الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿مِن طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ﴾ أيْ: مِن جَيِّدِ ما كَسَبْتُمْ ومُخْتارِهِ، كَذا قالَ الجُمْهُورُ. وقالَ جَماعَةٌ: إنَّ مَعْنى الطَّيِّباتِ هُنا الحَلالُ. ولا مانِعَ مِنِ اعْتِبارِ الأمْرَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأنَّ جَيِّدَ الكَسْبِ ومُخْتارَهُ إنَّما يُطْلَقُ عَلى الحَلالِ عِنْدَ أهْلِ الشَّرْعِ، وإنْ أطْلَقَهُ أهْلُ اللُّغَةِ عَلى ما هو جَيِّدٌ في نَفْسِهِ حَلالًا كانَ أوْ حَرامًا، فالحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلى اللُّغَوِيَّةِ. وقَوْلُهُ: ﴿ومِمّا أخْرَجْنا لَكم مِنَ الأرْضِ﴾ أيْ: ومِن طَيِّباتِ ما أخْرَجْنا لَكم مِنَ الأرْضِ، وحُذِفَ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وهي النَّباتاتُ والمَعادِنُ والرِّكازُ. قَوْلُهُ: ﴿ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ﴾ أيْ: لا تَقْصِدُوا المالَ الرَّدِيءَ، وقَرَأهُ الجُمْهُورُ بِفَتْحِ حَرْفِ المُضارَعَةِ وتَخْفِيفِ الياءِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِها. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ " ولا تَأْمَمُوا " وهي لُغَةٌ. وقَرَأ أبُو مُسْلِمِ بْنُ خَبّابٍ بِضَمِّ الفَوْقِيَّةِ وكَسْرِ المِيمِ. وحَكى أبُو عَمْرٍو أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأ " تَئْمَمُوا " بِهَمْزَةٍ بَعْدَ المَضْمُومَةِ. وفِي الآيَةِ الأمْرُ بِإنْفاقِ الطَّيِّبِ والنَّهْيُ عَنْ إنْفاقِ الخَبِيثِ. وقَدْ ذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إلى أنَّ الآيَةَ في الصَّدَقَةِ المَفْرُوضَةِ، وذَهَبَ آخَرُونَ إلى أنَّها تَعُمُّ صَدَقَةَ الفَرْضِ والتَّطَوُّعِ، وهو الظّاهِرُ، وسَيَأْتِي مِنَ الأدِلَّةِ ما يُؤَيِّدُ هَذا، وتَقْدِيمُ الظَّرْفِ في قَوْلِهِ: مِنهُ تُنْفِقُونَ يُفِيدُ التَّخْصِيصَ أيْ لا تَخُصُّوا الخَبِيثَ بِالإنْفاقِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ: أيْ لا تَقْصِدُوا المالَ الخَبِيثَ مُخَصِّصِينَ الإنْفاقَ بِهِ قاصِرِينَ لَهُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: ﴿ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ﴾ أيْ: والحالُ أنَّكم لا تَأْخُذُونَهُ في مُعامَلاتِكم في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ هَكَذا بَيَّنَ مَعْناهُ الجُمْهُورُ، وقِيلَ: مَعْناهُ: ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ وجَدْتُمُوهُ في السُّوقِ يُباعُ. وقَوْلُهُ: ﴿إلّا أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ هو مِن أغْمَضَ الرَّجُلُ في أمْرِ كَذا: إذا تَساهَلَ ورَضِيَ بِبَعْضِ حَقِّهِ وتَجاوَزَ وغَضَّ بَصَرَهُ عَنْهُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎إلى كَمْ وكَمْ أشْياءُ مِنكِ تُرِيبُنِي أُغْمِضُ عَنْها لَسْتُ عَنْها بِذِي عَمى وقَرَأ الزُّهْرِيُّ بِفَتْحِ التّاءِ وكَسْرِ المِيمِ مُخَفَّفًا. ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قَرَأ بِضَمِّ التّاءِ وفَتْحِ الغَيْنِ وكَسْرِ المِيمِ مُشَدِّدَةً وكَذَلِكَ قَرَأ قَتادَةُ، والمَعْنى عَلى القِراءَةِ الأُولى مِن هاتَيْنِ القِراءَتَيْنِ: إلّا أنْ تَهْضِمُوا سَوْمَها مِنَ البائِعِ مِنكم، وعَلى الثّانِيَةِ: إلّا أنْ تَأْخُذُوا بِنُقْصانٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقِراءَةُ الجُمْهُورِ تَخْرُجُ عَلى التَّجاوُزِ أوْ عَلى تَغْمِيضِ العَيْنِ؛ لِأنَّ أغْمَضَ بِمَنزِلَةِ غَمَّضَ، وعَلى أنَّها بِمَعْنى حَتّى: أيْ حَتّى تَأْتُوا غامِضًا مِنَ التَّأْوِيلِ والنَّظَرِ في أخْذِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: ﴿الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى الشَّيْطانِ واشْتِقاقُهُ. ويَعِدُكم مَعْناهُ يُخَوِّفُكُمُ الفَقْرَ: أيْ بِالفَقْرِ لِئَلّا تُنْفِقُوا، فَهَذِهِ الآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِما قَبْلَها. وقُرِئَ " الفُقْرَ " بِضَمِّ الفاءِ وهي لُغَةٌ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: والفُقْرُ لُغَةٌ في الفَقْرِ، مِثْلُ الضَّعْفِ والضُّعْفِ. والفَحْشاءُ (p-١٨٦)الخَصْلَةُ الفَحْشاءُ، وهي المَعاصِي والإنْفاقُ فِيها والبُخْلُ عَنِ الإنْفاقِ في الطّاعاتِ. قالَ في الكَشّافِ: والفاحِشُ عِنْدَ العَرَبِ البَخِيلُ انْتَهى. ومِنهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ العَبْدِ: ؎أرى المَوْتَ يَعْتامُ الكِرامَ ويَصْطَفِي ∗∗∗ عَقِيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ ولَكِنَّ العَرَبَ وإنْ أطْلَقَتْهُ عَلى البَخِيلِ فَذَلِكَ لا يُنافِي إطْلاقَهم لَهُ عَلى غَيْرِهِ مِنَ المَعاصِي، وقَدْ وقَعَ كَثِيرًا في كَلامِهِمْ. وقَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ يَعِدُكم مَغْفِرَةً مِنهُ وفَضْلًا﴾ الوَعْدُ في كَلامِ العَرَبِ إذا أُطْلِقَ فَهو في الخَيْرِ، وإذا قُيِّدَ فَقَدْ يُقَيَّدُ تارَةً بِالخَيْرِ وتارَةً بِالشَّرِّ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿النّارُ وعَدَها اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الحج: ٧٢] ومِنهُ أيْضًا ما في هَذِهِ الآيَةِ مِن تَقْيِيدِ وعْدِ الشَّيْطانِ بِالفَقْرِ، وتَقْيِيدِ وعْدِ اللَّهِ سُبْحانَهُ بِالمَغْفِرَةِ، والفَضْلِ. والمَغْفِرَةُ: السَّتْرُ عَلى عِبادِهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ لِذُنُوبِهِمْ وكَفّارَتِها، والفَضْلُ أنْ يُخْلِفَ عَلَيْهِمْ أفْضَلَ مِمّا أنْفَقُوا فَيُوَسِّعَ لَهم في أرْزاقِهِمْ ويُنْعِمَ عَلَيْهِمْ في الآخِرَةِ بِما هو أفْضَلُ وأكْثَرُ وأجَلُّ وأجْمَلُ. قَوْلُهُ ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ﴾ هي العِلْمُ، وقِيلَ: الفَهْمُ، وقِيلَ: الإصابَةُ في القَوْلِ، ولا مانِعَ مِنَ الحَمْلِ عَلى الجَمِيعِ شُمُولًا أوْ بَدَلًا، وقِيلَ: إنَّها النُّبُوَّةُ، وقِيلَ: العَقْلُ، وقِيلَ: الخَشْيَةُ، وقِيلَ: الوَرَعُ، وأصْلُ الحِكْمَةِ ما يَمْنَعُ مِنَ السَّفَهِ، وهو كُلُّ قَبِيحٍ. والمَعْنى: أنَّ مَن أعْطاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَقَدْ أعْطاهُ خَيْرًا كَثِيرًا: أيْ عَظِيمًا قَدْرُهُ جَلِيلًا خَطَرُهُ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ ويَعْقُوبُ " ومَن يُؤْتِي " الحِكْمَةَ عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ، وقَرَأهُ الجُمْهُورُ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ. والألْبابُ: العُقُولُ، واحِدُها لُبٌّ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيهِ. قَوْلُهُ: ﴿وما أنْفَقْتُمْ مِن نَفَقَةٍ﴾ " ما " شَرْطِيَّةٌ ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، والعائِدُ مَحْذُوفٌ: أيِ الَّذِي أنْفَقْتُمُوهُ، وهَذا بَيانٌ لِحُكْمٍ عامٍّ يَشْمَلُ كُلَّ صَدَقَةٍ مَقْبُولَةٍ وغَيْرِ مَقْبُولَةٍ وكُلَّ نَذْرٍ مَقْبُولٍ أوْ غَيْرِ مَقْبُولٍ. وقَوْلُهُ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ فِيهِ مَعْنى الوَعْدِ لِمَن أنْفَقَ ونَذَرَ عَلى الوَجْهِ المَقْبُولِ، والوَعِيدُ لِمَن جاءَ بِعَكْسِ ذَلِكَ. ووَحَّدَ الضَّمِيرَ مَعَ كَوْنِ مَرْجِعِهِ شَيْئَيْنِ، هُما النَّفَقَةُ والنَّذْرُ؛ لِأنَّ التَّقْدِيرَ: وما أنْفَقْتُمْ مِن نَفَقَةٍ فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُها، أوْ نَذَرْتُمْ مِن نَذْرٍ فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، ثُمَّ حُذِفَ أحَدُهُما اسْتِغْناءً بِالآخَرِ، قالَهُ النَّحّاسُ، وقِيلَ: إنَّ ما كانَ العَطْفُ فِيهِ بِكَلِمَةِ " أوْ " كَما في قَوْلِكَ: زَيْدٌ أوْ عَمْرٌو، فَإنَّهُ يُقالُ: أكْرَمْتُهُ ولا يُقالُ: أكْرَمْتُهُما، والأوْلى أنْ يُقالَ: إنَّ العَطْفَ بِـ " أوْ " يَجُوزُ فِيهِ الأمْرانِ: تَوْحِيدُ الضَّمِيرِ كَما في هَذِهِ الآيَةِ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا رَأوْا تِجارَةً أوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْها﴾ [الجمعة: ١١] وقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ [النساء: ١١٢]، وتَثْنِيَتُهُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أوْ فَقِيرًا فاللَّهُ أوْلى بِهِما﴾ [النساء: ١٣٥] ومِنَ الأوَّلِ في العَطْفِ بِالواوِ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎فَتُوضِحَ فالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُها ∗∗∗ لِما نَسَجَتْهُ مِن جَنُوبٍ وشَمْألِ ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎نَحْنُ بِما عِنْدَنا وأنْتَ بِما ∗∗∗ عِنْدَكَ راضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ ومِنهُ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها﴾ [التوبة: ١٣٤] وقِيلَ: إنَّهُ إذا وُجِدَ الضَّمِيرُ بَعْدَ ذِكْرِ شَيْئَيْنِ أوْ أشْياءَ فَهو بِتَأْوِيلِ المَذْكُورِ، أيْ فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ المَذْكُورَ، وبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ ورَجَّحَهُ القُرْطُبِيُّ وذَكَرَ مَعْناهُ كَثِيرٌ مِنَ النُّحاةِ في مُؤَلَّفاتِهِمْ. قَوْلُهُ: ﴿وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ أيْ ما لِلظّالِمِينَ أنْفُسَهم بِما وقَعُوا فِيهِ مِنَ الإثْمِ لِمُخالَفَةِ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الإنْفاقِ في وُجُوهِ الخَيْرِ مِن أنْصارٍ يَنْصُرُونَهم يَمْنَعُونَهم مِن عِقابِ اللَّهِ بِما ظَلَمُوا بِهِ أنْفُسَهم والأوْلى الحَمْلُ عَلى العُمُومِ مِن غَيْرِ تَخْصِيصٍ لِما يُفِيدُهُ السِّياقُ: أيْ ما الظّالِمِينَ بِأيِّ مَظْلَمَةٍ كانَتْ مِن أنْصارٍ. قَوْلُهُ ﴿إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هي﴾ قُرِئَ بِفَتْحِ النُّونِ وكَسْرِ العَيْنِ وبِكَسْرِهِما وبِكَسْرِ النُّونِ وسُكُونِ العَيْنِ وبِكَسْرِ النُّونِ وإخْفاءِ حَرَكَةِ العَيْنِ. وقَدْ حَكى النَّحْوِيُّونَ في " نِعِمَّ " أرْبَعَ لُغاتٍ، وهي هَذِهِ الَّتِي قُرِئَ بِها، وفي هَذا نَوْعُ تَفْصِيلٍ لِما أُجْمِلَ في الشَّرْطِيَّةِ المُتَقَدِّمَةِ: أيْ إنْ تُظْهِرُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّ شَيْئًا إظْهارُها، وإنْ تُخْفُوها تُصِيبُوا بِها مَصارِفَها مِنَ الفُقَراءِ فالإخْفاءُ خَيْرٌ لَكم. وقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لا في صَدَقَةِ الفَرْضِ فَلا فَضِيلَةَ لِلْإخْفاءِ فِيها، بَلْ قَدْ قِيلَ: إنَّ الإظْهارَ فِيها أفْضَلُ، وقالَتْ طائِفَةٌ: إنَّ الإخْفاءَ أفْضَلُ في الفَرْضِ والتَّطَوُّعِ. قَوْلُهُ: ﴿ويُكَفِّرُ عَنْكم مِن سَيِّئاتِكم﴾ قَرَأ أبُو عَمْرٍو وعاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ بِالياءِ والرَّفْعِ. وقَرَأ الأعْمَشُ ونافِعٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ بِالنُّونِ والجَزْمِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ بِالتّاءِ الفَوْقِيَّةِ وفَتْحِ الفاءِ والجَزْمِ. وقَرَأ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الجُعْفِيُّ بِالنُّونِ ونَصْبِ الرّاءِ. فَمَن قَرَأ بِالرَّفْعِ فَهو مَعْطُوفٌ عَلى مَحَلِّ الجُمْلَةِ الواقِعَةِ جَوابًا بَعْدَ الفاءِ، أوْ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. ومَن قَرَأ بِالجَزْمِ فَهو مَعْطُوفٌ عَلى الفاءِ وما بَعْدَها. ومَن قَرَأ بِالنَّصْبِ فَعَلى تَقْدِيرِ " أنْ " . قالَ سِيبَوَيْهِ: والرَّفْعُ هاهُنا الوَجْهُ الجَيِّدُ، وأجازَ الجَزْمَ بِتَأْوِيلِ وإنْ تُخْفُوها يَكُنِ الإخْفاءُ خَيْرًا لَكم ويُكَفِّرْ، وبِمِثْلِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ قالَ الخَلِيلُ. ومَن في قَوْلِهِ: ﴿مِن سَيِّئاتِكُمْ﴾ لِلتَّبْعِيضِ: أيْ شَيْئًا مِن سَيِّئاتِكم. وحَكى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ أنَّها زائِدَةٌ، وذَلِكَ عَلى رَأْيِ الأخْفَشِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وذَلِكَ مِنهم خَطَأٌ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِن طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ﴾ قالَ: مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ ﴿ومِمّا أخْرَجْنا لَكم مِنَ الأرْضِ﴾ يَعْنِي مِنَ الحَبِّ والثَّمَرِ وكُلِّ شَيْءٍ عَلَيْهِ زَكاةٌ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿أنْفِقُوا مِن طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ﴾ قالَ: مِنَ التِّجارَةِ ﴿ومِمّا أخْرَجْنا لَكم مِنَ الأرْضِ﴾ قالَ: مِنَ الثِّمارِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ وابْنُ ماجَهْ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنْفِقُونَ﴾ قالَ: نَزَلَتْ فِينا مَعْشَرَ (p-١٨٧)الأنْصارِ، كُنّا أصْحابَ نَخْلٍ وكانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مِن نَخْلِهِ عَلى قَدْرِ كَثْرَتِهِ وقِلَّتِهِ، وكانَ الرَّجُلُ يَأْتِي بِالقِنْوِ والقِنْوَيْنِ فَيُعَلِّقُهُ في المَسْجِدِ، وكانَ أهْلُ الصُّفَّةِ لَيْسَ لَهم طَعامٌ، فَكانَ أحَدُهم إذا جاعَ أتى القِنْوَ فَضَرَبَهُ بِعَصاهُ فَيَسْقُطُ البُسْرُ والتَّمْرُ فَيَأْكُلُ، وكانَ ناسٌ مِمَّنْ لا يَرْغَبُ في الخَيْرِ يَأْتِي الرَّجُلُ بِالقِنْوِ فِيهِ الشِّيصُ والحَشَفُ وبِالقِنْوِ قَدِ انْكَسَرَ فَيُعَلِّقُهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِن طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ومِمّا أخْرَجْنا لَكم مِنَ الأرْضِ ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنْفِقُونَ ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلّا أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ قالَ: لَوْ أنَّ أحَدَكم أُهْدِيَ إلَيْهِ مِثْلُ ما أعْطى لَمْ يَأْخُذْهُ إلّا عَلى إغْماضٍ وحَياءٍ، قالَ: فَكُنّا بَعْدَ ذَلِكَ يَأْتِي أحَدُنا بِصالِحِ ما عِنْدَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ قالَ: ذُكِرَ لَنا أنَّ الرَّجُلَ كانَ يَكُونُ لَهُ الحائِطانِ فَيَنْظُرُ إلى أرْدَئِهِما تَمْرًا فَيَتَصَدَّقُ بِهِ ويَخْلِطُ بِهِ الحَشَفَ فَنَزَلَتِ الآيَةُ، فَعابَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ونَهاهم عَنْهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبِيهِ قالَ: «لَمّا أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِصَدَقَةِ الفِطْرِ فَجاءَ رَجُلٌ بِتَمْرٍ رَدِيءٍ، فَأمَرَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ الَّذِي يَخْرُصُ النَّخْلَ أنْ لا يُجِيزَ» . فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى الآيَةَ هَذِهِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وأبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ والدّارَقُطْنِيُّ والحاكِمُ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قالَ: أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقالَ: مَن جاءَ بِهَذا ؟ وكانَ كُلُّ مَن جاءَ بِشَيْءٍ نُسِبَ إلَيْهِ، فَنَزَلَتْ: ﴿ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ﴾ الآيَةَ. «ونَهى رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عَنْ لَوْنَيْنِ مِنَ التَّمْرِ أنْ يُوجَدُوا في الصَّدَقَةِ، الجُعْرُورُ ولَوْنُ الحُبَيْقِ» وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والضِّياءُ في المُخْتارَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يَشْتَرُونَ الطَّعامَ الرَّخِيصَ ويَتَصَدَّقُونَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمانِيِّ قالَ: سَألْتُ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا﴾ الآيَةَ، فَقالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في الزَّكاةِ المَفْرُوضَةِ، كانَ الرَّجُلُ يَعْمِدُ إلى التَّمْرِ، فَيَصْرِمُهُ، فَيَعْزِلُ الجَيِّدَ ناحِيَةً، فَإذا جاءَ صاحِبُ الصَّدَقَةِ أعْطاهُ مِنَ الرَّدِيءِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشاءُ﴾ قالَ: المَعْرِفَةُ بِالقُرْآنِ ناسِخِهِ ومَنسُوخِهِ، مُحْكَمِهِ ومُتَشابِهِهِ، ومُقَدَّمِهِ ومُؤَخَّرِهِ، وحَلالِهِ وحَرامِهِ وأمْثالِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ: أنَّها القُرْآنُ يَعْنِي تَفْسِيرَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أنَّها النُّبُوَّةُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ قالَ: إنَّها الفِقْهُ في القُرْآنِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ﴾ قالَ: قِراءَةَ القُرْآنِ والفِكْرَةَ فِيهِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ قالَ: هي الكِتابُ والفَهْمُ بِهِ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنِ النَّخَعِيِّ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: هي الكِتابُ يُؤْتِي إصابَتَهُ مَن يَشاءُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قالَ: هي الإصابَةُ في القَوْلِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ قالَ: هي الخَشْيَةُ لِلَّهِ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ مَطَرٍ الوَرّاقِ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ قالَ: يُحْصِيهِ. وقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في نَذْرِ الطّاعَةِ والمَعْصِيَةِ في الصَّحِيحِ وغَيْرِهِ ما هو مَعْرُوفٌ كَقَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «لا نَذْرَ في مَعْصِيَةِ اللَّهِ» وقَوْلِهِ: «مَن نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، ومَن نَذَرَ أنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ» وقَوْلِهِ: «النَّذْرُ ما ابْتُغِي بِهِ وجْهُ اللَّهِ» وثَبَتَ عَنْهُ في كَفّارَةِ النَّذْرِ ما هو مَعْرُوفٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هي﴾ الآيَةَ، قالَ: فَجَعَلَ السِّرَّ في التَّطَوُّعِ يَفْضُلُ عَلانِيَتَها سَبْعِينَ ضِعْفًا، وجَعَلَ صَدَقَةَ الفَرِيضَةِ عَلانِيَتَها أفْضَلَ مِن سِرِّها بِخَمْسَةٍ وعِشْرِينَ ضِعْفًا. وكَذَلِكَ جَمِيعُ الفَرائِضِ والنَّوافِلِ في الأشْياءِ كُلِّها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ﴾ الآيَةَ، قالَ: كانَ هَذا يُعْمَلُ قَبْلَ أنْ تَنْزِلَ بَراءَةٌ، فَلَمّا نَزَلَتْ بَراءَةٌ بِفَرائِضِ الصَّدَقاتِ وتَفْصِيلَها انْتَهَتِ الصَّدَقاتُ إلَيْها. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ﴾ الآيَةَ، قالَ: هَذا مَنسُوخٌ. وقَوْلُهُ: ﴿فِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ﴾ قالَ: مَنسُوخٌ، نَسَخَ كُلَّ صَدَقَةٍ في القُرْآنِ - الآيَةُ الَّتِي في سُورَةِ التَّوْبَةِ ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ﴾ وقَدْ ورَدَ في فَضْلِ صَدَقَةِ السِّرِّ أحادِيثُ صَحِيحَةٌ مَرْفُوعَةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب