَتُهُ مَجْرُوحَةً بِإقامَةِ الحَدِّ، ثُمَّ لا فَرْقَ في العَبْدِ بَيْنَ أنْ يَكُونَ حَدٌّ ثُمَّ أعْتَقَ وبَيْنَ أنْ يَكُونَ أعْتَقَ ثُمَّ حَدَّ حَيْثُ لَمْ تُقْبَلْ شَهادَتُهُ في الصُّورَتَيْنِ، وأمّا الكافِرُ فَإنَّهُ لَوْ قَذَفَ مُحْصَنًا ثُمَّ أسْلَمَ ثُمَّ حَدٌّ لا تُقْبَلُ شَهادَتُهُ، ومُقْتَضى الآيَةِ عَدَمُ قَبُولِ كُلِّ شَهادَةٍ لِلْمَحْدُودِ حادِثَةً كانَتْ أوْ قَدِيمَةً لَمّا أنَّ ﴿شَهادَةً﴾ نَكِرَةٌ وهي واقِعَةٌ في حَيِّزِ النَّهْيِ فَتُفِيدُ العُمُومَ كالنَّكِرَةِ الواقِعَةِ في حَيِّزِ النَّفْيِ، وهَذا يُعَكِّرُ عَلى ما مَرَّ مِن قَبُولِ شَهادَةِ الكافِرِ المَحْدُودِ إذا أسْلَمَ، وأجابَ العَلّامَةُ ابْنُ الهُمامِ بِأنَّ التَّكْلِيفَ بِما في الوُسْعِ وقَدْ كَلَّفَ الحُكّامَ بِرَدِّ شَهادَتِهِ فالِامْتِثالُ إنَّما يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ شَهادَةٍ قائِمَةٍ فَحَيْثُ رَدَّتْ تَحَقُّقَ الِامْتِثالِ وتَمَّ وقَدْ حَدَثَتْ أُخْرى فَلَوْ رَدَّتْ كانَتْ غَيْرَ مُقْتَضى إذِ المُوجَبُ أخْذُ مُقْتَضاهُ ولِلْبَحْثِ فِيهِ مَجالٌ، ومُقْتَضى العُمُومِ أيْضًا عَدَمُ قَبُولِ شَهادَةِ المَحْدُودِ في الدِّياناتِ غَيْرُها وهي رِوايَةُ المُنْتَقى، وفي رِوايَةٍ أُخْرى أنَّها تُقْبَلُ في الدِّياناتِ وكَأنَّهُمُ اعْتَبَرُوها رِوايَةً وخَبَرًا لا شَهادَةَ ورَبَّ شَخْصٍ تَرِدُ شَهادَتُهُ (p-99)وتُقْبَلُ رِوايَتُهُ، وأوْرَدَ عَلى العُمُومِ أنَّهُمُ اكْتَفَوْا في النِّكاحِ بِشَهادَةِ المَحْدُودِينَ. وأُجِيبُ بِأنَّ الشَّهادَةَ هُناكَ بِمَعْنى الحُضُورِ وإنَّما يُكْتَفى بِهِ في انْعِقادِ النِّكاحِ وقَدْ صَرَّحُوا بِأنَّ لِلنِّكاحِ حُكْمَيْنِ حُكْمَ الِانْعِقادِ وحُكْمَ الإظْهارِ ولا يُقْبَلُ في الثّانِي إلّا شَهادَةُ مَن تُقْبَلُ شَهادَتُهُ في سائِرِ الأحْكامِ كَما في شَرْحِ الطَّحاوِيِّ والحاصِلُ أنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى وُجُوبِ رَدِّ شَهادَةِ المَحْدُودِ عَلى الحُكّامِ بِمَعْنى أنَّهُ إذا شَهِدَ عِنْدَهم عَلى حُكْمٍ وجَبَ عَلَيْهِمْ رَدُّ شَهادَتِهِ ويَنْدَرِجُ في ذَلِكَ شَهادَتُهُ في النِّكاحِ لِأنَّهُ يَشْهَدُ عِنْدَهم إذا وقَعَ التَّجاحُدُ فَلا يُعَكِّرُ عَلى العُمُومِ اعْتِبارَ حُضُورِهِ مَجْلِسِ النِّكاحِ في صِحَّةِ انْعِقادِهِ إذْ ذَلِكَ أمْرٌ وراءَ ما نَحْنُ فِيهِ كَذا قِيلَ فَلْيَتَدَبَّرْ، وذَهَبَ الشّافِعِيُّ إلى قَبُولِ شَهادَةِ المَحْدُودِ إذا تابَ، والمُرادُ بِتَوْبَتِهِ أنْ يُكْذِّبَ نَفْسَهُ في قَذْفِهِ، ومَبْنى الخِلافِ عَلى المَشْهُورِ الخِلافُ فِيما إذا جاءَ اسْتِثْناءً بَعْدَ جُمَلٍ مُقْتَرِنَةٍ بِالواوِ هَلْ يَنْصَرِفُ لِلْجُمْلَةِ الأخِيرَةِ أوْ إلى الكُلِّ أوْ هُناكَ تَفْصِيلٌ فالَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أصْحابُ الشّافِعِيِّ انْصِرافُهُ إلى الكُلِّ، والَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أصْحابُ أبِي حَنِيفَةَ انْصِرافُهُ لِلْجُمْلَةِ الأخِيرَةِ، وقالَ القاضِي عَبْدُ الجَبّارِ وأبُو الحُسَيْنِ البَصْرِيُّ وجَماعَةٌ مِنَ المُعْتَزِلَةِ إنْ كانَ الشُّرُوعُ في الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ إضْرابًا عَنِ الأوْلى ولا يُضْمَرُ فِيها شَيْءٌ مِمّا في الأوْلى فالِاسْتِثْناءُ مُخْتَصٌّ بِالجُمْلَةِ الأخِيرَةِ لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنِ الجُمْلَةِ الأوْلى مَعَ اسْتِقْلالِها بِنَفْسِها إلى غَيْرِها إلّا وقَدْ تَمَّ مَقْصُودُهُ مِنها وذَلِكَ عَلى أرْبَعَةِ أقْسامٍ، الأوَّلُ أنْ تَخْتَلِفَ الجُمْلَتانِ نَوْعًا كَما لَوْ قالَ: أكْرَمُ بَنِي تَمِيمٍ والنُّحاةُ البَصْرِيُّونَ إلّا البُغادِدَةُ إذِ الجُمْلَةُ الأُولى أمْرٌ والثّانِيَةُ خَبَرٌ، الثّانِي أنْ يَتَّحِدا نَوْعًا ويَخْتَلِفا اسْمًا وحُكْمًا كَما لَوْ قالَ: أكْرَمُ بَنِي تَمِيمٍ واضْرِبْ رَبِيعَةَ إلّا الطَّوالَ إذْ هُما أمْرانِ، الثّالِثُ أنْ يَتَّحِدا نَوْعًا ويَشْتَرِكا حُكْمًا لا اسْمًا كَما لَوْ قالَ: سَلَّمَ عَلى بَنِي تَمِيمٍ وسَلَّمَ عَلى بَنِي رَبِيعَةَ إلّا الطَّوالُ، الرّابِعُ أنْ يَتَّحِدا نَوْعًا ويَشْتَرِكا اسْمًا لا حُكْمًا ولا يَشْتَرِكَ الحُكْمانِ في غَرَضٍ مِنَ الأغْراضِ كَما لَوْ قالَ: سَلَّمَ عَلَيَّ بَنِي تَمِيمٍ واسْتَأْجَرَ بَنِي تَمِيمٍ إلّا الطَّوالَ، وقُوَّةُ اقْتِضاءِ اخْتِصاصِ الِاسْتِثْناءِ بِالجُمْلَةِ الأخِيرَةِ في هَذِهِ الأقْسامِ عَلى هَذا التَّرْتِيبِ وإنْ لَمْ يَكُنِ الشُّرُوعُ في الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ إضْرابًا عَنِ الأوْلى بِأنْ كانَ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ نَوْعٌ تَعَلَّقَ فالِاسْتِثْناءُ يَنْصَرِفُ إلى الكُلِّ وذَلِكَ عَلى أرْبَعَةِ أقْسامٍ، الأوَّلُ أنْ يَتَّحِدَ الجُمْلَتانِ نَوْعًا واسْمًا لا حُكْمًا غَيْرَ أنَّ الحُكْمَيْنِ قَدِ اشْتَرَكا في غَرَضٍ واحِدٍ كَما لَوْ قالَ: أكْرَمُ بَنِي تَمِيمٍ وسَلَّمَ عَلى بَنِي تَمِيمٍ إلّا الطَّوالَ لِاشْتِراكِهِما في غَرَضِ الإعْظامِ، الثّانِي أنْ يَتَّحِدَ الجُمْلَتانِ نَوْعًا ويَخْتَلِفا حُكْمًا واسْمُ الأُولى مُضْمَرٌ في الثّانِيَةِ كَما لَوْ قالَ: أكْرَمُ بَنِي تَمِيمٍ واسْتَأْجَرَهم إلّا الطَّوالُ، الثّالِثُ بِعَكْسِ ما قَبْلِهِ كَما لَوْ قالَ: أكْرَمُ بَنِي تَمِيمٍ ورَبِيعَةَ إلّا الطَّوالُ، الرّابِعُ أنْ يَخْتَلِفَ نَوْعُ الجُمَلِ إلّا أنَّهُ قَدْ أضْمَرَ في الأخِيرَةِ ما تَقَدَّمَ أوْ كانَ غَرَضُ الأحْكامِ المُخْتَلِفَةِ فِيها واحِدًا، وجَعَلَ آيَةَ الرَّمْيِ الَّتِي نَحْنُ فِيها مِن ذَلِكَ حَيْثُ قِيلَ: إنَّ جُمَلَها مُخْتَلِفَةُ النَّوْعِ مِن حَيْثُ إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ أمْرٌ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا﴾ نَهْيٌ وقَوْلُهُ جَلَّ وعَلا: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ خَبَرٌ وهي داخِلَةٌ أيْضًا تَحْتَ القِسْمِ الأوَّلِ مِن هَذِهِ الأقْسامِ الأرْبَعَةِ لِاشْتِراكِ أحْكامُ هَذِهِ الجُمَلِ في غَرَضِ الِانْتِقامِ والإهانَةِ وداخِلَةٌ أيْضًا تَحْتَ القِسْمِ الثّانِي مِن جِهَةِ إضْمارِ الِاسْمِ المُتَقَدِّمِ فِيها، وذَهَبَ الشَّرِيفُ المُرْتَضى مِنَ الشِّيعَةِ إلى القَوْلِ بِالِاشْتِراكِ وذَهَبَ القاضِي أبُو بَكْرٍ والغَزالِيُّ وجَماعَةٌ إلى الوَقْفِ، وقالَ الآمِدِيُّ: المُخْتارُ أنَّهُ مَهْما ظَهَرَ كَوْنُ الواوِ لِلِابْتِداءِ فالِاسْتِثْناءُ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالجُمْلَةِ الأخِيرَةِ كَما في القَسَمِ الأوَّلِ مِنَ الأقْسامِ الثَّمانِيَةِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ إحْدى الجُمْلَتَيْنِ بِالأُخْرى وهو ظاهِرٌ وحَيْثُ أمْكَنَ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلْعَطْفِ أوْ لِلِابْتِداءِ كَما في باقِي الأقْسامِ السَّبْعَةِ فالواجِبُ الوَقْفُ، وذَكَرَ حُجَجَ المَذاهِبِ بِما لَها وعَلَيْها في الأحْكامِ، وفي التَّلْوِيحِ وغَيْرِهِ أنَّهُ لا خِلافَ في جَوازِ رُجُوعِ الِاسْتِثْناءِ إلى كُلٍّ (p-100)وإنَّما الخِلافُ في الأظْهَرِ وفِيهِ نَظَرٌ فَإنَّ بَعْضَ حُجَجِ القائِلِينَ بِرُجُوعِهِ إلى الجُمْلَةِ الأخِيرَةِ قَدِ اسْتَدَلَّ بِما يَدُلُّ عَلى عَدَمِ جَوازِ رُجُوعِهِ لِلْجَمِيعِ، قالَ القَلانِسِيُّ: إنَّ نَصْبَ ما بَعْدَ الِاسْتِثْناءِ في الإثْباتِ إنَّما كانَ بِالفِعْلِ المُتَقَدِّمِ بِإعانَةٍ إلّا عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ أكابِرُ البَصْرِيِّينَ فَلَوْ قِيلَ بِرُجُوعِهِ إلى الجَمِيعِ لَكانَ ما بَعْدَ إلّا مُنْتَصِبًا بِالأفْعالِ المُقَدَّرَةِ في كُلِّ جُمْلَةٍ ويُلْزِمُ مِنهُ اجْتِماعُ عامِلِينَ عَلى مَعْمُولٍ واحِدٍ وذَلِكَ لا يَجُوزُ لِأنَّهُ بِتَقْدِيرِ مُضادَّةٍ أحَدُهُما لِلْآخَرِ في العَمَلِ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ المَعْمُولُ الواحِدُ مَرْفُوعًا مَنصُوبًا مَعًا وهو مُحالٌ ولِأنَّهُ إنْ كانَ كُلٌّ مِنهُما مُسْتَقِلًّا في العَمَلِ لَزِمَ عَدَمَ اسْتِقْلالِهِ ضَرُورَةً أنَّهُ لا مَعْنى لِكَوْنِ كُلِّ مُسْتَقِلًّا إلّا أنَّ الحُكْمَ ثَبَتَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ وإنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ مِنهُما مُسْتَقِلًّا لَزِمَ خِلافَ المَفْرُوضِ، وإنْ كانَ المُسْتَقِلُّ البَعْضَ دُونَ البَعْضِ لَزِمَ التَّرْجِيحُ بِلا مُرَجَّحٍ، ووَجْهُ دَلالَتِهِ وإنْ بَحَثَ فِيهِ عَلى عَدَمِ جَوازِ رُجُوعِهِ لِلْجَمِيعِ ظاهِرٌ وكَما اخْتَلَفَ الأُصُولِيُّونَ في ذَلِكَ اخْتَلَفَ النُّحاةُ فِيهِ فَفي شَرْحِ اللَّمْعِ أنَّهُ يُخْتَصُّ بِالأخِيرَةِ وأنَّ تَعْلِيقَهُ بِالجَمِيعِ خَطَأٌ لِلُزُومٍ تَعَدَّدَ العامِلُ في مَعْمُولٍ واحِدٍ إلّا عَلى القَوْلِ بِأنَّ العامِلَ إلّا أوْ تَمامِ الكَلامِ. وقالَ أبُو حَيّانَ: لَمْ أرَ مَن تَكَلَّمَ عَلى هَذِهِ المَسْألَةِ مِنَ النُّحاةِ غَيْرَ المَهاباذِيِّ وابْنِ مالِكٍ فاخْتارَ ابْنُ مالِكٍ عَوْدِ الِاسْتِثْناءِ إلى الجُمَلِ كُلِّها كالشَّرْطِ، واخْتارَ المَهاباذِيُّ عَوْدَهُ إلى الجُمْلَةِ الأخِيرَةِ، وقالَ الوَلِيُّ بْنُ العِراقِيِّ: لَمْ يُطْلَقِ ابْنُ مالِكٍ عَوْدَهُ إلى الجُمَلِ كُلِّها بَلِ اسْتَثْنى مِن ذَلِكَ ما إذا اخْتَلَفَ العامِلُ والمَعْمُولُ كَقَوْلِكَ: اُكْسُ الفُقَراءَ وأطْعِمْ أبْناءَ السَّبِيلِ إلّا مَن كانَ مُبْتَدِعًا فَقالَ في هَذِهِ الصُّورَةِ: إنَّهُ يَعُودُ إلى الأخِيرَةِ خاصَّةً، ونَقَلَ عَنْ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ القَوْلَ بِرُجُوعِهِ إلى الأخِيرَةِ مُطْلَقًا وهَذا كَقَوْلِ الحَنَفِيَّةِ في المَشْهُورِ، والحَقُّ أنَّهم إنَّما يَقُولُونَ بِرُجُوعِهِ إلى الأخِيرَةِ فَقَطْ إذا تَجَرَّدَ الكَلامُ عَنْ دَلِيلِ رُجُوعِهِ إلى الكُلِّ أمّا إذا وجَدَ الدَّلِيلُ عَمِلَ بِهِ وذَلِكَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى في المُحارِبِينَ: ﴿أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ [المائِدَةُ: 33، 34] يَقْتَضِي رُجُوعَهُ إلى الكُلِّ فَإنَّهُ لَوْ عادَ إلى الأخِيرَةِ أعْنِي قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ( ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ ) لَمْ يَبْقَ لِلتَّقْيِيدِ بِذَلِكَ فائِدَةٌ لِلْعِلْمِ لِأنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ العَذابَ فَلَيْسَ فائِدَةً «مِن قَبْلُ» إلَخْ إلّا سُقُوطَ الحَدِّ وعَلى مِثْلِ ذَلِكَ يَنْبَغِي حَمْلُ قَوْلِ الشّافِعِيَّةِ بِأنْ يُقالَ: إنَّهم أرادُوا رُجُوعَ الِاسْتِثْناءِ إلى الكُلِّ إذا لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ يَقْتَضِي رُجُوعَهُ إلى الأخِيرَةِ. وذَكَرَ بَعْضُ أجِلَّةِ المُحَقِّقِينَ أنَّ الحَنَفِيَّةَ إنَّما قالُوا بِرُجُوعِ الِاسْتِثْناءِ إلى الجُمْلَةِ الأخِيرَةِ هُنا لِأنَّ الجُمْلَتَيْنِ الأوَّلِيَّيْنِ ورَدَتا جَزاءً لِأنَّهُما أخْرَجَتا بِلَفْظِ الطَّلَبِ مُخاطِبًا بِهِما الأئِمَّةَ ولا يَضُرُّ اخْتِلافَهُما أمَرًا ونَهْيًا والجُمْلَةُ الأخِيرَةُ مُسْتَأْنِفَةٌ بِصِيغَةِ الإخْبارِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ اسْتِبْعادِ كَوْنِ القَذْفِ سَبَبًا لِوُجُوبِ العُقُوبَةِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ وهي قائِمَةٌ هُنا لِأنَّ القَذْفَ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ ورُبَّما يَكُونُ حِسْبَةً، ووَجْهُ الدَّفْعِ أنَّهم فَسَقُوا بِهَتْكِ سِتْرِ العِفَّةِ بِلا فائِدَةٍ حَيْثُ عَجَزُوا عَنِ الإثْباتِ فَلِذا اسْتَحَقُّوا العُقُوبَةَ وحَيْثُ كانَتْ مُسْتَأْنَفَةَ تَوَجُّهُ الِاسْتِثْناءِ إلَيْها. ونُقِلَ عَنِ الشّافِعِيِّ أنَّهُ جَعَلَ ﴿ولا تَقْبَلُوا﴾ اسْتِئْنافًا مُنْقَطِعًا عَنِ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ وأبى أنْ يَكُونَ مِن تَتِمَّةِ الحَدِّ لِأنَّهُ لا مُناسَبَةَ بَيْنَ الجَلْدِ وعَدَمِ قَبُولِ الشَّهادَةِ وجَعْلِ الِاسْتِثْناءِ مَصْرُوفًا إلَيْهِ بِجَعْلِ مَن تابَ مُسْتَثْنًى مِن ضَمِيرِ ﴿لَهُمْ﴾ ويَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ اعْتِراضًا جارِيًا مَجْرى التَّعْلِيلِ لِعَدَمِ قَبُولِ الشَّهادَةِ غَيْرِ مُنْقَطِعٍ عَمّا قَبْلِهِ ولِهَذا جازَ تُوَسُّطُهُ بَيْنَ المُسْتَثْنى والمُسْتَثْنى مِنهُ ولا تُعَلِّقُ لِلِاسْتِثْناءِ بِهِ، وآثَرَ ذَلِكَ ابْنُ الحاجِبِ في أمالَيْهِ حَيْثُ قالَ: إنَّ الِاسْتِثْناءَ لا يَرْجِعُ إلى الكُلِّ أمّا الجَلْدُ فَبِالِاتِّفاقِ، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ (p-101)فَلِأنَّهُ إنَّما جِيءَ بِهِ لِتَقْرِيرِ مَنعِ الشَّهادَةِ فَلَمْ يَبْقَ إلّا الجُمْلَةَ الثّانِيَةَ فَيَرْجِعُ إلَيْها، وتَعَقَّبَ بِأنَّ اسْتِئْنافَ ﴿ولا تَقْبَلُوا﴾ إلَخْ في غايَةِ البُعْدِ، والمُرادُ مِن عَدَمِ قَبُولِ الشَّهادَةِ رَدُّها ومُناسَبَتُهُ لِلْجَلْدِ ظاهِرَةٌ لِأنَّ كُلًّا مِنهُما مُؤْلِمٌ زاجِرٌ عَنِ ارْتِكابِ جَرِيمَةِ الرَّمْيِ وكَمْ مِن شَخْصٍ لا يَتَألَّمُ بِالضَّرْبِ كَما يَتَألَّمُ بِرَدِّ شَهادَتِهِ، ورُبَّما يُقالُ: إنْ رَدَّ الشَّهادَةِ قَطْعٌ لِلْآلَةِ الخائِنَةِ مَعْنًى وهي اللِّسانُ فَيَكُونُ كَقَطْعِ اليَدِ حَقِيقَةً في السَّرِقَةِ، ومَن أنْصَفَ رَأى مُناسَبَتَهُ لِلْجَلْدِ أتَمَّ مِن مُناسَبَةِ التَّغْرِيبِ لَهُ لِأنَّ التَّغْرِيبَ رُبَّما يَكُونُ سَبَبًا لِزِيادَةِ الوُقُوعِ في الزِّنا لِقِلَّةَ مَن يُراقِبُ ويَسْتَحِي مِنهُ في الغُرْبَةِ وقَدْ تَضْطَرُّ المَرْأةُ إذا غَرَبَتْ إلى ما يَسُدُّ رَمَقَها فَتُسَلِّمُ نَفْسَها لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ، وأيْضًا الجِلْدُ فِعْلٌ يَلْزَمُ عَلى الإمامِ فِعْلِهِ والرَّدُّ المُرادُ مِن عَدَمِ القَبُولِ كَذَلِكَ وقَدْ خُوطِبَ بِكِلْتا الجُمْلَتَيْنِ الإنْشائِيَّتَيْنِ لَفْظًا ومَعْنى الأئِمَّةِ وبِهَذا يَقْوى أمْرُ المُناسَبَةِ. واعْتَرَضَ الزَّيْلَعِيُّ عَلى القَوْلِ بِأنَّ جُمْلَةَ ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ تَعْلِيلٌ لِرَدِّ الشَّهادَةِ فَقالَ: لا جائِزَ أنْ يَكُونَ رَدُّ شَهادَتِهِ لِفِسْقِهِ لِأنَّ الثّابِتَ بِالنَّصِّ في خَبَرِ الفاسِقِ هو التَّوَقُّفُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ جاءَكم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحُجُراتُ: 6] لا الرَّدُّ وعِلَّةُ الرَّدِّ هُنا لَيْسَتْ إلّا أنَّهُ حَدٌّ انْتَهى، وفِيهِ نَظَرٌ ولَمْ يَجْعَلِ الشّافِعِيُّ عَلى هَذا النَّقْلِ الجُمْلَةُ المَذْكُورَةُ مَعَ كَوْنِها جارِيَةً مَجْرى التَّعْلِيلِ لِما قَبْلِها مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ لِما قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِن أنَّ العَطْفَ بِالواوِ يَمْنَعُ قَصْدَ التَّعْلِيلِ لِرَدِّ الشَّهادَةِ بِسَبَبِ الفِسْقِ لِأنَّ العِلَّةَ لا تُعْطَفُ عَلى الحُكْمِ بِالواوِ بَلْ إنَّما تَذَكَّرَ بِالفاءِ، وكَذا يَنْبَغِي أنْ لا تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلى ما أُشِيرَ إلَيْهِ سابِقًا مِن أنَّها عِلَّةٌ لِاسْتِحْقاقِ العُقُوبَةِ إذْ ذَلِكَ غَيْرُ مَنطُوقٍ، وانْتَصَرَ لِلشّافِعِيِّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِيما ذَهَبَ إلَيْهِ مِن قَبُولِ شَهادَتِهِ إذا تابَ بِأنَّهُ إذا جَعَلَتِ الجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِلرَّدِّ يَتِمُّ ذَلِكَ ولَوْ سَلَّمَ رُجُوعَ الِاسْتِثْناءِ إلى الجُمْلَةِ الأخِيرَةِ مِنَ الجُمَلِ المُتَعاقِبَةِ بِالواوِ وُجُوبَ زَوالِ الحُكْمِ بِزَوالِ العِلَّةِ، ولا أظُنُّهُ يَدْفَعُ إلّا بِالتِزامِ أنَّها لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ. وقالَ بَعْضُهُمْ: لا انْقِطاعَ بَيْنَ الجُمَلِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ ومُقْتَضى أصْلُهُ المَشْهُورُ رُجُوعُ الِاسْتِثْناءِ إلى الجَمِيعِ فَيُلْزِمُ حِينَئِذٍ سُقُوطُ الجِلْدِ بِالتَّوْبَةِ لَكِنَّهُ لا يَقُولُ بِذَلِكَ لِأنَّ تَحْقِيقَ مَذْهَبِهِ أنَّ الرُّجُوعَ إلى الكُلِّ قَدْ يَعْدِلُ عَنْهُ وذَلِكَ عِنْدَ قِيامِ الدَّلِيلِ وظُهُورِ المانِعِ والمانِعُ هُنا مِن رُجُوعِهِ إلى الجُمْلَةِ الأوْلى عَلى ما قِيلَ الإجْماعُ عَلى عَدَمِ سُقُوطِ الجَلْدِ بِالتَّوْبَةِ لِما فِيهِ مِن حَقِّ العَبْدِ، وأوْلى مِنهُ ما أوْمَأ إلَيْهِ القاضِي البَيْضاوِيُّ مِن أنَّ الِاسْتِسْلامَ لِلْجِلْدِ مِن تَتِمَّةِ التَّوْبَةِ فَكَيْفَ يَعُودُ إلَيْهِ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ عَدَمَ قَبُولِ الشَّهادَةِ والتَّفْسِيقِ مَن تَتَمَتَّها أيْضًا كَما لا يَخْفى، وقِيلَ يَجُوزُ أنْ تَخْرُجَ الآيَةُ عَلى أصْلِهِ المَشْهُورِ، ولا مانِعَ مِن رُجُوعِ الِاسْتِثْناءِ إلى الجُمْلَةِ الأُولى أيْضًا لِما أنَّ المُسْتَثْنى هو ( الَّذِينَ تابُوا وأصْلَحُوا ) ومِن جُمْلَةِ الإصْلاحِ الِاسْتِحْلالِ وطَلَبِ العَفْوِ مِنَ المَقْذُوفِ وعِنْدَ وُقُوعِ ذَلِكَ يَسْقُطُ الجِلْدَ أيْضًا، وفِيهِ أنَّ كَوْنَ طَلَبِ العَفْوِ مِنَ الإصْلاحِ غَيْرِ نافِعٍ لِأنَّ الجِلْدَ لا يَسْقُطُ بِطَلَبِ العَفْوِ بَلِ العَفْوُ وهو لَيْسَ مِن جُمْلَةِ هَذا الإصْلاحِ إذِ العَفْوُ فِعْلُ المَقْذُوفِ وهَذا الإصْلاحُ فِعْلُ القاذِفِ فَلَمْ يَصِحَّ صَرْفُ الِاسْتِثْناءِ إلى الكُلِّ كَما هو أصْلُهُ المَشْهُورُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ الآيَةِ ونُظُمُها أنْ يَكُونَ الجُمَلُ الثَّلاثُ بِمَجْمُوعِهِنَّ جَزاءَ الشَّرْطِ، والمَعْنى مِن قَذَفَ فاجْمَعُوا لَهم بَيْنَ الأجْزِئَةِ الثَّلاثَةِ إلّا الَّذِينَ تابُوا مِنهم فَيَعُودُونَ غَيْرَ مَجْلُودِينَ ولا مَرْدُودِيَّ الشَّهادَةِ ولا مُفَسَّقِينَ، قالَ في الكَشْفِ: وهَذا جارٍ عَلى أصْلِ الشّافِعِيِّ مِن أنَّ الِاسْتِثْناءَ يَرْجِعُ إلى الكُلِّ وانْضَمَّ إلَيْهِ هاهُنا أنَّ الجُمَلَ دَخَلَتْ في حَيِّزِ الشَّرْطِ فَصِرْنَ كالمُفْرِداتِ، وتَعَقَّبَ القَوْلَ بِدُخُولِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ في حَيِّزِ الجَزاءِ بِأنَّ دَلِيلَ عَدَمِ المُشارَكَةِ في الشَّرْطِ يَقْتَضِي عَدَمَ الدُّخُولِ فَإنَّهُ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ غَيْرُ مُخاطَبٍ بِها الأئِمَّةُ لِإفْرادِ الكافِ في ( أُولَئِكَ ) فَهو عَطْفٌ عَلى الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ أيِ الَّذِينَ يَرْمُونَ إلَخْ أوْ مُسْتَأْنَفٌ لِحِكايَةِ حالِ (p-102)الرّامِينَ عِنْدَ الشَّرْعِ، وأوْرَدَ عَلَيْهِ أنَّ عَطْفَ الخَبَرِ عَلى الإنْشاءِ وعَكْسَهُ لِاخْتِلافِ الأغْراضِ شائِعانِ في الكَلامِ وأنَّ إفْرادَ كافِ الخِطابِ مَعَ الإشارَةِ جائِزٌ في خِطابِ الجَماعَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكم مِن بَعْدِ﴾ [البَقَرَةُ: 52] عَلى أنَّ التَّحْقِيقَ أنْ ( الَّذِينَ يَرْمُونَ ) مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أيِ اجْلِدُوا الَّذِينَ إلَخْ فَهو أيْضًا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ إنْشائِيَّةٌ مُخاطِبٌ بِها الأئِمَّةَ فالمانِعُ المَذْكُورُ قائِمٌ هُنا زِيادَةَ العُدُولِ عَنِ الأقْرَبِ إلى الأبْعَدِ ولَوْ سَلَّمَ أنْ ( الَّذِينَ ) مُبْتَدَأٌ فَلا بُدَّ في الإنْشائِيَّةِ الواقِعَةِ مَوْقِعَ الخَبَرِ مِن تَأْوِيلٍ وصَرْفٍ عَنِ الإنْشائِيَّةِ عِنْدَ الأكْثَرِ وحِينَئِذٍ يَصِحُّ عَطْفُ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ عَلَيْهِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنى ﴿أُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ فَسَقُوهم والإنْصافُ يَحْكُمُ بِعَدَمِ ظُهُورِ دُخُولِ الجُمْلَةِ الأخِيرَةِ في حَيِّزِ الجَزاءِ وجَمِيعُ ما ذَكَرُوهُ إنَّما يُفِيدُ الصِّحَّةَ لا الظُّهُورَ. ولَعَلَّ الظّاهِرَ أنَّها اسْتِئْنافٌ تَذْيِيلِيٌّ لِبَيانِ سُوءِ حالِ الرّامِينَ في حُكْمِ اللَّهِ تَعالى وحِينَئِذٍ عَوْدُ الِاسْتِئْنافِ إلَيْهِ ظاهِرٌ، لا يُقالُ، إنَّ ذَلِكَ يَنْفِي الفائِدَةَ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ شَرْعًا أنَّ التَّوْبَةَ تُزِيلُ الفِسْقَ مِن غَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ لِأنّا نَقُولُ: لا شُبْهَةَ في أنَّ العِلْمَ بِذَلِكَ مِن طَرِيقِ السَّمْعِ وقَدْ ذَكَرَ الدّالَّ عَلَيْهِ مِنهُ وكَوَّنَ آيَةً أُخْرى تُفِيدُهُ لا يَضُرُّ لِلْقَطْعِ بِأنَّ طَرِيقَ القُرْآنِ تَكْرارُ الدَّوالِ خُصُوصًا إذا كانَ التَّأْكِيدُ مَطْلُوبًا، هَذا وإلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ أبُو حَنِيفَةَ مِن عَدَمِ قَبُولِ شَهادَةِ المَحْدُودِ في القَذْفِ إذا تابَ ذَهَبَ الحَسَنُ وابْنُ سِيرِينَ وسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وقَدْ رَوى ذَلِكَ عَنْ كُلِّ الجَلالِ السُّيُوطِيِّ في الدَّرِّ المَنثُورِ وإلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ الشّافِعِيُّ مِن قَبُولِ شَهادَتِهِ ذَهَبَ مالِكٌ وأحْمَدُ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وطاوُسٍ ومُجاهِدٍ والشَّعْبِيِّ والزَّهْرِيِّ ومُحارِبٍ وشُرَيْحٍ ومُعاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ وعِكْرِمَةِ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَلى ما ذَكَرَهُ الطَّيِّبِيُّ وعُدَّ ابْنُ جُبَيْرٍ مِنَ القائِلِينَ كَقَوْلِ الشّافِعِيِّ يُخالِفُهُ ما سَمِعْتَ آنِفًا، وعُدَّ ابْنُ الهُمامِ شَرِيحًا مِمَّنْ قالَ كَقَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رِوايَتانِ، وفي صَحِيحِ البُخارِيِّ جَلَدَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أبا بَكَرَةَ وشِبْلَ بْنَ مُعَبَّدٍ ونافِعًا بِقَذْفِ المُغِيرَةِ ثُمَّ اسْتَتابَهُمْ، وقالَ مَن تابَ قُبِلَتْ شَهادَتُهُ، ومَن تَتَبَّعَ تَحَقَّقَ أنَّ أكْثَرَ الفُقَهاءِ قائِلُونَ كَقَوْلِ الشّافِعِيِّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ ودَعْوى إجْماعِ فُقَهاءِ التّابِعِينَ عَلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ كَما لا يَخْفى واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ، ووَجْهُ التَّعْلِيلِ المُسْتَفادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ عَلى القَوْلَيْنِ ظاهِرٌ لَكِنْ قِيلَ إنَّهُ عَلى قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ أظْهَرُ وهو تَعْلِيلٌ لِما يُفِيدُهُ الِاسْتِثْناءُ ولا مَحَلَّ مِنَ الإعْرابِ، وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ كَوْنَ ﴿الَّذِينَ﴾ مُبْتَدَأً وهَذِهِ الجُمْلَةُ خَبَرُهُ والرّابِطُ مَحْذُوفٌ أيْ لَهم. واخْتارَ الجُمْهُورُ الِاسْتِئْنافَ والِاسْتِثْناءَ وهو عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ أصْحابُنا مُنْقَطِعٌ، وبَيَّنَهُ أبُو زَيْدٍ الدَّبُّوسِيُّ في التَّقْوِيمِ بِما حاصِلُهُ أنَّ المُسْتَثْنى وإنْ دَخَلَ في الصَّدْرِ لَكِنْ لَمْ يُقْصَدْ إخْراجُهُ مِن حُكْمِهِ عَلى ما هو مَعْنى الِاسْتِثْناءِ المُتَّصِلُ بَلْ قُصِدَ إثْباتُ حُكْمٍ آخَرَ لَهُ وهو أنَّ التّائِبَ لا يَبْقى فاسِقًا، وتَعَقَّبَهُ العَلّامَةُ الثّانِي بِأنَّهُ إنَّما يَتِمُّ إذا لَمْ يَكُنْ مَعْنى ﴿هُمُ الفاسِقُونَ﴾ الثَّباتُ والدَّوامُ وإلّا فَلا تَعَذُّرَ لِلِاتِّصالِ فَلا وجْهَ لِلِانْقِطاعِ، وبَيَّنَهُ فَخْرُ الإسْلامِ بِأنَّ المُسْتَثْنى غَيْرُ داخِلٍ في صَدْرِ الكَلامِ لِأنَّ التّائِبَ لَيْسَ بِفاسِقٍ ضَرُورَةً إنَّهُ عِبارَةُ عَمَّنْ قامَ بِهِ الفِسْقُ والتّائِبُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِزَوالِ الفِسْقِ بِالتَّوْبَةِ، وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى أنَّهُ يُشْتَرَطُ في حَقِيقَةِ اسْمِ الفاعِلِ بَقاءُ مَعْنى الفِعْلِ، وأمّا إذا لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ فَيَتَحَقَّقُ التَّناوُلُ لَكِنْ لا يَصِحُّ الإخْراجُ لِأنَّ التّائِبَ لَيْسَ بِمُخْرَجٍ مِمَّنْ كانَ فاسِقًا في الزَّمانِ الماضِي. واعْتَرَضَ بِأنَّ المُسْتَثْنى مِنهُ عَلى تَقْدِيرِ اتِّصالِ الِاسْتِثْناءِ لَيْسَ هو الفاسِقِينَ بَلِ الَّذِينَ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وهُمُ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُشارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ( وأُولَئِكَ ) ولا شَكَّ أنَّ التّائِبِينَ داخِلُونَ فِيهِمْ مُخْرِجُونَ عَنْ حُكْمِهِمْ (p-103)وهُوَ الفِسْقُ كَأنَّهُ قِيلَ جَمِيعُ القاذِفِينَ فاسِقُونَ إلّا التّائِبِينَ مِنهم كَما يُقالُ القَوْمُ مُنْطَلِقُونَ إلّا زَيْدًا اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا بِناءً عَلى أنَّ زَيْدًا داخِلٌ في القَوْمِ مُخْرِجٌ عَنْ حُكْمِ الِانْطِلاقِ فَيَصِحُّ الِاسْتِثْناءُ المُتَّصِلُ سَواءً جَعَلَ المُسْتَثْنى مِنهُ بِحَسْبِ اللَّفْظِ هو القَوْمُ أوِ الضَّمِيرَ المُسْتَتِرَ في مُنْطَلِقُونَ بِناءً عَلى أنَّهُ أقَرِبُ وأنَّ عَمَلَ الصِّفَةِ في المُسْتَثْنى أظَهَرُ، ولَيْسَ المُرادُ أنَّ المُسْتَثْنى مِنهُ لَفْظًا هو لَفْظُ القَوْمِ البَتَّةَ وإذا جَعَلَ المُسْتَثْنى مِنهُ ضَمِيرَ مُنْطَلِقُونَ فَمَعْنى الكَلامِ إنَّ زَيْدًا داخِلٌ في الذَّواتِ المَحْكُومِ عَلَيْهِمْ بِالإطْلاقِ مُخْرِجٌ عَنْ حُكْمِ الِانْطِلاقِ كَما في قَوْلِنا: انْطَلَقَ القَوْمُ إلّا زَيْدًا وكَذا الكَلامُ في الآيَةِ. وأُجِيبُ بِأنَّ الفاسِقِينَ هاهُنا إمّا أنْ يَكُونَ بِمَعْنى الفاسِقِ عَلى قَصْدَ الدَّوامِ والثَّباتِ أوْ بِمَعْنى مَن صَدَرَ عَنْهُ الفِسْقُ في الزَّمانِ الماضِي أوْ مَن قامَ بِهِ الفِسْقُ في الجُمْلَةِ ماضِيًا كانَ أوْ حالًا فَإنْ أُرِيدَ الأوَّلُ فالتّائِبُ لَيْسَ بِفاسِقٍ ضَرُورَةَ قَضاءِ الشّارِعِ بِأنَّ التّائِبَ لَيْسَ بِفاسِقٍ حَقِيقَةً، ومِن شَرْطِ الِاسْتِثْناءِ المُتَّصِلِ أنْ يَكُونَ الحُكْمُ مُتَناوِلًا لِلْمُسْتَثْنى عَلى تَقْدِيرِ السُّكُوتِ عَنِ الِاسْتِثْناءِ وهَذا مُرادُ فَخْرِ الإسْلامِ بِعَدَمِ تَناوُلِ الفاسِقِينَ لِلتّائِبِينَ بِخِلافِ مُنْطَلِقُونَ فَإنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ زَيْدٌ عَلى تَقْدِيرِ عَدَمِ الاسْتِثْناءِ وإنْ أُرِيدَ الثّانِي أوِ الثّالِثُ فَلا صِحَّةَ لِإخْراجِ التّائِبِ عَنِ الفاسِقِينَ لِأنَّهُ فاسِقٌ بِمَعْنى صُدُورِ الفِسْقِ عَنْهُ في الجُمْلَةِ ضَرُورَةَ أنَّهُ قاذِفٌ والقَذْفُ فِسْقٌ. ولا يَخْفى أنَّ مَنعَ عَدَمِ دُخُولِ التّائِبِينَ في الفاسِقِينَ بِالمَعْنى الَّذِي ذَكَرْنا ومَنَعَ عَدَمَ صِحَّةِ إخْراجِهِمْ عَنْهم بِالمَعْنى الآخَرِ غَيْرُ مُوَجَّهٍ وأنَّ الِاسْتِدْلالَ عَلى دُخُولِهِمْ بِأنَّهُ قَدْ حُكِمَ بِالفِسْقِ عَلى ( أُولَئِكَ ) المُشارُ بِهِ إلى ﴿الَّذِينَ يَرْمُونَ﴾ وهو عامٌّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِلْإجْماعِ القاطِعِ عَلى أنَّهُ لا فِسْقَ مَعَ التَّوْبَةِ، وكَفى بِهِ مُخَصَّصًا اهْـ. وفِيهِ أنَّ الإجْماعَ لا يَكُونُ مُخَصَّصًا فِيما نَحْنُ فِيهِ لِكَوْنِهِ مُتَراخِيًا عَنِ النَّصِّ ضَرُورَةَ أنَّهُ لا إجْماعَ إلّا بَعْدَ زَمانِ النَّبِيِّ ﷺ فالحُكْمُ بِالفِسْقِ عَلى ( أُولَئِكَ ) المُشارِ بِهِ إلى ﴿الَّذِينَ يَرْمُونَ﴾ وهو عامٌّ فَيَتِمُّ الِاسْتِدْلالُ. وأُجِيبُ عَنْ هَذا بِأنَّ المُرادَ بِالتَّخْصِيصِ قَصْرُ العامِّ عَلى بَعْضِ ما يَتَناوَلُهُ اللَّفْظُ لا التَّخْصِيصُ المُصْطَلَحُ وهو كَما تَرى وفي قَوْلِهِ: ومِن شَرْطِ الِاسْتِثْناءِ المُتَّصِلِ إلَخْ بَحْثٌ يُعْلَمُ مِمّا سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى قَرِيبًا، وقالَ العَلامَةُ: الظّاهِرُ كَوْنُ الِاسْتِثْناءِ مُتَّصِلًا أيْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَرْمُونَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِمْ بِالفِسْقِ إلّا التّائِبِينَ مِنهم فَإنَّهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِمْ بِالفِسْقِ لِأنَّ التّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَن لا ذَنْبَ لَهُ وكَأنَّهُ أرادَ أنَّهم غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِمْ بِالفِسْقِ الدّائِمِ وهو المَحْكُومُ بِهِ عَلَيْهِمْ في الصَّدْرِ بِقَرِينَةِ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ. وذَكَرَ بَعْضُ الأفاضِلِ في تَوْجِيهِ كَوْنِهِ مُتَّصِلًا أنَّ دُخُولَ المُسْتَثْنى في المُسْتَثْنى مِنهُ إنَّما يَكُونُ بِاعْتِبارِ تَناوُلِ المُسْتَثْنى مِنهُ وشُمُولِهِ إيّاهُ لا بِحَسْبِ ثُبُوتِهِ لَهُ في الواقِعِ كَيْفَ ولَوْ ثَبَتَ الحُكْمُ لَهُ صَحَّ اسْتِثْناؤُهُ فَهاهُنا ( الَّذِينَ يَرْمُونَ ) شامِلٌ لِلتّائِبِينَ مِنهم فَلا يَضُرُّ في صِحَّةِ الِاسْتِثْناءِ أنَّهم لَيْسُوا بِفاسِقِينَ وأنَّ التَّوْبَةَ تُنافِي ثُبُوتَ الفِسْقِ كَما إذا لَمْ يُدْخِلْ زَيْدٌ في الِانْطِلاقِ فَإنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْناؤُهُ بِاعْتِبارِ دُخُولِهِ في القَوْمِ مِثْلُ انْطَلَقَ القَوْمُ إلّا زَيْدًا. والحاصِلُ أنَّهُ يَكْفِي في الِاسْتِثْناءِ دُخُولَ المُسْتَثْنى في حُكْمِ المُسْتَثْنى مِنهُ بِحَسْبِ دَلالَةِ اللَّفْظِ وإنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ بِحَسْبِ دَلِيلٍ خارِجٍ كَما يُقالُ: خَلَقُ اللَّهُ تَعالى كُلَّ شَيْءٍ إلّا ذاتَهُ سُبْحانَهُ وصِفاتَهُ العُلى، قالَ العَلامَةُ: ويُمْكِنُ الجَوابُ عَنْ هَذا بِأنَّهُ لا فائِدَةَ لِلِاسْتِثْناءِ المُتَّصِلِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ لِأنَّ خُرُوجَ المُسْتَثْنى مِن حُكْمِ المُسْتَثْنى مِنهُ مَعْلُومٌ فَيَحْمِلُ عَلى المُنْقَطِعِ المُفِيدِ لِفائِدَةٍ جَدِيدَةٍ وهَذا مُرادُ فَخْرِ الإسْلامِ بِعَدَمِ دُخُولِ التّائِبِينَ في صَدْرِ الكَلامِ وبَحَثَ فِيهِ بِأنَّ عَدَمَ التَّناوُلِ الشَّرْعِيِّ مُسْتَفادٌ مِنَ الِاسْتِثْناءِ المَذْكُورِ في الآيَةِ والحَدِيثِ أعْنِي «التّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَن لا ذَنْبَ (p-104)لَهُ» مُبَيِّنٌ لَهُ فَلا وجْهَ لِمَنعِ وُجُودِ الفائِدَةِ وبِأنَّ كَوْنَ خُرُوجِ المُسْتَثْنى مِن حُكْمِ المُسْتَثْنى مِنهُ مَعْلُومًا هُنا غَيْرُ مَعْلُومٍ لِمَكانِ الخِلافِ في اشْتِراطِ بَقاءِ الفِعْلِ وبِأنَّ الفائِدَةَ الجَدِيدَةَ في المُنْقَطِعِ الَّتِي يُعَرّى عَنْها المُتَّصِلُ غَيْرُ ظاهِرَةٍ، وقالَ أيْضًا: لا يُقالُ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُسْتَثْنى مِنهُ هو الفاسِقُونَ ويَكُونُ الِاسْتِثْناءُ لِإخْراجِ التّائِبِينَ مِنهم في الحُكْمِ الَّذِي هو الحَمْلُ عَلى أُولَئِكَ القاذِفِينَ والإثْباتُ لَهُ فَإنَّ الِاسْتِثْناءَ كَما يَجُوزُ مِنَ المَحْكُومِ بِهِ يَجُوزُ مِن غَيْرِهِ كَما يُقالُ: كِرامُ أهْلُ بَلْدَتِنا أغْنِياؤُهم إلّا زَيْدًا بِمَعْنى أنَّ زَيْدًا وإنْ كانَ غَنِيًّا لَكِنَّهُ خارِجٌ عَنِ الحَمْلِ عَلى الكِرامِ لِأنّا نَقُولُ: فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ التّائِبُونَ مِنَ الفاسِقِينَ ولا يَكُونُوا مِنَ القاذِفِينَ والأمْرُ بِالعَكْسِ، وقَدْ يُقالُ: إنَّ الِاسْتِثْناءَ مُنْقَطِعٌ عَلى مَعْنى أنَّهُمْفاسِقُونَ في جَمِيعِ الأحْوالِ إلّا حالَ التَّوْبَةِ، ولا يَخْفى أنَّهُ يَحْتاجُ إلى تَكْلِيفٍ في التَّقْدِيرِ أيْ إلّا حالَ تَوْبَةِ الَّذِينَ إلَخْ أوْ إلّا تَوْبَةَ القاذِفِينَ أيْ وقْتِ تَوْبَتِهِمْ عَلى أنْ يَجْعَلَ ﴿الَّذِينَ﴾ حَرْفًا مَصْدَرِيًّا لا اسْمًا مَوْصُولًا وضَمِيرُ ﴿تابُوا﴾ عائِدًا عَلى ( أُولَئِكَ ) وبَعْدَ اللَّتَيا والَّتِي يَكُونُ الِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغًا مُتَّصِلًا لا مُنْقَطِعًا انْتَهى فَتَأمَّلْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب