الباحث القرآني

(p-٨٠)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَما أنْفَقْتُمْ مِن نَفَقَةٍ أو نَذَرْتُمْ مِن نَذْرٍ فَإنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ ﴿إنْ تُبْدُوا الصَدَقاتِ فَنِعِمّا هي وإنْ تُخْفُوها وتُؤْتُوها الفُقَراءَ فَهو خَيْرٌ لَكم ويُكَفِّرُ عنكم مِن سَيِّئاتِكم واللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ كانَتِ النُذُورُ مِن سِيرَةِ العَرَبِ، تُكْثِرُ مِنها، فَذَكَرَ تَعالى النَوْعَيْنِ: ما يَفْعَلُهُ المَرْءُ تَبَرُّعًا، وما يَفْعَلُهُ بَعْدَ إلْزامِهِ لِنَفْسِهِ، ويُقالُ: نَذَرَ الرَجُلُ كَذا إذا التَزَمَ فِعْلَهُ يَنْذُرُ بِضَمِّ الذالِ ويَنْذِرُ بِكَسْرِها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: مَعْناهُ: يُحْصِيهِ، وفي الآيَةِ وعْدٌ ووَعِيدٌ، أيْ مَن كانَ خالِصَ النِيَّةِ فَهو مُثابٌ، ومَن أنْفَقَ رِياءً أو لِمَعْنىً آخَرَ مِمّا يَكْشِفُهُ المَنُّ والأذى ونَحْوُ ذَلِكَ فَهو ظالِمٌ، يَذْهَبُ فِعْلُهُ باطِلًا، ولا يَجِدُ ناصِرًا فِيهِ، ووَحَّدَ الضَمِيرَ في "يَعْلَمُهُ" وقَدْ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ مِن حَيْثُ أرادَ ما ذَكَرَ أو نَصَّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ تُبْدُوا الصَدَقاتِ﴾ الآيَةُ. ذَهَبَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ هي في صَدَقَةِ التَطَوُّعِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: "جَعَلَ اللهُ صَدَقَةَ السِرِّ في التَطَوُّعِ تَفْضُلُ عَلانِيَتَها، يُقالُ: بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وجَعَلَ صَدَقَةَ الفَرِيضَةِ عَلانِيَتَها أفْضَلَ مِن سِرِّها يُقالُ: بِخَمْسَةٍ وعِشْرِينَ ضِعْفًا، قالَ: وكَذَلِكَ جَمِيعُ الفَرائِضِ والنَوافِلِ في الأشْياءِ كُلِّها". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ « "صَلاةُ الرَجُلِ في بَيْتِهِ أفْضَلُ مِن صَلاتِهِ في المَسْجِدِ إلّا (p-٨١)المَكْتُوبَةَ"،» وذَلِكَ أنَّ الفَرائِضَ لا يَدْخُلُها رِياءٌ والنَوافِلَ عُرْضَةٌ لِذَلِكَ. وقالَ سُفْيانُ الثَوْرِيُّ: هَذِهِ الآيَةُ في التَطَوُّعِ، وقالَ يَزِيدُ بْنُ أبِي حَبِيبٍ: إنَّما أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في الصَدَقَةِ عَلى اليَهُودِ والنَصارى، وكانَ يُأْمَرُ بِقَسْمِ الزَكاةِ في السِرِّ - وهَذا مَرْدُودٌ لا سِيَّما عِنْدَ السَلَفِ الصالِحِ، فَقَدْ قالَ الطَبَرِيُّ: أجْمَعَ الناسُ عَلى أنَّ إظْهارَ الواجِبِ أفْضَلُ، قالَ المَهْدَوِيُّ: وقِيلَ: المُرادُ بِالآيَةِ فَرْضُ الزَكاةِ، وما تُطُوِّعَ بِهِ، فَكانَ الإخْفاءُ فِيهِما أفْضَلَ في مُدَّةِ النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ، ثُمَّ ساءَتْ ظُنُونُ الناسِ بَعْدَ ذَلِكَ فاسْتَحْسَنَ العُلَماءُ إظْهارَ الفَرْضِ لِئَلّا يُظَنَّ بِأحَدٍ المَنعُ، وهَذا القَوْلُ مُخالِفٌ لِلْآثارِ، ويُشْبِهُهُ في زَمَنِنا أنْ يَحْسُنَ التَسَتُّرُ بِصَدَقَةِ الفَرْضِ فَقَدْ كَثُرَ المانِعُ لَها وصارَ إخْراجُها عُرْضَةً لِلرِّياءِ - وقالَ النَقّاشُ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَسَخَها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم بِاللَيْلِ والنَهارِ سِرًّا وعَلانِيَةً﴾ [البقرة: ٢٧٤] الآيَةُ. وقَوْلُهُ: ﴿فَنِعِمّا هِيَ﴾ ثَناءٌ عَلى إبْداءِ الصَدَقَةِ، ثُمَّ حَكَمَ أنَّ الإخْفاءَ خَيْرٌ مِن ذَلِكَ الإبْداءِ. واخْتَلَفَ القُرّاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَنِعِمّا هِيَ﴾، فَقَرَأ نافِعٌ في غَيْرِ رِوايَةِ ورْشٍ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ، والمُفَضَّلُ: "فَنِعْما" بِكَسْرِ النُونِ وسُكُونِ العَيْنِ. وقَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ، وابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ في رِوايَةِ ورْشٍ: "فَنِعِما" بِكَسْرِ النُونِ والعَيْنِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: "فَنَعِمّا" بِفَتْحِ النُونِ وكَسْرِ العَيْنِ وكُلُّهم شَدَّدَ المِيمَ. (p-٨٢)قالَ أبُو عَلِيٍّ: مَن قَرَأ بِسُكُونِ العَيْنِ لَمْ يَسْتَقِمْ قَوْلُهُ، لِأنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ ساكِنَيْنِ، الأوَّلُ مِنهُما لَيْسَ بِحَرْفِ مَدٍّ ولِينٍ، وإنَّما يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ النَحْوِيِّينَ إذا كانَ الأوَّلُ حَرْفَ مَدٍّ، إذِ المَدُّ يَصِيرُ عِوَضًا مِنَ الحَرَكَةِ، وهَذا نَحْوُ: دابَّةٍ وضَوالَّ، وشَبَهِهِ، ولَعَلَّ أبا عَمْرٍو أخْفى الحَرَكَةَ واخْتَلَسَها، كَأخْذِهِ بِالإخْفاءِ في "بارِيكم ويَأْمُرُكُمْ" فَظَنَّ السامِعُ الإخْفاءَ إسْكانًا لِلُطْفِ ذَلِكَ في السَمْعِ وخَفائِهِ. وأمّا مَن قَرَأ "نِعِمّا" بِكَسْرِ النُونِ والعَيْنِ فَحُجَّتُهُ أنَّ أصْلَ الكَلِمَةِ نِعِمْ بِكَسْرِ الفاءِ مِن أجْلِ حَرْفِ الحَلْقِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَقُولُ: نِعْمَ، ألا تَرى أنَّ مَن يَقُولُ: "هَذا قَدَمُ مَلِكٍ"، فَيُدْغِمُ "هَؤُلاءِ قَوْمُ مَلِكٍ" و"جِسْمُ ماجِدٍ". وقالَ سِيبَوَيْهِ: "نِعِمّا" بِكَسْرِ النُونِ والعَيْنِ لَيْسَ عَلى لُغَةِ مَن قالَ: "نِعْمَ" فَأسْكَنَ العَيْنَ، ولَكِنْ عَلى لُغَةِ مَن قالَ: "نِعِمْ" فَحَرَّكَ العَيْنَ، وحَدَّثَنا أبُو الخَطّابِ أنَّها لُغَةُ هُذَيْلٍ، وكَسْرُها -كَما قالَ- لَعِبٌ ولَوْ كانَ الَّذِي قالَ: "نِعِمّا" مِمَّنْ يَقُولُ: نِعْمَ بِسُكُونِ العَيْنِ لَمْ يَجُزِ الإدْغامُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: يُشْبِهُ أنَّ هَذا يَمْتَنِعُ لِأنَّهُ يَسُوقُ إلى اجْتِماعِ ساكِنَيْنِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: وأمّا مَن قَرَأ: "نَعِمّا" بِفَتْحِ النُونِ وكَسْرِ العَيْنِ فَإنَّما جاءَ بِالكَلِمَةِ عَلى أصْلِها وهو نَعِمْ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:(p-٨٣) ؎ ما أقَلَّتْ قَدَمايَ إنَّهم ∗∗∗ نَعِمَ الساعُونَ في الأمْرِ المُبِرْ ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَقُولُ قَبْلَ الإدْغامِ: "نِعْمَ" بِسُكُونِ العَيْنِ، وقالَ المَهْدَوِيُّ: وذَلِكَ جائِزٌ مُحْتَمَلٌ، وتُكْسَرُ العَيْنُ بَعْدَ الإدْغامِ لِالتِقاءِ الساكِنَيْنِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: و"ما" مِن قَوْلِهِ: نِعِمّا في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وقَوْلُهُ: "هِيَ" تَفْسِيرٌ لِلْفاعِلِ المُضْمَرِ قَبْلَ الذِكْرِ، والتَقْدِيرُ: نِعْمَ شَيْئًا إبْداؤُها، وقَوْلُهُ: والإبْداءُ هو المَخْصُوصُ بِالمَدْحِ إلّا أنَّ المُضافَ حُذِفَ، وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ، ويَدُلُّكَ عَلى هَذا قَوْلُهُ: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أيِ الإخْفاءُ خَيْرٌ، فَكَما أنَّ الضَمِيرَ هُنا لِلْإخْفاءِ لا لِلصَّدَقاتِ، فَكَذَلِكَ أوَّلًا الفاعِلُ هو الإبْداءُ وهو الَّذِي اتَّصَلَ بِهِ الضَمِيرُ فَحُذِفَ الإبْداءُ، وأُقِيمَ ضَمِيرُ الصَدَقاتِ مَقامَهُ. واخْتَلَفَ القُرّاءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيُكَفِّرُ عنكُمْ﴾، فَقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ: "وَنُكَفِّرُ" بِالنُونِ ورَفْعِ الراءِ، وقَرَأ نافِعٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "وَنُكَفِّرْ" بِالنُونِ والجَزْمِ في الراءِ، ورُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ أيْضًا عن عاصِمٍ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: "وَيُكَفِّرُ" بِالياءِ ورَفْعِ الراءِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: "وَتُكَفِّرْ" بِالتاءِ وكَسْرِ الفاءِ وجَزْمِ الراءِ، وقَرَأ عِكْرِمَةُ: "وَتُكَفَّرْ" بِالتاءِ وفَتْحِ الفاءِ وجَزْمِ الراءِ، وقَرَأ الحَسَنُ: "وَيُكَفِّرْ" بِالياءِ وجَزْمِ الراءِ، ورُوِيَ عَنِ الأعْمَشِ أنَّهُ قَرَأ و"يُكَفِّرَ" بِالياءِ ونَصْبِ الراءِ، وقالَ أبُو حاتِمٍ: قَرَأ الأعْمَشُ: "يُكَفِّرْ" بِالياءِ دُونَ واوٍ قَبْلَها وبِجَزْمِ الراءِ. وحَكى المَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ هُرْمُزَ أنَّهُ قَرَأ "وَتُكَفَّرُ" بِالتاءِ ورَفْعِ الراءِ، وحُكِيَ عن عِكْرِمَةَ وشَهْرِ بْنِ حَوْشَبَ أنَّهُما قَرَآ بِتاءٍ ونَصْبِ الراءِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَما كانَ مِن هَذِهِ القِراءاتِ بِالنُونِ فَهي نُونُ العَظَمَةِ، وما كانَ مِنها بِالتاءِ فَهي الصَدَقَةُ (p-٨٤)فاعِلَةٌ إلّا ما رُوِيَ عن عِكْرِمَةَ مِن فَتْحِ الفاءِ فَإنَّ التاءَ في تِلْكَ القِراءَةِ إنَّما هي لِلسَّيِّئاتِ. وما كانَ مِنها بِالياءِ فاللهُ تَعالى هو المُكَفِّرُ - والإعْطاءُ في خَفاءٍ هو المُكَفِّرُ أيْضًا كَما ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ، وأمّا رَفْعُ الراءِ فَهو عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَكُونَ الفِعْلُ خَبَرَ ابْتِداءٍ تَقْدِيرُهُ: ونَحْنُ نُكَفِّرُ، أو: وهي تُكَفِّرُ، أعْنِي الصَدَقَةَ، أو واللهُ يُكَفِّرُ، والثانِي: القَطْعُ والِاسْتِئْنافُ، وألّا تَكُونَ الواوُ العاطِفَةُ لِلِاشْتِراكِ لَكِنْ لِعَطْفِ جُمْلَةٍ عَلى جُمْلَةٍ. وأمّا الجَزْمُ في الراءِ فَإنَّهُ حَمْلٌ لِلْكَلامِ عَلى مَوْضِعِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ﴾ إذْ هو في مَوْضِعِ جَزْمٍ جَوابًا لِلشَّرْطِ، كَأنَّهُ قالَ: وإنْ تُخْفُوها يَكُنْ أعْظَمَ لِأجْرِكُمْ، ثُمَّ عَطَفَهُ عَلى هَذا المَوْضِعِ، كَما جاءَ قِراءَةُ مَن قَرَأ: "مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ ونَذَرْهُمْ" بِجَزْمِ الراءِ وأمْثِلَةُ هَذا كَثِيرَةٌ. وأمّا نَصْبُ الراءِ فَعَلى تَقْدِيرِ "أنْ" وتَأمَّلْ، وقالَ المَهْدَوِيُّ: هو مُشَبَّهٌ بِالنَصْبِ في جَوابِ الِاسْتِفْهامِ، إذِ الجَزاءُ يَجِبُ بِهِ الشَيْءُ لِوُجُوبِ غَيْرِهِ كالِاسْتِفْهامِ. والجَزْمُ في الراءِ أفْصَحُ هَذِهِ القِراءاتِ، لِأنَّها تُؤْذِنُ بِدُخُولِ التَكْفِيرِ في الجَزاءِ، وكَوْنِهِ مَشْرُوطًا إنْ وقَعَ الإخْفاءُ، وأمّا رَفْعُ الراءِ فَلَيْسَ فِيهِ هَذا المَعْنى. و"مِن" في قَوْلِهِ: "مِن سَيِّئاتِكُمْ" لِلتَّبْعِيضِ المَحْضِ، والمَعْنى في ذَلِكَ مُتَمَكِّنٌ، وحَكى الطَبَرِيُّ عن فِرْقَةٍ أنَّها قالَتْ: "مِن" زائِدَةٌ في هَذا المَوْضِعِ، وذَلِكَ مِنهم خَطَأٌ. (p-٨٥)وَقَوْلُهُ: ﴿واللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ وعْدٌ ووَعِيدٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب