الباحث القرآني

﴿إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ﴾ أيْ تُظْهِرُوا إعْطاءَها، قالَ الكَلْبِيُّ: «لَمّا نَزَلَتْ ﴿وما أنْفَقْتُمْ مِن نَفَقَةٍ﴾ الآيَةَ، قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ (p-44)أصَدَقَةُ السِّرِّ أفْضَلُ أمْ صَدَقَةُ العَلانِيَةِ؟ فَنَزَلَتْ،» فالجُمْلَةُ نَوْعُ تَفْصِيلٍ لِبَعْضِ ما أجْمَلَ في الشَّرْطِيَّةِ وبَيانٌ لَهُ، ولِذَلِكَ تَرَكَ العَطْفَ بَيْنَهُما، والمُرادُ مِنَ الصَّدَقاتِ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ صَدَقاتُ التَّطَوُّعِ، وقِيلَ: الصَّدَقاتُ المَفْرُوضَةُ، وقِيلَ: العُمُومُ، ﴿فَنِعِمّا هِيَ﴾ الفاءُ جَوابٌ لِلشَّرْطِ، ونِعْمَ فِعْلُ ماضٍ، و(ما) كَما قالَ اِبْنُ جِنِّيٍّ: نَكِرَةٌ تامَّةٌ مَنصُوبَةٌ عَلى أنَّها تَمْيِيزٌ وهي مُبْتَدَأٌ عائِدٌ لِلصَّدَقاتِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ إبْداؤُها أوْ لا حَذْفَ، والجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ (هِيَ)، والرّابِطُ العُمُومُ، وقَرَأ اِبْنُ كَثِيرٍ ووَرْشٌ وحَفْصٌ بِكَسْرِ النُّونِ والعَيْنِ لِلِاتِّباعِ وهي لُغَةُ هُذَيْلٍ، قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنَّهُ سُكِّنَ ثُمَّ كُسِرَ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، وقَرَأ اِبْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ وكَسْرِ العَيْنِ عَلى الأصْلِ كَعَلِمَ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو وقالُونُ وأبُو بَكْرٍ بِكَسْرِ النُّونِ وإخْفاءِ حَرَكَةِ العَيْنِ، ورُوِيَ عَنْهُمُ: الإسْكانُ أيْضًا، واخْتارَهُ أبُو عُبَيْدَةَ وحَكاهُ لُغَةً، والجُمْهُورُ عَلى اِخْتِيارِ الِاخْتِلاسِ عَلى الإسْكانِ حَتّى جَعَلَهُ بَعْضُهم مِن وهْمِ الرُّواةِ، ومِمَّنْ أنْكَرَهُ المُبَرِّدُ والزَّجّاجُ والفارِسِيُّ لِأنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ ساكِنَيْنِ عَلى غَيْرِ حَدِّهِ. ﴿وإنْ تُخْفُوها﴾ أيْ تُسِرُّوها والضَّمِيرُ المَنصُوبُ إمّا لِلصَّدَقاتِ مُطْلَقًا وإمّا إلَيْها لَفْظًا لا مَعْنى، بِناءً عَلى أنَّ المُرادَ بِالصَّدَقاتِ المُبْداةِ المَفْرُوضَةِ وبِالمُخْفاةِ المُتَطَوَّعِ بِها فَيَكُونُ مِن بابِ عِنْدِي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ أيْ نِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، وفي جَمْعِ الإبْداءِ والإخْفاءِ مِن أنْواعِ البَدِيعِ الطِّباقُ اللَّفْظِيُّ كَما أنَّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وتُؤْتُوها الفُقَراءَ﴾ الطِّباقُ المَعْنَوِيُّ لِأنَّهُ لا يُؤْتِي الصَّدَقاتِ إلّا الأغْنِياءُ، قِيلَ: ولَعَلَّ التَّصْرِيحَ بِإيتائِها الفُقَراءَ مَعَ أنَّهُ لا بُدَّ مِنهُ في الإبْداءِ أيْضًا لِما أنَّ الإخْفاءَ مَظِنَّةُ الِالتِباسِ والِاشْتِباهِ فَإنَّ الغَنِيَّ رُبَّما يَدَّعِي الفَقْرَ ويُقْدُمُ عَلى قَبُولِ الصَّدَقَةِ سِرًّا ولا يَفْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَ النّاسِ، وتَخْصِيصُ الفُقَراءِ بِالذِّكْرِ اِهْتِمامًا بِشَأْنِهِمْ، وقِيلَ: إنَّ المُبْداةَ لَمّا كانَتِ الزَّكاةَ لَمْ يُذْكَرْ فِيها الفُقَراءُ لِأنَّ مَصْرِفَها غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِهِمْ، والمُخْفاةَ لَمّا كانَتِ التَّطَوُّعَ بُيِّنَ أنَّ مَصارِفَها الفُقَراءُ فَقَطْ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ أنَّ المُبْداةَ زَكاةٌ والمُخْفاةَ تَطَوُّعٌ لا نُسَلِّمُ أنَّ مَصارِفَ الثّانِيَةِ الفُقَراءُ فَقَطْ ودُونَ إثْباتِ ذَلِكَ المَوْتِ الأحْمَرِ وكَأنَّهُ لِهَذا فَسَّرَ بَعْضُهُمِ الفُقَراءَ بِالمَصارِفِ. ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أيْ فالإخْفاءُ ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ مِنَ الإبْداءِ، وخَيْرٌ لَكم مِن جُمْلَةِ الخُيُورِ، والأوَّلُ هو الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الآثارُ والأحادِيثُ في أفْضَلِيَّةِ الإخْفاءِ أكْثَرُ مِن أنْ تُحْصى. أخْرَجَ الإمامُ أحْمَدُ عَنْ أبِي أُمامَةَ «أنَّ أبا ذَرٍّ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أيُّ الصَّدَقَةِ أفْضَلُ؟ قالَ: «صَدَقَةُ سِرٍّ إلى فَقِيرٍ أوْ جَهْدٌ مِن مُقِلٍّ» ثُمَّ قَرَأ الآيَةَ»، وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ مَرْفُوعًا: «”إنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ“،» وأخْرَجَ البُخارِيُّ: «”سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعالى في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلّا ظِلُّهُ إلى أنْ قالَ ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأخْفاها حَتّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ“،» والأكْثَرُونَ عَلى أنَّ هَذِهِ الأفْضَلِيَّةَ فِيما إذا كانَ كُلٌّ مِن صَدَقَتَيِ السِّرِّ والعَلانِيَةِ تَطَوُّعًا مِمَّنْ لَمْ يُعْرَفْ بِمالٍ وإلّا فَإبْداءُ الفَرْضِ لِغَيْرِهِ أفْضَلُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ وكَذا الإظْهارُ أفْضَلُ لِمَن يُقْتَدى بِهِ وأمْنِ نَفْسِهِ، وعَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما «صَدَقَةُ السِّرِّ في التَّطَوُّعِ تَفَضُلُ عَلى عَلانِيَتِها سَبْعِينَ ضِعْفًا وصَدَقَةُ الفَرِيضَةِ عَلانِيَتُها أفْضَلُ مِن سِرِّها بِخَمْسٍ وعِشْرِينَ ضِعْفًا» وكَذَلِكَ جَمِيعُ الفَرائِضِ والنَّوافِلِ في الأشْياءِ كُلِّها. ﴿ويُكَفِّرُ عَنْكم مِن سَيِّئاتِكُمْ﴾ أيْ واَللَّهُ يُكَفِّرُ أوِ الإخْفاءُ، والإسْنادُ مَجازِيٌّ، ومِن تَبْعِيضِيَّةٌ لِأنَّ الصَّدَقاتِ لا يُكَفَّرُ بِها جَمِيعُ السَّيِّئاتِ، وقِيلَ: مَزِيدَةٌ عَلى رَأْيِ الأخْفَشِ، وقَرَأ اِبْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وعاصِمٌ في رِوايَةِ اِبْنِ عَيّاشٍ ويَعْقُوبَ (نُكَفِّرُ) بِالنُّونِ مَرْفُوعًا عَلى أنَّهُ جُمْلَةٌ مُبْتَدَأةٌ أوِ اِسْمِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى ما بَعْدَ الفاءِ (p-45)أيْ ونَحْنُ نُكَفِّرُ، وقِيلَ: لا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ المُبْتَدَأِ، والفِعْلُ نَفْسُهُ مَعْطُوفٌ عَلى مَحَلِّ (ما) بَعْدَ الفاءِ لِأنَّهُ وحْدَهُ مَرْفُوعٌ لِأنَّ الفاءَ الرّابِطَةَ مانِعَةٌ مِن جَزْمِهِ لِئَلّا يَتَعَدَّدَ الرّابِطُ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ (نُكَفِّرْ) بِالنُّونِ مَجْزُومًا بِالعَطْفِ عَلى مَحَلِّ الفاءِ مَعَ ما بَعْدَها لِأنَّهُ جَوابُ الشَّرْطِ، قالَهُ غَيْرُ واحِدٍ، واسْتَشْكَلُهُ البَدْرُ الدَّمامِينِيُّ بِأنَّهُ صَرِيحٌ في أنَّ الفاءَ، و(ما) دَخَلَتْ عَلَيْهِ في مَحَلِّ جَزْمٍ، وقَدْ تَقَرَّرَ أنَّ الجُمْلَةَ لا تَكُونُ ذاتَ مَحَلٍّ مِنَ الإعْرابِ إلّا إذا كانَتْ واقِعَةً مَوْقِعَ المُفْرَدِ ولَيْسَ هَذا مِن مَحالِّ المُفْرَدِ حَتّى تَكُونَ الجُمْلَةُ واقِعَةُ ذاتَ مَحَلٍّ مِنَ الإعْرابِ وذَلِكَ لِأنَّ جَوابَ الشَّرْطِ إنَّما يَكُونُ جُمْلَةً ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ مُفْرَدًا فالمَوْضِعُ لِلْجُمْلَةِ بِالأصالَةِ وادَّعى أنَّ جَزْمَ الفِعْلِ لَيْسَ بِالعَطْفِ عَلى مَحَلِّ الجُمْلَةِ وإنَّما هو لِكَوْنِهِ مُضارِعًا وقَعَ صَدْرَ جُمْلَةٍ مَعْطُوفَةٍ عَلى جُمْلَةِ جَوابِ الشَّرْطِ الجازِمِ وهي لَوْ صُدِّرَتْ بِمُضارِعٍ كانَ مَجْزُومًا فَأُعْطِيَتِ الجُمْلَةُ المَعْطُوفَةُ حُكْمَ الجُمْلَةِ المَعْطُوفِ عَلَيْها وهو جَزَمَ صَدْرَها إذا كانَ فِعْلًا مُضارِعًا ويُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالعِنايَةِ فَتَدَبَّرْ. وقُرِئَ (وتُكَفِّرُ) بِالتّاءِ مَرْفُوعًا ومَجْزُومًا عَلى حَسَبِ ما عَلِمَتْ والفِعْلُ لِلصَّدَقاتِ. ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ في صَدَقاتِكم مِنَ الإبْداءِ والإخْفاءِ ﴿خَبِيرٌ﴾ [ 271 ] عالِمٌ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فَيُجازِيكم عَلى ذَلِكَ كُلِّهِ، فَفي الجُمْلَةِ تَرْغِيبٌ في الإعْلانِ والإسْرارِ وإنِ اِخْتَلَفا في الأفْضَلِيَّةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ مُساقًا لِلتَّرْغِيبِ في الثّانِي لِقُرْبِهِ ولِكَوْنِ الخِبْرَةِ بِالإبْداءِ لَيْسَ فِيها كَثِيرُ مَدْحٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب